الفصل السابع

إرث كامو

في أحد أيام أكتوبر عام ١٩٥٧، وبينما يتناول كامو غداءه، اكتشفَ أنه حصل على جائزة نوبل للآداب. لم يكن حينها قد أتمَّ الرابعة والأربعين من عُمره، ليصبح بذلك ثاني أصغر فائز بالجائزة بعد روديارد كيبلنج. كان ردُّ فعله الأول هو قوله إن أندريه مارلو — مَثَلُه الأعلى ومُعلِّمه — يستحقها أكثر منه. كان عام ١٩٥٧ فترة توتُّر شديد بالنسبة إلى كامو، الذي أراد أن يبقى بعيدًا عن دائرة الضوء بينما كانت حرب الاستقلال الجزائرية مشتعِلة، فوضعته الجائزة تحتها مرة أخرى. كان ثَمة العديد من المقالات في الصحافة عن الجائزة. وكان كثير منها إيجابيًّا، لكن كان ثَمة هجمات من الصحافة الشيوعية ومن نقاد آخرين أيضًا، بمَنْ فيهم صديقُ كامو السابق ومُعلِّمه باسكال بيا. وتساءلَ بعضُ المعلِّقين بالفعل عن سبب عدم فوز مارلو بالجائزة.

في ستوكهولم لاستلام الجائزة، احتفَت اللجنة والوجهاء المحليون بكامو، لكن وكما رأينا، تحدَّاه أيضًا طالبٌ جزائري في إحدى الجلسات النقاشية. فسَّر مناصرو الجزائر الفرنسية ردَّ كامو الشهير الذي يضع حُبَّ الابن لأمه فوق العدالة بأنه إدانةٌ للإرهاب، وفسَّره مناصرو الاستقلال الجزائري بأنه دفاعٌ عن النظام الاستعماري. خلقَ هذا لغطًا عظيمًا، وأصبح جدالًا عالميًّا؛ وهو آخِر ما كان يبغيه كامو.

ماتَ كامو بعدها بعامَين فقط في حادث سيارة. لربما كان سيقول إن موته بلا معنًى، وإنْ كان يقدِّم بالفعل لمحة عن حياته الشخصية. وقعَ الحادث في طريق العودة إلى باريس من بيته الريفي بلورمارين جنوبيَّ فرنسا. كانت خطته في الأصل هي السفر بالقطار مع زوجته وطفلَيه، لكن عوضًا عن ذلك وافقَ على أن يصحب الناشرَ ميشيل جاليمارد — الذي ماتَ بعدها بأيام متأثرًا بإصاباته — وزوجته جانين، وابنته أنوشكا — اللتَين كُتِبت لهما النجاة. حتى وقت الحادث، كانت رحلة لطيفة استغرقت يومين، في سيارة ميشيل الرياضية الجديدة، وتوقفوا خلالها مرتَين في مطاعم حائزة على نجمة ميشلان.

قبل أن يغادر كامو صوب باريس، كتبَ العديد من الخطابات، من بينها ثلاثة إلى عشيقاته وقتها: عارضة الأزياء الدنماركية ميت إيفرس، التي أطلق عليها «مي»، وكاثرين سيللرز، التي مثَّلت في إحدى مسرحياته؛ ويُقال إنها حُبُّ حياته الكبير، وماريا كاساريس. وقد أخبر كلًّا منهن بميعاد وصولٍ مختلف. أسفرَ هذا الجانب من حياة كامو عن العديد من الأعمال المنشورة، التي تتضمَّن تقريرًا بحجم كتاب عن أيامه الأخيرة ومجلدًا ضخمًا عن مراسلاته الخاصة مع كاساريس، والذي نُشِرَ عام ٢٠١٧، ويُغطي أحداث خمسة عشر عامًا، ويحوي ما يُقارِب تسعمائة خطاب، وملاحظات، وبرقيات. (بعد ستين عامًا تقريبًا من وفاته، أصبح هذا المجلد من أعماله الأكثر مبيعًا في فرنسا.) هكذا كانت أهمية كاساريس في حياة كامو، حتى إنه يُقال إن فرانسين نفسها أعربت عن قلقها على صحتها وسلامتها يوم جنازته.

في الرابع من يونيو لعام ١٩٦٠ وخلال الأيام التي تلته، كلُّ ما كان مهمًّا هو أن كامو ماتَ، وكان ذلك مأساةً على المستوى القومي. علَّق موظفو الإذاعة الفرنسية — الذين كانوا في إضراب في ذلك الوقت — حركتهم مؤقتًا للسماح بإعلان الخبر. شاركت كاميرات التليفزيون، والعديد من المراسلين، وبالطبع الأصدقاء والعائلة، في الجنازة في لورمارين. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي، خصَّصت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالًا عن «موته العَبَثي».

وأُثيرت مسألة إرثه على الفور. وعندما وُجِدَت مخطوطة مسوَّدة رواية «الرجل الأول» في حُطام الحادث، تحفَّظت عليها السلطات في البداية بأمر من مارلو، ثم أُعيدَت إلى عائلته. وبعد مداولاتٍ طويلة بين الأصدقاء المقرَّبين، بمَنْ فيهم الشاعِر رينيه شار وجان جرينييه والروائي لويس جيليو، تقرَّر عدم نشر الكتاب في حينها، حيث اعتقدوا أنه قد يكون مهيِّجًا سياسيًّا في خِضم حرب أهلية جزائرية.

كان كامو مشهورًا في الوقت الذي ماتَ فيه، ويرجع هذا جزئيًّا إلى حصوله على جائزة نوبل والمقابلة التي أُجريت معه بشأن الجزائر في المؤتمر الصحفي الذي تلا ذلك، لكنه لم يكن محبوبًا أو مقبولًا من قِبل الجميع. بعد موته فقط أصبحَ أكثر من مجرد كاتِب مشهور، أصبحَ ظاهرة ثقافية. فوصلت شعبيته إلى مستوًى جديد بدايةً من سقوط الاتحاد السوفييتي. وتُرجِمَت أعماله إلى العديد من اللغات، وأصبحت رواية «الغريب» أحدَ عُمُد المناهج الدراسية في العديد من المدارس الثانوية في جميع أنحاء العالم الغربي. وتحوَّلت العديدُ من رواياته وقصصه القصيرة إلى أفلام، وعُرِضَت مسرحياته حول العالم، وثَمة رواياتٌ معدَّلة مصوَّرة عن أعماله، بالإضافة إلى منشوراتٍ بحثية عديدة. وكثيرًا ما يقتبس السياسيون من كل الأطياف عن كامو ويُورِده الباحثون في غالب الأمر ليدعموا مجموعةً متنوِّعة من المواقف عادةً ما تكون متناقضة. وتُعَد راوية كامو الأكثر شهرة — «الغريب» — مصدر إلهام مباشر لإحدى أغاني البوب، وثَمة كاتِبٌ جزائري خَطَّ روايةً كاملة تكملةً لها.

فما الذي في أعمال كامو يجعلها تُلهم العديد ليقتبسوا منها، ويناقشوها، ويستخدموها باعتبارها مصدر إلهام لتأليف الكتب والأفلام والأغاني؟

الاستشهاد بمقولات كامو وأفكاره

أحد التفسيرات الممكِنة لشهرة كامو في الوقت الحالي هي أن الطبيعة المجردة لفِكْر كامو تجعله قابلًا للإحالة والإسقاط. فهو يتحدَّث عن وَعْي مجرد بالطبيعة والفناء، لكنه لا يخبر قراءه ماذا يفعلون بذلك الوعي. ولا تتَّبع كتاباته أيَّ نظام عقائدي بعينه. لا يتبنَّى كامو مشروعًا بعينه ولا أيديولوجية بعينها، ولعلَّ ذلك يفسِّر شيئًا من شهرته.

لا شكَّ أن تلك الطبيعة المجردة تفسح المجال أمام محاولات «الاستشهاد» بكامو، لكنها تقود أيضًا إلى قدر كبير من سوء الفهم. بعد نشر «الإنسان المتمرِّد»، كانت إحدى أكثر القراءات المغلوطة لَفتًا للأنظار هي تلك التي جَرَت في العالم العربي، حيث أُسيئَ فهمُ عمل كامو على نطاق شاسع باعتباره سارتريًّا، أو بيانًا ثوريًّا مؤيدًا للقُوى الرافضة للاستعمار. أثنَى أحدُ الباحثين من السكان الأمريكيين الأصليين، الذي يحظى بتقدير كبير — وهو فاين ديلوريا — على فقراتٍ لكامو في كتاب «الإنسان المتمرِّد»، تمجِّد الطبيعة وتُعليها على التاريخ البشري، رغم أنَّ كامو فضَّل المكان (الطبيعة) على الزمان (التاريخ)، ليس بسبب حُبِّه للطبيعة في ذاتها، بل بسبب أنه رأى أن التاريخ البشري يقود حتمًا إلى تحرير السكان الأصليين؛ ومن ثَمَّ زوال الجزائر الفرنسية. تبنَّى كامو بالطبع العديدَ من القضايا علانيةً على مدار حياته، لكن كان ذلك على أساس كل حالة على حدة، وهو ما أدَّى إلى تفسيراتٍ متعددة ومختلفة لتلك الالتزامات القصيرة الأجل. فوُصِفَ كامو بأنه إنساني، ومن دعاة الفوضى، ومُعادٍ للشيوعية، وديمقراطي اجتماعي، ومن مؤيدي الاستعمار، بل مُعادٍ للاستعمار.

ومع ذلك، ليست أفكار كامو والتزاماته وحدها هي ما تجعله اليوم عُرضةً لكثير من التأويلات المختلفة، لكن شعبيته العريضة أيضًا. فكامو لا يُساءُ فَهْمه بقدر ما يُستشهَد به. وقد صرَّح المُنظِّر المحافِظ نورمان بودهوريتز علنًا بأن كامو «يستحق أن يُستشهَد به». وتُمثِّل حقيقة أن الوسط السياسي كله يستشهد بكامو دليلًا على الفرص التي تقدِّمها كتاباته لكثير من المتشوقين إلى إقران اسمه بقضيتهم، وذلك ليس فقط من جانب الأحزاب السياسية الكبرى، بل أيضًا من جانب المثقَّفين العرب الراديكاليين، وكذلك اللاسلطويون الفرنسيون. ينشر عدو كامو القديم — وهو الحزب الشيوعي الفرنسي — جريدة يومية كثيرًا ما تقتبس منه في صفحتها الأولى.

للسياسيين الفرنسيين دورٌ رئيسي في هذه الممارسة كما قد يتوقع المرء، حيث استهلَّت مارين لوبان زعيمة الجبهة القومية المنتمية إلى اليمين المتطرف في يناير ٢٠١٥ مقالَ رأي افتتاحيًّا في صحيفة «نيويورك تايمز» بالاقتباس من كامو. ويُحاكي إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي المنتمي إلى حِزب الوسط، تعبيراتِ كامو المجازية، كما تظهر طبعة فاخرة لأعمال كامو الكاملة في صورته الرسمية كرئيس، والتي تظهر في كل مكتب لرئاسة البلديات في فرنسا. وكان كاتِب خطب الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عادةً ما يقتبس من كامو. وفي عام ٢٠٠٩، اقترحَ ساركوزي أن يُنقَل رفات كامو إلى مقبرة العظماء «البانثيون»، مثوى رجال الجمهورية الفرنسية العِظام. وقد نشأ خلافٌ رفضَ خلاله جين بن كامو المقترَح؛ الأمر الذي منعَ نقل الرفات.

يزخر الوسط السياسي بسياسيين من جميع الأطياف مِمَّن يستشهدون بكامو: يصرُّ اللاسلطويون الفرنسيون، على وجه التحديد، على تصوير كامو واحدًا منهم؛ على سبيل المثال، ثَمة موجز لمجموعة مقالات أعدَّها زعماءُ اتحاد اللاسلطويين الفرنسي بعنوان «كتابات ليبرالية»، الذي يشير بالفرنسية إلى جديلة من اللاسلطوية، ويحوي مقالاتٍ قصيرة لكامو. وقد امتدحَ الشاعِرُ العراقي عبد الوهاب البياتي كامو عَلنًا باعتباره نصيرًا للثورة. في الوقت نفسه، سمحَ الرئيس الأمريكي جورج بوش بأن يُعرَف عنه أنه قرأ رواية «الغريب» في صيف عام ٢٠٠٦ (في خِضم حرب العراق).

هكذا، يقدِّم الساسة الغربيون نسخةً مبسَّطة لكامو، التي هي الوجه الآخر لرؤية كامو ثوريًّا، والتي قدَّمها المثقفون العرب ومجموعات اللاسلطويين الفرنسيين في الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين. ويشكِّل كامو دعمًا نافعًا للإنسانية التي تُسهب بالتصريحات الكبرى لكنها تفتقر إلى التفاصيل؛ لأن كامو عندما كتبَ عن السياسة كان معظم الوقت عازفًا عن تبنِّي مواقفَ واضحة.

رفضَ كامو أن يُختار عَلنًا بين مناصري الجزائر الفرنسية وبين مناصري جبهة التحرير المؤيِّدة للاستقلال. ويفسِّر موقفه الساعي إلى التسوية ولو جزئيًّا سببَ شعبيته عند القادة الغربيين، الذين تدخَّلوا عسكريًّا واقتصاديًّا في شئون المستعمَرات السابقة بينما يستشهدون بالإنسانية والديمقراطية تبريرًا لهم. هذا في الأصل هو تناقض كامو باختصار؛ يمثِّل كامو لكثيرين تجسيدًا لحَلٍّ يخلق توليفة مستحيلة بين التنوير والاضطهاد الاستعماري. هذا أيضًا السببُ الذي يجعله شخصية بهذه الأهمية في العالم الغربي، إنه الرؤية المثالية لماضي فرنسا الاستعماري، ومن ثَمَّ أوروبا، وحاضرها الاستعماري الجديد.

التسوية سمةٌ من سمات كامو، رغم أنه هو نفسه لم يستطِع في النهاية التمسُّك بالتوجُّه الوسطي. ففي نهاية المطاف أيَّد جانبَ الاستعمار، مصرِّحًا في مقابلةٍ أن مطالبته باستقلال الجزائر كانت نابعة من «العاطفة»، وأعلنَ بقوة أنه ضدها. يجري تجاهُل تلك العبارات والكتابات عادةً؛ لأنها لا تتناسب مع النظرة الشائعة لكامو كإنساني مهموم يترفَّع عن الشئون والشواغل السياسية. إلا أن هذا التناقض بين الإنسانية والاستعمار كان حاضرًا في كثير من أعماله منذ بداياتها، وذلك بدرجاتٍ متفاوتة الحِدَّة.

كامو الأيقونة الثقافية

يُستشَهد بكامو أيضًا في المجال الثقافي. ففي وسائل الثقافة الشائعة، خاصةً التليفزيون، استشهادُك بكامو هو أقصر طريق لإضفاء الطابع المثقَّف على شخصيتك، وبالتبعية على العَرض التلفزيوني نفسه. وعادةً ما يكون الاقتباسُ نفسه غير ملائم للسياق؛ المهم هو ذكر اسم كامو.

وفي السينما، ألهمت أعمالُ كامو على مَرِّ العقود نجومَ السينما (آلان ديولن، ويليام هارت، فيجو مورتنسن، مارسيلو ماستروياني) إلى تقديم التقدير اللائق به كمؤلِّف. ونزعت المعالجات السينمائية الرئيسية إلى معاملة أعماله كآثار تجمَّدت في الزمن. مثالٌ آخر على ذلك هو فرقة البوب «ذا كيور»، التي كانت أول أغنية لها حقَّقت نجاحًا واسعًا باسم «قتلُ عربي» أشبه بأنشودة لقطاعاتٍ من الشباب الأوروبي في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين. لكن وإن كانت الأغنية ملخَّصًا قصيرًا للمشهد الرئيسي في رواية «الغريب»، فإنها تعكس عدم الاكتراث بحياة العرب الذي تنطوي عليه الرواية بالفعل وتعزِّزه. يمثِّل قتلُ العربي ذريعة، حَدَثًا يؤدي إلى انعكاساتٍ وجودية مهمة عند الجمهور الغربي.

وما يتجلَّى بوضوح في الأغنية والرواية على حَدٍّ سواء هو أن ثَمة أشياء أهم بكثيرٍ من قتل إنسان عربي. ليست الفظاعة في الرواية أن ميرسو قتلَ عربيًّا، بل أنه سِيقَ إلى الإعدام لعدم حداده على أمه. تضخِّم أغنية البوب من هذه الفظاعة بقوة، ولم يصدِّق البعضُ في فرنسا أن الأغنية كانت عن رواية «الغريب»، هكذا كان حجم الإنكار في حق الحدث الرئيسي في الرواية. في النهاية، التغيُّر على الساحة السياسية والنجاح العالمي الذي حقَّقته فرقة «ذا كيور» دفعَا الفرقة إلى تعديل الكلمات والعنوان ليصبح «تقبيلُ عربي». المفارقة هنا هو أن هذا التغيير يعكس ما حاولَ كثيرٌ من النقَّاد فِعله مع أعمال كامو ككلٍّ، وهو تهذيب الحواف الحادَّة وصقلها لأغراضٍ سياسية أو تِجارية محدَّدة.

وفي الجمهورية الفرنسية يُعَد كامو مبجَّلًا بالفعل. إنه يجسِّد مثالها الأعلى؛ فقد كان رغم كل شيءٍ الابنَ البسيط لخادمة، ومُشرِفٍ على بستان عنبٍ ماتَ في الحرب. وبمساعدة الدولة الفرنسية ونظامها التعليمي، أصبحَ كاتِبًا مشهورًا وحائزًا على جائزة نوبل؛ تلك الإنجازات في حَدِّ ذاتها دعاية لنظام التعليم الفرنسي والجمهورية الفرنسية ككلٍّ. أصبح كامو أشبه بمعبود الجماهير المنزَّه عن الانتقاد بالنسبة إلى فرنسا. وانتقاده يُرى إلى حَدٍّ ما انتقادًا لفرنسا نفسها.

يَرقى انتقاده أيضًا إلى «قتل الإوزة السحرية التي تبيض ذهبًا»؛ ففي عالم النشر، يُعَد كامو مصدر إيراد كبير. فهو يوفِّر ما لا يوفِّره إلا قليل من المؤلِّفين الفرنسيين: إمكانية قراءة قصص في إطار استعماري تُخفي ما يتعرَّض له السكان الأصليون من قمع. معظم الكُتَّاب الفرنسيين في القرن التاسع عشر كانوا إما يطربون بالاستعمار وإما متألمين منه؛ أما كامو فيُظهِر عدم اكتراث به في روايتَيه الأكثر شهرة، «الغريب» و«الطاعون». يقمع كامو اللاوعي الاستعماري، ويفسِّر هذا القمع كثيرًا من الجاذبية الدائمة نحوه.

لكن كامو كان مصدرَ إلهام أكثر من كونه شخصًا يحظى بالتقدير أو تُمارَس محاولات للتمسُّح بآرائه وأفكاره. في عام ٢٠١٣، كتبَ الصحفيُّ والروائيُّ ومؤرِّخ الأحداث كامل داود «ميرسو، تحقيقٌ مضاد»، وهي تتمَّة جريئة وأصيلة لرواية «الغريب» لكامو. من حيث بِنْيتها، رواية داود تُماثِل «السَّقْطة» أكثر من «الغريب»؛ لأنها حوارٌ ذاتي طويل يتنكر في شكل حوار بين رجلَين. الشخصية الرئيسية، واسمها هارون، هي بعينها أخو الرجل العربي الذي قتله ميرسو. تبدأ الرواية بمعارضة الرؤية الأوروبية الأحادية الجانب في الرواية الأصلية. نتعرَّف على الرجل الذي قتلَه ميرسو، والذي كان يُسمَّى موسى، وعلى حزن عائلة موسى الشديد، الذي لم يُثِره فقط الحدث نفسه، بل غياب اهتمام كامو والمجتمع الفرنسي بهم وبجانبهم من القصة أيضًا. وفي المقابل نكتشف أن هارون نفسه قتلَ شابًّا أبيض عن غير عمد على ما يبدو، الجريمة التي اعتُقِلَ بسببها.

رغم ذلك، لا تُعَد «ميرسو، تحقيقٌ مضاد» عملًا للتنديد؛ لأننا سُرعان ما نعي أن الكتاب أيضًا فيه تكريم وتقدير لرواية «الغريب». في الواقع، العديد من موضوعات رواية داود وفقراته كاموية الطابع على نحو فريد واستثنائي. على سبيل المثال، يعترض داود على الدولة الجزائرية الأحادية الحزب في فقرة يُلقي فيها ضابطٌ من جبهة التحرير خطبةً على مسامع موسى — بعد اعتقاله — عن العَلَم الجزائري الجديد، تمامًا كما فعلَ المدعي العام بالصليب في وجه ميرسو في رواية «الغريب». يتحدى داود وكامو كلاهما مجموعة من القيم الثقافية المصاحبة لما يرونه أنظمةً إقصائية، سواءٌ كانت الجمهورية الفرنسية أو الدولة الجزائرية المستقلة حديثًا. ولذا، فإن رواية داود نقدٌ لتحيُّز كامو الاستعماري واحتفاءٌ بنقده القاسي لجوانب أخرى من المجتمع الفرنسي.

مثالٌ آخر من نوع مختلف على إحياء كامو هو فيلم «يازجي» (الذي يُترجَم إلى «القَدْر»)، وهو المعالجة السينمائية التركية المقتبَسة عن رواية «الغريب»، والذي أخرجه زكي ديميركوبوز، وصدر عام ٢٠٠١. في فيلم «القَدْر»، ميرسو يُدعى موسى. وبعد قتله لرجلَين، تُوجَّه الاتهامات إليه ويُدان، ويُعفَى عنه في النهاية في جريمة قتل أخرى لم يرتكبها. تقع أحداثُ الفيلم في تركيا، في مفترق طرُق جغرافي وثقافي بين أوروبا والشرق الأوسط، وهي بيئة تُحرِّر القصة من وطأة الاستعمار. في هذا الإطار، حيث لا يُعَد العِرق عاملًا فاعلًا، ربما يكون عدم اكتراث موسى أشدَّ تدميرًا. يحول ديميركوبوز الاغتراب الاجتماعي العميق والناتج عن عالم تحكُمه قيم العائلة والعمل والوطن إلى فن، كما فعل كامو في «الغريب» مع القيم المسيحية والحياة المكتبية وصعود السُّلَّم الاجتماعي.

بقاءُ كامو في الأذهان

من دواعي المفارقة أنَّ ما يجعل كامو كاتِبًا استثنائيًّا، كاتِبًا كانت أعماله ولا تزال قابلة لأن يرتبط بها الملايين حول قارَّات العالم ويروا فيها أنفسهم، ربما يكون أصوله المتواضعة. فعلى عكس أغلبية الروائيين الفرنسيين المشهود لهم، أتى كامو من عائلة شديدة الفقر؛ وقبل أن يصبح مشهورًا، كان المال وطريقة كسب ما يكفي منه للعيش على نحو مريح مصدرَ قلقٍ دائم. كان كامو في شبابه دائم العمل في وظيفة. فقد عمل عندما كان في المدرسة الثانوية، وعمل عندما كان طالبًا في الجامعة — في وظائف مختلفة كلها غير جذَّابة يقوم فيها بمهام مكرَّرة ومُملَّة على طاولة مكتب في مقرٍّ ما. وتعكس رواية «الغريب»، وهي أشهر أعمال كامو، تلك الخلفية. كما أوفدَ كامو نوعًا جديدًا من الأبطال في الأدب الفرنسي: الموظَّف، وهو في بطولته واقعي؛ فقصته لم تكن عن صعود السُّلَّم الاجتماعي.

وتتجلى موهبة كامو العظمى، التي تتمثل في قُدرته على ترجمة مجموعةٍ من القوانين الجديدة، وواقع اجتماعي جديد، وأسلوب حياة جديد إلى فن، في أحسن صورها في فكرته عن الغِبْطة. ففي عام ١٩٣٦، بعد انتخاب التكتل اليساري الذي يُعرَف باسم «الجبهة الشعبية»، وبعد الإضرابات والاستيلاء على المصانع الذي تبعَ ذلك، حصل العُمَّال الفرنسيون على إجازاتٍ مدفوعة الأجر وأسبوع عمل أقصر. بدأ الناس يخرجون في رِحلات، على درَّاجاتهم بشكل رئيسي، وحدثت مجموعة تفاعلاتٍ جديدة مع الطبيعة. فمع تقصير أسبوع العمل، ذهبَ الناسُ إلى الشاطئ والجبال والريف. كان ذلك اكتشافًا على الصعيد القومي وتغيُّرًا شاملًا في الحياة اليومية لغالبية الشعب الفرنسي، التغيُّر الذي لا يزال مستمرًّا حتى اليوم. أصبحت الطبيعة مصدر سعادة ومَهربًا من تقلبات الحياة.

بعدها بأشهُر قليلة فقط، وبالنظر إلى هذه التغيُّرات، كوَّن كامو تصوُّره الأول عن فكرة «الغِبْطة»، علاقة خاصة مع الطبيعة، لحظات (لا تكون طويلة أبدًا، كما أشار) من التفاعل المميَّز مع الشمس والشاطئ، كمصدر للسعادة وطريقة لإضفاء معنًى لوجود كان سيصبح بلا معنًى لولاها. تصوُّر كامو عن العبث وتجربته معه يُعليان من أهمية فكرة «الغِبْطة» على نحو محوري؛ ولذا لا يمكن فَصْل بعضهما عن بعض. «غِبْطة» كامو هي عُطلة نهاية الأسبوع، أو رحلة إلى الشاطئ، أو التجول في الطبيعة. قد نرى أن ذلك بديهيٌّ في وقتنا الحاضر، لكنه كان طفرة صاعقة في ثلاثينيات القرن العشرين.

بالإضافة إلى ذلك، سجَّل كامو وصوَّر طريقة حياة جديدة لا تُشبِه غيرها. كانت موهبته العظيمة والمتميِّزة قادرة على أن تحوِّل واقعًا اجتماعيًّا جديدًا للعالم إلى أعمال عن طريق إحساس «الغِبْطة». تصوُّره عن الطبيعة — كمصدر نفيس للدعم الشديد الأهمية في عالَم كان سيكون عدوانيًّا دونها — له صدًى قوي عند القراء؛ لأنه يرتبط بالطريقة التي يعيش بها كثيرون حياتهم الآن. كامو كاتِبٌ استثنائي؛ لأنه كان قادرًا على تسجيل لحظاتٍ يومية وعادية من حياة قرائه (التي كانت من حياته أيضًا) وتحويلها إلى فن. لكنه كان مُحاصَرًا بين المستعمرة وعاصمة الإمبراطورية الاستعمارية، وأعماله تعكس في الوقت نفسه تنشئته الاستعمارية بكل النواقص التي تتضمنها، لا سيَّما فيما يخصُّ غياب شخصياتٍ جزائرية ذات قيمة في رواياته أو مسرحياته.

هذا الصراع بين السخاء وعدم الاكتراث يقوِّي أعماله، والتعرف عليه أداة لا غِنى عنها لتقييم أعماله الكاملة. جعله هذا الصراع أيضًا التجسيد الأدبي للتناقضات الثقافية والسياسية المعاصرة عند القوى الغربية، جعله تنويرًا قمعيًّا وتحرريًّا في الوقت عينه، جعله معبودَ البعض ومحل هجوم البعض الآخر. إن كامو هو كاتِبُ كلِّ الأزمنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤