الفصل العاشر

السويد في يوم

في اليوم التالي ذهبت جورجيا إلى الجزيرة، بإرادتها وبناءً على طلبها. وقد أدركت سخرية الموقف لاحقًا حين تذكَّرت الظروف التي أفضت إلى قرارها. فبعد أن غيَّرت خطَّتها لتناسب ابنتَيها، كانتا هما مَن حرَّضتاها بطريقٍ غير مباشرٍ لتعود عمَّا رتَّبت له.

كانت قد استيقظت بعد ساعاتٍ قليلةٍ من النوم؛ لتجد السفينة ثابتة كأنها فندق في مدينة سانت جوتنبرج. وحين نزلت إلى قاعة الطعام، كانت أسرتها على وَشْك الانتهاء من الفطور. وبدا الكل في حالة معنوية ممتازة، مما جعلها تشعر بخجلٍ طفيفٍ من مخاوفها الأخيرة، خاصةً أن أحدًا لم يتحدَّث عن اضطراب السفينة بصفةٍ رسمية.

بل إن الخادمة المسئولة عن الطعام انتقدتها حين ذكرت هي أن الليلة شابها الاضطراب.

فقد صححتها قائلة: «محض حركة قليلة. إنه لمن المستحبِّ أن يشعر المرء بأن السفينة حية. فلا أحد يحب الذهاب في جولة بحرية في حوض استحمام.»

فقال الكونت متفقًا معها: «بالتأكيد. فإن أحواض الاستحمام بالغة الخطورة.»

ثم غاب البريق عن عينَيه وتحدَّث بلهجةٍ جادة.

«هل صحيح ما أخبرَتني به الصغيرتان؟ ألَا تريدين أن تأتي إلى جزيرتي؟»

فقالَت مفسرةً بعجلة: «الأمر ليس كذلك. إنما يبدو أن هناك الكثير لنفعلَه في السويد. ومن الخطأ أن نحاولَ أن نرى الكثير في زيارةٍ واحدة. وسأدَّخر الجزيرة للمرة التالية.»

«متى؟»

«بعد أن نتزوج … فالأمر وما فيه أننا ساعتئذٍ سيعرف أحدُنا الآخرَ معرفةً أفضل، وسيكون كلانا قد بات متأكدًا تمامًا من مشاعره.»

«لكن من المهم أن تري الجزيرة وتلقى استحسانكِ أولًا. أرجو أن تكون منزلنا المستقبلي.»

«أعلم ذلك. ولدينا الكثير من الوقت.»

هزَّ الكونت كتفَيه وغيَّر الموضوع.

وقال: «لديَّ خبر سيئ لك. لم نستطِع الحصول على كبائن في رحلة قناة جوتا. فالكثافة شديدة في البواخر هذا الموسم. كما أن البحيرتَين الكبيرتَين — فانرن وفاترن — من الممكن أن تكونا عاتيتَين مثل البحر. وستُصاب ميفيس بالدُّوار.»

تدخَّلت ميفيس في الحديث وقالت: «سنذهب إلى ستوكهولم لنرى المتجر الذي كانت تبيع فيه جريتا جاربو القبَّعات.»

وقالت ميرل مبتهجة: «وسيُرينا جوستاف السيدةَ التي تقفز في الماء وماعز عصور ما قبل التاريخ.»

فقال الكونت موضحًا: «لقد وعدتهما بأن أصطحبهما إلى سكانسن. إنه متحفنا المكشوف الشهير. ستريان هناك المنازلَ القديمة بأثاثها الأصلي وأدوات الطهو، والحيوانات البرية والمستأنسة، والرقصات الشعبية، وغيرها الكثير من الأمور الممتعة.»

إن كان قد شعر بأي خيبة أمل شخصية، فقد أخفاها في خططه من أجل تسلية الفتاتَين. وحتى في رحلة القطار إلى ستوكهولم، ظل رائقَ المِزاج ورابط الجأش كلما أُصيبت ميفيس بالغثيان.

وقال متنبئًا بما سيحدث: «سيصيبها الغثيان أينما ذهبنا في السويد. فسنتنقل بالقطارات والعربات طوال الوقت. من الأنظف الإصابة بالغثيان في البحر.»

في ظل هذه الظروف كان في بلوغ ستوكهولم راحة لجورجيا. ومع أن أفضل طريق للوصول إليها هو طريق البحر، فقد فتنها طرازها المعماري الحديث الفخم، ومبانيها القديمة، ومسطحاتها المائية المتصلة. بيد أنها على الرغم من بهجتها الأولى، كان الانطباعان السائدان عن اليوم انطباعَين متناقضَين، أحدهما بالانتظار والآخر بالعجلة.

كانت مدد الاستعجال قصيرةً لكن مركَّزة، وأثارت في النفس شعورًا مزعجًا بالإحباط. كان ثمة الكثير من البدائع لتُرى ولا وقت لتكوين ذكرى؛ فكان أقصى ما أمكنها فعله أن تختطف القليلَ من الانطباعات الشاردة، التي ما لبثَت أن ذبلت سريعًا مثل زهور خشخاش في قبضة يد دافئة.

كان الفاصل الزمني الأول حين تركهن الكونت ليذهب إلى البنك. فمكثن في السيارة مدةً لا تكاد تُحتمل. بجفون مثقلة من قلة النوم، راحت جورجيا تجول بنظرها محدِّقة في المنظر الكئيب الممتد أمامها، الذي بدا شديد الشبه بشارعٍ في الحي التجاري من أي بلدة، فيما جعلت ميرل تدبدب بقدمَيها كلما غيَّرت وضعها.

وفي تناقض مع حركتها المستمرة، كانت ميفيس ساكنة وصامتة على نحوٍ ينذر بالسوء. فكانت مثل بركان، لم تَعُد في حالة انفجار نشط، لكنها وصلت إلى حالة خطيرة من الغليان. فقد بدت شاحبة جدًّا حتى إن مشاعر القلق بدأت تراود جورجيا ثانية، حين انضم إليهن الكونت.

كان هو يدخن سيجارًا وبدا أنه في حالة معنوية ممتازة.

قال معتذرًا: «آسف على تضييع وقتكن. كان أمرًا حتميًّا. في البداية كان لديَّ بعض الشواغل، بعدها اجتمع بي اثنان من المديرين. وكانت ثمة خطابات في انتظاري أيضًا … إنهم بحاجةٍ لأن آتي إلى الجزيرة غدًا. فلديهم هناك بعض المشكلات الصغيرة، ولا يوجد مَن هو كفؤ لمعالجتها. فليست عمَّتي سوى سيدة مجتمع.»

فسألته جورجيا: «هل ستذهب؟»

«أبدًا. لن أتركك مقابل الدنيا وما فيها.»

رمق ساعته ثم أعطى السائق أمرًا.

وقال مفسرًا: «لا بد أن نصل إلى سكانسن الآن بأسرعِ ما يمكن. لكنني رتَّبت مسارًا لإعطائكِ فكرة عامة جيدة عن المدينة. وبإمكانكِ أن تستكشفيها لاحقًا حين يتيسر لكِ.»

وقد تخلَّت جورجيا عن محاولة تذكُّر المباني، أو تحديد أماكنها في مرورهم هرولةً بالأماكنِ فيما بعد. وقد عبروا عددًا محيرًا من الجسور وتجاهلوا كلَّ ما صادفوه من معالم، سواء كانت من المعمار أو من التماثيل. وعلى ذلك توقَّف السائق بالسيارة أمام المتجر الذي كانت جريتا جاربو تبيع فيه قبعات.

حين أُشير إلى بناءٍ ضخمٍ من الحجارة الرمادية اللون يعود إلى عصر النهضة الإيطالي، وقيل إنه القصر الملكي، ازدادَت عينا ميرل رغبةً.

وقالَت: «هل هو متكامل؟»

فسألها الكونت: «ماذا تقصدين؟»

«أقصد ما إذا كان قائمًا بذاته. لا بد أن تعرف معنى ذلك. فإن نصفك إنجليزي.»

تلك الحركة الفطنة جعلت جورجيا تتساءل ما إذا كان الكونت قد تعمَّد اكتساب هذا الاختلاف الطفيف في أسلوب كلامه، ليحدِث أثرًا. وقد شد شعر ميرل دون أن يبدوَ عليه الخجل.

وقال: «نعم، للقصر باب أمامي خاص.»

فأعلنت ميرل بتحدٍّ: «لا بد إذن أن أحصل عليه بمجرد أن يُعرض للإيجار. سوف أملؤه بجمهور أمي، وكل شخص سيكون مسئولًا عن حجرته. ها أنا ذي قد حجزته يا ميفيس. وبذلك أكون قد توخَّيت الأمانة.»

قال الكونت باستحسان: «تعلم هذه الصغيرة ما تريد بشكلٍ أفضل من بعض النساء. هذا هو سبيل الارتقاء في الحياة.»

استاءت جورجيا من الموقف لِما انطوَت عليه الملحوظة من تأنيب مبطَّن. وسألت نفسها بخوفٍ عما إذا كانت من زمرة النساء اللواتي يَغرن من بناتهن. وقد شعرت باستياءٍ محقَّقٍ حين بدأت السيارة تجتاز مبنى البلدية، الذي عرفته من طوبِه الأحمر، وبرجِه المربَّع ذي الجرس، وتيجانه الثلاثية التي التمعت في ضوء الشمس.

قالت: «نصحني أوزبرت بألَّا أفوِّت رؤية النقوش الموجودة أسفل الإفريز بوجهٍ خاص. هلَّا تطلب من السائق أن يتوقَّف؟»

قال الكونت موافقًا بابتسامةِ لا مبالاة: «تحت أمركِ. لكن لا بد أن نسرع في ذلك.»

تحرَّك بهن الكونت مسرعًا في الساحة الخارجية، التي أدَّى رُواقها المعمَّد المزدوج إلى الحديقة وشاطئ البحيرة، ثم إلى القاعة الزرقاء. ومن دون أن يتيح لهن الوقت للإعجاب بالقِرميد الحائل والأرضيات الرخام، هُرع بهن صاعدًا السُّلم ومجتازًا الدهاليز، إلى حجرة شاسعة ومزخرفة، ذات جدران من الفسيفساء المطلية بالذهب.

وقال: «إننا نقيم المآدب العامة في هذه الحجرة. وقد دُعيت إلى هنا من قبلُ ضيفَ شرفٍ.»

كما لو كانت تريد برهانًا على تفاخره، انتبهت جورجيا إلى أسلوب الموظف المسئول عن مبنى البلدية في تبجيله. يبدو أن عدسته الأحادية وملابسه الرسمية قد حوَّلته إلى مواطن مختال ومهم.

ولما استشعرت أنها فقدته، ساورتها رغبةٌ في استعادة حبيبها الرومانسي الغريب مرةً أخرى. وقد جعلها هذا الشعور أكثرَ قدرة على التعاطف مع ميفيس التي كانت تكابد آلام الغَيرة.

فقد همست، بينما يسابق ميرل المبتهجة في نزول السلم الضخم: «جوستاف يحب ميرل أكثرَ من الجميع.»

هكذا وصلوا إلى سكانسن في وقتٍ قياسي، لكنهم اضطروا مرةً أخرى إلى الانتظار مدةً أطول. رفضت الفتاتان زيارةَ أيٍّ من المنازل الخشبية العتيقة، ولبثتا أمام حظيرةٍ ذات رائحة نفاذة، وظلَّتا تُشاهدان ماعزًا ضخمة باهتمامٍ آسر.

وحين عبَّرت جورجيا عن اعتراضها، وقالت: «بما قد تشعران إن ظل شخصٌ يحدِّق إليكما وقتًا طويلًا؟» أفحمها منطق ميرل.

«لكنني ليس لديَّ قرون.»

فقال الكونت وهو مبتهج: «إن لديها إجاباتٍ على كل الأسئلة.»

شعرت جورجيا بصدمة من انزعاجها. لكن حتى مع إقرارها لنفسها بتفاهة أفكارها غير المعقولة، انتابها خوف حقيقي من وقوع تطوُّر بغيض. فطالما كانت الشقيقتان صديقتَين مخلصتَين، لكنَّ تفضيل الكونت الملحوظ لميرل، جعلها تتحوَّل إلى طفلةٍ بغيضة، إلى جانب تكديره لميفيس.

انزاح التوتر حين دعاهن الكونت لمشاهدة عملية صُنْع الزجاج. فقد سرَّ جورجيا أن تمضيَ في سبيلها، لكنها بعد بضع دقائق شعرت أنهم أقدموا على مُقايضةٍ سيئة، بترك الهواء الطَّلْق لدخول مبنًى حارٍّ معتِم.

وما لبثت أن شعرت بالملل من رتابة العملية، التي بدت أنها تكرارٌ لنفس الحركات، فلا تتنوَّع إلا عند تحطيم عينةٍ معيبةٍ من وقتٍ لآخر. إلا أن الطفلتَين راحتا تشاهدان الزجاج المصهور وهو يُلف حول القضبان باهتمامٍ مفتون، كالذي خصَّتا به الماعز.

ولما لم تقوَ على أن تعهد للكونت برعاية الصغيرتَين؛ مخافةَ أن تضلَّا أو تُخطفا، فإنها اضطُرت إلى البقاء حتى يصرفهما الموظف المسئول.

قال الكونت: «لا بد أن نسرعَ الآن للحصول على أماكنَ جيدةٍ في عروض الرقصات الشعبيَّة للأطفال. أما هذه المنازل القديمة فسترَوْن مثلها الكثير في ديلكارليا.»

ومرةً أخرى انطلقوا مسرعين — ومرة أخرى انتظروا — جالسين على مصاطبَ صلبةٍ حول منصة خشبية قصيرة، وهم يشاهدون الأطفال المتفرقين يجمعهم الآباء والمدرِّسون.

وحين اكتمل الحشد أخيرًا وبدأ العرض، لم يَرْقَ دبيبهم وقفزهم الشديدان لمعيار الرقص لدى الآنستَين يو.

وللأسف أدَّى الأمر إلى إثارة شعور ميفيس بالتفوق القومي من دون مناسبة.

فقد قالَت بتواضعٍ مزهوٍّ: «لسنا سوى قريةٍ صغيرةٍ فقيرة، لكن مستوى الرقص لدينا أفضلُ بكثير. هل نُريهم أنا وميرل رقصةَ مزمار البحَّار؟»

فقالت ميرل سريعًا للتفسير: «ليس بهدف التفاخر. وإنما لتعليمهم. تقول الآنسة جونز إنه لا بد من تبادل الثقافات.»

وحين أُثنيتا عن عزمهما، اكتشفتا أنهما كانتا جائعتَين، وهو ما ضايق جورجيا. فقد كانت تهوى الصبيان بوجه عام وتأسف أنها لم تُنجب صبيًّا.

ولذلك فقد استأثر بانتباهها صبيٌّ أكبر سنًّا، كان غناؤه ورقصه فوق المتوسط.

كان الصبي يرتدي قبعة سوداء كبيرة من اللَّبَد، ويلعب دور أبٍ لعدد من الفتيات المناسبات للزواج. وبعد أن يزوج كلَّ واحدة منهن، واحدة تلو الأخرى، لفتًى من الفتيان الجالسين على مصطبة، يقود موكب الأزواج المتراقصين حول المنصَّة. كانت جورجيا تشاهد أداءه التمثيلي الصامت المتهلِّل باستمتاعٍ حقيقي، حين استُنهِضَت من فوق المقعد.

فقد استحثَّها الكونت قائلًا: «لا بد أن نهُمَّ للحصول على طاولة. فالمطعم دائمًا ما يكون مزدحمًا. كان لا بد أن أحجز أماكنَ لنا، لكن اليوم كان مشحونًا.»

قُدم إليهم العشاء في شرفةٍ محاطةٍ بالزجاج، تُطِل على حديقةٍ مضيئة. على الرغم من الأجواء النيرة والمبهجة، فإنهم لم ينعموا بعشاءٍ هادئ، حيث كانت الصغيرتان مشغولتَين بخوفهما أن تتأخَّرا فلا تحصلان على موقعٍ جيدٍ لمشاهدة عرض الغوص.

بعد أن تركوا قهوتهم دون أن يشربوها، وتركا سجائرَهما تحترق في منافض السجائر، خرجوا مسرعين إلى ساحة العروض. وهناك شقُّوا طريقهم وسط الزحام، حتى استقروا أخيرًا في مكانٍ ضيق قرب سُلمٍ طويلٍ لحدٍّ خطير. كان في وضع قائم مرتفعًا فوق حوض صغير جدًّا، حتى إن جورجيا شعرت بانزعاجٍ عند رؤيته.

وقالت: «سوف تسقط خارجه حتمًا.»

فقال الكونت متفقًا بلا اكتراث: «من المرجَّح أن يحدث ذلك ولو مرة. بل قد تكون هذه المرة الليلة.»

ارتجفَت الصغيرتان وصاحتا: «أووه.»

بدا وجههما في غاية الشحوب في الوهج، حتى إن جورجيا شعرَت بالقلق عليهما. فقد كانتا تتعرَّضان للكثير من الإثارة، من دون الحصول على قسطٍ وافٍ من النوم أو الطعام المفيد. وبعيدًا عن هذه الاعتبارات، كان المستقبل يحمل معه احتمال انتقالاتٍ مستمرة، حيث ستواجه ميفيس اختبارًا شديدًا وحقيقيًّا وهي التي تعاني دائمًا الدُّوار.

وبينما هي تتأمل الموقف، بدأ يساورها ندمٌ على الإذعان لهواجس صغيرتَيها بشأن وقوع كارثة. كانَت قد تركتهما تسيطران على الموقف، وهي على عكس نظرية التعليم التجريبي، ترى أن العالم تحت سيطرة الأطفال أو المجانين لن يكون منطقيًّا ولا مستقرًّا.

تدافع الحشد في ازدحامٍ خانق. وغاص كعبُ حذائها في الوحل، وشعرت بألمٍ في قدمَيها، ودقٍّ عنيف في رأسها. كان لدى جورجيا رهبةٌ من ساحات العرض؛ وذلك لأنها كانَت قد تاهَت في مهرجان، وهي في الخامسة من العمر. فلم تنسَ قطُّ صخبَ الآلات النحاسية، والتدافع المستمر، ورائحة الكيروسين، ومصابيح النفط، وصرير الأراجيح الدوارة، وزئير الأسود المرعب في أقفاصها.

أسوأ ما في الأمر هو أن هذا المكان البغيض كان مرج دوبسون المحبَّب إليها؛ حيث كانت تصنع أكاليل من زهور الأقحوان. تعرَّفت إليه من أشجار البَلُّوط الثلاث التي انتصبَت على خلفية سماء الليل، وهو ما يبدو أنه حوَّله إلى مؤامرةٍ كبرى بين الطبيعة والإنسان لتضليلها.

ظلَّت الذكرى القديمة تُلاحقها مع ازدياد الضغط. وفي تلك اللحظة بدَت لها الجزيرة كأنها سرابٌ بعيدُ المنال، ملاذ آمن، حيث نعمة الشمس والبحر والريح. وبينما هي تُفكِّر فيها بلهفة، حدَث ما أعادَها إلى مكانِها الراهن.

فقد ظهرت الغواصة — بقوامها الممشوق المتناسق — وشرعت تصعد درجات السُّلم بحركاتٍ بطيئةٍ منتظمة، متواكبة مع الموسيقى. وحين وصلَت إلى المنصة الصغيرة أعلى السُّلم، ظلَّت بلا حَراك، مثل تمثالٍ على خلفية سماءٍ مضاءة بالنجوم.

تساءلت جورجيا فيما كانت تفكر بينما تقف منتظرة، عاليًا فوق حشدٍ من الوجوه المتطلعة، مع هبوب نسمات الليل المنعشة على جسمها. ثم بدأَت تقوم بتمريناتِ مدٍّ لأطرافها وعضلاتها، وكأنها تريد أن تطيل فترةَ التشويق.

اصطخب المشاهدون مقتربين أكثرَ، يدفعهم تيار اللهفة المتزايد. اشرأبَّت الأعناق في إثارةٍ وتصاعدَت التمتمة بكلماتٍ مفهومة. وحين نظرَت جورجيا حولها، تكوَّن لديها انطباع بكثرة المروِّجين لإحساس الإثارة والدهشة، آملين في الشعور بإثارةٍ منقطعة النظير لم يدفعوا ثمنها.

وإذ فجأة استبدَّت بها كراهية عنيفة وغير معقولة.

فقالت لنفسها: «إنهم يريدون أن ترتطم الفتاة بالأرض.»

وفي أثناء مرور تلك الخاطرة بذهنها، انتهى العرض؛ إذ تم على نحوٍ غير متوقَّع. فقد وقفت الغواصة على يديها، رافعةً قدمَيها في الهواء، وتشقلبت للوراء، ثم هبطت في الحوض.

لم تشعر جورجيا بشيء سوى الامتنان على عدم سقوط الفتاة وموتها، إلا أن الصغيرتَين لم تخفيا خيبةَ أملهما.

فقد عبَّرتا عن شكواهما بصوتٍ عالٍ فقالتا: «لم يكن هذا غوصًا. لقد قفزت.»

فقالت جورجيا بحزم: «والآن ستقفزان أنتما إلى الفراش.»

وحين وصلوا إلى الفندق التفتَت جورجيا نحو الكونت.

وقالت له: «انتظرني. أريد التحدُّث معك.»

وبعد قليل نزلت بالمصعد فوجدت الكونت واقفًا في نفس المكان.

قال لها: «لم أتحرَّك طَوال هذا الوقت. وهذا يثبت إخلاصي. سيكون من الأفضل أن نتحدث متجولين بالسيارة. هذا إلى جانب أنكِ يجب أن تري المدينة ليلًا.»

مسترخيةً في السيارة، تُحيط بها ذراع الكونت، استسلمت جورجيا لهذا السلام وأثره المداوي للروح. وانعكسَت الأضواء الصادرة من مبانٍ معتِمةٍ في خطوطٍ طويلةٍ مرتعشةٍ على الماء. وسطعَت النجوم متألقةً في السماء الصافية. وأمامها ظهر تمثالٌ عارٍ ضخمٌ بذراعٍ مرفوعة، على خلفية النجوم الساطعة المتناثرة.

كأنه خمَّن ما تفكِّر فيه، همس الكونت إليها قائلًا: «من الممكن أن تكون هذه هي الحال دائمًا.»

فقالت جورجيا: «ليس إذا كان الغد مثل اليوم. لقد آل كل شيء مآلًا خطأ. حتى أنت كنت مختلفًا.»

«أدرك ما تقصدين. لكنني لا أستطيع أن أكون شخصَين في آنٍ واحد. لا يمكن أن أكون الحبيب والمرشد السياحي. أردتِ أن تصطحبي الصغيرتَين. وأنا أردت إسعادكِ. لقد فعلت اليوم ما لم أكن لأفعله لأي امرأة. فلست معتادًا القيامَ بعمل المربية.»

هكذا أدانتها كلماته بالجحود مجتمعًا بانعدام الحس الواقعي.

فقالت تقرُّ بخطئها: «كانت غلطة. هلَّا نذهب إلى الجزيرة غدًا يا جوستاف؟»

«بهذه السرعة؟» ثم ضحك ضحكةَ انفعال. «لكن هل أنتِ متأكدة أنكِ لن تغيري رأيكِ مرة أخرى؟»

أخفى الظلام تغيُّر تعبير وجهه وهو يردف قائلًا: «من السهل مغادرةُ ستوكهولم. لكن ربما لا يكون من السهل مغادرة الجزيرة.»

فقالت له: «إنني متأكدة. سوف نذهب غدًا.»

وفي الصباح التالي، بينما كانت الباخرة الصغيرة تغادر رصيف الميناء، استدارت جورجيا تنظر إلى ستوكهولم.

وقالت بضحكة خافتة: «لقد فرغت من السويد. فقد رأيت المتجر الذي كانت جريتا جاربو تبيع فيه القبعات.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤