الفصل الثالث عشر

الاعتراف

عند رؤيتها كلير، أدركت جورجيا أنها كانت قد لمست ذُروة السعادة، لكنها لن يتسنى لها أن تبلغها ثانيةً. إن وجوده على الجزيرة سيسلُب من روعتها. ستكون هي متيقظة لنقده الحاد ومدركة لغَيرتها، وقد جعلتها قدرته على إثارة تلك العاطفة تشعر بالغضب والخجل.

لكنها حدَّثت نفسها تمنِّيها: «ربما لن يبقى طويلًا.»

في لهفتها لمعرفة أسوأ ما قد يحدُث، ولكيلا تؤخِّر اللقاء غيرَ السار، نزلت جورجيا إلى الشرفة. فوجدت كلير في سروال فضفاض أزرقَ داكن وسترة بيضاءَ بلا كمَّين، يتحدَّث إلى الكونت بصوت خفيض لا يمكن سماعه. لكن بدا من عبوسه أنه مستاء من الصغيرتَين، اللتَين كانتا تتودَّدان إلى كلبه الداكن اللون، الكلب الهجين الأسود.

ومما أدهشها أنه حيَّاها تحيةً وديةً نسبيًّا.

قال بخشونة: «مبارك. لا شك أنني لا بد أن أعزيكِ حسب المزحة الدارجة. فإن جوستاف شخص رائع، عدا بين الوجبات.»

سألته جورجيا: «هل فوجئت؟»

«لا. فقد توقَّعت الأمر في ذلك العشاء في بروكسل. بمجرد أن رأيتكِ عرفت أن نصيب أحدهم قد حان.»

فقال الكونت: «هذه أشياءُ قدرية.»

ثم سألت جورجيا كلير، تريد بسؤالها تحديدَ في أي اتجاه ستأخذها رياح القدَر: «أين أمتعتك؟»

وكما توقَّعت، هزَّ الشاب رأسه نافيًا.

وقال: «عجبًا، ليس معي أمتعة. فكل أشيائي مستقرة هنا بالطبع. في الحجرة المعتادة، أليس كذلك يا جوستاف؟»

«بلى.»

وحين صعِد كلير السُّلم، متخطيًا ثلاث درجات في خطوة واحدة، تحوَّلت جورجيا نحو الكونت.

وسألته: «هل سيأتي كلير معنا في شهر العسل؟»

فسألها وصوته مندهش: «هل أنتِ غاضبة؟ لماذا؟ سوف تصاهرين عائلتي، وقد عقَدت العزم على أن تتعرف أسرتي إليكِ بصفتكِ زوجتي المستقبلية. ولن أقبل أن يلقاك أحدٌ بأي تجاهل.»

«هل تقصد أنه جاء خصوصًا ليهنئني؟»

«بالتأكيد.»

«وإلى متى سيبقى؟»

«كيف لي أن أعرف؟ فإنه يأتي ويذهب كيفما بدا له. وأنا لا أفهم لماذا عساكِ تستائين منه. إنه فتًى … وأنتِ تَبدين في غاية الجمال.»

تركت نفسها تستسلم لسحر ابتسامته، حتى وهي تضمر في صدرها ضغينةً لتذكرها بوعده لها في الأوبرا.

فقد شعرت في قرارةِ قلبها أن الكونت قد خان ثقتها. اعترَتها مشاعرُ بالغة المرارة حتى إنها شعرت بامتنان حقيقي نحو ميرل، حين عبَّرت عن شعور صريح، عند نزول كلير السُّلم على مهلٍ، وهو يبدو رشيقًا وأنيقًا ببذلته المسائية الأنيقة.

أخذ كلير كلبه الداكن من طوقه وبدأ ينزل به درجات الشرفة.

فصاحت ميرل تسأله: «ألن يبقى؟»

«نعم، سيعود إلى البر الرئيسي مع سيده.»

«أوه. إذا كان لا يمكن بقاؤكما أنتما الاثنان، فهل تعتقد أنه سيمانع أن يبقى، بدلًا منك؟»

وأنقذ الكلب الموقفَ بأن أفلت عند سماعه صوت صفارة بعيدة.

فقال كلير معلقًا: «بإمكانكِ أن تجعلي من نفسك أضحوكةً كيفما تريدين، لكن لا يمكنكِ أن تجعلي منه أضحوكة. إنكِ تشبهين أمكِ شيئًا ما، أليس كذلك؟ أقصد شكلًا بالطبع.»

تظاهُره بتفسير مقصده حوَّل المقارنة إلى ملحوظة ماكرة. لكنه أثناء العشاء سلك سلوك شاب عديم اللياقة يسيطر عليه هوس. حتى إن السيدة فاندربانت اضطُرت إلى توبيخه لاحتكاره الحوارَ بحديث فردي عن التصوير الفوتوغرافي.

إذ قال يوضِّح موقفَه: «لقد شاركت في مسابقة. موضوعها هو «الزوجان المتحابان». وها أنا ذا أحذركما، فأنتما هدفي. لذا فاستعدَّا.»

وقد نفَّذ تهديده بانتباه ونشاط لا يَكل، حتى إنه جعل من نفسه مصدرَ إزعاجٍ للكل. فقد ظل خلال الأيام التالية يلاحق جورجيا والكونت، ولم يكتفِ بإجبارهما على اتخاذ وضعيات المتحابين أمام كاميرته، وإنما ظل يُلح عليهما لتغيير ملابسهما باستمرار.

والتقط لهما الصورَ وهما في ملابس السباحة، وملابس السهرة، وبسراويل قصيرة، وملابس من قماش التويد، وسراويل طويلة، بل وحتى وهما يرتديان الفراء. وكان أحيانًا يُدخِل الصغيرتَين في الصورة، وإن كان لا يحفِل بهما إلا باعتبارهما محض مكملات للصورة.

وقد قالت جورجيا ثائرةً للكونت: «أعتقد أنه لا يلاحقنا إلا ليكدرني.»

فقال الكونت يطمئنها: «لا؛ فهو إنما يجرِّب الإضاءة والزوايا. هذا شأنه دائمًا كلما اتخذ هواية جديدة. يكون في غاية الولع بها ثم تفتُر حماسته فجأة. وينتهي منها. لكن بما أنكِ معترضة، فسوف أمنعه من التقاط المزيد من الصور.»

وهكذا تلقَّى كلير التحذيرَ بأن هزَّ كتفَيه عابسًا.

«حسنًا. إنما أردت تخليدَ هذا الاتحاد المثالي؛ فهو ثنائي أصيل وعظيم مثل الويسكي والصودا. لذلك أردت تدوينه عَبْر المواسم. هل فهمت الفكرة؟ الحب المستمر من الربيع حتى الشتاء. وعلى العموم لديَّ كمية كافية من الصور. ومن الممكن أن أشرع في تحميضها.»

رغم أنهم باتوا تقريبًا لا يرونه، إلا أثناء الوجبات، فقد شعرت جورجيا بتغييرٍ في الأجواء النفسية. فعلى الرغم من الظروف المثالية، كانت الحياة تشبه عطلةً دائمة بدلًا من مشهد من الفردوس. لم يُبدِ الكونت ميلًا لاعتبار جزيرته مكانًا رومانسيًّا للخلوة، على الرغم من توفُّر الفرصة. فكان يسبح ويبحر بالقارب ويستلقي في الشمس مع جورجيا، لكنه لم يكن يمتعض من وجود الصغيرتَين، أو يخطِّط لأن يكون معها بمفردهما.

على سبيل التعزية، ذكَّرت جورجيا نفسها بأنها ستظل محتفظةً بذكرى لحظتَين مميزتَين: دهشتها حين فاتحها بعرض الزواج، وفرحتها حين حملَها إلى الشاطئ بين ذراعَيه.

وقالت تردِّد لنفسها بيتَ الشِّعر: ««فكم من امرأة عاشت دون أن تنال أمانيها.» حين نتزوج ويرحل الآخرون، ستحلو الحياة لنا مرةً أخرى.»

بَيْد أنها كانت لا بد أن تقرَّ بالهزيمة فيما يتعلَّق بمضيِّفتها. فرغم أن الوجه الأرستقراطي الشاحب بات مألوفًا لها أن تراه على الجهة الأخرى من المائدة، فقد ظلَّت العلاقات بينهما رسمية. معتبِرة نفسها القدوة، أوجبت السيدة فاندربانت معيارًا مرتفعًا من الهندام في المساء، وفي الوقت نفسه كان الحوار يُحدَّد مسبقًا، لتكون هي مَن يقرِّر بموجب سلطتها التلقائية الانتقال من موضوع تقليدي لآخر.

ومع تكرُّمها بالسماح لها بالتدخين، وتذكيرِها بذلك كلَّ مساء، لم تجرؤ جورجيا قط على التدخين في حضرتها. فقد لاحظت أن الكونت وكلير كانا يمتنعان عن التدخين، كأنها إشارة لشدة اعتراض السيدة فاندربانت على التبغ.

متحاملتَين على كلير من موقف الكلب على ما يبدو، لم تحاول الصغيرتان التوددَ إليه، فيما تجاهلهما هو تمامًا.

وقد قالت ميرل مستهزئة به: «إنه جبان. لقد تحديته أن نتسابق في السباحة. لكنه رفض.»

وقالت ميفيس تفسِّر ذلك: «إنه ليس إنجليزيًّا.»

قبل أن ينتهيَ الأسبوع — الذي سار وفقًا لجدول، وإن كانت لم تعلم ذلك — باتت جورجيا على وعي بهاجس خفي جعلها في حَيرة من أمرها، من دون استناد إلى أي شكوك محدَّدة.

وقعت أول حادثة على العشاء، حين أظهرت الصغيرتان نهَمًا محرجًا للطعام.

فقالت جورجيا معلِّقة: «يبدو أن التطبُّع بطباع أهل البلاد يروق لهما. من المؤسف أنه لا يمكنهما البقاء هنا من الأساس.»

فسألها كلير: «وما العقبة دون ذلك؟»

«لا بد أن تتلقَّيا تعليمهما. لكنني لا أستطيع إقناعَ جوستاف بفكرة أن يكون لدينا مربية مقيمة.»

كانت ابتسامة كلير شقيةً حتى إن جورجيا ارتابت أن يكون ثمة فخ. حين التقت جورجيا بالبروفيسور مالفوي في حفل العشاء في بروكسل، كانت في غايةٍ من الاضطراب، حتى إن الذكرى الوحيدة التي احتفظت بها عنه كانت ذكرى مشوَّشةً عن كرم أخلاقٍ هائل يشمل به كلَّ مَن حوله، بالإضافة إلى صمتٍ مهيب.

سألت جورجيا كلير: «هل درجته فخرية؟ أليس عالِمًا حقًّا؟»

عند سؤاله انفجر كلير في ضحكٍ شبه هستيري.

ثم قال وهو ينهج: «قطعًا. إنها فخرية. إنها تفاهات يسلِّمونها إلى أشخاصٍ ذوي منزلة رفيعة، لا يعرفون كيف يكتبون أسماءهم.»

فقالت ميفيس تشرح بتفاخر: «أحيانًا ما يرتدي الملك والملكة لدينا الزيَّ الأكاديمي للتخرُّج. لكنهما لا يضطران إلى الخضوع للاختبارات أولًا. فالعائلة المالكة الإنجليزية تعرف كلَّ شيء.»

غيرَ مدركةٍ أنها خفَّفت من توتُّر الموقف، سرَّ ميفيس نجاحُها في إضحاك الجميع.

أما جورجيا فقد شعرت أنها عوملت بفظاظة. فقد جعلها الموقف، مقرونًا بأسلوب السيدة فاندربانت النيِّق في التعامل، في ارتباك وانزعاج.

وبينما هي تتمشى مع الكونت تحت ضوء النجوم بعد خروجهما من المنزل؛ لكيلا يلوثا الصالون بدخان سجائرهما، سألته باستياء: «لماذا ضحِك كلير من سؤالي العادي؟»

فأجابها بلا اكتراث: «إنه مجنون.»

«من المؤكَّد أنه غريب الأطوار. من الأفضل أن نتصارح يا جوستاف. إذا كان سيبقى هنا، فلن أبقى أنا.»

«فلتأخذيه وعدًا مني إذن يا عزيزتي. من المؤكَّد أنك أنتِ مَن سيبقى.»

وقد ضحِك هو الآخر لسبب غير مفهوم أثناء كلامه.

وكان الموقف الثاني أكثرَ إزعاجًا، بما أنه جمعها في واقعة بغيضة مع مضيِّفتها. كان المنزل مبنيًّا على منحدرٍ، فكانت هناك حجرات أسفل درجات السُّلم والشرفة الأماميتَين. ولمَّا لم يكن أحدٌ قد أطلع جورجيا على المطابخ، قرَّرت ذات صباح، بصفتها سيدةَ المنزل المستقبلية، أن تستكشف الطابق شبه السفلي.

حين فتحت البابَ المؤدي إلى أسفل، نزلت درجاتٍ عريضة حتى وصلت إلى قاعةٍ بهية المنظر. كان باب المطبخ مفتوحًا، كاشفًا عن اثنين من الخَدم. أحدهما القروية الممتلئة الجسم التي قدَّمت إليهم وجباتهم خارج المنزل. والآخر كان يرتدي زيَّ أهل البلد؛ سروالًا قصيرًا أصفرَ متسخًا من جلد الماعز، وجواربَ من الصوف الممشَّط الأزرق مربوطةً بشُرَّابة، ومعطفًا طويلًا أزرقَ بصفَّين من الأزرار، وقبعةً كبيرة سوداء من اللَّبَد.

تحت ظلِّها التمعت عيناه في وجهه الأحمر الضخم وهو يوجِّه بريقهما نحو جورجيا. بدا وجهه مألوفًا وإن كانت لم تستطِع أن تتذكَّر موقفًا جمعهما قبل ذلك.

وعند رؤيتها هبَّ واقفًا وسار متعثرًا نحو الباب الخارجي، من دون أن يخلع قبَّعته. وفي الحال لاحظت أن الجو كان معبأً بدخانٍ كثيفٍ وأنه كان يخبئ غليونًا، وهو ما قد يكون السبب لانسحابه.

كانت لا تزال ترنو إليه حين سمِعت صوت السيدة فاندربانت.

«إذا احتجتِ أيَّ شيء، فما عليك سوى أن تدقي الجرس وسيأتيك الخدم به.»

استفزَّ جورجيا نبرةُ الاستنكار البارد في صوتها، ودفعتها إلى الدفاع عن نفسها.

فقالت: «إنني على علمٍ بآداب السلوك الصحيحة. فقط أردت رؤيةَ الأجزاء الداخلية من منزلي المستقبلي.»

«سيسرُّني أن أرافقك.»

ومع قلةِ العاملين، كان الطابق السفلي نظيفًا ويحتوي على الأجهزة الموفِّرة للمجهود التي تباهى بها الكونت. لم يكن ثمة أثرٌ للخادم العديم اللياقة، وارتأت جورجيا أنه من الحكمة ألَّا تأتي على ذكره. أجرَت جورجيا حديثًا متكلِّفًا مع مضيِّفتها، ثم فرَّت بأسرعِ ما يمكن صاعدةً لاستنشاق الهواء.

كان الجو في اليوم التالي مثاليًّا، حتى إنه ظل عالقًا بذاكرتها وقتًا طويلًا فيما بعد. فقد كانت السماء شديدةَ الزرقة، حتى إن انعكاسها حوَّل البحر إلى صفحةٍ من الياقوت الأزرق. وقد سرَت ريحٌ قويةٌ فأثارَت الزَّبد وتوَّجت به كل موجة، ودَوَّت بين أشجار الصنوبر مثل نغمةٍ متكررةٍ مكتومة.

كعادتها، أمضت جورجيا يومَها في الهواء الطلق. في الصباح دعاها الكونت لركوب القارب معه والسباحة في البحر. لكنها لم تستطِع البقاء طويلًا في البحر؛ إذ كان هائجًا، وبعد عودتها إلى حمَّام السباحة، رغم شعورها بالانتعاش من الماء المالح البارد، فقد أحسَّت بألمٍ في عضلاتها مما بذلته من مجهود.

حين انتهى الغداء تركت الآخرين، وصعِدت إلى السطح المستوي للمنزل. فاستلقَت على كومةٍ من الوسائد، وانهالت عليها أشعة الشمس، ومرَّت الريح فوق رأسها، وسرعان ما شعرت بالنُّعاس. بدا هديرُ الأمواج في ارتطامها بالصخور وحفيفُ أشجار الصنوبر، الممتزجان معًا، مثل صوت مدفعية آتٍ من بعيد في إيقاعٍ هامس لتخلُد جورجيا إلى النوم على وقعه.

حين استيقظَت كان الجو أبردَ والسماء مغطاة بسُحب بيضاء كثيفة. لم يكن في يدها ساعة، فلم يسَعها إلا تخمين الوقت. كان قد وُضع بجوارها صينية شاي، لكن خاب أملها لمَّا وجدت إبريق الشاي باردًا كالثلج.

قالت تحدِّث نفسها: «لا بد أن الوقت قد تأخَّر بعض الشيء. من الأفضل أن أذهب وأتهيأ للعشاء … تُرى أين صغيرتَي الآن.»

بدا السطح موحشًا وباردًا وهي هناك وحدَها. وبينما هي تحاول الإنصات لسماع صوتهما وسط دوي الأمواج المتكسرة، أدركت مدى افتقادها لهما.

فأقرَّت قائلة: «لا قِبَل لي بالبقاء هنا من دونهما. إن اضطُرتا إلى العودة إلى إنجلترا من أجل دراستهما، فلا بد أن أذهب معهما. لا جدوى من الاستمرار في خداع نفسي. فلستُ امرأة فاتنة. ولم يكن مقدَّرًا لي البتة أن أكون عاشقة.»

وجعلت تضحك من نفسِها ومن ادعاءاتها، وهي تواجه حقيقةَ أنها لم تُرِد منافسة بطلات رواياتها.

وقالت لنفسها: «إنني من أولئك النساء اللواتي يضعْنَ أطفالَهن في المقام الأول. أنا امرأة مضجرة جدًّا.»

كانت تواقة لرؤيتهما مرةً أخرى بعد فراق بضع ساعات فقط. كأن هاجسًا ملحًّا ينبِّهها لإدراك قيمتهما، قبل فوات الأوان. أسرعت تجرجر معطفَ البحر ونزلت السُّلم القصير المؤدي من السطح إلى البسطة.

جذبت انتباهَها عن غرضها رائحةُ تبغٍ قوية. ولمَّا كان أمرًا غير مألوف، توقَّفت تتساءل مَن المسئول عنها.

وقالَت تُحدِّث نفسَها غيرَ مصدِّقة: «أعتقد أن ثمَّة شخصًا يدخِّن في حجرة السيدة فاندربانت.»

نمَّت هذه الفكرة عن تعدٍّ صارخ، حتى إنها شعرت باضطرارٍ إلى إشباع فضولها. تسلَّلت إلى الشرفة المشمسة، وعبَرت إلى نهايتها في هدوء، إلى أن أصبحَت قادرةً على اختلاس النظر داخل الغرفة.

كان ثمَّة شخصان يدخنان ويشربان سويًّا، بجانب منضدة عليها زجاجةُ براندي وكئوس. أحدهما هو القروي القليل الذوق الذي رأته اليوم السابق في المطبخ. والآخر كان السيدة فاندربانت.

وبينما جورجيا تحدِّق في السيجار المتدلي بين شفتَيها، عاودها فزعُ ذكرى محظورة. وفي نفس اللحظة، كأن غشاوةً انزاحَت عن عينَيها، تعرَّفت إلى الرجل. كان البروفيسور مالفوي بشعره الأبيض القصير المجعَّد، لكن دون الوجاهة التي أكسبَتْه إياها النظارة ذات الإطار الذهبي والملابس الرسمية.

عادت بها خواطرها إلى ليلة حفل العشاء في بروكسل، حين استيقظَت لتكتشف أن حجرتها قد تغيَّرت.

فقالت لنفسها: «لم يكن حُلمًا إذن.»

وفجأةً تذكَّرت كيف أن ابنتَيها تشبَّثتا بها وتوسَّلتا إليها ألَّا تأتي إلى الجزيرة. أكَّدت الذكرى المقترنة بحكاية الكونت عن فرسه التي بدَت غير ذات صلة على هذه الفكرة تأكيدًا فظيعًا.

لم يكن حَدْسهما خطأ. كانتا تعلمان أن ثمة خطرًا ينتظرها، لكنها عارضتهما بما لها من سلطة الأمومة. وفي لحظة الإدراك تلك، كانت العاطفة الأقوى هي الغضب العارم من نفسها.

إذ انفجرت غضبًا تقول: «حمقاء! حمقاء! لا بد أن نهرُب في الحال.»

لكنها كانت تعلم بداخلها أن الأوان قد فات بالفعل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤