نظرية المعرفة عند بعض فلاسفة المسلمين

(١) إخوان الصفا

إخوان الصفا جماعة سرية، اعتنقوا مذهبًا سياسيًّا خاصًّا، ويقال إنهم من الباطنية، وأرادوا تغليب مذهبهم السياسي والفلسفي. ألَّفوا رسائل بلغت خمسين أو إحدى وخمسين رسالةً طُبعت في مصر في أربعة أجزاء. ومذهبهم الفلسفي خليط من الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية والتعاليم الإسلامية.

ولن نبحث في فلسفتهم إلَّا من ناحية خاصة هي نظرية المعرفة، ولن نبحث في هذه النظرية إلَّا ناحيةً خاصةً منها، وهي أصل المعرفة أفطرية هي أم مكتسبة، أم فطرية ومكتسبة معًا؟

ولا تزال هذه المشكلة قائمةً منذ القديم حتى الآن؛ فأفلاطون من أنصار الفطرة، وأرسطو من أنصار الاكتساب. ثم نجد ديكارت في الفلسفة الحديثة من القائلين بالفطرة على نحو آخر يُخالف ما قال به أفلاطون، على حين أن المدرسة الإنجليزية تقول بالاكتساب، على الأخص لوك وهيوم.

ونعود إلى إخوان الصفا فنقول: إن المعرفة عندهم كلها مكتسبة، وليست فطرية. وأصل المعرفة هي الحواس. ثم هاجموا القائلين بالفطرة بأن «المعقولات التي هي في أوائل العقول ليست شيئًا سوى رسوم المحسوسات الجزئيات الملتقطة بطريق الحواس. والدليل على ذلك قوله تعالى: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا (النحل: ٧٨).١

والمقصود بالمعقولات الموجودةِ في أوائل العقول المعرفةُ البديهية، مثل الكل أعظم من الجزء، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. وكثيرون من الفلاسفة والمناطقة يعتبرون أن هذه البديهيات فطرية في النفس لا يكتسبها المرء.

وقد رأينا كيف ردَّ إخوان الصفا هذه الأوليات إلى المحسوسات، ولم يقفوا عند هذا الحد، بل ناقشوا رأي القائلين بأن المعرفة «مركوزة» في النفس اعتمادًا على مذهب أفلاطون بما يأتي، «وليس الأمر كما ظنوا، وإنما أراد أفلاطون بقوله إن العلم تذكُّر أن النفس علَّامة بالقوة، فتحتاج إلى التعليم حتى تصير علَّامةً بالفعل، فسُمي العلم تذكُّرًا. ثم إن طريق التعاليم هي الحواس، ثم العقل، ثم البرهان.»٢

وأصحاب رسائل إخوان الصفا مخطئون في فهم أفلاطون؛ لأن معنى جملته المشهورة «العلم تذكُّر والجهل نسيان» أن النفس كانت تعيش مع الآلهة في عالم المُثُل، فعندها معرفة بكل شيء. ولمَّا اتصلت النفس بالجسد نسيت، فإذا انكشف عنها ستار المعرفة، فإنها لا تكسب جديدًا، بل تتذكَّر ما كانت تعرفه في عالم المُثُل قبل اتصالها بالجسد. ومن أدلة أفلاطون على فطرة المعرفة أن الطفل يستطيع بالنظر إلى نفسه أن يكشف البراهين الهندسية، دون حاجة إلى معلِّم.

على العكس من ذلك، يعتقد إخوان الصفا أن النفس خالية من كل معرفة، وفي ذلك يقولون: «واعلم أن مثل أفكار النفوس قبل أن يحصل فيها علم من العلوم واعتقاد من الآراء كمثل ورق أبيض نقيٍّ لم يُكتب فيه شيء، فإذا كُتب فيه شيء حقًّا أم باطلًا فقد شغل المكان ومنع أن يُكتب فيه شيء آخر، ويصعب حكُّه ومحوه.»٣

هذا المذهب شبيه بمذهب لوك الفيلسوف الإنجليزي الذي يعتبر أن أصل المعرفة الحواس، وأنه «لا شيء في العقل لم يكن قبل ذلك في الحس».

وقد أخذ إخوان الصفا بهذه النظرية لحاجتهم إليها في تغليب مذهبهم الفلسفي والسياسي، وإقناع الناس بآرائهم. ولا يخفى أن الجمهور كان يعتنق مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك الوقت. وقد هاجمهم إخوان الصفا مهاجمةً عنيفةً فقالوا: «فينبغي لك أيها الأخ ألَّا تشتغل بإصلاح المشايخ الهرمة الذين اعتقدوا منذ الصبا آراءً فاسدةً وعاداتٍ رديئة.»٤ وهذه الإشارة تستقيم مع مذهبهم في المعرفة؛ لأن مشايخ أهل السنة اكتسبوا المعتقدات الفاسدة في نظرهم بالتعليم في الصغر، وتستطيع جماعتهم أن تنشر تعاليمهم وآراءهم بطريقة من طرق التعليم.
وعندهم أن السبيل لكسب المعلومات يكون بثلاثة طرق؛ «الأول»: الحواس الخمس التي بها تدرك الأمور الحاضرة في الزمان والمكان. و«الثاني»: استماع الأخبار التي ينفرد بها الإنسان دون سائر الحيوان، يفهم بها الأمور الغائبة عنه بالزمان والمكان جميعًا. و«الثالث»: طريق الكتابة والقراءة، يفهم بها الإنسان معاني الكلمات واللغات والأقاويل بالنظر فيها.٥
والاعتياد الذي يستند إلى المداومة والنظر ممَّا يُؤكِّد المعرفة، ويُؤدِّي إلى رسوخ الأخلاق. وفي ذلك يقولون: «اعلم بأن العادات الجارية بالمداومة فيها تقوى الأخلاق المشاكلة لها، كما أن النظر في العلوم والمداومة على البحث فيها، والدرس لها، والمذاكرة فيها، يُقوِّي الحذق بها، والرسوخ فيها …»٦
والمحاكاة الناشئة عن الاختلاط من وسائل نقل الأفكار، وطبع المعتقدات في النفوس. والمثال في ذلك أن كثيرًا من الصبيان إذا نشئوا مع الشجعان والفرسان وأصحاب السلاح وتربَّوا معهم؛ تطبَّعوا بأخلاقهم وصاروا مثلهم. وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق والسجايا التي ينطبع عليها الصبيان منذ الصغر إمَّا بأخلاق الآباء والأمهات … أو المعلمين والأستاذين المخالطين لهم في تصاريف أحوالهم.٧
والمحاكاة تسري من الكبير إلى الصغير، ومن العالم إلى الجاهل، ولذلك كانت للخواص والعلماء تقليدًا وقولًا، أو كإقرار الصبيان للآباء والمعلمين تعليمًا وتلقينًا.٨
ومن طرق كسب المعرفة أن تُؤخذ عن معلِّم؛ لأن للمعرفة شرائط «ليس في وسع كل إنسان معرفتها في أول مرئياته؛ ومن أجل هذا يحتاج كل إنسان إلى معلِّم أو مؤدِّب أو أستاذ، في تعلُّمه وتخلُّقه وأقاويله واعتقاده وأعماله وصنائعه.»٩
فطن إخوان الصفا إلى قيمة المعلِّم وضرورته في تلقين العلوم والمعارف، ولكنهم اشترطوا في المعلِّم شروطًا تتلاءم مع مذهبهم، وتخدم أغراضهم السياسية، وتتفق مع الغاية من نشر دعوتهم فقالوا: «واعلم أيها الأخ أن من سعادتك أيضًا أن يتفق لك معلِّم ذكي جيد الطبع، حسن الخلق، صافي الذهن، محب للعلم، طالب للحق، غير متعصِّب لمذهب من المذاهب.»١٠
ولا تتفق هذه الشروط إلَّا في جماعتهم كما صرَّحوا بذلك قائلين: «ثم اعلم أن أصحاب الناموس هم المعلِّمون والمؤدِّبون والأستاذون للبشر كلهم، ومعلِّمو أصحاب النواميس هم الملائكة، ومعلِّم الملائكة هو النفس الكلية، ومعلِّمها العقل الفعَّال، والله تعالى معلِّم الكل.»١١
هذه كلها وسائل تُساعد على كسب المعرفة. أمَّا النفس الجزئية فهي كالورق الأبيض كما ذكروا من قبل. والنفس جوهر مخالف للجسد. والعلم والحكمة للنفس كتناول الطعام والشراب للجسد.١٢
فالنفس تقبل صور المعلومات من المحسوسات والمعقولات في ذاتها وتُصوِّرها بفكرها، وتحفظها بالقوة الحافظة من غير أن تخلط بعضها ببعض.١٣
والأنفس الجزئية علَّامة بالقوة؛ فكل نفس جزئية تكون أكثر معلومات وأحكم مصنوعات فهي أقرب إلى النفس الكلية لقرب نسبتها إليها. والنفس الكلية الفلكية علَّامة بالفعل.١٤

والخلاصة أن رأي إخوان الصفا في نظرية المعرفة واضح. فعندهم أن المعرفة كلها مكتسبة، ورتَّبوا بناءً على ذلك الوسائل المؤدِّية إلى تحصيلها، والتي تستقيم مع مذهبهم وتخدم غايتهم.

(٢) الغزالي

ذكرنا نظرية المعرفة عند إخوان الصفا، وهم فريق من الفلاسفة أرادوا أن يُقرِّبوا الفلسفة إلى أذهان الجمهور. وانتهينا من النظر في رسائلهم إلى أن الرأي عندهم أن المعرفة مكتسبة وليست فطرية. ثم ذكرنا طرقًا من الوسائل التي يرونها مُؤدِّيةً إلى كسب المعرفة.

ونذكر الآن رأي الغزالي في المعرفة. وقد وقع الاختيار على أبي حامد الغزالي دون غيره؛ لأنه يُمثِّل طائفة المتصوِّفة.

وحُجة الإسلام الغزالي من أعلام المسلمين وأئمة فقهائهم، تستطيع أن تعتبره فقيهًا، وله في أصول الفقه كتاب «المستصفى» يُعتبر عمدةً في هذا الباب. وتستطيع أن تعده من الأشاعرة وهم فريق من علماء الكلام. غير أن ما يجعلنا نضعه في قائمة المتصوِّفة أنه هو نفسه اعتبر نفسه متصوِّفًا؛ وذلك في كتابه «المنقذ من الضلال» الذي سجَّل فيه تاريخ حياته ذاكرًا أنه طاف بجميع المذاهب في علم الكلام والفلسفة، فلمَّا لم يجد فيها بغيته، انصرف عنها إلى التصوُّف.

وقد اعتنق الغزالي مذهب التصوُّف عن روية وتفكير، لا عن اتباع وتقليد؛ فالغزالي يُمثِّل عصر ازدهار التصوُّف. أمَّا متأخِّرو المتصوِّفة، بل وبعض المتصوِّفة في عصر الغزالي، فقد زعموا أن الانصراف عن الدنيا أصلًا، والابتعاد عن التحصيل سواء في ذلك تحصيل العلم أو تحصيل المعاش، ثم الإقبال على ذكر الله في الخلوات أو الحلقات التي يعقدونها في مجالسهم؛ كل هذا يوصل إلى معرفة الله. ولكن الغزالي يقول بصراحة طاعنًا في هذه الطريقة: «وجانب العمل متفق عليه من الصوفية، فهو محو الصفات الردية، وتطهير النفس من الأخلاق السيئة، ولكن جانب العلم مختلف فيه؛ فإن الصوفية لم يحرصوا على تحصيل المجاهدة بمحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها، والإقبال بكل همة على الله. وأمَّا النظار فلم يُنكروا وجود هذا الطريق وإفضاءه إلى المقصد، ولكن استوعروا هذا الطريق … فالاشتغال بتحصيل العلوم أولى؛ فإنه يسوق إلى المقصود سياقةً موثوقًا بها.»١٥
وأفضل المعلومات وأعلاها وأشرفها هو الله الصانع، المبدع، الحق، الواحد. وهذا العلم ضروري واجب تحصيله على جميع العقلاء كما قاله : «طلب العلم فريضة على كل مسلم.» وهذا العلم لا ينفي سائر العلوم، بل لا يحصل إلَّا بمقدِّمات كثيرة لا تنتظم إلَّا من علوم شتَّى.١٦ وهذه المقدِّمات التي تجري منه مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو. ومن الآلات علم كتابة الخط.١٧
وإلى جانب ذلك فالعلم فضيلة في ذاته وعلى الإطلاق من غير إضافة، فإنه وصف كمال الله سبحانه. وتُعرف فضيلة العلم بثمرته، وهي القرب من الله تعالى. أمَّا فضيلة العلم في الدنيا فالعز، والوقار، ونفوذ الحكم على الملوك، ولزوم الاحترام في الطباع.١٨

والعلم الذي هو فرض عين على كل مسلم اعتقاد وفعل وترك؛ أي اعتقادٌ بالله، وفعل بما أمر الله، وترك لما نهى عنه.

والعلم الذي هو فرض كفاية فهو كل علم لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا؛ كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، والحساب فإنه ضروريٌّ للمعاملات، وقسمة الوصايا، والمواريث.١٩

فالغزالي يُقسِّم العلم إلى فرض عين وفرض كفاية، وهذا التقسيم لم يكن معروفًا عند الفقهاء في صدر الإسلام، ولا في المائة الثانية أو الثالثة، ولكنه أصبح تقسيمًا مقبولًا بعد القرن الخامس.

والمهم عندنا أن نتبيَّن رأي الغزالي في تحصيل العلوم، ومنه نستخلص رأيه في نظرية المعرفة. والطريق إلى تحصيل العلوم على وجهين:

  • (١)

    التعليم الإنساني: وهو التحصيل بالتعليم من خارج.

  • (٢)

    التعليم الرباني: وهو الاشتغال بالتفكُّر من داخل.

والتعلُّم الإنساني واضح لا إشكال فيه. أمَّا التفكير فهو «استفادة النفس من النفس الكلي. والنفس الكلي أشد تأثيرًا وأقوى تعليمًا من جميع العلماء والفضلاء.»٢٠ إلى أن قال: «والعلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة كالبذر في الأرض، والتعلُّم هو إخراجه من القوة إلى الفعل.» هذا المذهب في غاية الأهمية؛ لأنه يُوضِّح لنا أن المعرفة فطرية، مركوزة في النفس. وليس ما يقوله الغزالي مبتكرًا؛ فهذا مذهب ابن سينا أخذه عن الأفلاطونية الحديثة.
وقد مزج الغزالي هذه الآراء الفلسفية بما يقوله المتصوِّفة وبما لا يخرج عن ذلك، وإنما بأسلوب آخر: «وقال قوم من المتصوِّفة إن للقلب عينًا كما للجسد. فيرى الظواهرَ بالعين الظاهرة، ويرى الحقائقَ بعين العقل.»٢١
«والإنسان لا يقدر أن يتعلَّم جميع الأشياء والكليات وجميع العلوم، بل يتعلَّم شيئًا، ويستخرج بالتفكُّر شيئًا. وإذا انفتح باب الفكر على النفس علمت كيفية طريق التفكير، وكيفية الرجوع بالحدس إلى المطلوب.»٢٢

وهذا المذهب في اكتساب المعرفة عن طريق الحس أولًا، ثم بالفكر والقياس والحدس، هو مذهب ابن سينا كما هو موجود في الشفاء والنجاة وغيرهما من الكتب.

أمَّا التعليم الرباني فعلى وجهَين؛ إلقاء الوحي بأن يُقْبِلَ الله تعالى على تلك النفس إقبالًا كليًّا، وينظر إليها نظرًا إلهيًّا، ويصير العقل الكلي كالمعلِّم، والنفس القدسية كالمتعلِّم، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس من غير تعلُّم وتفكُّر.

والوجه الثاني الإلهام، وهو تنبيه النفس الكلية للنفس الجزئية الإنسانية على قدر صفائها وقَبولها، وقوة استعدادها. والعلم الذي يحصل عن الإلهام يُسمَّى علمًا لَدُنِّيًّا، وهو يكون لأهل النبوة والولاية.٢٣

ويحصل العلم اللدني باتباع الطرق الآتية:

  • (١)

    تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر منها.

  • (٢)

    الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة.

  • (٣)
    التفكُّر، فإن النفس إذا تعلَّمت وارتاضت بالعلم، ثم تفكَّرت في معلوماتها بشروط التفكُّر؛ ينفتح عليها باب الغيب.٢٤

والغزالي قد لجأ إلى القول بالعلم اللدني لتفسير نظرية النبوة. وللفلاسفة طريقة أخرى في تفسير النبوة ليس هنا مجال ذكرها. ولا يكتفي الغزالي بالإيمان بالنبوة واتصالها بالله، ولكنه يُضيف إلى ذلك الإيمان بالولاية وهي درجة أقل من النبوة. ولا نشك في أنه آمن بهذه النظرية، إلَّا لأنه هو نفسه كان يعتقد في نفسه الولاية.

وخلاصة مذهب الغزالي في طريق تحصيل المعرفة أن «الأَولى أن يُقدم طريق التعليم فيحصل من العلوم البرهانية ما للقوة البشرية إدراكه بالجهد والتعليم. فإذا حصل ذلك على قدر إمكانه … فلا بأس بعده أن يُؤثِر الاعتزال عن هذا الخلق، والإعراض عن الدنيا، والتجرُّد لله.»٢٥ وهذا الرأي هو صورة من حياة الغزالي؛ لأنه لم يطمئن إلى المعرفة إلَّا في آخر حياته بعد أن اشتغل بتحصيل العلوم.

فالمعرفة عند الغزالي فطرية في النفس، ولا بد في تحصيلها من التعلُّم أولًا، ثم التفكر ثانيًا.

(٣) ابن سينا

وُلد الشيخ الرئيس ابن سينا عام ٣٧٠ﻫ، وتُوفي عام ٤٢٨ﻫ بهمذان وقيل بأصبهان. وكتب سيرة حياته بقلمه كما فعل الغزالي في «المنقذ من الضلال». هذه السيرة المكتوبة بأقلام أصحابها تُعتبر مرجعًا هامًّا في التاريخ خصوصًا من الناحية النفسية.

ونُريد أن نعرض لناحية من نواحي فلسفته، هي نظرية المعرفة، تتمةً للبحث الذي بدأناه. فقد رأينا أن إخوان الصفا يذهبون إلى أن المعرفة كلها مكتسبة، وأمَّا «المعقولات التي هي في أوائل العقول فليست شيئًا سوى رسوم المحسوسات الجزئيات الملتقطة بطريق الحواس».

ويرى ابن سينا غير هذا الرأي، بل يذهب إلى النقيض؛ أي إن المعرفة فطرية، على الأخص الأوليات. وفي ذلك يقول: «الأوليات هي قضايا ومقدمات تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب يوجب التصديق بها إلَّا ذواتها» … إلى أن قال: «وجب أن يُصدِّق بها الذهن ابتداءً بلا علة أخرى، ومن غير أن يشعر أن هذا ممَّا استُفيد في الحال. بل يظن الإنسان أنه دائمًا كان عالمًا به. ومثال ذلك: أن الكل أعظم من الجزء، وهذا غير مستفاد من حِس، ولا استقراء، ولا شيء آخر. نعم قد يمكن أن يُفيده الحس تصوُّرًا للكل، وللأعظم، وللجزء. وأمَّا التصديق بهذه القضية (يُريد أن الكل أعظم من الجزء) فهو من جِبِلَّته.»٢٦
وعقد ابن سينا فصلًا في «شرح ألفاظ يجب التنبيه لمعانيها» منها: العلم، والعقل، والذهن، والذكاء، والحدس. قال في تعريف العقل: «اعتقاد بأن الشيء كذا، وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا طبعًا بلا واسطة، كاعتقاد المبادئ الأولى للبراهين. وقد يُقال لتصوُّر الماهية بذاتها بلا تحديدها كتصوُّر المبادئ الأولى للحد.»٢٧ وسيأتي تفصيل الكلام عن العقل فيما بعد.
ومن البراهين التي يسوقها ابن سينا على أن هذه المعقولات فطرية، ومن طبيعة العقل وأنها غير مكتسبة، أن النفس الناطقة، وبها يُسمَّى الإنسان ناطقًا، هذه القوة موجودة في كل واحد من الناس طفلًا كان أو بالغًا، مجنونًا كان أو عاقلًا، مريضًا كان أو سليمًا. فأول ما يحصل في هذه القوة من المعقولات هي المسمَّاة بداية العقول والآراء العالية؛ أعني المعاني المتحققة بغير حاجة إلى قياس وتعلُّم. إذ لو كان لكل واحد من المعقولات حاجة إلى تقدُّم علم وقياس؛ لوصل الأمر إلى ما لا يتناهى، وذلك محال. وظاهر أن من المعقولات معقولات أُوَل لا تحتاج إلى قياس وتعلُّم في أن تكون معقولات.٢٨

ونظَم ابن سينا الرأي الذي نحن بصدده في القصيدة المزدوجة في المنطق حيث قال:

وبعضها مقدِّمات العقلِ
كالقول إن الجزء دون الكلِّ
حصولها لعقلنا بالفطرة
لا يمكن التشكيك فيه الفكرة٢٩

هذه المعقولات الموجودة في أوائل العقول بالفطرة دون حاجة إلى تعلُّم، يختص بها عقلان من العقول الأربعة التي يُقسِّم ابن سينا العقل إليها، وهي: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد.

فالعقل الهيولاني: تشبيه له بالهيولى الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور المستعدة لقَبولها، وهي حاصلة لجميع أشخاص النوع في مبادئ فطرتهم.

والعقل بالملكة: يُسمَّى كذلك عندما تحصل المعقولات الأولى بالفعل، وبذلك يكون العقل الهيولاني قوة، والعقل بالملكة فعلًا.

والعقل بالفعل هو الاستعداد لتحصيل المعقولات الثانية التي هي العلوم المكتسبة، ويكون ذلك بالفكر والحدس.

والعقل المستفاد هو حضور تلك المعقولات بالفعل للنفس، أو أن يحصل للمرء المعقول بالفعل مُشاهدًا متمثلًا في الذهن.٣٠
وأُحب أن أُثبت هنا نصَّ ما ذكره الرازي في لُباب الإشارات عن هذه العقول زيادةً في التحقيق والتأكيد: «إشارة: النفس الإنسانية لها قوتان؛ عاملة، وهي القوة التي باعتبارها يُدبر البدن. وعاقلة، ولها مراتب؛ فأولها: كونها مستعدةً لقَبول الصور العقلية، وهذه المرتبة مسماة بالعقل الهيولاني. وثانيها: أن تحصل فيها التصوُّرات والتصديقات البديهية، وهي العقل بالملكة. وهذه المرتبة مختلفة بحسب كمية تلك البديهيات، وبحسب كيفية قوة النفس على الانتقال منها إلى المطالب. وثالثها: أن يحصل الانتقال من تلك المبادئ إلى المطالب الفكرية البرهانية، إلَّا أن تلك الصور لا تكون حاضرةً بالفعل. ورابعها، أن تكون تلك الصورة حاضرةً بالفعل، ينظر إليها صاحبها، وهي العقل المستفاد.»٣١
ويبدو لنا أن الدكتور جميل صليبا لم يكن دقيقًا في فهم ابن سينا، ولهذا نُثبت ما ذكره في رسالته ونُناقشه بعد ذلك. قال: «فالنفس تنتزع المعقولات المجرَّدة من المحسوسات الشخصية بواسطة العقل الهيولاني، ثم تنظمها بحسب ما في العقل بالملكة من المعقولات الأولى، وما تستخرجه من المعقولات الثانية، ولكن العقل الذي تُشرق عليه المعقولات هو العقل المستفاد.»٣٢
ووجه الخطأ فيما ذكره يقع فيما يأتي:
  • (١)

    قوله إن النفس تنتزع المعقولات المجرَّدة بواسطة العقل الهيولاني؛ إذ إن رأي ابن سينا أن العقل الهيولاني هو الاستعداد لقَبول الصور العقلية، ولا يتم هذا الانتزاع إلَّا بالعقل المستفاد، وله سبيل آخر نذكره فيما بعد.

  • (٢)

    والخطأ الثاني قوله: «تنظمها بحسب ما في العقل بالملكة من المعقولات الأولى»، وهذا التنظيم لم يقُل به ابن سينا. ثم لم يُبيِّن لنا الدكتور صليبا هل المعقولات الأولى مكتسبة أم فطرية؟

  • (٣)
    والخطأ الثالث قوله: «ولكن العقل الذي تُشرق عليه المعقولات هو العقل المستفاد»؛ ذلك أن ابن سينا يرى أن الإشراق يكون في العقول الأربعة، ولكن منه إشراق بعيد، ومنه إشراق قريب. وفي ذلك ينص الرازي في اللباب: «القوة على هذا الاتصال منها بعيدة، وهو العقل الهيولاني، ومنها قوة كاسبة، وهي العقل بالملكة. ومنها قوة تامة الاستعداد لها أن تقبل بالنفس إلى جهة الإشراق متى شاءت بملكة متمكِّنة وهي المسمَّاة بالعقل بالفعل. وأمَّا الاتصال التام فهو العقل المستفاد.»٣٣
هذه الإشارة ممَّا هذَّب فيه الإمام الرازي كتاب الإشارات. أمَّا الإشارة الأصلية فقد جرت كما يأتي: «هذا الاتصال علة قوة بعيدة هي العقل الهيولاني، وقوة كاسبة هي العقل بالملكة، وقوة تامة الاستعداد لها أن تقبل بالنفس إلى جهة الإشراق متى شاءت بملكة متمكِّنة وهي المسمَّاة بالعقل بالفعل.»٣٤

فابن سينا وقف في إشارته عند الكلام على الاتصال عند العقل بالفعل، على حين يرى الرازي أن الاتصال التام يكون بالعقل المستفاد.

ونعود إلى تحقيق البحث الذي نحن بصدده وهو: أيكتسب الإنسان المعقولات الأولى عن المحسوسات، أم هي موجودة بالفطرة؟ وإذا كانت فطريةً فمن أين جاءت؟

أجاب ابن سينا عن هذه الأسئلة بأن «المعاني الكلية الأولية المتعلِّقة بما حصلت في النفس، فإمَّا أن تحصل بتصفُّح الجزئيات، أو بفيض يتصل بها علويٌّ عن طريق الإلهام. ولكن المعاني الكلية الأولية لو كانت مستفادةً باستقراء الجزئيات لما كانت بها ثقة، بل وما كانت كليات بالحقيقة.»٣٥
فنحن نرى أن ابن سينا طرح المسألة على بساط البحث، ووجد أن الوصول إلى المعاني الكلية الأولية، سواء أكانت المبادئ الأولى للبراهين، أم للحد كما ذكرنا في تعريف العقل، تكون بطريقَين؛ الأول: تصفُّح الجزئيات وهو استقراء المحسوسات، والثاني: الفيض العلوي وطريق الاتصال. ثم أنكر ابن سينا طريق الحواس، وآثر طريق الفيض. ودليله على ذلك الثقة الحاصلة في الأوليات، وأن هذه الثقة فيها هي الدليل عنده على أنها ليست من اكتساب أنفسنا، بل من جوهر خارج عنه؛ إذ «من البيِّن أن هذه المعاني هي في غاية الصحة والثقة، وهي علة الثقة لغيرها، فإذن حصولها بفيض عُلوي، ونور إلهي يتصل بها، فيُخرجها من حدِّ القوة إلى حدِّ الفعل. وبالاتحاد بالفيض يعقل.»٣٦

ومن أدلة ابن سينا على وجود المعاني الكلية وجودًا حقيقيًّا خارجًا عنا، تكتسبها النفس بالاتصال، أن الصور العقلية تُنسى بعد إدراكها، فأين تذهب؟ فإن قيل إن هناك شيئًا كالخزانة تُحفظ فيه الصور العقلية بعد نسيانها، فهذا محال؛ «لأن النفس جوهر مجرَّد، فلا يمكن أن ينقسم إلى قسمَين يكون أحدهما مدركًا والثاني خزانة؛ فلم يبقَ إلَّا أن يُقال إن ها هنا شيئًا خارجًا عن جوهرنا فيه الصور المعقولة بالذات، فإذا وقع بين نفوسنا وبينه اتصال؛ ارتسم منه فينا الصور العقلية الخاصة بذلك الاستعداد».

هذا الاتصال يكون بالعقل الفعَّال.

وجملة القول — كما يقول الطوسي في شرح الإشارات: «إنا إذا علمنا شيئًا؛ فقد حصلت حقيقته فينا. فإذا غبنا عن ذلك المعلوم؛ استحال أن تكون حقيقته باقيةً فينا؛ إذ لا معنى للعلم إلَّا حصول تلك الصورة في النفس. فمتى كانت تلك الصور باقيةً في النفس؛ استحال ألَّا تكون النفس شاعرةً بها. ثم إن تلك الصور إمَّا أن تكون متحفِّظةً في قوة أخرى، وهي خزانة لأنفسنا، وهذا محال؛ لأن تلك الخزانة إن كانت موجودةً في أنفسنا كانت الصور الموجودة فيها موجودةً في أنفسنا، فيعود المحال. وإن لم يكن موجودًا في نفوسنا؛ فهو موجود مباين لنفوسنا، ويجب أن يكون بحيث تفيض عنه هذه الصور على نفوسنا عند اتصال نفوسنا به. وذلك الشيء يجب أن يكون عقلًا بالفعل، وهو العقل الفعَّال.»٣٧

(٤) نظرية المعرفة عند الفارابي

أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي، نسبةً إلى مدينة فاراب، وهي إحدى مدن الترك فيما وراء النهر. فيلسوف المسلمين، والمعلِّم الثاني، فهو إلى فلاسفة الإسلام كما كان أرسطو — المعلِّم الأول — إلى فلاسفة اليونان. سُئل الفارابي: من أعلم أنت أم أرسطو؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامِذته.

يقصُّ علينا ابن سينا أنه حفظ كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو عن ظهر قلب دون أن يفهمه، إلى أن وقع إليه كتاب الفارابي «تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة»، فانفتحت له مغاليق فلسفة أرسطو. فهذه شهادة ابن سينا — وهو الفيلسوف صاحب الصدارة في الفلسفة — للمعلِّم الثاني الفارابي.

تُوفِّيَ عام ٣٣٩ﻫ في دمشق في صُحبة سيف الدولة الحمْداني الذي أكرمه، وعرف موضعه في العلم، ومنزلته من الفهم.

وله تآليف كثيرة منها؛ «مقالة في معاني العقل»، نستخلص منها رأيه في المعرفة.

وقد تأثَّر الفارابي خُطا أستاذه أرسطو في هذا الصدد، مع بعض التغيُّر كما يجري عليه أغلب المفسِّرين. وسنُعنى في هذا الصدد ببيان أوجه الخلاف بين المعلِّمَين.

قال الفارابي عن العقل: «إن اسمه يُطلق على أشياء كثيرة؛ الأول: الشيء الذي به يقول الجمهور في الإنسان إنه عاقل. الثاني: العقل الذي يُردِّده المتكلِّمون على ألسنتهم فيقولون هذا ممَّا يُوجبه العقل، وينفيه العقل. الثالث: العقل الذي يذكره أرسطو في كتاب البرهان. والرابع: العقل الذي يذكره في المقالة السادسة من كتاب الأخلاق. والخامس: العقل الذي يذكره في كتاب النفس. والسادس: العقل الذي يذكره في كتاب ما بعد الطبيعة.»٣٨

وقد أحسن الفارابي صنعًا بالتنبيه على معنى العقل الشائع على ألسنة الجمهور الذين «يَعنون بالعاقل من كان فاضلًا جيِّد الروِية في استنباط ما ينبغي أن يُؤثر من خير، أو يُجتنب من شر».

وكذلك أحسن صنعًا بتعريف معنى العقل عند المتكلِّمين حتى ينفي اللبس عن هذا اللفظ، وما يدل عليه من معادن مختلفة حين يُستعمل في الفلسفة. والمتكلِّمون «إنما يعنون به المشهور في بادي الرأي عند الجميع؛ فإن بادي الرأي المشترك عند الجميع أو الأكثر يُسمُّونه العقل».

ولا يخلو هذا التنبيه الذي لجأ إليه الفارابي من سبب؛ ذلك أن المتكلِّمين — كما يقول الفارابي — «يظنون بالعقل الذي يُردِّدونه فيما بينهم أنه هو العقل الذي ذكره أرسطو في كتاب البرهان، ولكنك إذا استقريت ما يستعملونه من المقدِّمات الأُول تجِدها كلَّها مقدِّمات مأخوذةً من بادي الرأي المشترك».

وعند الفارابي أن العقل الذي يذكره أرسطو في كتاب البرهان «إنما يعني به قوة النفس التي بها يحصل للإنسان اليقين بالمقدِّمات الكلية الصادقة الضرورية لا عن قياس أصلًا، ولا عن فكر، بل بالفطرة والطبع، أو من صباه، ومن حيث لا يشعر من أين حصلت، وكيف حصلت».

ومن الواضع هنا أن الفارابي يعتقد بأن المقدِّمات الكلية الضرورية موجودة في العقل بالفطرة. ولكن الوجه الثاني للمسألة، وهو ما ذكره من أنها تحدث في الصبا من حيث لا يشعر المرء من أين أو كيف حصلت، يُبيِّن لنا أن الفارابي لا يجزم بفطرة الأوليات والبديهيات، بل يُجوِّز حدوثها بالكسب دون أن يعرف حلًّا صحيحًا لهذه المسألة. وهذا الموقف يختلف عن موقف غيره من الفلاسفة مثل ابن سينا. وقد رأينا في البحث السابق كيف يجزم بذلك بما لا يحتمل الشك في أكثر كتبه.

غير أننا إذا تصفَّحنا ما كتبه الفارابي في مواضع أخرى من مؤلَّفاته وجدنا أنه يميل إلى تأييد المذهب الثاني، ويلتمس له الأدلة، ونعني حصول المعرفة البديهية عن كسب، لا عن فطرة.

قال — بصدد الجمع بين رأيَي الحكيمَين أفلاطون وأرسطو ما يأتي: ونذكر هذا النص الطويل لما له من أهمية في الموضوع الذي نحن بسبيله فنقول: «من البيِّن الظاهر أن للطفل نفسًا عالمةً بالقوة، ولها الحواس آلات الإدراك. وإدراك الحواس إنما يكون للجزئيات، وعن الجزئيات تحصل الكليات، والكليات هي التجارِب على الحقيقة. غير أن من التجارِب ما يحصل عن قصد، وقد جرت العادة بين الجمهور بأن يُسمِّي التي تحصل من الكليات عن قصد بتقدمة التجارِب. فأمَّا التي تحصل عن الكليات للإنسان لا عن قصد، فإمَّا أن لا يوجد لها اسم عند الجمهور؛ لأنهم لا يعنونه. وإمَّا أن يوجد لها اسم عند العلماء فيُسمُّونه أوائل المعارف، ومبادئ البرهان، وما أشبهها من الأسماء. وقد بيَّن أرسطو في كتاب البرهان أن من فقد حِسًّا ما؛ فقدْ فقدَ علمًا ما؛ فالمعارف إنما تحصل في النفس بطريق الحس. ولمَّا كانت المعارف إنما حصلت في النفس عن غير قصد أولًا فأولًا، فلم يتذكَّر الإنسان، وقد حصل جزء وجزء منها؛ فلذلك قد يتوهَّم أكثر الناس أنها لم تزَل في النفس، وأنها تعلم طريقًا غير الحس. فإذا حصلت من هذه التجارِب في النفس؛ صارت النفس عاقلة؛ إذ العقل ليس هو شيئًا غير التجارِب.»٣٩

وهكذا يمضي بنا الفارابي في هذا التحليل البديع مؤيِّدًا نظريته، حتى ينتهي إلى تعليل رأي أفلاطون المشهور: «العلم تذكُّر، والجهل نسيان»، بأنه تذكُّر ما كان في نفسه قديمًا؛ أي ما اكتسبه منذ الصبا.

وتظهر حيرة الفارابي في مقدِّمة كتاب تحصيل السعادة حيث يقول: «إن العلوم منها ما يحصل للإنسان منذ أول أمره من حيث لا يشعر، ولا يدري كيف ومن أين حصلت، وهي العلوم الأُوَل، ومنها ما يحصل بتأمُّل، وعن فحصٍ واستنباط، وعن تعليم وتعلُّم.»٤٠

كيف ومن أين حصلت العلوم الأُوَل؟

أجاب الفارابي عن هذَين السؤالَين بشكل آخر في كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة». ونقصد بالشكل الجديد أنه تحليل فلسفي للموضوع على حين أن ما جاء في كتاب الجمع بين رأيَي الحكيمَين، تحليل نفساني أو «بسيكولوجي». وخلاصة رأي الفارابي أن الأصل في المعقولات الأُوَل المحسوسات، ولكنها لا تخرج إلى منزلة المعقولات إلَّا بمساعدة العقل الفعَّال. وإليك نصَّ ما ذكره زيادةً في الإيضاح والبيان: «وفِعل العقل المفارق في العقل الهيولاني شبيهٌ فعل الشمس في البصر؛ فلذلك سُمِّي العقلَ الفعَّال، ويُسمَّى العقلُ الهيولانيُّ العقلَ المنفعل. وإذا حصل في القوة الناطقة عن العقل الفعَّال ذلك الشيء الذي منزلته منها منزلة الضوء في البصر؛ حصلت المحسوسات حينئذٍ عن التي هي محفوظة في القوة المتخيلة معقولات في القوة الناطقة. وتلك هي المعقولات الأولى التي هي مشتركة لجميع الناس، مثل أن الكل أعظم من الجزء، وأن المقادير المساوية للشيء الواحد متساوية.»٤١

ونعود إلى الكلام عن أنواع العقول الأخرى التي ذكرها الفارابي في شيء من الإيجاز:

العقل الذي ذكره أرسطو في كتاب الأخلاق، فالمقصود منه العقل العملي الذي يحصل بالمواظبة على اعتياد شيء، وعلى طول تجرِبة شيء. وهذا العقل يتزيَّد مع الإنسان طول عمره … ويتفاضل الناس في هذا الجزء من النفس الذي سمَّاه عقلًا تفاضلًا متفاوتًا.

أمَّا العقل الذي يذكره أرسطو في كتاب النفس فإنه جعله على أربعة أنحاء؛ عقل بالقوة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعَّال.

والعقل بالقوة هو الاستعداد لانتزاع «ماهيَّات الموجودات كلها وصورها، دون موادِّها فتجعله كلها صورةً لها».

والعقل بالفعل هو حصول صور الموجودات، فإذا حصلت فيه المعقولات التي انتزعها عن المواد؛ صارت تلك المعقولات معقولاتٍ بالفعل، وقد كانت قبل أن تُنتزع عن موادها معقولات بالقوة».

وهنا يُلاحِظ الفارابي أن المعقولات التي كانت بالقوة معقولات تختلف عن المعقولات بالفعل؛ لأنها حين كانت بالقوة فهي «صورة في مواد من خارج النفس». وإذا حصلت معقولات بالفعل، فإن وجودها في نفسها ليس وجودها من حيث هي معقولات بالفعل؛ وسبب ذلك هو ارتفاع كثير من المعقولات عنها كالأين والكيف … إلخ.»٤٢

«والعقل بالفعل متى عقل المعقولات التي هي صور له من حيث هي معقولة بالفعل؛ صار العقل الذي كنا نقوله أولًا إنه العقل بالفعل، هو الآن العقل المستفاد».

ثم أفرد الفارابي فقرةً خاصةً بالعقل الفعَّال قائلًا: «إنه صورة مفارقة لم تكن في مادة ولا تكون أصلًا … وهو الذي جعل المعقولات التي كانت معقولات بالقوة، معقولات بالفعل. ونسبة العقل الفعَّال إلى العقل الذي بالقوة كنسبة الشمس إلى العين التي هي بصر بالقوة ما دامت في الظلمة.»

هذا ما أثبته الفارابي نسبةً لأرسطو، وأخْذًا عنه، فإلى أيِّ حدٍّ فهم الفارابي أرسطو؟

وهذه الآراء أهي حقًّا آراء أرسطو، أم آراء المفسِّرين الذين جاءوا بعد أرسطو؟

وهذا يقتضي منا الرجوع إلى التاريخ.

ومن الفائدة أن نتتبَّع هذا التاريخ لنلمح خلاله تطوُّر الرأي منذ عهد اليونان إلى عصر المسلمين. ولا يفوتنا في هذه المناسبة أن نذكر أن الفارابي يُعتبر أول من فهم أرسطو فهمًا جيدًا، وأول من بسط فلسفته عند المسلمين؛ ولهذا السبب سُمِّيَ بالمعلِّم الثاني. قال ابن قيم الجوزية: «والمقصود أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلِّم الأول، حتى انتهت توبتهم إلى معلِّمهم الثاني أبي نصر الفارابي.» وذكر ابن خَلِّكان أن الفارابي «تناول جميع كتب أرسطو وتمهَّر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها. ويُقال إنه وجد كتاب النفس لأرسطو وعليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي: «إني قرأت هذا الكتاب مائة مرة.»

ويُروى عنه أنه سُئل: من أعلم الناس بهذا الشأن أنت أم أرسطو؟ فقال: «لو أدركته لكنت أكبر تلامذته.» وقال القاضي صاعد في طبقاته: إن الفارابي «بَزَّ جميع أهل السلام، وأربى عليهم في التحقيق فيها (أي صناعة المنطق)، وشرح غامضها، وقرَّب تناولها في كتب صحيحة العبارة، لطيفة الإشارة، منبِّهًا على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم.»

فنحن إذ نعتبر الفارابي أول فلاسفة المسلمين على التحقيق، نأخذ برأي المؤرِّخين المسلمين أنفسهم، ورأي المحدثين مثل الدكتور إبراهيم بيومي مدكور في كتابه: «منزلة الفارابي في الفلسفة الإسلامية.»٤٣

ونظرية العقل التي ذكرها الفارابي هي نفس النظرية التي ذكرها أرسطو في الجزء الثالث من كتاب النفس مع تعديلات رآها، وأخذها عن المفسِّرين الذين فسَّروا أرسطو.

ويحسن أن نبدأ بترجمة نص ما ذكره أرسطو بعنوان: «العقل الفعال في كتاب النفس»؛ ليكون مرجعًا إلينا فيما نكتب. قال: «ولكن حيث إنه في جميع الأمور الطبيعية نُميِّز أولًا شيئًا يكون مادةً لكل جنس (وهذا هو ما بالقوة جميع أفراد الجنس)، ثم بعد ذلك شيئًا آخر يكون عِلةً وفاعلًا لأنه يُحدثهما جميعًا، والمثال في ذلك هو الفن بالنسبة للهيولى. فمن الضروري كذلك وجود هذا التمييز في النفس؛ ذلك أننا نُميِّز في النفس العقل الشبيه بالهيولى من جهة؛ لأنه يُصبح جميع المعقولات. ومن جهة أخرى العقل الشبيه بالعلة الفاعلة؛ لأنه يُحدث جميع الأشياء؛ إذ إنه نوع من الوجود شبيه بالضوء؛ لأن الضوء يُحوِّل الألوان بالقوة إلى ألوان بالفعل.

وهذا العقل هو العقل المفارق اللامنفعل، الذي لا يشوبه شيء؛ لأنه في جوهره فعل؛ ذلك أن الفاعل أسمى دائمًا من المنفعل، والمبدأ أسمى من الهيولى. والعلم بالفعل متحد بموضوعه، وعلى العكس فإن العلم بالقوة متقدِّم في الفرد … فإذا فارق العقل أصبح بالضرورة خلاف ما كان، والعقل المفارق وحده هو الخالد الأولي (ومع ذلك فإننا لا نتذكَّر؛ لأن العقل الفعَّال لا منفعل، على حين أن العقل المنفعل فاسد)، ومن دون العقل الفعَّال لا شيء يُعقل.»

وهناك خلاف كبير بين المترجمين المحدثين على نص أرسطو؛ ومرجع هذا الخلاف إلى صعوبة النص واختصاره وتركيزه، ثم إلى اختلاف المفسِّرين القدماء مثل؛ الإسكندر، وثامسطيوس، وثاوفراسطس، وغيرهم. فإذا كان الأمر كذلك، فليس من الغريب أن ينحو الفارابي نحوًا خاصًّا في فهم نظرية العقل عند أرسطو، وليس من الغريب أن يفهمها غيره من الفلاسفة الإسلاميين على غير هذا النحو.

وتنظيمًا للبحث نذكر أهم الموضوعات التي تنتهي إليها نظرية العقل عند أرسطو والمفسِّرين، ثم نُناقشها بعد ذلك، وهي:
  • (١)

    انقسام العقل إلى عقلَين؛ المنفعل والفعَّال.

  • (٢)

    خلود العقل الفعَّال وفساد العقل المنفعل.

  • (٣)

    مفارقة العقل الفعَّال.

  • (٤)

    وحدة العقل الفعَّال.

  • (٥)

    اتصال العقل الفعَّال بالعقول الإنسانية.

ونتكلَّم الآن عن النقطة الأولى وهي أقسام العقل.

ومن الواضح في ترجمة النص السابق أن أرسطو يجعل العقل عقلَين؛ المنفعل والفعَّال. بينما الفارابي ومن جاء بعده مثل ابن سينا وابن رشد وغيرهما، يجعلون العقل على أربعة أنحاء، أو أربعة عقول.

وعند الفارابي أنها عقل بالقوة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعَّال. أمَّا ترتيب العقول وأسماؤها عند ابن سينا فهي مختلفة عنها عند الفارابي؛ فهي: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد.

وأول من تكلَّم من المفسِّرين في نظرية العقل وتوسَّع فيها هو الإسكندر الأفروديسي. وعنده أن العقل المنفعل، ويُسمَّى العقل المادي أو الهيولاني كما يُسمِّيه العرب، ليس فيه شيء بالفعل، بل كله بالقوة؛ وسبب ذلك أنه ليس شيئًا قبل أن يعقل، فإذا عقل اتحد بالموضوع. فالعقل الهيولاني ليس إلَّا الاستعداد لقَبول المعاني أو المعقولات، كالشمع الخالي من كل نقش.

ومع ذلك فتشبيه العقل بالشمع فيه كثير من المجاز؛ لأن الشمع مادة، والعقل المنفعل قوة فقط.٤٤

هذا هو رأي الإسكندر الأفروديسي في كتاب النفس. والراجح، إن لم يكن من المؤكَّد، أن الفارابي أخذ عن الإسكندر لا عن أرسطو؛ لما بين كليهما من تشابه شديد.

ويكفي أن ننظر في نصِّ الفارابي الذي يتحدَّث فيه عن تشبيه العقل بالشمعة ليزداد عندنا هذا اليقين. قال: «إلَّا أنك إذا توهَّمت مادةً ما جسمانية، مثل شمعة ما فانتقش فيها نقش، فصار ذلك النقش وتلك الصورة في سطحها وعمقها، واحتوت تلك الصورة على المادة بأسرها، حتى صارت المادة بجملتها كما هي بأسرها هي تلك الصورة بأن شاعت فيها الصورة؛ قرب وهمك من تفهُّم معنى حصول صور الأشياء في تلك الذات التي تُشبه مادةً وموضوعًا لتلك الصورة. وتفارق سائر المواد الجسمانية بأن المواد الجسمانية إنما تقبل الصور في سطوحها فقط، دون أعماقها. وهذه الذات ليست تبقى ذاتها متميِّزةً عن صور المعقولات حتى تكون لها ماهية منحازة، وللصور التي فيها ماهية منحازة، بل هذه الذات نفسها تصير تلك الصورة، كما لو توهَّمت النقش والخِلقة التي تُخلق بها شمعة ما مكعبة أو مدورة، فتغوص تلك الخِلقة فيها، وتشيع وتحتوي على طولها وعرضها وعمقها بأسرها؛ فحينئذٍ تكون تلك الشمعة قد صارت هي تلك الخِلقة بعينها، من غير أن يكون لها انحياز بماهيتها دون ماهية تلك الخِلقة بعينها. فعلى هذا المثال ينبغي أن تتفهَّم حصول صور الموجودات في تلك الذات التي سمَّاها أرسطوطاليس في كتاب النفس عقلًا بالقوة، فهي ما دامت ليس فيها شيء من صور الموجودات فيه عقل بالقوة.»٤٥

فهذا التشبيه بالشمعة، مع التنبيه إلى ما بين الشمعة والعقل من فوارق، هو بذاته ما نصَّ عليه ونبَّه إليه الإسكندر كما رأينا.

واتحاد العقل بالموضوع يكون بالعقل الفعَّال فقط، وفي ذلك يقول أرسطو: «والعلم بالفعل مُتحد٤٦ بموضوعه.» أمَّا الإسكندر فإنه يجعل العقل الهيولاني خاليًا من المعقولات، فإذا عقل اتحد بالمعقول. ثم عاد الإسكندر فقال: إن العقل الهيولاني استعداد وحسب.

وأخذ الفارابي هذا الرأي وسار معه إلى نهايته المنطقية، فجعل العقل بالقوة هو العقل قبل أن يحصل فيه شيء من المعقولات، أمَّا بعد انتزاع المعقولات فإنه يُصبح عقلًا بالفعل.

ثم وحَّد بين العقل والعاقل والمعقول، وإليك نصَّ ما قاله: «فإذا حصلتْ فيه المعقولات التي انتزعها عن المواد؛ صارت تلك المعقولات معقولات بالفعل، وقد كانت من قبل أن ينتزع عن موادها معقولات بالقوة. فهي إذا انتزعت حصلت معقولات بالفعل، بأن حصلت صورًا لتلك الذات، وتلك الذات إنما صارت عقلًا بالفعل بالتي هي بالفعل معقولات، فإنها معقولات بالفعل، وإنها أعقل بالفعل شيء واحد بعينه. ومعنى قولنا فيها إنها عاقلة ليس هو شيء غير أن المعقولات صارت صورًا لها على أنها صارت هي بعينها تلك الصور. فإذن معنى قولنا: إنها عاقلة بالفعل، وعقل بالفعل، ومعقول بالفعل، على معنًى واحد بعينه.»٤٧

ذكرنا الخلاف بين الفارابي والمعلِّم الأول على تقسيم العقل؛ ذلك أن أرسطو يقول بعقلَين؛ المنفعل والفعال، بينما الفارابي يجعل العقول أربعة؛ العقل بالقوة، والعقل بالفعل، والعقل الفعَّال، والعقل المستفاد. ولا يتقيَّد الفارابي بهذه الأسماء إذ يقول في بعض مؤلَّفاته عن العقل بالقوة إنه الهيولاني، وعن العقل بالفعل إنه بالملكة. وحينئذٍ نرى أن تسمية ابن سينا للعقول ليست جديدة، بل مأخوذة من المعلِّم الثاني.

وننتقل الآن إلى الكلام على النقطة الثانية من موضوعنا وهي فساد العقل المنفعل، وخلود العقل الفعَّال في رأي أرسطو، ثم نرى رأي الفارابي في هذه المسألة.

ويحسن أن ننقُل إليك ما ذكره الفارابي عن هذا الشأن. قال: «ولهذا العقل مراتب؛ يكون مرةً عقلًا هيولانيًّا، ومرةً عقلًا بالملكة، ومرةً عقلًا مستفادًا. وهذه القوى التي تدرك المعقولات جوهر بسيط وليس بجسم، ولا يخرج من القوة إلى الفعل، ولا يصير عقلًا تامًّا إلَّا بسبب عقل مفارق وهو العقل الفعَّال الذي يُخرجه إلى الفعل … وهو مفارق للمادة يبقى بعد موت البدن، وليس فيه قَبول الفساد. وهو جوهر أحدي. وهو الإنسان على الحقيقة، وله قوًى تنبعث منه في الأعضاء. وظهوره من واهب الصور.»

ورأي الفارابي في هذه الفقرة السابقة التي نقلناها عن عيون المسائل، أوضح من رأيه في مقالة العقل. قال: «وأمَّا العقل الفعَّال الذي ذكره أرسطوطاليس في المقالة الثالثة من كتاب النفس، فهو صورة مفارقة لم تكن في مادة، ولا تكون أصلًا. وهو بنوع ما عقل بالفعل، قريب الشبه من العقل المستفاد.»

والفارابي في مقالة العقل أقرب إلى روح أرسطو، بينما رأيه في عيون المسائل ينقل عن الإسكندر الأفروديسي وغيره من المفسِّرين.

وعندما ذكرنا ترجمة نص كلام أرسطو في كتاب النفس وجدنا أنه يجعل العقل المنفعل فاسدًا، والفعَّال خالدًا.

ولا يفوتنا أن نذكر أن الفارابي يُسمِّي العقل بالقوة أو الهيولاني عقلًا منفعلًا كما سمَّاه أرسطو، وفي ذلك يقول في كتاب «آراء المدينة الفاضلة»: «ويُسمَّى العقلُ الهيولاني العقلَ المنفعل.»

ولا نستطيع أن نستخلص رأي الفارابي عن العقل الهيولاني أهو فاسد أم خالد؟ أمَّا رأيه في العقل الفعَّال فهو صريح إذ يقول: «وليس فيه قوة قَبول الفساد»، كما نص في عيون المسائل، غير أن قوله: «وهذه القوى التي تدرك المعقولات جوهر بسيط وليس بجسم»، يجعلنا نشعر أنه يعتقد بأن العقل الهيولاني أو المنفعل غير فاسد أيضًا.

ويزيد في اعتقادنا هذا أن الفارابي يفصل فصلًا تامًّا وتمييزًا واضحًا بين المحسوس والمعقول، أو المادة والروح. ولمَّا كانت المادة فاسدةً والروح خالدة، وليس العقل ماديًّا؛ فهو إذن خالد في شطرَيه المنفعل والفعَّال.

وإليك نصَّ ما ذكره بشأن الفصل بين المحسوس والمعقول:

«ليس من شأن المحسوس من حيث هو محسوس أن يعقل، ولا من شأن المعقول من حيث هو معقول أن يُحِس. ولن يستقيم الإحساس إلَّا بآلة جسمانية فيها تتشبَّح صور المحسوس تشبُّحًا مستصحبًا للواحق الغريبة. ولن يستقيم الإدراك العقلي بآلة جسمانية؛ فإن المتصوِّر فيها مخصوص، والعام المشترك فيه لا يتقرَّر في منقسم، بل الروح الإنسانية هي التي تتلقَّى المعقولات بقَبول جوهر غير جسماني، وليس بمتميُّز ولا بمتمكِّن، بل غير داخل في وهم، ولا يدرك بالحس؛ لأنه من حيز الأمر.»

غير أن للمسألة وجهًا آخر؛ ذلك أن العقل الهيولاني متصل بالفرد وليس مفارقًا، فهو يظهر بظهوره ويموت بموته، وفي هذه الحالة يكون العقل الهيولاني فاسدًا.

وندع هذه المسألة جانبًا وهي فساد العقل الهيولاني؛ لأن رأي الفارابي عنها غير صريح كما قدَّمنا، وننتقل إلى الكلام عن العقل المفارق وهو الفعَّال.

ومن الواضح أن الفارابي لم يأخذ في هذه المسألة برأي أرسطو، بل برأي المفسِّرين كما سنُبيِّن لك.

ذلك أن أرسطو لم يبسط رأيه بسطًا وافيًا شافيًا، أو واضحًا لا يقبل التأويل. يقول أرسطو: «لا يكون العقل عقلًا صحيحًا إلَّا حينما يُفارق.»

وقد اعتمد المفسِّرون على هذا الرأي الغامض المختصر، فوصلوا به إلى نهايته المنطقية المحتومة، فقالوا إنه لا يُفارق حينًا ويُفارق حينًا آخر، بل يُفارق في جميع الأحيان. وقالوا إنه يُفارقنا بمعنى أنه مِنا ثم يُفارقنا، بل هو جوهر ليس منا يفيض علينا من الخارج، فهو جوهر إلهي. وهذا العقل هو الذي يهدي الإنسان ويُضيء له المعقولات.

هذا هو تفسير الإسكندر وثامسطيوس وفيلوبون وسائر المفسِّرين اليونان، وجميع فلاسفة العرب دون استثناء.

فإن قيل: إن هذا المذهب لا يتلاءم مع مذهب المشَّائين وفلسفة أرسطو، قلنا: إن أرسطو لم يتحرَّج أن يأخذ من أصحاب الفلسفة السابقين عليه بعض الآراء وضمَّنها مذهبه العام. ونخص بالذكر بصدد العقل ما أثبته لأنكساجوراس، دون أن يعني أرسطو بالالتفات إلى مناقضة رأي أنكساجوراس للمذهب العام الأرسطوطاليسي.

فهذه الثغرة التي فتحها أرسطو في فلسفته، يُضاف إليها نزعة المفسِّرين الدينية، هي التي أوحت إليهم أن يأخذوا من أرسطو ما قاله عن مفارقة العقل، ثم يُؤلِّفوا نظريةً تتلاءم مع رأيهم في الدين.

أمَّا قول الفارابي: إن العقل الفعَّال «جوهر أحَديٌّ وهو الإنسان على الحقيقة، وظهوره من واهب الصور»، فمأخوذ عن المفسِّرين لا عن أرسطو.

وكذلك قوله في «فصوص الحكم»: «الروح الإنسانية هي التي تتمكَّن من تصوُّر المعنى بحَدِّه وحقيقته … وذلك بقوة لها تُسمَّى العقل النظري. وهذه الروح كمرآة، وهذا العقل النظري كصقالها. وهذه المعقولات ترتسم فيها من الفيض الإلهي، كما ترتسم الأشباح في المرايا الصقلية إذا لم يُفسِد صقالها طبع.»

وقال في موضع آخر: «الحس تصرُّفه فيما هو من عالم الخلق، والعقل تصرُّفه فيما هو من عالم الأمر، وما هو فوق الخلق والأمر فهو محتجب عن الحس والعقل، ليس حجابه غير انكشافه.»

قال رينان في كتابه عن ابن رشد وفلسفته: «إن الإسكندر الأفروديسي هو أول وأعظم المفسِّرين لنظرية العقل التي وردت في الجزء الثالث من كتاب النفس لأرسطو. ويتضح من كلام ثامسطيوس أن جدلًا طويلًا شاع في بدء القرون الوسطى حول هذه النظرية. وعندهما أن العقل المفارق خارج عن الإنسان، وأنه واحد في أصله؛ أي الله، وأنه كثير بكثرة الأفراد الذين يشتركون فيه، كالأشعة الكثيرة التي تفيض عن الشمس.»

فهذا كله يُؤيد ما ذكرناه من أن الفارابي أخذ عن المفسِّرين في مفارقة العقل ووحدته. ونذكر بعد ذلك رأيه في الاتصال.

إذا كان الفارابي أمينًا إلى حدٍّ ما في نقْل ما ذكره المعلِّم الأول عن انقسام العقل إلى منفعل وفعَّال، ثم الكلام عن خلود العقل الفعَّال وفساد المنفعل، ومفارقة العقل، فإن الفارابي لم يكن متفقًا مع أرسطو في الرأي عن وحدة العقل والاتصال، شأنه في ذلك شأن سائر المفسِّرين لزعيم المشَّائين.

واتصال عقولنا بالعقل الفعَّال يفرض حتمًا وجود العقل الفعَّال خارج العقول الإنسانية من جهة، ثم سعي العقول الإنسانية للاتصال به من جهة أخرى. ومجموع هذَين الرأيَين منقول عن الأفلاطونية الحديثة، وعن الإسكندر الأفروديسي؛ لأن الرأي القائل بالفيض والاتصال، كلاهما بعيد عن فلسفة المشَّائين، وعن نصوص أرسطو.

والقول بالاتصال يتلاءم كل الملاءمة مع الفلسفة العامة للفارابي، التي لا بد من فهمها أولًا؛ لفهم المسائل الجزئية التي تُعرض بعد ذلك. ولكل فيلسوف مذهب عام، كامل البناء، تترتَّب فيه مسائل الوجود في انسجام. وإذا أردت أن تشهد البناء الكامل لمذهب الفارابي في الفلسفة، فعليك أن تقرأ كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة»، التي بدأها بالقول في الله وصفاته، وأنه سبب الموجودات، ثم انتقل إلى الكلام عن الملائكة، وضرورة الاعتقاد فيها، والأجرام السماوية وتدبير الأفلاك، ثم انتقل إلى الأجسام الهيولانية، والمادة والصورة، وفي ترتيب الموجودات الأرضية، حتى يصل إلى الإنسان وهو أشرفها وأرقاها. ثم يتحدَّث عن قوى النفس والعقل والتخيُّل، والرؤيا الصادقة والوحي. ويختم كلامه برأيه في المجتمع والمدينة الفاضلة وشروطها.

هذا التصوير السريع لمذهب الفارابي ضروري لسببَين؛ الأول: لأن العقل يصدر عن الله، «وهو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها». والثاني: أن الله هو الغاية التي يجب أن يتطلَّع كل إنسان لمعرفته، ومعرفتنا له تعالى لا تتم بالمادة ووسائلها، بل بالروح أو العقل. وكلما ابتعد الإنسان عن علائق المادة اقترب من الله. وهذا هو أول طريق للاتصال؛ «إذ كلما قربت جواهرنا منه؛ كانت تصوُّراتنا له أتمَّ وأيقن وأصدق. وذلك أنا كلما كنا أقرب إلى مفارقة المادة؛ كان تصوُّرنا له أتم. وإنما نصير أقرب إليه بأن نصير عقلًا بالفعل. وإذا فارقنا المادة على التمام؛ يصير المعقول منه في أذهاننا أكمل ما يكون.»

هذا الكلام السابق شديد الشبه بالصوفية وكلامهم، والفارابي صوفي حقًّا في كثير من مواضع كتبه، خصوصًا في «فصوص الحكم» وعيون المسائل، حيث يستعمل اصطلاحات المتصوِّفة ولغتهم، وطريقتهم في الأداء والتفكير. وقد مرَّ بنا عند ذكر حياته أنه لمَّا ذهب إلى سيف الدولة أقام عنده بزي التصوُّف.

وأول المبدعات عنه تعالى شيء واحد بالعدد هو العقل الأول، وعنه العقل الثاني، والفلك الأعلى، «ويحصل عن العقل الثاني عقل آخر، وفلك آخر تحت الفلك الأعلى … إلى أن تنتهي العقول إلى عقل فعَّال مجرَّد عن المادة، وهناك يتم عدد الأفلاك … وهذه العقول مختلفة الأنواع، كل نوع منها على حدة. والعقل الأخير منها سبب وجوده الأنفس الأرضية.»٤٨
فالعقل الفعَّال، أو العقل العاشر، في اصطلاح فلاسفة العرب، هو سبب وجود الأنفس الأرضية، ولا يكون ذلك إلَّا عند ظهور البدن. فالعقل الفعَّال «جوهر أحَدي، وهو الإنسان على الحقيقة، وله قوًى تنبت منه في الأعضاء. وظهوره من واهب الصور يكون عند ظهور الشيء الصالح لقَبوله، وهو البدن.»٤٩
والفارابي يجعل العقل جزءًا من النفس، وقد يتكلَّم عن النفس وهو يقصد العقل من طريق إطلاق العام على الخاص. قال: «النفس الإنسانية إنما تعقل ذاتها لأنها مجرَّدة، والنفوس الحيوانية غير مجرَّدة فلا تعقل ذاتها.» وقال في موضع آخر: «النفوس الإنسانية إذا أخذت من القوة الخيالية مبادئ علومها، حتى لا تحتاج في شيء ممَّا تُحاول معرفته إلى أخذ مباديه من القوة الخيالية؛ تكون قد استكملت. وإذا فارقت كانت متخصِّصة الاستعداد لقَبول فيض العقل الفعل.»٥٠
والقول بالفيض، وبمغايرة النفس للبدن، ينصرف إلى مذهبَين؛ الأول: وجود النفس قبل البدن، ممَّا يحمل على الاعتقاد بقِدمها، وهذا يُنافي الدين كما هو معروف. والثاني: التناسخ، وهو مخالف للعقائد الإسلامية أيضًا؛ لهذا بادر الفارابي فنفى هذَين الرأيَين قائلًا: «ولا يجوز وجود النفس قبل البدن كما قال أفلاطون، ولا يجوز انتقال النفس من جسد إلى جسد كما يقول التناسخيون.»٥١
وقد ذكرنا كيف يتم فعل العقل الفعَّال؛ إذ منزلته كالشمس من البصر، «فكما أن الشمس هي التي تجعل العين بصيرًا بالفعل، والمبصرات مبصرات بالفعل، بما تُعطيها من الضياء، كذلك العقل الفعَّال هو الذي جعل العقل الذي بالقوة عقلًا بالفعل.»٥٢
هذا مأخوذ عن أرسطو كما سبق أن ذكرنا، ولكن أين رأي الفارابي في الاتصال؟ رأي الفارابي موجز أشد الإيجاز، ولم يُصرِّح بالاتصال كما صرَّح بالفيض، وفي ذلك يقول: «إن النفس المطمئنة كمالها عرفان الحق الأول بإدراكها، فعرفانها الحق الأول، وهي بريئة قدسية على ما يتجلَّى لها هو اللذة القصوى. كل مدرك متشبِّه من جهةٍ بما يُدركه تشبُّه التقبُّل والاتصال. والنفس المطمئنة ستُخالط معنًى من اللذة الحقيقية على ضرب من الاتصال فترى الحق وتبطل عن ذاتها.»٥٣

على أي نحو يكون هذا الضرب من الاتصال؟ لا نستطيع أن نجد عند الفارابي جوابًا شافيًا. ولكن لعلنا نلتمس من ذلك شيئًا فيما ذكره عن الرؤيا والوحي.

والرؤيا والوحي من خصائص القوة المتخيلة؛ ذلك «أن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قويةً كاملةً جدًّا، وكانت المحسوسات الواردة عليها من الخارج لا تستولي عليها استيلاءً يستغرقها بأسرها، لا أخذت منها القوة الناطقة، بل كان فيها — مع اشتغالها بهذَين — فضل كثير، تفعل به أيضًا أفعالها التي تخصها.»٥٤ ثم قال: «ولا يمتنع أن يكون الإنسان إذا بلغت قوته المتخيلة نهاية الكمال، فيقبل في يقظته عن العقل الفعَّال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها؛ فيكون له بما قَبِله من المعقولات نبوءة بالأشياء الإلهية.»٥٥
فشروط الوحي قوة المخيلة، وتوسُّط العقل الفعَّال، «فيكون ما يُفيض من الله إلى العقل الفعَّال، يُفيضه العقل الفعَّال إلى عقله المنفعل، بتوسُّط العقل المستفاد، ثم إلى قوته المتخيلة. فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيمًا فيلسوفًا ومتعقِّلًا على التمام. وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيًّا منذرًا بما سيكون، ومخبرًا بما هو الآن. وهذا الإنسان هو في أكمل مراتب الإنسانية … وتكون نفسه كاملةً متحدةً بالعقل الفعَّال على الوجه الذي قلنا.»٥٦ ولكنك إذا بحثت عن هذا الوجه الذي يذكره الفارابي للاتحاد، أو ذلك الضرب من الاتصال، لم تعثر له على أثر.
١  ج٣، ص٣٩٢.
٢  ج٣، ص٣٩٣.
٣  ج٤، ص١١٤.
٤  ج٤، ص١١٤.
٥  ج٣، ص٣٨٤.
٦  ج١، ص٢٣٦.
٧  ج١، ص٢٣٦.
٨  ج٣، ص٤٢٣.
٩  ج٤، ص١٨.
١٠  ج٤، ص١١٤.
١١  ج٤، ص١٨.
١٢  ج٣، ص٢٦، ٤٤.
١٣  ج٣، ص٣٠.
١٤  ج١، ص٣١٩.
١٥  ميزان العمل، ص٣٤.
١٦  الرسالة اللدنية، ص٢٤، ٢٥.
١٧  الإحياء، ج١ ص٢٥.
١٨  الإحياء، ج١، ص١١.
١٩  الرسالة اللدنية، ص٤٨.
٢٠  الرسالة اللدنية، ص٣٩.
٢١  الرسالة اللدنية، ص٣٠.
٢٢  الرسالة اللدنية، ص٤٠ و٤١.
٢٣  الرسالة اللدنية، ص٤١، ٤٤.
٢٤  الرسالة اللدنية، ص٤٨.
٢٥  ميزان العمل، ص٣٨.
٢٦  النجاة، ج١، ص١٠١.
٢٧  النجاة، ج١، ص١٣٧.
٢٨  رسالة في السعادة والحجج العشرة على أن النفس جوهر، حيدر آباد، ١٣٥٣ﻫ، ص٥.
٢٩  منطق الشرقيين، ص١٤.
٣٠  إشارات ابن سينا، شرح الطوسي والرازي، المطبعة الخيرية، ص١٥٤–١٦٠.
٣١  لباب الإشارات للرازي، مطبعة السعادة ١٣٢٦ﻫ، ص١٧.
٣٢  أفلاطون إلى ابن سينا، الدكتور جميل صليبا، دمشق، الطبعة الثانية.
٣٣  لباب الإشارات، ص٧٩.
٣٤  الإشارات، ص١٦٠.
٣٥  رسالة في السعادة، ص١٣.
٣٦  رسالة في السعادة، ص١٣.
٣٧  الإشارات، ص١٥٩، ١٦٠.
٣٨  الجمع بين رأيَي الحكيمَين، مطبعة السعادة، ص٥.
٣٩  المرجع السابق، ص٢٠.
٤٠  تحصيل السعادة، حيدر آباد، ١٣٤٥ﻫ، ص٢.
٤١  آراء أهل المدينة الفاضلة، مطبعة النيل، ١٣٢٣ﻫ، ص٦٤، ٦٥.
٤٢  مقالة العقل، ص٩، ١٠.
٤٣  La Place d’ AL Farabi dans I’école Philosophique Musulmane. وقد عقد المؤلِّف فصلَين طويلَين عن العقل ونظرية الاتصال، يحسن بمن يُريد التوسُّع الرجوع إليه.
٤٤  Renan-Averoes et L’ Averroisme, p. 128-129.
٤٥  مقالة العقل للفارابي، ص٩.
٤٦  في النص اليوناني: «هو موضوعه.»
٤٧  مقالة العقل، ص٩ و١٠.
٤٨  عيون المسائل، ص٢٥.
٤٩  عيون المسائل، ص٣٠.
٥٠  التعليقات، ص١٢، ١٣.
٥١  عيون المسائل، ص٣٠
٥٢  مقالة العقل، ص١٤
٥٣  فصوص الحكم، ص٣٥.
٥٤  آراء أهل المدينة، ص٧٤.
٥٥  ص٧٥.
٥٦  ص٨٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤