الفصل الخامس عشر

الحبكة

في صباح اليوم التالي، بعد أن تناولت فطورها في حجرتها مباشرةً، قرَّرت جورجيا أن تنهيَ حالة الترقب التي وجدت نفسها فيها بطرح الأسئلة على الكونت. كانت فرصتها الأولى للتحدُّث إليه على انفراد. فبعد عودتها من الإشراف على عشاء الطفلتَين، في المساء السابق، ذهب الكونت مع كلير إلى جناحه.

إلا أن المهلة كانت في مصلحتها؛ رغم أنها لم تنَم، فقد شعرت بنفسها أكثرَ ثباتًا بعد حصولها على قسط من الراحة، وأكثر استعدادًا لمواجهة أي صدمة جديدة.

وقالت لنفسها بعزيمة: «لا بد أن أعلم الاحتمال الأسوأ. فعندئذٍ سأخطِّط لمواجهته.»

وبينما هي تسلك طريقها من خلال الحجرات المتصلة المؤدية إلى خلوةِ الكونت، شعرت بأنها تراها مجددًا لأول مرة. فمع التغيير الجذري في حالتها، رأت جمالها ورونقها غيرَ مناسبَين، مما جعلها تتساءل إن كانت وقعت ضحيةً لوهم بشع.

لكن لم تَبهت الألوان الرقيقة التي كست حجرة الاستقبال — البني المختلط بالرمادي، والبني الفاتح، وأفتح درجات الوردي المصفر — ولم تشُبْها شائبة مثلها مثل ألوان حجرة المكتب التي غطَّت جدرانها ألواح خشبية ذات لون فضي باهت، واكتسَت أرضيتها ببساطٍ أخضر فاتح، زُين بباقاتٍ من زهورٍ زرقاء يخالطها لون أرجواني فاتح. وقد شكَّلت كل نافذة وشرفة مشمسة إطارًا لصورة المحيط بلونه المائل للخضرة، والبقع الأرجوانية المتناثرة فيه — مثل بتلات طافية من شقائق النعمان — تظلله السُّحب المتسابقة.

كانت المنطقة الخاصة بالكونت هي حجرة التدخين. كانت جدرانها المكوَّنة من جذوعٍ مستديرة صُقلت وسُحِجت حتى أعطت سطحًا شديدَ اللمعة، وقد أُسِّست بقطع أثاث ضخمة من مقاعد وأرائك، مكسوة بجلدٍ ذي درجة فاتحة من اللون الوردي المحمر. والكونت أيضًا، بدا وهو يقوم لملاقاتها مهذبًا ووقورًا كأنه رجل أعمال من الصفوة يرعى شئون مشروع مالي مهم.

نظرت إليه جورجيا وهو يدفع أحدَ المقاعد ثم ينتظرها أن تتحدث. وقد ذكَّرتها عيناه الصافيتان — بزرقتهما الملفتة مقارنةً بوجهه الذي لوَّحته الشمس — بالأمس، حين اختبرت عنفوان البحر المفتوح وبرودته. قبل أقل من ٢٤ ساعة من الآن، كان يضمها بين ذراعيه، ليحميها من بطش الأمواج. ساعتئذٍ أبهرت الشمس عينَيها، وغمرها رذاذ الماء، ونهجت من ابتلاع الماء المالح؛ أما اليوم، فلم يبقَ لديها إلا ذكرى لحظات لسعادة صافية.

قالت لنفسها غير مصدِّقة: «في مثل هذا الوقت أمس، كنت متشبثة به … كنا نتبادل القُبلات … هذا مستحيل.»

وهو بدوره راح يلاحظها بنظرة منتقدة، كما لو كانَت برعمًا ذابلًا أوشك أن يقتلعه من عُروة سترته. بدَت ضئيلةً للغاية، وعيناها غائرتان من قلة النوم، لكنها حين تحدثت كان صوتها ثابتًا.

«أريد أن أفهم بوضوح كل صغيرة وكبيرة.»

فقال يطمئنها: «كم هو مريح أن تتعامل مع سيدة أعمال. لا بد أن أحييكِ على ارتفاع روحك المعنوية. لا بد أن كلَّ ما جرى كان مخيبًا لآمالك إلى حدٍّ كبير، لكنكِ على ذلك لم تبكي قط. وتقبَّلته بمنتهى السرعة … وإنني في الواقع ممتنٌّ لكِ غايةَ الامتنان لإحضاركِ ابنتَيك معكِ إلى هنا … فإنني لم أُرِدهما، كما تتذكرين، لكنهما جعلتاك أكثرَ استجابة للعقل.»

خبَّره الألم في عينَيها بمقدار نفاذ طعنته.

سألته: «أكان ضروريًّا أن تذكِّرني؟ إن عشتُ مائة عامٍ فلن أستطيع أبدًا أن أنسى ذلك، أو أسامح نفسي عليه.»

«لنتضرَّع إذن ألَّا يمتدَّ بكِ العمر طويلًا. فهي قَطعًا مأساة أن تشيخ المرأة وتفقد سِحرها. لكن هلَّا نعود إلى موضوعنا؟ ما الذي تريدين معرفته أولًا؟»

«المبلغ الأدنى الذي تريده مني. ستكون فرصتك أفضلَ في الحصول عليه إن طلبت مبلغًا معقولًا. وتذكَّر أن هناك حدودًا حتى لدى الدجاجة التي تضع بيضًا ذهبيًّا. سوف أوقِّع لك إقرارًا بالدَّين، مع وعد شرف بتحويل المبلغ بعد عودتي إلى إنجلترا مباشرةً.»

هزَّ الكونت رأسه مبتسمًا ابتسامةً واسعة.

ثم قال موضحًا: «معذرة، لكن الشرف عملةٌ غير متداولة هنا. أنا نفسي ليس لي من الشرف نصيب.»

«هل ستسمح لي إذن أن أفوِّض أمي ووكيلي لجمع هذا المبلغ؟»

«أتقصدين أن تطلبي فدية، كأنكِ مخطوفة؟ لا بد أنكِ فقدتِ عقلكِ. ألم أوضح أن الثقة هي أساس عملنا؟ إن لقبي أصيلٌ وهو من أهم نقاط قوَّتنا. إنني معروف في أفضل الفنادق في كل العواصم الأوروبية. وأنفق بسخاء من دون احتمال طلب قرض أو استدانة. إنني من رجال المجتمع. ويجب أن أكون فوق مستوى الشبهات.»

«كيف يمكن أن تكون كذلك وأنت تحتال على الناس؟»

«لأنه لا يوجد ما يمكن أن ينسبوه إليَّ. صحيح أنني بشخصيتي أؤثِّر على صديقاتي فأسلبهن ثرواتهن بطريقة غير مباشرة. لكن العملية الفعلية دائمًا ما تكون عن طريق طرف ثالث.»

لم يبدُ على جورجيا أثرُ خيبة الأمل حين رفض عروضها. فقد قدَّمتها في محاولة واهنة للاحتيال. أما ما أرادته حقًّا فهو استيضاح الموقف.

قالت: «لنفترض أنني كتبت هذا الكتاب، كيف تنوي الاستفادة منه؟»

فأجابها الكونت قائلًا: «كما كنتِ ستفعلين تمامًا. بقبض ثمنِه مقدَّمًا، بحيث لا يتبقى سوى القليل حين يُنشر. لقد فهمت من صديقنا تورش، حين كان في مزاج مرح، أنكِ عادةً ما تحرصين على الحصول على دفعات مقدَّمًا … وأعلم من خبراتي أن النساء كلهن ساذجات وطماعات. ولو لم يكُنَّ كذلك لبارت سلعتي. فمهما يكنَّ ثَريَّات، يُرِدن كلهن استثماراتٍ أفضل.»

«لكنني كان لديَّ سبب. فلديَّ ابنتان لا بد من وَضْع مصلحتهما في الاعتبار.»

«لا تُقدِّمي أيَّ أعذارٍ يا عزيزتي. إنني سعيدٌ أنكِ فطنتِ للأمر. رغم أنني سأدَع تورش يجمع المال، فسوف أحافظ على عادتكِ. بصفتي زوجكِ …»

«زوجي؟»

قال الكونت مبتسمًا أمام وجهها الغاضب: «ألم تكوني تعلمين أننا تزوَّجنا؟ لقد أرسلت بالفعل أولَ تنويهٍ إلى إنجلترا، مكتوبًا تحت صورة لأسرة جميلة، لأُريَهم كم نبدو جميعًا سعداءَ.»

كبتت جورجيا سخطَها. فقد أدركت أنه لا جدوى من أن تنفعل عليه، فلن يكون ذلك سوى تبديدٍ لطاقتها الثمينة.

فسألته ببرود: «لماذا كذبت تلك الكذبة؟»

«لإبعاد الزوَّار. أمكِ يصيبها الدُّوار من ركوب البحار ولن تستطيع أن تأتيَ لزيارتنا متى أرادت. وأوزبرت الضئيل رجلٌ محترم ولا يمكن أن يتطفَّل علينا في شهر العسل وقد عرف الوَضْع.»

«أوزبرت ليس ضئيلًا.»

«عجبًا، لكنني دائمًا ما أراه ضئيلًا. ربما أخلِط بينه وبين أخيه.»

لاحظت جورجيا أن غَيرة الكونت سمةٌ أصيلة في طبيعته التافهة، حتى في تلك الأزمة. فهو مستاء من احتمال أن تكون معجبة برجلٍ آخر وإن لم يكن مغرمًا بها.

فقالت تذكِّره: «لكنه قد يأتي. فإننا أصدقاءُ قدامى. وهو يحمل لنا كل الود.»

قالت ذلك والدافع أن تطمئن نفسَها أكثرَ من إقناع الكونت. فهذا من شأنه أن يساعدها على الاعتقاد بأنها لم تتقطع بها السُّبل تمامًا، وهي تُواجِه خطرَ أن تفقد شجاعتها.

لكن الكونت حطَّم أملَها بالمنطق، وهو يلوِّح بالسيجارة ليعبِّر عن كلامه.

«سيجد صعوبةً شديدةً في تحديد موقع الجزيرة. سوف يأتي إلى سالتسوبدن. وهناك سيكون عليه استئجار زورقٍ بخاريٍّ ليقلَّه، لكن إلى أين؟ فلن يستطيع الإدلاء بالاتجاهات أو الموقع. ولن يُفيده أن يذكر اسمي؛ فقد استأجرنا هذه الجزيرة من الطرَف الثالث المعتاد. من الممكن أن يدوروا طَوال اليوم دون أن يصلوا إلى أي مكان، أو يصلوا إلى مكان خطأ. فهناك أكثرُ من ألف جزيرة، والعديد من المساكن الصيفية.»

وبينما هي تُنصِت إليه بانزعاجٍ متزايد، تذكَّرت كيف أنها تحدَّثت ذات مرةٍ مع أوزبرت عن العناوين ممتدحةً سِماتها السحرية.

«إنها تعويذة يا أوزبرت. مجرد بضعة خطوطٍ على الظرف، لكنها تمكِّن الغرباء في أنحاء العالم من التواصل. أليس رائعًا أنها تصل إليك؟»

وها هي ذي الآن من دون هذا الخيط الموصِّل إلى موقعها. صارت مجرد فردٍ بين سكان الأرض المتزاحمين، بلا عنوانٍ بريديٍّ مثلها مثل عامل تراحيل مجهول الهُويَّة. في تلك اللحظة شعرَت كأنها واقفةٌ على حافة تلٍّ رملي مغمورٍ تحت الماء، راح يتفتَّت سريعًا تحت قدمَيها. وسريعًا لن يبقى منه شيءٌ صلب لتقف عليه.

وإذا بها فجأةً تتذكَّر شيئًا فوجدت فيه ما يؤازرها.

فقالت له: «نسيت شيئًا، وهو أن هذه الجزيرة مميزةٌ قَطعًا. فهي بعيدةٌ عن الأخريات، ولا أعتقد أن ثمة منزلًا آخرَ مثل هذا. من الممكن رؤيته بسهولة عند التحليق بطائرة.»

فقال الكونت متفقًا معها في الرأي: «مؤكد أنه يمكن لأي شخصٍ إذا بحث عنه أن يراه من الجو. لكن ليس لدى أوزبرت وصفٌ به. فإنكِ في خطابكِ الأخير إلى إنجلترا قلتِ إن الجزيرة «خلابة» وإنكِ سوف تصفينها لاحقًا.»

«كيف عرفت ذلك؟»

«لقد فتحت الخطاب. وذلك يذكِّرني بشيء. وهو أنني سأكون رقيبًا على كل خطاباتكِ، فلا تغلقي أو تختمي أيَّ شيء. إنني على استعدادٍ لمواجهة كل المراوغات. وفي المستقبل سأملي عليكِ رسائلكِ.»

«كيف ستُفسِّر إذن هذا الزواجَ المزعوم؟»

«هذا أمرٌ سهل. خوفكِ من الدعاية. لكن أول ما يجب أن تفعليه هو نقلُ رصيد أموالكِ إلى حسابي في بنك ستوكهولم. الأمر مستعجل. فإن مُؤننا انخفضَت بشدة. وإذا لم نُعِد التزودَ فستتضور ابنتاكِ جوعًا لأقصى درجة.»

فوعدَته جورجيا من فورها قائلة: «سوف أرسل الطلب حالًا.»

«اليوم. وعليكِ بعد ذلك، وبأسرعِ ما يمكن، أن ترسلي ملخَّص روايتكِ الجديدة إلى تورش، مع دفعة أولى ليحصل على حقوق نَشْرها الإنجليزية والأمريكية.»

وبينما هو يشرح لها، انبثق في قلب جورجيا وميض ضعيف من الأمل، شبيه بالشرر الناتج عن احتكاك الحجر قبل اشتعال النار.

فسألَته: «هل كنت جادًّا بشأن حبكتك؟ هل أكتب إلى هارفي ملخصًا بهذا — هذا الموقف؟»

ردَّ الكونت مؤكدًا: «إنني جاد بالتأكيد. أنا فخور ببنات أفكاري. ومع روائية بقدراتكِ، ستكون الكتابة سلسة. بإمكانكِ أن تصفي مشاعركِ كلَّها وسيوفِّر لكِ كلُّ شيءٍ هنا جوَّ بيئتك المحلية. وبذلك يأتي الكتاب أصيلًا وواقعيًّا. لن تحتاجي إلى ابتكار أي شيء؛ ومن ثَم لن تستغرق الكتابة وقتًا طويلًا. فالوقت ذو أهمية لديَّ.»

خفضت جورجيا نظرها إلى الأرضية الخشبية المجلوَّة، لتخفي اللمعة في عينَيها. وقالت في نفسها: «كل شيء.» لكنها ما إن بدأت تلمح الفرصة التي ستمنحها لها الرخصة الأدبية، حتى حطَّم الكونت آمالها.

«لا بد أن يكون هناك بعضُ الاختلافات المهمة بالطبع. عليكِ الاحتفاظ بالفكرة الأساسية، لكن يجب ألَّا يكون هناك ما يربط بينكِ وبين البطلة. فسوف تكون المؤلِّفة ذات الكتب الأكثر رواجًا في روايتكِ شابةً وفاتنةً وغير متزوجة. يستدرجها إلى الجزيرة نذلٌ جذاب، حيث يحتجزها ويجبرها على كتابة الروايات المثيرة لمصلحته. ويهدِّدها بالقتل حال رفضها. الشرير في روايتكِ سيكون شخصًا غليظًا ولا يلجأ إلى التخطيط.»

«فهمت.» كان على جورجيا أن تجاهد من أجل السيطرة على صوتها وهي تسأله سؤالًا مصيريًّا. «كيف ستنتهي الرواية؟»

مشى الكونت إلى النافذة فأمكنها أن ترى وجهه جانبيًّا على خلفية السماء الزرقاء. بدا عليه الاستغراق في التفكير حتى ضحِك من فكاهة أفكاره.

«ستزعزع البطلة ولاء أحد أفراد عصابة الكونت. لا بد أن تكون شخصيته أكثرَ إثارة من أوزبرت التافه ويشكِّل البُعدَ العاطفي في الرواية. ولكِ أن تفعلي ما تشائين بخصوص مصير الشرير.»

«أمره لا يهمني لدرجةِ الاكتراث لمصيره. ثمة أمرٌ آخر أود معرفته. وهو متى ستسمح لنا بالعودة إلى إنجلترا؟»

«بمجرد إتمام الكتاب. لكنني لن أكون هنا. فبمجرد الحصول على المال من الدفعات المقدَّمة لكتابكِ، سأرحل للعثور على ذلك المغفَّل الثري. السيدة أو الرجل الذي سيموِّل مشروعنا الجديد.»

«لقد تكبَّدت كل هذا العناء وخطفتني في سبيل أن توقِع به. تبدو المسألة أعقدَ من أن أصدِّقها.»

«بالعكس، إنها منطقية تمامًا. هل تذكرين تلك القصةَ الخيالية التي تحكي عن الأميرة المسجونة في برج؟ كان لدى منقذها حبل، لكنه لم يستطِع أن يلقيه عاليًا، وهي لم يكن لديها شيء لتدليه له سوى شعرة واحدة. هكذا ربط خيط حرير بتلك الشعرة، وسلك بالخيط، ووتر بالسلك، وحبل بالوتر. خطوات في غاية العبقرية، ونهاية سعيدة.»

أمسك الكونت عن الابتسام أثناء الشرح.

«هذا ما يحدث في حالتكِ. إن لم أستطِع الحصول على مبالغَ كبيرة، فلا بد أن أحصل على مبالغَ بسيطةٍ تساعدني في الوصول إلى المبالغ الكبيرة. ورجل بوضعي الاجتماعي المرموق وسُمعتي الطيبة لا يمكنه السطو على بنك. فإنها مخاطرة كبرى.»

«يبدو إذن أن هذا كلُّ ما في الأمر.»

حين قامت جورجيا عن مقعدها تقدَّم الكونت مسرعًا ليفتح الباب.

وقال: «فلتكوني فتاةً مطيعة وسرعان ما ستعودين إلى إنجلترا. أعدكِ وعدَ شرف.»

فقالت تذكِّره: «شرف؟ الشرف عملةٌ لا أراها مجدية هنا مثلها مثل الفرنك الفرنسي في حافلة في لندن.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤