الفصل الحادي عشر

عروس الفايكنج

بينما هي واقفة على سطح الباخرة الصغيرة — المتجهة إلى سالتسوبدن، في طريقها إلى الجزيرة — كانت روح جورجيا في سكون، كما لو كانت تركت كل شكوكها وقيودها تسبح وراءها مع نُفايات الميناء.

في الماضي شعرت مرات بروحها لحوحة لا تهدأ، تتنازعها في صراعاتها من أجل الحرية. رغم أنها قد ضحَّت بنفسها من أجل تأمين مستقبل ابنتيها، فقد أنَّبها شبابها الحبيس على إهداره سنوات.

والآن بينما هي تشاهد أشعة الشمس في التماعها على الزَّبد المتخلف في أثر السفينة، قالت لنفسها إنها — في هذه الرحلة — قد عوَّضت ذلك السجين عما ارتكبته بحقه.

خلعت جورجيا قبَّعتها، وتركت النسيم يبعثر شعرها، الذي كان أفتح من شعر أي واحد من سائر ركَّاب السويد، وراحت تشاهد الكونت بعينين ملؤهما الفخر والسعادة. والكونت، هو الآخر، بدا في حالة مزاجية لائقة بالعطلة، وهو يذرع الباخرة الصغيرة جَيئةً وذهابًا كأنه قائدها. كان يرتدي ملابس خفيفة من الفلانيل على غير العادة، وكذلك بيريه أسود مائل على رأسه، فذكَّرها مرة أخرى بالغريب الذي قفز فجأة إلى حياتها، وملك عليها أمرها.

كان دائمًا لافتًا للأنظار، حيث لاحظت أن النساء الأخريات نظرن إليها بحسد حين جاء إليها.

قال الكونت لجورجيا: «أشعر بسعادة بالغة.»

في تلك اللحظة شعرت ببهجة انتصار، لكنها حين تكلَّمت كان حديثها حديث جِد.

«بكم أَدين لك؟»

فأجابها: «بلا شيء.»

«لكنَّك سددت كل النفقات.»

«لا تقلقي يا عزيزتي. سأرسل الفاتورة لاحقًا … ما خَطْب ابنتَيك الحسناوَين، يا سيدتي؟ لم أوفَّق في اجتذابهما اليوم.»

فأجابت: «لم تريدا الحضور.»

«لماذا؟»

قالت متلعثمة: «أوه، ترَّهات بشأن خطرٍ ما.»

ومضت نظرةُ اهتمام في عينَيه.

«إنه لأمرٌ غريب. ذات مرة كان لديَّ فرس رفضت القفز فوق حاجز. ثم اكتشفت أنه كان ثمة حفرةٌ متوارية على الجانب الآخر، فلو كانت قفزت لَلقينا حتفَنا نحن الاثنين. هذه المخلوقات العجماء لديها حَدْس.»

لم تعلِّق جورجيا على الحكاية التي لم تبدُ في محلها. ولم يسَعها سوى الامتنان على وجود الصغيرتَين على متن السفينة، بعد تمرُّدهما في البداية.

كانت ميرل تتعقَّب أحد ضباط الباخرة دون خجل، وقد شدَّ انتباهها زيه الرسمي، فيما كانت ميفيس تخطُّ بالقلم الرصاص في كراسٍ مع كل جزيرةٍ يمرُّون بها.

وقد ارتسمَت على وجهها أمارات الجِدية وهي تفسِّر ما تفعله.

«سأكتشف بنفسي إن كانت ألف جزيرة بحق أم لا.»

فقال الكونت بصبيانية وهو يمسك بيد جورجيا ويبتعد بها: «تعالَي لتحصيها معي.»

بينما هي واقفة بجانبه، تشاهد جزر الأرخبيل تمر بهما، شعرت جورجيا بحرية وشباب غير معهودين؛ إذ تحرَّرت من الروابط الأسرية. كانت بعض الجزر محضَ صخور من الجرانيت الأحمر، جدباء، وكان بعضها الآخر كبيرًا بما يكفي ليكون مواقعَ مصايف.

وكانت كلما أعجبتها دارٌ خشبية — مطلية باللون الأبيض مع القليل من اللون القرمزي — بين الأشجار، قال لها الكونت متباهيًا: «انتظري حتى تري داري.»

شقَّت الباخرة طريقها وسط مضايقَ بالغة الضيق، حتى إن أمواجها غمرت حواف الشاطئ، تاركةً الحشائش والشجيرات طافية. وعاليًا تخلَّلت السماءَ الممتدة الشديدة الزرقة أشرطةٌ من السُّحب الرقيقة. وحين مرَّ شريط منها أمام الشمس، أعتمَت الخلفية الخضراء، وألقت بالظل على وجه جورجيا.

سألَت جورجيا الكونت: «هل تتوقَّع عمتك قدومنا؟»

فقال وقد لوى شفتَيه: «كيف يمكن لها ذلك؟ لو كنت أرسلت إليها برقيةً لأحضرناها معنا. نحن نتسلم بريدنا ومؤننا بأنفسنا من سالتسوبدن. حين تصلين إلى الجزيرة يا عزيزتي ستجدين أن كل الأسلاك مقطوعة.»

فقالت تذكِّره ضاحكة: «لكن هناك سُبل اتصالات لاسلكية. وأنا دائمًا ما أقرأ أن حتى إنجلترا لم تَعُد جزيرة معزولة.»

حين غادروا الباخرة في سالتسوبدن، تناولوا الغداءَ في مطعمٍ بإطلالةٍ جميلةٍ على شبه الجزيرة المغطَّاة بالأشجار والممرات المائية المزدحمة للأرخبيل. وبعد الغداء، أثناء انتظارهم قارِبَ الكونت البخاري، الذي كان سينقلهم إلى الجزيرة، راحوا يتمشَّون على الشاطئ حيث كان ثمة تمثال مضطجع منحوت في صخرةٍ منخفضة.

انطلقت الصغيرتان إلى التمثال وترجَّتا الكونت أن يلتقط لهما الصور. ففك الرباط عن الكاميرا وبدأ ضبطها ثم عدَل عن رأيه.

وقال: «سنأخذ الصورة جميعًا. سأطلب من ذلك الشاب هناك أن يصورنا.»

ثم قفز من فوق الجلاميد المغطاةِ بطحالب البحر، وعاد بصحبة شابٍّ مبتسمٍ يرتدي ثوب سباحة، فتولَّى المهمة في الحال.

قال الشاب بلغة إنجليزية ممتازة: «قِفوا متقاربين رجاءً. وأنت يا سيدي، ضع ذراعك حول السيدة وانسَ أنها زوجتك. هيا جميعًا، ابتسموا. الآن.»

كان الكونت مبتهجًا بعد أن شكروا المصور الهاوي.

فقد قال أثناء سيرهم متجهين إلى رصيف الميناء: «طلبت منه أن يلتقط لنا عدةَ صور. فلديَّ رغبة خاصة في تسجيل سعادتنا اليوم.»

تذكَّرت جورجيا الموقفَ لاحقًا. أما ساعتئذٍ فقد غمرها الشعور بالإثارة للمغادرة على القارب البخاري. وقد جاء الكونت يخاطبها بمجرد أن ركبوه.

فقال: «فلتودِّعي الأرض. نحن على وَشْك قَطْع الاتصال مع العالم.»

فسألته: «متى سنعود؟»

«ما أهمية ذلك؟ فلا وجود للزمن على الجزيرة. وبمجرد أن نمضي في سبيلنا سألقي بساعتك في البحر. فلن يعود بكِ حاجة إليها. سوف نستبدل بها عروس بحر جميلة من أجلي. ها قد انطلقنا.»

صاح حماسةً إذ انطلقوا بالقارب، الذي تقافز بهم فوق الماء ناثرًا الرذاذ. ثم استدار وتحدَّث إلى ميفيس، التي جلست متسمرة، وقد صارت كل عضلة في جسدها مشدودة.

«سننطلق سريعًا حتى لا يتسنى لكِ الوقت للإصابة بدُوار. وبهذه السرعة سنسبق السمك.»

أثبتت أساليبه الصدامية نجاحها؛ إذ ظلَّت حابسةً أنفاسها، وشيئًا فشيئًا كان لضغط الهواء على وجهها أثر المخدِّر. وانسدل جفناها من النعاس، وارتمى رأسها ثقيلًا على كتف ميرل.

فصاحَت ميرل، مستغلةً فرصتها لتضفي على الموقف طابَعًا دراماتيكيًّا: «يا لكِ من مسكينة! أنت بحاجة لأمكِ.»

لم تُلقِ جورجيا بالًا لنظرة التأنيب التي رمتها بها. وخلافًا لكلِّ ما سبق ضحكت وهي ترى ميرل تحيط شقيقتها الكبرى بذراعها في لفتةِ أمومة متوترة. فقد انتابها شعورٌ بالتمرُّد على كل القيود وهي في حالة جديدة من النشوة، حتى تلك القيود التي تصنعها العاطفة.

لقد ضحَّت سنواتٍ عديدة من أجل صغيرتَيها، أما اليوم فهو لها وحدَها.

قالت لنفسها تذكِّرها: «لقد منحتهما الأمس لتفعلا فيه ما تشاءان فأفسدتاه تمامًا. حتى إنني لن أتذكَّر ستوكهولم مطلقًا من دون أن ألهث أو أتثاءب.»

في البداية سلَكوا طريقهم بين جزر الأرخبيل، وشيئًا فشيئًا خرجوا إلى البحر المفتوح. فخلع الكونت البيريه قبل أن يأخذ عجلةَ القيادة من الميكانيكي، ويصيح بجورجيا أن تقف بجواره.

«إنني قرصان الفايكنج وأنتِ عروس الفايكنج عائدة لدياركِ.»

وخز رذاذ البحر عينَيها وغمر شفتَيها. وجعلت الشمس تلهب وجهها والريح تهبُّ كأنها ستقتلع شعرها من جذوره. وامتلأت أذناها بصوت مكتوم لقرع طبول، وهي واقفة على مركبة متحركة هائجة تنطلق وتدور بسرعة فائقة. شعرت كأنها مندفعة صوب مستقبلها خائضة ذلك البحر الأزرق الثائر، الذي يغطيه الزَّبد كأنه قطيع متسارع من الخيول البيضاء.

ثم أعادها صوتُ ميرل المحتج إلى حاضرها.

«هل هذا الوضع نهائيٌّ حقًّا يا أماه؟»

فسألتها جورجيا: «ماذا تقصدين؟»

«لقد طلب منا جوستاف أن نقول «وداعًا» للأرض.»

فهزَّت رأسها لتطمئن الصغيرة، مع أنهم بدَوا بصدد انفصال مطلق عن العالم في تلك اللحظة. فلا أثر للأرض على مرمى البصر، ولا طيور في السماء. وآخر الجزر الصخرية الصغيرة باتت بعيدة. ليس هناك سوى أميال وأميال من المياه.

كان آخر النهار حين بدءوا يرون الجزيرة التي بدت كأنها بقعةٌ بنفسجية في الأفق، لكن حين وصلوا إليها كان آخر شعاع من الشمس لا يزال يصبغ الأمواجَ ذات اللون الزيتوني بلون برتقالي محمر. امتدت مساحتها من ثلاثة إلى أربعة فدادين، وهي مليئة بأشجار الصنوبر والبتولا، إلى جانب شجيرات الزينة.

كان المنزل واقعًا في الطرَف الأعلى من الجزيرة مُقامًا على أرض مرتفعة، وكانت الحجرات الخلفية في الطابق الثاني تُطل مباشرةً على البحر. كان بناءً فخمًا، أبيضَ اللون راسخ البنيان، بطراز معماري حديث، ذا أسطحٍ مستويةٍ وشرفاتٍ مشمسة، تصل إليه بسُلَّم منحنٍ ذي درجاتٍ منخفضة.

وقد دُهشت جورجيا من حجمه وفخامته، وهي التي توقَّعت أن ترى البناء الخشبي المعتاد.

فقالت: «لا بد أنَّ نقل المواد وحدَه قد كلَّفك ثروة.»

فقال الكونت يشرح لها: «لا. الحمقى يبنون المنازل والحكماء يسكنونها. لقد بناه مليونير غريب الأطوار. وبعد وفاته بات المنزل عبئًا على الورثة؛ لأنه كان منعزلًا جدًّا. فاشتريته منهم بأموال طائلة، لكنها في الواقع أقلُّ من قيمته. والآن سنأخذ جولة حوله، حتى يمكنكِ رؤيته من كل جهة.»

وبينما كان الزورق يرسم دائرةً من الزَّبد حول الجزيرة، رأت جورجيا شخصًا غير واضح الهيئة واقفًا في إحدى الشرفات. لم يلوِّح ذلك الشخص الذي كان يراقبهم بيده للترحيب، فاستنتجت أنه لا بد أن يكون أحدَ الخدم.

كان رصيف النزول والمرفأ قائمَين في مدخل خليجٍ صغير في الطرَف المنخفض من الجزيرة. وبمجرَّد أن توقَّف الزورق حمل الكونت جورجيا، وسار بها إلى الشاطئ.

وقال: «لقد جاءت العروس.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤