الفصل الثاني

إشكالية المعنى

إن سؤال «ما معنى الحياة؟» هو واحد من تلك الأسئلة النادرة التي تمثل كل كلمة فيها إشكالية في حد ذاتها، وهذا يشمل حتى الكلمة الأولى منه، نظرًا لأن معنى الحياة بالنسبة لملايين لا تحصى من ذوي الإيمان الديني لا يتجلى في شيء وإنما في شخص. فربما كان أحد النازيين المخلصين ليتفق مع ذلك بأسلوبه الخاص، من خلال إيجاد معنى الحياة في شخص أدولف هتلر. وقد لا يتجلى لنا معنى الحياة إلا مع نهاية العالم، في شكل مسيح يبدو أنه يأخذ وقته في الوصول. أو قد يتحول الكون إلى ذرة في ظفر إبهام عملاق كوني.

غير أن الكلمة المثيرة للجدل بحق هي كلمة «معنى». فنحن نميل هذه الأيام للاعتقاد بأن معنى أية كلمة يتمثل في استخدامها في شكل معين من أشكال الحياة؛ ولكن كلمة «معنى» في حد ذاتها لها مجموعة كاملة من مثل هذه الاستخدامات، فيما يلي بعض منها:
إن كلمة Poisson تعني «سمك» (وهي تختلف عن الكلمة الإنجليزية Poison والتي تعني سم).
هل كنت تعتزم خنقه؟
هذه السحب تعني هطول أمطار.
حين أشارت إلى «الحمار العجوز ذي الجلد المرقط»، هل كانت تعني ذلك الحمار في الحقل العشبي الصغير هناك؟
ما معنى تلك العلاقة المشينة؟
لقد كنت أعنيك أنت، وليس هي.
صابون الاستحمام برائحة اللافندر يعني الكثير له.
الأوكرانيون يعنون العمل.
هذه اللوحة مُقدَّر لها ألا تقدر بثمن.
لافينيا تعني خيرًا، ولكن يوليوس ليس كذلك على الأرجح.
حين طلب المتوفى من النادل «سمًّا»، هل من المحتمل أنه كان يعني «سمكًا»؟
لقد بدا أن لقاءهما كان شبه مخطط.
إن ثورته العارمة لا تعني شيئًا.
كان من المعتزم أن تعيد كورديليا المثقاب بحلول وقت الغداء من يوم الأحد.

يمكن القول بأن هذه الاستخدامات للكلمة تقع ضمن ثلاث فئات. إحدى هذه الفئات تتعلق باعتزام شيء أو التخطيط له في العقل؛ والواقع أن كلمة «معنى» ترتبط في أصلها بكلمة «عقل». ثمة فئة أخرى تتعلق بفكرة الدلالة على شيء، فيما تتحرك الثالثة في سياق الفئتين السابقتين معًا، من خلال الإشارة إلى فعل الاعتزام، أو نية الإشارة إلى شيء ما.

إن عبارة «هل كنت تعتزم خنقه؟» تعد بشكل واضح تساؤلًا عن نواياك، أو ما تعتزمه في عقلك في تلك اللحظة، وكذلك الحال في عبارة «لقد كنت أعنيك أنت، وليس هي.» أما فيما يتعلق بكون اللقاء قد بدا «مخططًا» بشكل ما، فهذا يعني أن اللقاء يبدو مقصودًا بشكل غامض، ربما من تدبير القدر. أما عبارة «لافينيا تعني خيرًا»، فتعني أن لديها نوايا طيبة، وإن كانت على الأرجح لا تترجم دائمًا إلى فعل عملي. في حين تعني عبارة «كان من المعتزم أن تعيد كورديليا المثقاب» أننا كنا نخطط أو (نتوقع) أنها ستفعل ذلك. أما عبارة «الأوكرانيون يعنون العمل»، فهي عبارة تتحدث عن أهدافهم أو نواياهم الجادة. أما عبارة «هذه اللوحة مُقدَّر لها ألا تقدر بثمن»، فهي مرادفة تقريبًا لعبارة «يعتقد أنها لا تقدر بثمن»، بمعنى أن هذا هو «رأي» ذوي الخبرة. وهذا المعنى لا يقع ضمن مفهوم الاعتزام والنية إلى حد كبير، ولكن معظم الأمثلة الأخرى تقع ضمنها.

على النقيض من ذلك، لا تشير عبارتا «هذه السحب تعني هطول الأمطار» و«صابون الاستحمام برائحة اللافندر يعني الكثير له» إلى نوايا أو حالات نفسية. فالسحب لا «تنتوي الإشارة» إلى الأمطار؛ ولكنها فقط تشير إليها. ولما كان صابون الاستحمام برائحة اللافندر لا عقل له، فإن القول بأنه يعني الكثير لشخص ما يعني ببساطة أنه يمثل له الكثير. ونفس القاعدة تنطبق على عبارة «ما معنى هذه العلاقة المشينة؟» والتي تعد تساؤلًا عما تدل عليه العلاقة. ولاحظ أن المقصود هنا ليس ما يحاول الأفراد المنخرطون في العلاقة الإشارة إليه، بل دلالة الموقف نفسه. في حين أن عبارة «إن ثورته العارمة لا تعني شيئًا» تعني أنها لا تدل على شيء، ولكن ليس بالضرورة ألا يكون الشخص بصدد محاولة الإشارة إلى شيء ما بها. أما الفئة الثالثة — كما رأينا — فلا تشير إلى النية فقط، أو إلى الدلالة فقط، ولكنها تشير إلى اعتزام الدلالة على شيء. وتشمل هذه الفئة أسئلة على غرار «ماذا كانت تعني بالحمار العجوز المرقط؟» أو «هل كان حقًّا يعني سمكًا؟»

من الأهمية بمكان التمييز بين المعنى كمدلول محدد، والمعنى كفعل يعتزم الدلالة على شيء. فكلا المعنيين يمكن إيجادهما في جملة مثل «لقد كنت أعني (أقصد) طلب سمك، ولكن الكلمة التي خرجت مني فعليًّا تشير إلى السم.» إن سؤال «ماذا تعني؟» يعني «ما الذي كنت تعتزم الإشارة إليه؟» بينما سؤال «ماذا تعني الكلمة؟» يستفسر عن القيمة الدلالية التي تحملها الكلمة في سياق منظومة لغوية معينة. وأحيانًا ما يشير دارسو اللغة إلى دلالتي «المعنى» المختلفتين على أنهما تعنيان «الفعل» و«البنية». وفيما يتعلق بالحالة الأخيرة، فإن معنى أية كلمة هي مسألة بنية لغوية؛ ومن ثم فإن كلمة «سمك» تتخذ معناها من موضعها في سياق منظومة لغوية، وعلاقاتها بالكلمات الأخرى داخل هذه المنظومة، وما إلى ذلك. وعلى ذلك، فإذا كان للحياة معنى، فقد يكون معنى نحن أنفسنا ما نضفيه عليها بنشاط، فيما يشبه استثمار مجموعة من العلامات السوداء في صفحة ما بمعنى ما؛ أو قد يكون معنى تملكه بالفعل على أي حال رغم نشاطنا، وهو ما يعد أكثر تطابقًا مع فكرة المعنى كبنية أو وظيفة.

غير أنه مع مزيد من التركيز، يتضح أن هاتين الدلالتين لكلمة «معنى» ليستا مختلفتين في النهاية. فالواقع أن بمقدورك أن تتخيل وجود علاقة بينهما أشبه بالعلاقة بين الدجاجة والبيضة. إن كلمة «سمك» تعني مخلوقًا بحريًّا حرشفيًّا، ولكن ذلك يرجع فقط إلى أن هذه هي الطريقة التي استخدمت بها الكلمة من قِبَلِ عدد لا حصر له من مستخدمي اللغة. فيمكن النظر إلى الكلمة في حد ذاتها كمستودع أو ترسب لمجموعة كاملة من العمليات التاريخية. ولكن على النقيض، يمكنني فقط استخدام كلمة «سمك» للإشارة إلى مخلوقات بحرية حرشفية؛ لأن هذا هو ما تدل عليه الكلمة في سياق بنية لغتي.

إن الكلمات ليست مجرد قشور ميتة في انتظار متحدثين أحياء لبث معنى فيها. فما يمكن أن أعنيه (بمعنى أعتزم قوله) مقيد بالمعاني التي أجدها متاحة في اللغة التي أتحدث بها. فلا يمكن أن «أعني» مجموعة من الكلمات ليس لها معنى على الإطلاق، رغم أنه بإمكاني أن أشير بها إلى شيء ما، كما سنرى بعد قليل. ولا يمكنني كذلك أن أعتزم قول شيء خارج تمامًا عن نطاق لغتي، مثلما لا يستطيع شخص أن يعتزم أن يصبح جراح مخ إذا لم يكن لديه مفهوم جراح المخ من الأساس. فلا يمكنني أن أجعل كلمة تعني ما أريد أن تعنيه. حتى لو استدعيت صورة ذهنية نابضة بالحياة لسمكة رنجة مدخنة بينما أنطق كلمات عبارة «منظمة الصحة العالمية»، فإن ما قلته يظل معناه «منظمة الصحة العالمية».

إذا فكرنا في المعنى باعتباره وظيفة الكلمة داخل منظومة لغوية، فمن الممكن أن نقول عن أي شخص استطاع إتقان هذه المنظومة إنه يفهم معنى أية كلمة. فإذا سألني أي شخص كيف عرفت معنى عبارة «الطريق إلى جهنم»، فقد يكون كافيًا أن أجيب بأنني أتحدث اللغة التي قيلت بها الجملة. ولكن هذا لا يعني فهمي لاستخدام معين للعبارة، إذ يمكن أن تستخدم الكلمة في ظروف مختلفة للإشارة إلى أشياء مختلفة؛ ولمعرفة ما «تعنيه» في «هذا» الإطار، أحتاج لأن أضع في اعتباري المعنى المقصود من قبل متحدث معين أو متحدثين بعينهم في سياق معين. باختصار سوف أحتاج لمعرفة كيفية تطبيق العبارة على المستوى المادي، مع العلم بأن مجرد معرفة المعنى المعجمي للكلمات الفردية ليس كافيًا هنا. فما تشير إليه كلمة أو تعرِّفه في سياق معين ليس من السهل تحديده دائمًا. فقد كانت إحدى كلمات الأستراليين الأصليين للدلالة على كلمة alcohol هي كلمة ducking؛ لأن السكان الأصليين التقطوا الكلمة لأول مرة في سياق تناول أنخاب الولاء «للملك» من قبل قادتهم الاستعماريين.

من الممكن أن أقول عن شخص ما: «لقد فهمت كلماته، ولكنني لم «أعِ» كلماته.» فقد كنت على دراية كافية بالمدلولات التي كان يستخدمها، ولكنني لم أستوعب كيفية استخدامه لها؛ أي ما كان يشير إليه، ونوع التوجه الذي كان يلمح إليه، وما أرادني أن أفهمه بكلماته، ولماذا أراد أن أفهم ذلك، وما إلى ذلك. ومن أجل تبين كل ذلك، أحتاج لوضع كلماته مجددًا في سياق معين؛ أو سأحتاج لفهمها كجزء من قصة، وهو ما يعد مشابهًا لما سبق. والتعرف على المعنى المعجمي للكلمات لن يفيد كثيرًا في هذا الصدد. ومن ثم فإننا نتحدث في تلك الحالة الأخيرة عن المعنى كفعل؛ كشيء يفعله الناس، أو كممارسة اجتماعية، أو كمجموعة متنوعة من الطرق، التي تتسم أحيانًا بالغموض والتناقض، والتي يوظفون بها دلالة بعينها في شكل معين من أشكال الحياة.

إذن ما الضوء الذي تلقيه تلك المعاني المختلفة لكلمة «معنى» على سؤال «ما معنى الحياة؟» أولًا: يوجد اختلاف واضح بين «ما معنى الحياة؟» وبين «ما معنى «بوتلاتش»؟» فالسؤال الأول يستفسر عن معنى ظاهرة، فيما يستفسر الثاني عن معنى كلمة. إن كلمة «حياة» ليست هي مصدر الحيرة والإرباك بالنسبة لنا، وإنما الشيء نفسه. من جانب آخر، يمكننا أن نلاحظ أنه عندما يشكو أحدهم قائلًا «حياتي بلا معنى»، فإنه لا يقصد أنها بلا معنى مثلما لا يحمل هذا التركيب *&$£%” أي معنى. فانعدام المعنى هنا أقرب لانعدام المعنى في عبارة مثل «في سبيل تأكيدنا بأقصى قدر من الإخلاص على خالص اهتمامنا المتسم بالاحترام طوال الوقت، سوف نظل خدمك المطيعين الأوفياء …» إن الأشخاص الذين يرون الحياة بلا معنى لا يشكون من عجزهم على تحديد نوعية المادة التي تتكون منها أجسامهم، أو من عدم معرفتهم ما إذا كانوا في ثقب أسود أم تحت المحيط. فالرجال والنساء ممن تفتقد حياتهم للمعنى في هذا الإطار للكلمة مصابون باضطراب عقلي، وليس مجرد اكتئاب. في الواقع إنهم يعنون أن حياتهم تفتقد «المدلول»، وافتقاد المدلول يعني افتقاد الغاية والجوهر والهدف والجودة والقيمة والاتجاه. ومثل هؤلاء لا يقصدون أنهم عاجزون عن فهم الحياة، ولكنهم يقصدون أنهم لا يملكون شيئًا يعيشون من أجله. فليس المقصود أن وجودهم غامض وأجوف. ولكن إدراك هذا الخواء يتطلب قدرًا كبيرًا من التفسير، ومن ثم قدرًا كبيرًا من المعنى. إن عبارة «حياتي بلا معنى» هي عبارة وجودية، وليست عبارة منطقية. والشخص الذي تبدو حياته بلا معنى يكون أقرب للوصول لحبوب الانتحار من الوصول للمعجم.
إن ماكبث في مسرحية شكسبير ليس مضطرًّا للانتحار، إذ إن غريمه ماكدوف يرسله إلى الخلود بطعنة سيف؛ ولكن الغاصب الاسكتلندي ينتهي به الحال في هذه الحالة الذهنية اليائسة:
… لتنطفئي، لتنطفئي أيتها الشمعة قصيرة الأجل!
فما الحياة سوى ظل عابر، ممثل بائس
يختال ويقلق في ساعته على خشبة المسرح
ثم لا يسمع صوته للأبد؛ إنها حكاية
يرويها أحمق ملؤها الصخب والغضب
ولكنها بلا دلالة.
الفصل ٥، المشهد ٥

إن الفقرة في مضمونها محيرة أكثر مما تبدو في ظاهرها. فماكبث في الواقع يشكو من جانبين للحياة — وقتيتها وخوائها — وبإمكانك أن ترى الصلة بين الاثنين. فالإنجازات تفرغ من مضمونها من خلال حقيقة أنها تزوي وتضمحل بسرعة بالغة. غير أن وقتية الأشياء ليست بالضرورة أن تكون أمرًا مأساويًّا: فمن الممكن النظر إليها ببساطة كجزء من طبيعتها، ليس له أي تداعيات محزنة حتميًّا. فإذا كانت مآدب العشاء الفاخرة تزول، فكذلك الحال بالنسبة للطغاة وآلام الأسنان. هل يمكن لحياة إنسان ليس لها حدود وتطول إلى ما لا نهاية، أن يكون لها شكل ذا معنى؟ ألا يعد الموت في هذه الحالة واحدًا من الشروط المسبقة لكي يكون للحياة معنى من الأساس؟ أو هل يمكن لحياة كهذه أن تظل ذات معنى بدلالات أخرى للكلمة خلاف «امتلاك شكل ذا معنى»؟ على أية حال، إذا كانت الحياة حقًّا زائلة إلى هذا الحد، فلماذا ينبغي أن يضطرك مجرد التفكير في هذا لأن تجعلها أكثر زوالًا ووقتية (لتنطفئي، لتنطفئي أيتها الشمعة قصيرة الأجل!)

fig6
شكل ٢-١: جون جيلجود في دور ماكبث مذعورًا. (© Hulton Archive/Getty Images)

وعلى غرار عرض درامي — مثلما توحي السطور — لا يستمر الوجود الإنساني طويلًا. ولكن الصورة المسرحية تهدد بتقويض الفكرة الكامنة وراءه، إذ إن من طبيعة أية مسرحية ألا تستمر لفترة طويلة، فنحن لا نرغب في الجلوس في قاعة المسرح للأبد. فلماذا إذن لا تكون فكرة قصر الحياة مقبولة بالقدر ذاته؟ أو ربما — في هذا الإطار — مقبولة بقدر أكبر؛ بما أن قصر الحياة أمر طبيعي، بينما الدراما ليست كذلك؟ إلى جانب ذلك، فإن حقيقة خروج الممثل من المسرح لا يلغي كل شيء فعله أو قاله على خشبة المسرح. بل على العكس، فخروجه جزء من هذا المعنى؛ فهو لا يغادر المسرح بشكل عشوائي. وفي هذا الإطار أيضًا، تتعارض الصورة المسرحية مع فكرة أن الموت يضعف إنجازاتنا ويوقفها أيضًا.

بالتأكيد ليس من باب المصادفة أن شكسبير عندما يضطر لاستدعاء رؤية سلبية في ذهنه، فإنه يقدم لنا شخصية ممثل ناشئ يبالغ في أدائه المسرحي. فالرجال في النهاية هم من دمروا سمعته ورصيده البنكي أغلب الظن. ومثل ممثل بائس (و«بائس» هنا ربما تعني «غير كفء» و«مثير للشفقة» على حد سواء)، تفتقر الحياة للمعنى؛ لأنها مصطنعة ومزيفة ومتخمة عن آخرها ببلاغة محملة بالنذر والتي هي في الحقيقة مجرد هراء. إن أي ممثل لا «يعني» بالفعل ما يقوله، وكذلك الحال بالنسبة للحياة. ولكن أليست هذه المقارنة تزييفية؟ أليست هذه مجرد نظرية المعنى الخاصة ﺑ «نية القول»، والتي — وكما رأينا — تنطبق بشكل غير مؤكد فقط على الحياة في المقام الأول؟

وماذا عن عبارة «إنها حكاية يرويها أحمق»؟ تعد هذه العبارة — من جانب ما — عبارة عزاء ومواساة. فقد تكون الحياة حمقاء وسخيفة، ولكنها على الأقل تشكل قصة تتضمن بنية أولية غير متطورة من نوع ما. قد تكون محرفة ومنقوصة، ولكن هناك راوٍ وراءها، حتى وإن كان راويًا أحمق. في إنتاج تلفزيوني لمحطة بي بي سي للمسرحية قبل بضع سنوات، لم يُلقِ الممثل الذي يؤدي دور ماكبث هذه السطور الختامية بتمتمة متقطعة، وإنما ألقاها في دفقة غاضبة من الاستياء، صارخًا بها في غضب عارم أمام كاميرا رأسية قصد بها بشكل واضح أن تحل محل الإله. لقد كان الإله هو ذلك الراوي الأحمق. وكما هو الحال بالنسبة لرؤية شوبنهاور للعالم والتي سنتناولها هاهنا، كان هناك بالفعل مؤلف لهذه المسرحية الهزلية الرهيبة، ولكن ذلك لم يكن يعني أنها مفهومة. على العكس، فقد أضفى ذلك لمحة مقززة من السخرية على سخافتها ولا معقوليتها. غير أن ثمة غموضًا هنا: هل الحكاية تافهة بطبيعتها، أم أنها تافهة لأن من رواها أحمق؟ أم الاثنين معًا؟ قد توحي الصورة ضمنًا — ربما دون رغبة كبيرة في القيام بذلك — بأن الحياة هي الشيء الذي «يمكن» أن يكون له معنى منطقي، مثلما يمكن أيضًا اعتبار أن كلمة «حكاية» توحي بذلك. فكيف يمكن لشيء لا يدل على شيء بكل ما في الكلمة من معنى ويظل يشكل حكاية؟

وعلى غرار الخطب الرنانة، تبدو الحياة ذات معنى ولكنها في الواقع مملَّة وسخيفة. وكما هو الحال مع ممثل أخرق، تدَّعي الحياة أنها ذات معنى، ولكنها تفتقر إليه. فموجة من الدلالات (ملؤها الصخب والغضب) من شأنها إخفاء غياب المدلولات (ولكنها بلا دلالة). ومثل قطعة بلاغية رديئة، فإن الحياة هي مسألة ملء للفراغ الذي هو الحياة ذاتها بشكل مبهرج وصاخب؛ فهي خادعة وعديمة القيمة كذلك. لذا فإن ما على المحك هنا هو التحرر المرير من الأوهام، مثلما تتحول طموحات الملك الزائف السياسية إلى رماد لا قيمة له. غير أن الصور المجازية — مرة أخرى — تعد خادعة جزئيًّا، فالممثلون في النهاية أشخاص حقيقيون كأي أشخاص آخرين. فهم يبتكرون قصصًا على نحو صادق، وخشبة المسرح التي يمارسون عليها ذلك حقيقية بالقدر نفسه. (فالاستعارة — ربما على عكس مقاصدها — توحي ضمنًا بأن العالم (أو خشبة المسرح) وكذلك الممثل ليس لهما أساس في الواقع، بينما يمكنك دائمًا أن تدعي أن الحياة الإنسانية زائفة ولكن بيئاتها المادية المحيطة ليست كذلك). والممثلون الذين «لم يسمع صوتهم للأبد» قابعون في كواليس المسرح، وليس في القبور.

يوجد على الأقل نظريتان لانعدام المعنى تظهران في القطعة، إحداهما وجودية وتتمثل في كون الوجود الإنساني ما هو إلا مسرحية هزلية أو جوفاء. فهناك معانٍ جمة، ولكنها خادعة. أما النظرية الأخرى، فيمكن أن نطلق عليها نظرية دلالية، توحي ضمنًا بأن الحياة لا معنى لها كشأن قطعة من الثرثرة المبهمة. تلك هي الحكاية التي يرويها أحمق، دون أن يكون لها أي دلالة. فالحياة مبهمة وتافهة، إلا أنك في الواقع لا تستطيع تفعيل المعنيين معًا؛ لأنه لو كان الوجود مبهمًا بحق، لاستحال تمرير أحكام وآراء أخلاقية بشأنه، مثل الحكم بأنه خال من المدلول، مما يجعل الأمر أشبه برفض كلمة من لغة أجنبية باعتبارها هراء، في حين أننا لم نستطع حتى ترجمتها.

إذا كان السؤال الخاص بمعنى الحياة ليس كمحاولة فهم قطعة من الهراء واللغو، فإنه أيضًا ليس كسؤال مثل «ما معنى كلمة Nacht في الإنجليزية؟» إنه ليس كما لو كنا نطلب مكافئًا في منظومة لغوية لمصطلح في منظومة أخرى، مثلما نفعل حين نطلب ترجمة من هذا النوع. في السلسلة الروائية «دليل المسافر إلى المجرة»، يكتب دوجلاس آدامز عن كمبيوتر يطلق عليه «التفكير العميق» والذي يُطلب منه التوصل للإجابة النهائية للغز الكون، ويستغرق ٧٫٥ مليون عام لتنفيذ المطلوب، وفي النهاية يتوصل للإجابة: «٤٢». بعد ذلك تعين تصنيع كمبيوتر أكبر للتوصل للسؤال الفعلي. ويذكرنا هذا بالشاعرة الأمريكية جيرترود شتاين، التي أشيع عنها أنها ظلت تسأل مرارًا وهي على فراش الموت «ما الإجابة؟» قبل أن تتمتم في النهاية «ولكن ما هو السؤال؟» ويبدو أن التساؤل عن سؤال مطروح بالفعل بينما يرفرف الإنسان على حافة العدم رمز مناسب للوضع الحديث.

الشيء المضحك بشأن رقم «٤٢» الذي توصل إليه كمبيوتر التفكير العميق لا يكمن فقط في تفاهته، وهو مفهوم سوف نتناوله لاحقًا. ولكنه يكمن أيضًا في لامعقولية افتراض أن رقم «٤٢» يمكن حتى أن يُعْتَدَّ به كإجابة للسؤال، والذي سيكون أشبه بتخيل أن «عبوتين من البطاطس المقلية وبيضة مسلوقة» يمكن الاعتداد بها كإجابة لسؤال «ما الذي يحتمل أن تعده الشمس؟» فنحن هنا بصدد التعامل مع ما يطلق عليه الفلاسفة خطأ التصنيف، مثل السؤال عن كم عدد الانفعالات التي يتطلبها إيقاف شاحنة، وهو ما يعد أحد الأسباب وراء كونها مضحكة. ثمة سبب آخر لكونها مضحكة وهو أننا بذلك نحصل على حل ملتبس وغير قاطع لسؤال طالما تاق الكثيرون لإيجاد إجابة له، ولكنه حل لا يمكننا الانتفاع به إطلاقًا. فرقم «٤٢» ببساطة لا يتناغم مع أي شيء. إنه ليس إجابة يمكننا أن نجد لها استخدامًا. قد يبدو كحل جازم لمشكلة، ولكنه حقًّا أشبه بالاكتفاء بقول كلمة «بروكلي» فقط.

ثمة جانب كوميدي آخر لتلك الإجابة وهو أنه يعامل سؤال «ما معنى الحياة؟» وكأنه من نفس نوعية الأسئلة على غرار «ما معنى كلمة Nacht؟» فمثلما تنشأ علاقة تكافؤ بين كلمة Nacht الألمانية والكلمة الإنجليزية night، كذلك توحي فانتازيا آدامز الهزلية بأن الحياة يمكن ترجمتها إلى منظومة دلالية أخرى (ولكنها منظومة رقمية هذه المرة وليست لفظية)، وهو ما يؤدي إلى التوصل إلى رقم يدل على معنى الحياة. أو قد يكون الأمر وكأن الحياة لغز أو أحجية أو كتابة مشفرة يمكن فك شفرتها مثل لغز كلمات متقاطعة لتقديم هذه الإجابة السريعة المفاجئة. إن الاختباء خلف الدعابة هو فكرة الحياة كمشكلة، بمعنى مسألة رياضية لها حل شأنها شأن المسائل الأخرى. فهو يفعِّل معنيين مختلفين لكلمة «مسألة» معًا لإحداث تأثير كوميدي: لغز رياضي أو كلمات متقاطعة وظاهرة إشكالية مثل الوجود الإنساني. إن الأمر يبدو كما لو كان من الممكن فك شفرة الحياة في لحظة من لحظات التجلي والاكتشافات المفاجئة، مما يسمح لكلمة خطيرة — مثل سُلطة، جينيس، حب، جنس، شيكولاتة — بأن تومض فجأة عبر إدراكنا الواعي للحظة آسرة.

هل يمكن لكلمة «معنى» في عبارة «معنى الحياة» أن تحوي شيئًا على غرار المعنى الذي تحويه في فئة «ما يقصد شخص ما الإشارة إليه»؟ بالتأكيد لا، ما لم تكن (على سبيل المثال) تؤمن بأن الحياة هي كلمة الإله؛ لافتة أو حديث يحاول من خلاله أن ينقل لنا شيئًا مهمًّا بالنسبة لنا. وهذا هو بالضبط ما كان الفيلسوف الأيرلندي الأسقف بيركلي يؤمن به. وفي تلك الحالة، يشير معنى الحياة إلى «فعل» المعنى؛ إلى أية دلالة يقصد الإله (أو قوة الحياة، أو روح العصر) التعبير عنها من خلاله. ولكن ماذا لو كان أحدهم لا يؤمن بأي من هذه الكيانات المهيبة؟ هل يعني هذا أن الحياة لا بد وأنها عديمة المعنى؟

ليس بالضرورة؛ فالماركسيون — على سبيل المثال — عادة ما يكونون ملحدين، ولكنهم يؤمنون بأن الحياة الإنسانية — أو ما يفضلون تسميته ﺑ «التاريخ» — لها معنى من حيث إنها تظهر نمطًا ذا دلالة. كذلك يرى من يناصرون ما يطلق عليه «نظرية الويج» عن التاريخ، والتي تقرأ قصة الإنسانية بوصفها التكشف المتواصل للحرية والتنوير، وترى الحياة الإنسانية كذلك بوصفها تشكل نمطًا ذا دلالة، وإن كان نمطًا لم يمسه أي كيان أسمى. صحيح أن تلك السرديات الكبرى لم تعد رائجة هذه الأيام، ولكنها مع ذلك تبرز فكرة أنه من الممكن أن تؤمن بانعدام معنى الحياة دون ادعاء أن هذا المعنى قد نسب إليها عن طريق فاعل محتمل. ولا شك أن كلمة معنى في إطار النمط ذي الدلالة ليست ككلمة «معنى» في إطار فعل انتواء قول شيء ما، أو في إطار أن الإشارة الحمراء تعني «قف». غير أن من المؤكد أننا أحيانًا ما نقصد شيئًا واحدًا فقط بكلمة «معنى». فلو لم يكن في الحياة الإنسانية أنماط ذات دلالة، حتى لو لم يكن هناك فرد واحد يقصدها، لتوقفت مجالات كاملة من العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع وعلم الإنسان. فقد يشير عالم ديموجرافي إلى أن توزيع السكان في منطقة معينة «له معنى»، على الرغم من أن لا أحد ممن يعيشون في تلك المنطقة قد يكون واعيًا بهذا النمط.

إذن من الممكن الاعتقاد بأن هناك قصة ذات دلالة راسخة في الواقع، رغم عدم وجود مصدر إلهي لها. فلم تكن الروائية جورج إليوت — على سبيل المثال — مؤمنة دينيًّا، ولكن رواية مثل «ميدل مارش» — شأنها شأن الكثير من الأعمال الأدبية الواقعية — تفترض أن هناك مقصدًا ذا معنى متأصلًا في التاريخ ذاته. إن مهمة الكاتب الواقعي الكلاسيكي لا تكمن في ابتداع قصة خرافية بقدر ما تكمن في تفسير المنطق الخفي لقصة راسخة في الواقع. قارن ذلك بمؤلف معاصر مثل جويس، الذي يرى أن النمط يجب أن يكون مجسدًا داخل الكون وليس مستخرجًا منه. فرواية «أوليسيس» لجويس مبنية بشكل تام ومعقد على أساس الأسطورة الإغريقية المشار إليها في عنوانها؛ ولكن جزءًا من الدعابة يكمن في أن أي أسطورة أخرى ربما كانت لتفيد بنفس القدر في تسريب مظهر من مظاهر النظام إلى عالم فوضوي خارج نطاق التوقعات.

في هذا المعنى الفضفاض لكلمة «ذي معنى» والذي مفاده «إفشاء نية ذات دلالة»، يمكننا أن نتحدث عن معنى شيء ما دون افتراض أن هذا المعنى له مَن أبدعه؛ وتلك نقطة تستحق الإشارة إليها حين يتعلق الأمر بمعنى الحياة. ربما لا يكون الكون قد صمم عن وعي، وبالتأكيد لا يكافح من أجل قول أي شيء، ولكنه أيضًا ليس فوضويًّا فحسب. بل على العكس، فقوانينه الأساسية تظهر جمالًا وتناسقًا وتنظيمًا قادرين على إبكاء العلماء. ومن ثم فإن فكرة أن العالم إما أنه يُمنح معنى من قبل الإله، أو أنه عشوائي وتافه تمامًا، تعد تضادًا زائفًا. فحتى هؤلاء الذين يؤمنون بأن الإله هو المعنى المطلق للحياة ليس بالضرورة أن يؤمنوا بأنه بدون هذا الأساس الإلهي الوطيد، لما كان هناك معنى متماسك على الإطلاق.

إن الأصولية الدينية هي ذلك القلق العصابي من فكرة أنه دون وجود «معنى المعاني» فليس هناك معنى على الإطلاق، وهي ببساطة الجانب الآخر للعدمية. وأساس هذا الافتراض هو تلك النظرة للحياة باعتبارها بيتًا من ورق: أزل الورقة التي بالأسفل، وسوف ينهار ذلك البناء الهش بأكمله. والشخص الذي يفكر بهذا الأسلوب هو مجرد أسير لصورة مجازية. والواقع أن الكثير جدًّا من الذي يعتنقون إيمانًا دينيًّا يرفضون هذه الرؤية؛ فما من شخص مؤمن دينيًّا يتسم بالحس المرهف والذكاء يتخيل أن غير المؤمنين غارقون لا محالة في وحل التفاهة واللامعقولية، وليسوا ملزمين أيضًا بأن يؤمنوا بأن وجود إله يعني أن يصبح معنى الحياة واضحًا بشكل جلي. على العكس؛ فبعض ممن لديهم إيمان ديني يؤمنون بأن وجود إله يجعل العالم أكثر غموضًا وليس أقل. فإذا كان لدى الإله هدف بالفعل، فهو هدف غير مفهوم إطلاقًا. وفي هذا الإطار لا يكون الإله هو الإجابة لأية مشكلة؛ فهذا يميل إلى تعقيد الأشياء بدلًا من جعلها بديهية وواضحة بذاتها.

في معرض دراسته لكل من الكائنات الطبيعية والأعمال الفنية، كتب الفيلسوف إيمانويل كانط عنها في كتابه «نقد ملكة الحكم» باعتبارها تعرض ما أسماه «الغائية دون غاية». فجسم الإنسان ليس له غاية، إلا أن بإمكانك الحديث عن أجزائه المتنوعة باعتبارها ذات «معنى» من حيث موضعها داخل الكل. وتلك ليست مدلولات نقوم باختيارها واتخاذ قرار بشأنها بأنفسنا. فلا أحد قام بتصميم قدم الإنسان، ولا شك أن الحديث عن «الغاية» منها المتمثلة في مساعدتنا على الركل والسير والركض سيكون بمثابة إساءة استخدام للغة. ولكن القدم لها وظيفة داخل النظام الكلي للجسم، ومن ثم سيكون منطقيًّا بالنسبة لشخص يجهل التشريح الإنساني أن يسأل عن دلالتها. وكما أن من التعريفات التي نعرف بها كلمة «معنى» أنه وظيفة أية كلمة ضمن منظومة ما، كذلك نستطيع أن نقول بتحريف بسيط للغة إن القدم لها معنى داخل الجسم ككل، وإنها ليست مجرد سديلة أو مفصل عشوائي في نهاية الساق.

لنأخذ مثالًا آخر: لن يكون مستغربًا لدرجة أن تسأل «ما معنى تلك الضوضاء؟» عندما تسمع صوت الرياح وهي تعصف بشكل غريب عبر الأشجار. من المؤكد أن الرياح لا تحاول التعبير عن أي شيء، ولكن صوتها «يدل» على ذلك. ولإرضاء فضول المتحدث أو التخفيف من انزعاجه، نمضي في سرد قصة صغيرة عن ضغط الهواء، وعلم السمع، وما إلى ذلك. مرة أخرى، ليست هذه دلالة نستطيع اتخاذ قرار بشأنها. بل سيكون ممكنًا أن نقول عن شكل عشوائي لمجموعة من الحصى إنها تعني شيئًا؛ كأن نقول مثلًا إنها ترمز بلا قصد لعبارة «كل القوة للسوفييت»، على الرغم من أنه لم يضعها أحد هناك لهذا الهدف.1

ويمكن لشيء حدث مصادفة — مثلما فعلت الحياة على ما يبدو — أن يوحي بوجود تصميم مقصود. فكلمة «مصادفة» لا تعني «مبهم». فحوادث السيارات ليست مبهمة؛ فهي ليست أحداثًا غريبة تفتقر تمامًا للإيقاع أو المنطق، ولكنها نتيجة لأسباب معينة. كل ما في الأمر أن هذه النتيجة لم تكن مقصودة من قبل أطرافها. ربما تبدو عملية ما صدفة في وقت حدوثها، ولكنها تندرج تحت نمط ذي دلالة بأثر رجعي. وقد كانت تلك هي نظرة هيجل لتاريخ العالم تقريبًا. فقد يبدو بلا معنى إلى حد ما بينما نعيشه، ولكنه من منظور هيجل له معنى منطقي تمامًا عندما تنظر «روح العصر» خلفها — إن جاز التعبير — وتلقي نظرة إعجاب على ما صنعته. ويرى هيجل أنه حتى حماقات التاريخ وطرقاته المسدودة تساهم في النهاية في ذلك المقصد الرائع. أما الرؤية المضادة لتلك الرؤية، فهي تلك الكامنة في الدعابة القديمة «حياتي مليئة بالشخصيات الرائعة، ولكن يبدو أنني عاجز عن فهم الحبكة الدرامية لها.» فقد تبدو ذات معنى من لحظة لأخرى، ولكن لا يبدو أنها تتراكم معًا لتكون معنًى كاملًا.

كيف يمكننا أيضًا أن نفكر بشأن المعاني غير المقصودة؟ قد تقوم فنانة برسم كلمة «خنزير» على لوحتها القماشية، ليس للتعبير عن مفهوم «الخنزير»؛ ليس لكي «تعنيه»، ولكن ببساطة لافتتانها بشكل الكلمة. غير أن الشكل سوف يعني «خنزيرًا» رغم ذلك. على النقيض من ذلك، نجد الكاتب الذي يقحم قدرًا كبيرًا من الرطانة المبالغة غير المفهومة في أعماله. فلو كان لذلك هدف فني، لربما نقول: إن الكلمات ذات معنى من حيث إن لها دلالة، حتى لو كانت بلا معنى بمعنى الكلمة. فقد تدل مثلًا على هجوم من الحركة الدادائية على الوهم الرتيب بثبات المعنى. قد «يقصد» المؤلف شيئًا ما بهذا التصرف، حتى لو كان ما «قصد قوله» لا يمكن نقله والتعبير عنه إلا بكلمات ليس لها أي معنى في إطار منظومته اللغوية.

نحن نتحدث عن شبكة المعاني المعقدة لإحدى مسرحيات شكسبير دون الافتراض دائمًا أن شكسبير كان يفكر بهذه المعاني في رأسه في نفس لحظة تدوينه للكلمات. فكيف يمكن لأي شاعر لديه مثل هذا الخيال الخصب المذهل أن يضع في ذهنه كل الدلالات الممكنة لمعانيه؟ والقول بأن «هذا معنى محتمل للعمل» أحيانًا ما يعني أن هذا هو الشكل الذي يمكن به تفسير معنى العمل بشكل منطقي ومعقول. فما كان المؤلف «يقصده» بالفعل ربما يكون غير قابل للاستعادة، حتى بالنسبة له. والكثير من المؤلفين أُظهرت لهم أنماط من المعنى في أعمالهم لم يكونوا يقصدون وضعها بها. وماذا عن المعاني اللاشعورية التي لم تقصد عن عمد كما يتضح من اسمها؟ يعلق فيتجنشتاين في هذا الصدد بقوله: «إنني أفكر بقلمي حقًّا؛ لأن عقلي غالبًا لا يعرف شيئًا عما تكتبه يدي.»2

•••

مثلما يمكن الاعتقاد بأن شيئًا ما — حتى «الحياة» ذاتها — قد يكون له مقصد أو اتجاه ذو دلالة لم يقصده أي شخص، يمكنك أن تعتقد أن الوجود الإنساني فوضوي وبلا معنى، ولكن هذا أيضًا كان متعمدًا في الواقع. ربما يكون ذلك نتاج قدر حاقد أو إرادة خبيثة. وبشكل عام، تعد هذه هي رؤية الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، ذلك المفكر شديد التشاؤم حتى إن أعماله تمثل أحد الروائع الهزلية العظيمة في الفكر الغربي، وإن كان ذلك بشكل غير متعمد إلى حد كبير (بل إن هناك شيئًا مضحكًا بشأن اسمه، إذ يجمع بين اسم «شوبنهاور» الفخم الذي يملأ الفم، وبين اسم «آرثر» الأكثر شيوعًا). يرى شوبنهاور أن الواقع بأسره (وليس الحياة الإنسانية وحدها) هي النتاج العارض لما يطلق عليه «الإرادة». والإرادة — التي تعد قوة مفترسة عنيدة — لديها نوع من التعمد بشأن ذلك؛ ولكن إذا كانت تولد كل شيء قائم هناك، فإن ذلك لا يرجع لسبب أنبل من الحفاظ على وجودها. فعن طريق إعادة إنتاج الواقع، تعمل الإرادة على إعادة إنتاج نفسها، وإن كان ذلك ليس له أدنى هدف. إذن هناك بالفعل جوهر أو آلية مركزية للحياة؛ ولكن هذه حقيقة مريعة أكثر من كونها سامية، إذ إنها تخلق فوضى ودمارًا وتعاسة أبدية. فليست كل السرديات الكبرى مثالية حالمة.

ولما كانت الإرادة حرة تمامًا في تقرير مصيرها، فإن غايتها تكمن في نفسها بشكل تام، مثل رسم ساخر خبيث للإله. وهذا يعني أنها ببساطة تستخدمنا وبقية الخلق لخدمة أغراضها الغامضة الخاصة. قد نعتقد أن حياتنا لها قيمة ومعنى؛ ولكن الحقيقة هي أننا متواجدون كمجرد أدوات بائسة وضعيفة لإعادة إنتاج الذات الأعمى وعديم الجدوى للإرادة. غير أن تحقيق ذلك يحتم على الإرادة أن تخدعنا باستدراجنا نحو افتراض أن حياتنا لها معنى بالفعل؛ وهي تفعل ذلك عن طريق تطوير آلية خرقاء للخداع الذاتي بداخلنا تعرف بالوعي، والتي تجيز لنا التوهم بامتلاك غايات وقيم خاصة بنا، وتغرر بنا للاعتقاد بأن شهيتنا ملك لنا كذلك. وفي هذا الإطار، يكون كل الوعي في نظر شوبنهاور وعي زائف. ومثلما كان يقال عن اللغة يومًا ما إنها موجودة حتى يمكننا إخفاء أفكارنا عن الآخرين، كذلك يتواجد الوعي لكي يخفي عنا العبث المطلق لوجودنا. وإلا لكنا تخلصنا من أنفسنا بالتأكيد ونحن نواجه المشهد الشامل لدمار وجدب ما يعرف بالتاريخ الإنساني. غير أنه حتى الانتحار يمثل انتصارًا خبيثًا للإرادة، التي يتضح خلودها بشكل درامي عند مقارنتها بفنائية الدمى التي تحركها من البشر.

fig7
شكل ٢-٢: آرثر شوبنهاور، عابسًا كرؤيته للحياة. (© Hulton Archive/Getty Images)
ومن ثم فإن شوبنهاور ينتمي لسلالة من المفكرين يعتبرون أن الوعي الزائف، بعيدًا عن كونه ضبابًا ينقشع بسطوع الضوء المبهر للعقل، جزء لا يتجزأ من وجودنا. وقد كان نيتشه — الذي تأثر في كتاباته الأولى بشوبنهاور — مفكرًا آخر من المنتمين لتلك النوعية. وقد كتب في كتابه «إرادة القوة»: «الحقيقة قبيحة؛ ونحن نتمسك بالفن خشية أن نفنى من الحقيقة.»3 وكان سيجموند فرويد مفكرًا آخر من تلك السلالة تأثر تكوينه بشكل عميق ببني وطنه المتشائمين. فما أسماه شوبنهاور بالإرادة، أعاد فرويد تسميته بالرغبة. يرى فرويد أن الخيال والإدراك الخاطئ وقمع ما هو حقيقي هي مقومات أساسية للنفس، وليست عناصر عرضية لها. ولولا هذا النسيان المنقذ، لما استطعنا النجاة من أي مصاعب. إذن، ماذا لو كان للحياة معنى بالفعل، ولكنه معنى يفضل لنا ألا نعرفه؟ إننا نميل للاعتقاد بأن اكتشاف معنى الحياة سيكون شيئًا قَيِّمًا بطبيعة الحال، ولكن ماذا لو كان هذا خطأ؟ ماذا لو كان الواقع شيئًا مهولًا ورهيبًا من شأنه أن يحولنا إلى حجارة؟

بإمكاننا دائمًا في النهاية أن نتساءل لما ينبغي على أي شخص أن «يرغب» في معرفة معنى الحياة. هل هو على يقين من أنه سيساعده على الحياة بشكل أفضل؟ فقد عاش رجال ونساء حياة تبدو رائعة دون امتلاك هذا السر. أو ربما كانوا يمتلكون سر الحياة طوال الوقت دون إدراك ذلك. ربما يكون معنى الحياة شيئًا أفعله ببساطة في الوقت الراهن، شأنه شأن التنفس، دون أدنى وعي به. ماذا لو كان محيرًا، ليس لكونه خفيًّا، ولكن لكونه قريبًا للعين بشكل يتعذر معه رؤيته بوضوح. فربما لا يكون معنى الحياة هدفًا يصلح للسعي وراءه، أو حقيقة لا يفضل ذكرها، بل شيئًا يتجلى في فعل العيش نفسه، أو ربما في أسلوب معين للحياة. فمعنى أي سردية — في النهاية — لا يكمن فقط في غايتها أو نهايتها، ولكن في عملية السرد ذاتها.

ويعبر فيتجنشتاين عن هذه الفكرة بشكل جيد في قوله: «لو كان لأي شخص أن يعتقد أنه قد حل إشكالية الحياة، ويرغب في إخبار نفسه بأن كل شيء قد صار يسيرًا الآن، فيمكنه أن يدرك أنه مخطئ فقط بتذكر أنه قد مر به وقت لم يكن هذا «الحل» قد اكتشف بعد؛ ولكن لا بد أن الحياة «آنذاك» كانت ممكنة أيضًا، والحل الذي اكتشف الآن يبدو عرضيًّا بالنسبة لما كانت عليه الأمور آنذاك.»4 وخلف هذا الرأي تختبئ قناعة فيتجنشتاين بأن معنى الحياة — إذا كان موجودًا من الأساس — ليس سرًّا ولا «حلًّا»، وهي أفكار سوف نتناولها لاحقًا. في الوقت ذاته، يمكننا أن نتساءل مرة أخرى: ماذا لو كان معنى الحياة شيئًا يجب «ألا» نكتشفه مهما كلف الأمر؟

ليست تلك نوعية الأفكار التي كانت لتخطر بسهولة على ذهن مفكري عصر التنوير، الذين كانوا يرون أن الخطأ يجب أن يحارب بشجاعة عن طريق الحقيقة. غير أنه مع انتهاء القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، بدأ مفهوم الكذب المنجي أو الخيال الصحي في الظهور تدريجيًّا. فربما كان الإنسان ليفنى ببساطة بفعل الحقيقة، إذ يذوي تحت وطأة وهجها القاسي الذي لا يرحم. وربما كانت الخيالات والأساطير ليست مجرد أخطاء يجب محوها، وإنما أوهام مفيدة تتيح لنا النجاح والازدهار. وقد لا تكون الحياة أكثر من حادثة بيولوجية، ولا حتى حادثة كانت تنتظر الحدوث؛ ولكنها طورت بداخلنا ظاهرة عشوائية تعرف بالعقل، والذي يمكننا استخدامه لوقاية أنفسنا من المعرفة المخيفة بعرضية وجودنا.

يبدو الأمر وكأن طبيعة تستخدم المعالجة المثلية قد تفضلت بتزويدنا بالترياق إلى جانب السم، وكلاهما يُعرف باسم الوعي. فيمكننا أن نوجه عقولنا نحو التخمينات الكئيبة في ظل ما يبدو من عدم اهتمام تلك الطبيعة بالحياة الفردية في خضم اهتمامها بالنوع ككل. أو يمكننا أن نصرف أفكارنا نحو بناء أساطير وخرافات واهبة للحياة — كالدين والإنسانية وما شابه — والتي قد تسبغ علينا مكانة وأهمية في هذا الكون القاسي. إن مثل تلك الأساطير قد لا تكون حقيقية من منظور علمي، ولكننا ربما نكون قد أحدثنا جلبة أكبر من اللازم حول الحقيقة العلمية، مفترضين أنها النوع الوحيد المتاح من الحقيقة. وعلى غرار العلوم الإنسانية بشكل عام، يمكن القول بأن مثل هذه الأساطير والخرافات تحوي نوعيتها الخاصة من الحقيقة؛ تلك الحقيقة التي تكمن في النتائج التي تخلقها أكثر مما تكمن في الافتراضات التي تقدمها. فإذا أتاحت لنا التصرف بحس من القيمة والهدف، فربما إذن تكون حقيقية بما يكفي لكي تستمر.

بوصولنا إلى أعمال مُنظِّر القرن العشرين الماركسي لوي ألتوسير، كان هذا الأسلوب في التفكير قد تسرب إلى الماركسية، بمعارضتها الصارمة للوعي الزائف للأيديولوجية. فماذا لو كانت الأيديولوجية ذات ضرورة حيوية؟ ماذا لو كنا بحاجة إليها لإقناع أنفسنا بأننا فاعلين سياسيين قادرين على التصرف باستقلالية؟ ربما تكون النظرية الماركسية على وعي بأن الفرد ليس لديه درجة كبيرة من التماسك أو الاستقلالية، أو حتى الواقعية؛ ولكن الأفراد أنفسهم يجب أن يثقوا أنهم يملكون ذلك إذا كان مقدرًا لهم أن يتصرفوا بشكل فعال. ويرى ألتوسير أن مهمة الأيديولوجية الاشتراكية هي تأمين ذلك الوهم المنقذ. وينطبق ذلك بشكل مماثل — من منظور فرويد — على الأنا، التي لا تتجاوز كونها فرعًا من اللاشعور، ولكنها شديدة التنظيم بحيث ترى العالم بأكمله يتمحور حولها. فالأنا تعامل نفسها ككيان متماسك مستقل، يعرفه التحليل النفسي بأنه وهم؛ ولكنه وهم صحي، رغم ذلك، لم نكن سنستطيع العمل والتصرف بدونه.

وهكذا يبدو أنه بعيدًا عن الحديث عن معنى الحياة، قد نواجه باختيار بين المعنى والحياة. فماذا لو كانت الحقيقة مدمرة للوجود الإنساني؟ ماذا لو كانت قوة ديونيسية مهلكة، كما كان يعتبرها نيتشه في بداياته؛ أو إرادة ضارية كما في تخمينات شوبنهاور الكئيبة؛ أو رغبة مجردة مفترسة عديمة الرحمة كما يرى فرويد؟ يرى الفيلسوف والمحلل النفسي جاك لاكان أن الفاعل الإنساني يمكن إما أن «يعني» شيئًا أو «يفعل» شيئًا، ولكنه لا يمكن أن يفعل الاثنين معًا. وما إن ندخل إلى عالم اللغة، ومن ثم إلى إنسانيتنا، ينقسم ما قد يسميه المرء «حقيقة الفاعل»، أو طبيعة وجوده، إلى سلسلة لا متناهية من المعاني الجزئية. ولا نبلغ المعنى إلا على حساب فقدان الوجود.

كان أول دخول لهذا الشكل من التفكير للكتابات الإنجليزية على نطاق واسع على يد الروائي جوزيف كونراد، الذي استشعر تأثير كل من نيتشه وشوبنهاور. فباعتباره شكوكيًّا فلسفيًّا متحمسًا، لم يكن كونراد يؤمن بأن مفاهيمنا وقيمنا ومُثلنا لها أي أساس في عالم ليس له معنى شأنه شأن الأمواج. غير أن هناك أسبابًا أخلاقية وسياسية ملحة تحتم علينا التصرف و«كأنها» راسخة على أساس متين. فإذا لم نفعل، قد تكون الفوضى الاجتماعية واحدة من العواقب غير المرحب بها لذلك. بل إن هناك إطارًا تقل فيه أهمية ما نؤمن به عن حقيقة إيماننا في حد ذاتها. وقد انتقل هذا النوع من الشكلية بعد ذلك تدريجيًّا إلى الوجودية، التي ترى أن حقيقة التزامنا — وليس المحتوى الدقيق لهذا الالتزام — هو السبيل لوجود حقيقي.

ويعد أبطال الكاتب المسرحي آرثر ميلر مثالًا على ذلك. فشخصيات مثل ويلي لومان في «وفاة بائع متجول»، أو إيدي كاربون في «مشهد من الجسر»، ملتزمة بنسخة معينة من هوياتها، ومن العالم من حولها، والتي تعتبر من منظور موضوعي نسخة زائفة. على سبيل المثال، يعتقد ويلي أن ما يهم في الحياة هو أن تحظى بالاحترام على المستوى الاجتماعي والنجاح على المستوى الاقتصادي. غير أن ما يشكل أهمية مع هذه الشخصيات التي أعمت نفسها — كما هي الحال مع بعض من أبطال إبسن التراجيديين — هو القوة التي استثمروا بها في هذا الالتزام. فالصلابة البطولية التي ظلوا مخلصين بها لصورهم الذاتية الملتوية هي ما تشكل أهمية في النهاية، على الرغم من أنها تقودهم إلى الضلال والموت. فأن تعيش بإيمان — ربما أي إيمان قديم — يعني أن تبث في حياتك دلالة وأهمية. وبناء على هذه النظرية، يكون معنى الحياة هو مسألة الأسلوب الذي تعيش به هذه الحياة، وليس مسألة محتواها الفعلي.

من الحقائق البديهية لشوبنهاور أن الأحمق فقط هو من يتخيل أن الحياة تستحق أن تُعاش. وفي نظره الرمز الأنسب للمشروع الإنساني هو خلد الماء ذو الحوافر:
إن مهمته في الحياة هي الحفر بقوة بقدميه الحافرتين الضخمتين؛ يحيطه الظلام الدامس دائمًا … فعلام يحصل من هذا الأسلوب الحياتي المليء بالمتاعب والمجرد من المتعة؟ الغذاء والتناسل، أي فقط الوسائل اللازمة للاستمرار والبدء من جديد في المسار الكئيب نفسه في صورة الفرد الجديد.5

إن المشروع الإنساني برمته لهو خطأ مريع كان يجب إلغاؤه منذ زمن طويل. ولا يمكن لأحد أن يتخيل عكس ذلك إلا أولئك الحمقى المضللين لأنفسهم، الذين يواجهون بركام التاريخ. لقد كانت القصة الإنسانية واحدة من قصص البؤس المتواصل التي لم يستطع أحد أن يفكر أنها تستحق تحملها سوى من خدعوا بالخبث الوضيع الذي تمارسه الإرادة.

ثمة شيء هزلي في رأي شوبنهاور بشأن تلك السلالة المختالة بنفسها إلى حد الغرور من المخلوقات، الذي أقنع كل واحد منهم نفسه بقيمته الرفيعة السامية، والساعين وراء هدف تنويري سرعان ما سيصبح عديم القيمة. فلا يوجد هدف عظيم لهذا الصخب والغضب الفارغ؛ ليس هناك سوى «إشباع لحظي، ومتعة عابرة مشروطة بالاحتياجات، ومعاناة جمة وطويلة، وكفاح مستمر، وحرب الكل ضد الكل، كل شيء قناص وكل شيء يُقتنص، وضغط، وعوز، واحتياج، وقلق، وصراخ وعواء؛ ويتواصل هذا لعصور وعصور أو حتى تتحطم قشرة الكوكب مرة أخرى.»6 وبحسب ما يستطيع شوبنهاور الجزم به «لا أحد لديه أدنى فكرة عن أسباب وجود الكوميديا التراجيدية، لأن ليس لها جمهور، والممثلين أنفسهم يتحملون قلقًا لا حد له، ولا يستمتعون إلا قليلًا وتكون متعة سلبية فحسب.»7 فالعالم ما هو إلا رغبة ملحة عقيمة، دراما سيئة بشكل صاعق، سوق ضخمة أو ساحة قتال داروينية تسعى فيها أشكال الحياة لسحق بعضها البعض.
إن صحبة الآخرين موجودة دائمًا بالطبع؛ إلا أن شوبنهاور يرى أن مجرد الملل هو الذي يدفعنا للبحث عنها. وفيما يتعلق بالإرادة، لا يوجد اختلاف بارز بين البشر والبوالب المرجانية، إذ إن كليهما أدوات لديناميكيتها اللامبالية بشكل صريح. ففي صميم جوهر البشر تتحرك قوة — هي الإرادة — تمثل أساس جوهرنا الداخلي، ولكنها قوة عديمة الشعور ومجهولة شأنها شأن القوة التي تحرك الأمواج. والذاتية هي أقل مسمى يمكننا أن نطلقه على القوة التي بداخلنا. فنحن نحمل داخلنا حمولة خاملة من انعدام المعنى، وكأن البشرية تحمل في أحشائها دائمًا الوحوش؛ وهذه الحمولة — التي تعتبر من نشاط أو تأثير الإرادة بداخلنا — تشكل الجوهر الأساسي لذاتيتنا. وكل شيء مشحون بالشهوة؛ فالبشر مجرد تجسيد يمشي على الأرض لغرائز آبائهم الجنسية، وأساس كل هذا الاشتهاء العقيم يكمن في العوز والنقص. وفي ذلك يقول شوبنهاور: «كل «الرغبة» تنبع من العوز، ومن النقص، ومن ثم من المعاناة.»8 والرغبة شيء أبدي، بينما الإشباع زهيد ومتقطع؛ فقد لا يكون لتلك العدوى القاتلة التي نعرفها بالرغبة نهاية طالما بقيت النفس. وحده الإيثار الذي يتمتع به التأمل الجمالي — إلى جانب نوع من نكران الذات البوذي — هما ما يمكن أن يطهرانا من التشويه البصري الذي تولده الحاجة، ويتيحا لنا رؤية العالم كما هو على حقيقته.

ولسنا بحاجة لأن نقول: إن هناك قصة أخرى يجب أن نرويها. ولكن إذا كان شوبنهاور لا يزال يستحق القراءة، فإن ذلك لا يعزى فحسب إلى مواجهته لاحتمالية أن يكون الوجود الإنساني لا معنى له بأكثر الطرق هزلية وازدراء، بشكل أكثر صراحة وقسوة من أي فيلسوف آخر تقريبًا، بل يعزى أيضًا إلى أن جزءًا كبيرًا مما يقوله صحيح بكل تأكيد. فالتاريخ الإنساني — بوجه عام — كان عبارة عن قصة ندرة وبؤس واستغلال أكثر من كونه أسطورة أخلاق وتنوير. ومن يعتقدون أن للحياة معنى لا محالة — بل ومعنى راق — عليهم أن يواجهوا تحدي شوبنهاور الكئيب. فأعماله تجبرهم على الكفاح بكد لكي يجعلوا رؤيتهم تبدو أي شيء أكثر من مجرد مواساة مسكنة.

هوامش

(1) A claim denied by the philosopher Roger Scruton in his Modern Philosophy (London, 1994), 251. The phrase Scruton himself uses is not ‘All Power to the Soviets’ but ‘God is dead’—an unconsciously significant choice, given that the Nietzschean proclamation of the death of God or ultimate donor of meaning is thought to unleash interpretative anarchy on the world. My own example is no doubt just as revealing.
(2) Ludwig Wittgenstein, Culture and Value (Chicago, 1984), 17e.
(3) Friedrich Nietzsche, The Will to Power (New York, 1975), 435.
(4) Wittgenstein, Culture and Value, 4e.
(5) Arthur Schopenhauer, The World as Will and Representation (New York, 1969), ii. 353-4.
(6) Ibid. 354.
(7) Ibid. 357.
(8) Ibid. i. 196.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤