الفصل الثالث

(١) ذُهولُ «دَشْيَنْتا»

كانَ أوَّلَ ما فَكَّرَ فيهِ «دَشْيَنْتا» أَنْ ذَهَبَ إلى صَوْمَعةِ الشَّيْخِ «كَنْفا»: والدِ زَوْجِهِ. فَلمَّا بلَغها رَآها خاليَةً لا يَسْكُنُها أحَدٌ. ثُمَّ عَلِمَ أنَّهُ ماتَ مُنْذُ أعْوامٍ، فَظَلَّ يَبْحَثُ عَنْ زَوْجهِ النَّاسِكَةِ في كُلِّ مكان، فَلمْ يَعْثُرْ لَها على أَثَر.

فأَيْقَنَ أَنَّ تِلْكَ التَّاعِسَةَ الْمِسْكِينَةَ قَدْ هَلَكَتْ حُزْنًا — بِلا شَكٍّ — أو الْتَهمتْها الْوُحوشُ الضَّارِيَةُ.

فَلَمْ يُفِقْ مِنْ ذُهولهِ — لَيْلَ نهارَ — وشارَكَهُ الشَّعْبُ فِي حُزْنِهِ، دُونَ أَنْ يَعْرِفَ سَبَبَهُ.

(٢) الْعَرَبَةُ الطَّائِرةُ

وذا صَباحٍ بَيْنَما كانَ «دَشْيَنْتا» يَسِيرُ فِي حدِيقَتِهِ مُسْتَغْرِقًا فِي هُمومِهِ، مُتَحسِّرًا على أيَّامِ السَّعادَةِ الَّتِي قَضاها مَعَ النَّاسِكَةِ فِي الْغابَةِ — مُنْذُ سَنَواتٍ — إِذْ رَأَى شَيْئًا يَلْمعُ فِي السَّماءِ، وهُوَ أَشْبَهُ بِطائرٍ عَظِيمٍ يَقْتَرِبُ مِنْهُ. فلَمَّا داناهُ (قَرُب مِنْهُ)، إذا بِهِ يرَى مَرْكَبَةً تَجُرُّها جِيادٌ مِنَ الْجِنِّ، تَجْرِي مُتَبَخْتِرةً فِي مِشْيَتِها. وقَدْ أَمْسَكَ بِلُجُمِ الْخَيْلِ سائِقٌ — لا يَعْرِفُه عالَمُنا الإِنْسِيُّ — ويُخَيَّلُ إلى مَنْ يَنْظُرُهُ أنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ النُّورِ هَبَطَتْ مِنَ السَّماءِ إلى عالَمِنا الْأَرْضِيِّ. ثُمَّ سَلَّمَ السَّائِقُ عَلَيْهِ قائِلًا: «تَحِيَّتِي إلَيْكَ يا «دَشْيَنْتا». ألا تَعْرِفُنِي؟ أنا «ماتالي» — حُوذِيُّ «إنْدِرا» الْعظِيمِ — أوْفَدَنِي لإِحْضارِكَ إلى ساحَتِهِ الْمُقدَّسَةِ.»

(٣) رِحْلَةٌ فِي الْفَضاءِ

ولا تَسَلْ عَنْ حَيْرَةِ «دَشْيَنْتا» مِمَّا رَأَى وسَمِعَ، فإِنَّ «إنْدِرا» لَمْ يَدْعُ أحَدًا إلى حَضْرَتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، قَبْلَ هذِهِ الْمَرَّةِ. وهذا تَشْرِيفٌ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ مَلِكٌ غَيْرُهُ مِنَ الْمُلوكِ، ولَمْ يَكَدْ يَسْتَقِرُّ فِي الْعَرَبَةِ حتَّى طارَتْ بهِ فِي أطباقِ الْفَضاءِ، وما زالَتْ تَرْتَفِعُ حتَّى أَبْصَرَ مَمْلكَتَهُ كأَنَّها حَبَّةُ سِمْسِمٍ.

•••

وظَلَّتِ الْخَيْلُ تَنْهَبُ فَضاء الْجَوِّ نَهْبًا، ثُمَّ وقَفَتِ الْعَرَبةُ فَجْأَةً بَيْنَ السُّحُبِ، وطلبَ «ماتالِي» مِنَ الْمَلِك «دَشْيَنْتا» أنْ يَنْزِلَ.

(٤) ساحَةُ «إنْدِرا»

وما كادَ يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمُقامُ حتَّى تَبَدَّدَتِ السُّحُبُ وذابَتْ فَلَمْ يَبْقَ لَها أثَرٌ.

ثُمَّ رأى نَفْسَهُ وحِيدًا فِي عالَمٍ يَفيضُ بِالنُّورِ الْإلهيِّ، وسَمِعَ أغاريدَ الطُّيورِ وَأناشِيدَها الْعَذْبَةَ، تُرَتِّلُها عَلَى أَشْجارِها الْمُثْقَلَةِ بِأَحْسَنِ الْأَزْهارِ. وأحَسَّ قَلْبُه أنَّهُ يَدْنُو من ساحَةِ «إنْدِرا» الْعظِيمِ.

وظَلَّ يُسائلُ نفْسَهُ مَدْهُوشًا: «أَيُمْكِنُ أَنْ يَظْهرَ «إنْدِرا» لِلْأَناسِيِّ مِنْ أَمْثالِنَا؟»

(٥) قاهِرُ الْجَبابِرَةِ

ولَمْ يَظْهَرْ «إنْدِرا»، بَلْ ظَهَر — أمامَهُ — صَبِيٌّ قَوِيُّ الْبَأْسِ، مَفْتُولُ الْعَضَلِ، وقَدْ حَمَل شِبْلًا بَيْنَ ذِراعَيْهِ. وظَلَّ الشِّبْلُ يُحاوِلُ الْفَكاكَ — بِقُوَّةٍ وَعُنْفٍ — فلا يَسْتَطِيعُ. وَلَمْ يَبْدُ عَلى الصَّبِيِّ خَوْفٌ أو اضْطِرابٌ. فَدَهِشَ مِنْ شَجاعَتِهِ، وصاحَ — مِنْ فَرْطِ الدَّهَشِ والْإِعْجابِ — يَسْأَلُه عنِ اسْمِهِ. فأجابَهُ الصَّبِيُّ فِي غَيْرِ مُبالاةٍ: «لَسْتُ أَعْرِفُ اسْمًا لِي! عَلى أَنَّهُمْ يُنادُونَنِي — فِي بَعْضِ الْأَحْيانِ — بِلَقَبِ: «قاهِرِ الْجبابِرَةِ» لِأَنَّنِي أَغْلِبُ الْوُحوشَ الضَّارِيَةَ، أَمَّا اسْمِيَ الْحَقِيقِيُّ فلا عِلْمَ لِي بِهِ.»

(٦) أُمُّ الصَّبِيِّ

فعَجِبَ الْمَلِكُ مِمَّا سَمِعَ، وَشَعَرَ بحُنُوٍّ عَظِيمٍ لهُ. وَقالَ في نَفْسِه: «لَقَدْ كُنْتُ أُمَنِّي نَفْسِي بِأَنْ أُنْجِبَ غُلامًا يَكُونُ وَلِيَّ عَهْدِي، وَيَرِثُ مُلْكِي مِنْ بَعْدِي. وَكنْتُ أُحِبُّ أَنْ أُسَمِّيَهُ «بَهاراتَ». ولكِنَّ حَظِّيَ الْعاثِرَ فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ «ساكُنْتَالا». وَلَوْ بَقِيَتْ لَأَنْجَبَتْ لِي مِثْلَ هَذَا الْغُلامِ!»

ثُمّ دَنا مِنْهُ، وَرَفَعَ ذِراعَيْهِ وَهُوَ يَهُمُّ بِمُعانَقَتِهِ، فارْتَدَّ الصَّبِيُّ إلى الْخَلْفِ صائِحًا: «لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمَسَّنِي! هَلُمِّي يا أُمَّاهُ فانْظُرِي مَنْ هذا الْقادِمُ؟»

فَأَجابَهُ صَوْتٌ رَقيقٌ: «لَبَّيْكَ يَا وَلَدِي، فَإِنِّي قادِمَةٌ إِلَيْكَ.»

فَسَرَتِ الرِّعْشةُ في جسْمِ «دَشْيَنْتا»، وَخُيِّلَ إلَيْهِ أنَّه يَسْمَعُ صَوْتَ زَوْجهِ. وَلاحَ لهُ أَمَلٌ لَمْ يَكَدْ يَمُرُّ بِخاطِرِهِ حَتَّى تَمَثَّلَ أَمامَهُ حَقِيقَةً راهِنَةً.

وَسُرْعانَ ما رَأَى «ساكُنْتالا» ماثِلَةً (واقِفَةً) أَمامَهُ — وَقَدْ عَلَتْ وَجْهَها صُفْرَةٌ وكآبةٌ — وَلكِنَّ اصْفِرارَها وَحُزْنَها لمْ يُقلِّلا مِنْ جَمالِها، فَقَدْ أَبْصَرَها أَكْثرَ جَمالًا مِنْها في الْغابةِ.

(٧) الصَّفاءُ بَعْدَ الْجَفاءِ

فَلمَّا الْتَقَى بَصَرُها بهِ، لَمْ تُقْبِلْ عَلَيْهِ، بَلْ وَقَفَتْ ساكِنَةً، في إباءٍ وَأَنَفَةٍ. ولكنّ «دَشْيَنْتا» أَسْرَعَ إليْها ضارِعًا، وَقالَ لَها مُسْتَعْطِفًا: «لا تَنْفِرِي مِنِّي (لا تَتَباعَدِي عنِّي)، بَلِ اسْتَمِعِي إلى قِصَّتِي، ثُمَّ احْكُمِي فِيها بِما تَشائِينَ.»

فَأَنصَتَتِ النَّاسِكَةُ إلى قِصَّتِهِ، فَلمّا عَرَفَتْها تَأَلَّقَ وَجْهُها (أَضاءَ وَلَمَعَ) سُرُورًا، وَأَدْرَكَتْ أَنَّ ذلِكَ مِنْ أَثَرِ لَعْنةِ السَّاحِرِ.

•••

فَسأَلَها «دَشْيَنْتا» عَنْ ذلكَ السَّاحِرِ. فَقَصَّتْ عَلَيْهِ قِصَّتَها معَهُ، وَكيْفَ أفْقَدَها خاتَمَها — بَعْدَ أَنْ لَعَنَها — وَكَيْفَ عاشَتْ تِلْكَ السِّنين، يتَجَدَّدُ حُزْنُها كُلَّما ذَكَرَتْ قَسْوَةَ زَوْجِها عَليْها.

(٨) جَبَلُ «إندِرا»

فَقالَ لَها «دَشْيَنْتا»: «ولكِنْ خَبِّرِينِي: أَيْنَ كُنْتِ مُسْتَخْفِيَةً طُولَ هذِهِ السَّنَواتِ؟ وَما اسْمُ الْمَكانِ؟ وَكَيْفَ حَلَلْتِهِ؟»

فَأَجابَتْهُ قائِلةً: «هذا جَبَلُ «إنْدِرا» الْعَظيمِ. وَقدْ حَلَلْتُهُ بَعْدَ أَنْ خَرَجْتُ مِنْ قَصْرِكَ والْهمُّ يَكادُ يَقْتُلُنِي، فارْتَمَيْتُ على الْأَرْضِ باكِيَةً مَحْزُونَةً.

فَأرْسَلَ إلَيَّ «إنْدِرا» عَرَبتَهُ، فَحَملَتْني — مِنَ الْأَرْضِ — إلَى هذا الْمَكانِ.»

فصاحَ الصَّبِيُّ مُتَعَجِّبًا: «مَنْ هذا الرّجُلُ الَّذِي تُكَلِّمِينَ يا أُمَّاهُ؟» فأَجابتْهُ، ودُموعُ الْفَرَحِ تَنْحَدِرُ مِنْ عَيْنَيْها: «هَلُمَّ — يا ولَدِي — فَعانِقْهُ، فإنَّهُ أَبُوكَ!»

(٩) نَصِيحَةُ «ماتالي»

وأيْقَنَ الْمَلِكُ أَنَّ سعادتَهُ قد تَمَّتْ، وأَمانِيَّهُ قَدْ تَحَقَّقَتْ. وَحِينَئذٍ ظهَرَ أمامَهُ السَّائِقُ «ماتالي» حُوذِيُّ الْعَرَبةِ الطَّائِرَةِ، وصاحَ بهِ: «لقَدْ بَلَغْتَ ما تَمَنَّيْتَ أَلَيْسَ كذلكَ؟ فارْجِعْ إلَى عالَمِكَ الْأَرْضِيِّ، كما أَمَر «إنْدِرا» الْعَظيمُ!»

•••

ثُمَّ اسْتَأْنَف «ماتالي» حَديثَه إلى الزَّوْجَيْنِ، ونصَحهما قائلًا: «هَلُمَّ أيُّها الزَّوْجانِ الْوَفِيَّانِ، وارْعَيا وَلَدَكُما الشُّجاعَ، فإِنَّ لهُ لَشَأْنًا عظِيمًا في الْفُروسِيَّةِ والشَّجاعَةِ. وَسَيكونُ رَأْسَ أُسْرَةٍ كَريمَةٍ تُنْجِبُ — أَشْجَعَ مُلوكِ الْهِنْدِ وَقادَتِها.»

(١٠) خاتِمَةُ القِصَّةِ

ثُمَّ أَقَلَّتْهُمُ (حَمَلَتْهُم) الْعَربَةُ إلى عالَمِهِمُ الْأَرْضِيِّ، وهَبَطَتْ بِهِمْ أمامَ الْقَصْرِ الْمَلَكِيِّ. وَفَرِحَ الزَّوجانِ باجْتِماعِ الشَّمْلِ، وسَمَّيا ولَدَهُما الأميرَ «بَهاراتَ» وَقَدْ صَدَق فيهِ قَوْلُ «ماتالي».

وَعاشَ الْجَميعُ في أَسْعَدِ حالٍ، وَأَهْنأِ بالٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤