الفصل السادس عشر

بلا عودة

لمَّا كانت جورجيا في غايةٍ من الانزعاج لدرجةٍ لا تسمح بمواجهة أي أحد، ربضت في حجرة المكتب الأنيقة بألوانها الباهتة. فقد زادت هذه المقابلة من جزعِها بدلًا من أن تُخفِّف عنها الضغط. لقد أكَّد الكونت أسبابَ ثقته في فقدان الاتصال وانقطاع السبل إلى العالَم الخارجي، لكن رغم أن إدراكها لعزلتها عن العالَم كان صادمًا، فقد كانت أسوأ الاحتمالات الواردة لا تزال يكتنفها الغموض.

بينما هي تحملق بذهول إلى رُقَع القماش المزركش بلون رمادي فاتح، المدمجةِ في الجدران المطلية بلونٍ فضي، دخلَت عليها السيدة فاندربانت من حجرة الاستقبال. تذكَّرَت جورجيا الحال التي رَأَتها عليها آخرَ مرةٍ فهبَّت واقفة، في حالةٍ من التوتر والصمت، إلا أن السيدة العجوز تحدَّثت إليها بصوتها المعتاد، كأن شيئًا لم ينكشف.

«عرفت أنكِ ستباشرين الكتابة اليوم، أليس كذلك؟ هل ستنزلين لتناول الغداء أم تفضِّلين أن يأتيَ إليكِ في حجرتكِ؟»

فأجابتها جورجيا بأسلوبٍ دفاعي: «لا. لا أريد أن أُحتَجَز بعيدًا عن ابنتيَّ.»

«لكنهما ستكونان في أمانٍ تام في غيابكِ. فسوف يُعنى برعايتهما شخص خشيةَ أن تسقطا في البحر. إن مصالحنا واحدة فيما يتعلق بهما. إلا أنني أحذركِ من اللجوء إلى الحِيَل. هل تفهمين ما أقصده؟ لقد وضعتِ في أيادينا سلاحًا في غاية الأهمية.»

«هل تقصدين أنهما رهينتان لديكِ؟»

«إنما أذكركِ بأنكِ تكتبين من أجل إطعامهما. والآن دعينا لا نتطرق إلى هذا الموضوع مرة أخرى … إن جريتا لا تفهم الإنجليزية، لكن أرجوكِ أن تكتبي ملحوظة إن لم يكن الغداء كما تريدين. فالكونت يود أن تحصلي على كل أسباب الراحة والاهتمام.»

«شكرًا.»

كانت جورجيا تتحدَّث بآلية، وقد أذهلتها عودة السيدة فاندربانت للعب دور المضيِّفة. كان من المستحيل أن تحدِّد ما إذا كانت المرأة تأبى التخلي عن سلوكها المتصنع، بهدف المران، أم إن التكلُّف قد صار عادةً مكتسبةً لديها فعلًا. وعلى ذلك فقد انتابها الشعور المعتاد بالاستراحة من التكاليف الاجتماعية، حين غادرت السيدة فاندربانت الحجرة، تاركةً إياها بمفردها.

وبينما هي تحدِّق ببلادة في الجدار المقابل، لاحظت انعكاس صورتها على مرآة ذات إطار فضي. ومع أنها كانت حديثة ومختلفة تمامًا، فقد ذكَّرتها بالمرآة الملطَّخة القديمة في بروكسل التي اتسعت لتحتوي ضيوفَ العشاء في ذلك الحفل. منذ ذلك اليوم والزمن يمضي بلحظات الأمان الثمينة التي تفصلها عن مصيرها؛ بَيْد أنها بدلًا من التحسُّر على الفرصة الضائعة، وجدَت في الذكرى عزاءً لم تتوقعه.

فقد تحدَّثوا ساعتئذٍ عن الرجل الذي أغرق زوجاته في حوض الاستحمام؛ وهاجم الكونت الحماقة الإجرامية للقتل، معربًا أن أي قاتل لا بد أن يكون إما وحشًا أو مخبولًا.

وقد بدت كلماته صادقة؛ إذ كانت جورجيا مقتنعةً بأن حياته أغلى لديه من أن يخاطر بتعريض نفسه للاحتمال البشع أن يموت شنقًا. كانت المبادئ الأخلاقية لعملها المتخصِّص بوصفها كاتبةَ رواياتِ إثارةٍ تحتِّم أن يكون أذكى المجرمين هدفًا لفريق تحقيق لديه من القدرات الذهنية ما يضاهي قدرات هذا المجرم، إن لم تكن تفوقها. وكانت جورجيا مقتنعة بأنه على الرغم من وجود نسبة معينة من الألغاز المستعصية على الحل، فسيظل القتل حتمًا هو أخطرَ أنواع الجرائم على المجرم، بما أنه حتى فيما يُسمَّى بالجريمة الكاملة، لا يمكن التعويل على ألَّا يُكتشف بمحض صدفة غير متوقَّعة أو خطأ غير مقصود.

استقر في يقين جورجيا أن الكونت كان مجرَّد وغد ومحتال عتيد؛ ولما كانت متأكدة كذلك من أنه لا يستطيع احتجازها لأجلٍ غيرِ مسمًّى من دون إثارة الشبهات حوله، بدا أن لمحنتها زمنًا محدَّدًا.

ولمَّا راودها أملٌ ضعيف لأول مرة، شرعت تفكر في الاحتمالات المتاحة للهرب. ثمَّة أملان ضعيفان فقط لا غير. فأمامها أن تتدبَّر طريقةً تجعل بها تورش يفهم أن روايتها المقررة ما هي في الواقع إلا مأساتها؛ أو أن تأخذ بالاقتراح الساخر للكونت، وتجد حليفًا لها على الجزيرة.

قالت جورجيا: «قد تكون كلير متورطةً رغم إرادتها. لكن لن يؤدي بي هذا إلى نتيجة. سوف أكتب رسالةً إلى البنك، وأتمنى أن يكون لدى أحد الأشخاص هناك قدراتٌ خارقةٌ فيُدرك أن ثمة خطأً ما.»

حين دخلت جورجيا إلى حجرة الاستقبال، استوقفها منظر كلير، وهي جالسة في استرخاء على مقعد وثير. كانت ترتدي سروالًا، لكن مع الاحتفاظ بزينتها ورموشها المصطنعة. ولما نظرت جورجيا إلى أصابعها الرشيقة وأذنَيها الصغيرتَين، تساءلت لماذا كانت غافلةً عما بدا جليًّا لميرل منذ اللحظة الأولى.

حدَّقت الفتاة بعدوانية نحو جورجيا، كأنها تتوقَّع منها التوبيخ وتستعد له بالرد. لكن لمَّا لم تنطِق جورجيا بشيء، تابعَت كلير تفحُّص أظافرها.

ثم تذمَّرت قائلة: «تبًّا، لم أتخلَّص بعدُ من أثر مواد تحميض الصور على أظافري. لا بأس ما دامت فداءً للحب. ولكن لديَّ مجموعة رائعة من الصور لأرسلها إلى أهلكِ في إنجلترا. تَبدين سعيدة جدًّا فيها حتى إنهم سينخدعون تمامًا. نخطط لإرسال صورة شهريًّا حتى يظلوا مطَّلعين على آخرِ أخباركِ. ولا يوجد ما يمكن أن يشيَ بالموسم الذي التُقِطت فيه مع خلفية الصخور والبحر؛ لذا لن يعرفوا أن الصور كلها التُقِطَت في نفس الوقت. كما تعلمين، كان علينا التقاط نظرة الحب المتألقة في عينيكِ.»

هنا تذكَّرت جورجيا كثرةَ تغيير الملابس، وحرصَهم على التقاط الصور لها، وكيف أجبروها على ارتداء الفرو في يومٍ شديد الحرارة.

فعلَّقت بهدوء: «لقد دبرتم لكل صغيرة وكبيرة.»

«بالتأكيد. نحن نرسم تفاصيلَ كل خطة. هذا هو سرُّ نجاحنا. لكنكِ كنتِ ساذَجة إلى حد كبير.»

قالت جورجيا: «كنت كذلك.» وجلست قُبالة كلير. ثم قالت: «إنكِ على علم بموضوع الكتاب. سوف أجعلكِ واحدةً من شخصيات كتابي. فهلَّا تُعطينني بعض التفاصيل عن حياتكِ؟»

«فلتسألي.»

«كم تبلغين من العمر؟»

«اثنين وعشرين.»

«اثنين وعشرين فقط … كيف تورَّطتِ إذن في هذه الأعمال؟»

حملقت كلير فيها بعينَين متشكِّكتَين عِدائيتَين.

ثم رضخت وأجابت بعد هنيهة: «حسنًا. ها هي ذي القصة. أنا يتيمة، نصفي كوبي، ونصفي الآخر أمريكي. ورِثت ثروة. ثم التقيت بجوستاف، فاستولى عليها. إلا أنه لم يكن بارعًا كعادته فاستطعت معرفةَ أسراره. وتملَّكني الغضب. فانقضضت عليه وتشابكنا في عِراك. يا إلهي، كانت معركة رائعة. لقد غرزت أسناني فيه وهو أصابني بالكدمات في كلتا عينيَّ. إنه يحب الجرأة. ولذلك تزوجني.»

«هل يُفترض بي أن أهنئكِ؟»

«فلتنزلي من عليائكِ. إنني شريكته في كل شيء. وأنا مولعة بكلِّ ما في الأمر، بإثارته ومجازفته. كان من الممكن أن أتزوج من أي شاب أمريكي شريف، لديه مبلغ ضخم تأمينًا على الحياة، يحترمني لدرجة بالغة فلا يقدِم على إيذائي بالضرب. لكنني كنت سأفتقد الحياة. خلاصة الأمر، إنني أفضِّل أن يلويَ جوستاف عنقي على أن أعود إلى الولايات المتحدة على متن طائرة فاخرة.»

استمعت جورجيا إليها وقد انطفأت آمالها. فقد بدَت محاولةُ استمالة هذه الفتاة المهووسة بشغفها محاولةً عقيمة. هذا إذن هو سرُّ الابتسامة التي ارتسمت على شفتي الكونت وهو يدلي بالاقتراح. لكن لمَّا كانت كلير تتحدث بلا تحفُّظ، استجمعت جورجيا شجاعتها لتُشير إلى مصيرها.

فقالت: «قلتِ إنكِ على علمٍ بكل شيء. أعتقد أنه سيُسمح لي بالعودة إلى بلادي حين أنتهي من هذا الكتاب، أليس كذلك؟»

أشاحت كلير بنظرها.

وقالت بلا مبالاة: «بالتأكيد. لقد وجدتِ رحلة المجيء سهلة، أليس كذلك؟ كذلك رحلة الرجوع، كلُّ ما هناك أن القارب سيكون في الاتجاه الآخر.»

«هذا غيرُ حقيقي. أريد معرفةَ كل شيء.»

سحبت كلير نفَسًا ثم نفثت الدخان من منخارَيها قبل أن تتكلَّم بنبرة ازدراء.

«أنتِ حمقاء وأنا لا أشفق على الحمقى. ما الذي جعلكِ تتخيَّلين أن جوستاف قد يُغرم بكِ أنتِ؟»

فأجابت جورجيا بجرأة: «ربما لأن ثمة رجلًا أفضل منه بكثير مغرَم بي.»

«أعلم. لا بد أنه ناشرٌ ما ذو نظارة كبيرة العدسات. لا يمكن أن تقارني بين جوستاف وأي رجل آخر. لقد عشت معه. أنتِ لا تفقهين شيئًا.»

«إننا لا نقصد الشيء نفسه حين نتحدَّث عن الحب.»

هذه المناوشة جعلت جورجيا تدرك أن كلير كانت لا تزال تشعر بالغَيرة منها، وأنها لا يمكن أن تتوقَّع منها رأفة. وقد كانت عينا الفتاة خاليتَين من الشفقة حين تحدَّثت أخيرًا.

«ما زلتِ بي تستفزينني. وأنا سأعطيكِ ما تريدين … إنني مهووسة بجوستاف. أحبه حبًّا مَلَك عليَّ قلبي وعقلي. لكنه في البداية لم يكن سوى الرجل الذي سلب مني ثروتي. لماذا تزوجته في اعتقادكِ؟»

«كيف لي أن أعرف ذلك؟»

«حمقاء. السبب هو أنني أردت البقاء على قيد الحياة … هل تعتقدين أنهم قد يسمحون — لأي شخص — بالعودة ليكشفَ سرَّهم؟»

«تقصدين …»

وإذا بصوت جورجيا يخذلها والحجرة تصير غائمة. ثم شعرت بحافة كأس تحتكُّ بأسنانها وهي تبتلع بعضَ البراندي تلقائيًّا قبل أن تفتح عينَيها.

وكلير تقول ساخرة: «لم تقوي على استيعاب الخبر.»

لمَّا جرحتها نبرة الازدراء في صوتها، جاهدت جورجيا لتقوم.

وقالت: «إنني بخير. كلُّ ما في الأمر أنني كنت أنتظر سماعه. وإن كنت لا أستطيع تصديق ذلك. فلا يمكنكِ إقناعي بأن الكونت يستطيع أن يرتكب جريمة قتل.»

«لن يشارك في تنفيذها أبدًا. ولن يعلمَ شيئًا عنها كذلك. فالحوادث دائمًا ما تحدث في غيابه، وهو دائمًا ما يشعر بالأسف الشديد بعدها. فان العجوز هي مَن تُدبِّرها. فهي لن تقبل أبدًا تعريضَ جوستاف للخطر. لذلك فهي تخبر البروفيسور بالخطة وساعة تنفيذها، ويقوم هو بالباقي. فهو لا يملك مخيِّلة. والقتل ليس بالشيء الجديد عليه.»

«كيف … كيف سينفِّذها؟»

«الأمر سهل، مع امتداد هذا البحر الشاسع حولنا وعدم وجود جيران. سوف يصطحبكِ في نزهةٍ بالقارب. وحين تصيران على بُعد ميل، سيشرع في تصرُّفاتٍ غير لائقة، وساعتئذٍ ستضطرين إلى القفز من القارب بالطبع.»

«لا أستطيع أن أصدِّق ذلك. حتى هم لا يمكن أن يفعلوا ذلك. فهم بشَر، وليسوا شياطين.»

«آمم. فان العجوز ليسَت بالأم الحنون. فقد شاركت في عصابةٍ للخطف في الولايات المتحدة، وكان حرصها دائمًا على سلامتها. كانت تحصُل على الفدية، لكنها لا تُعيد الرهائن إلا وهي غير قادرةٍ على إفشاء السر … فهمتِ ما أعنيه؟»

وجهُ جورجيا الذي زاد شحوبًا والهلع المُطلُّ من عينيها أخبرا كلير بأن جورجيا قد فهمت مقصدها.

سألتها جورجيا بصوت مبحوح: «وابنتاي؟»

«ستُرسلان إلى إنجلترا ما دامتا لا تعرفان شيئًا. إنني أحذركِ الآن. لا تدعيهما تشمَّان خبرًا بأي شيء قد تشيان به. فكلمة واحدة ستكون كافية لفان العجوز. إنها لا تجازف.»

أحسَّت جورجيا أن كلير تخبرها بالحقيقة. فهي لم تحاول تخفيفَ الصدمة قبل ذلك، ولم تكن لتخفي عنها أيَّ أخبارٍ كارثيةٍ كي لا تتألم. في الواقع كانت الصغيرتان بلا أهميةٍ في المنزل مثلهما مثل أي قطعة أثاث. لم يكن أحدٌ يأبه لهما إلا الخدم السويديون. لم يكن لهما أي وزن إلا فيما يتعلق بعلاقتهما بها، ولن يدوم هذا إلا مدة تأليفها الكتاب.

بشعور مؤلم بالامتنان، أدركت جورجيا أنهما من الممكن أن تدليا بشهادة مفيدة على مأساتها، إذا لُقِّنتا كل التفاصيل قبل إعادتهما إلى جَدتهما. من الممكن أن تحكيا كيف أن السيدة فاندربانت ظلت تبكي طوال الليل، وكيف أن البروفيسور غطس حتى أصابه الإعياء، على أمل العثور على جثة أمهما.

قالت لكلير: «لا علم لهما بشيء. كيف لهما ذلك؟ فحتى الأمس لم أكن أنا نفسي على علم بأي شيء. وسوف أحرص على أن تظلا جاهلتَين بالأمر. فلن أجعلهما تشكَّان في شيء.»

رغم الدفء المنبعث من الشمس، شعرت جورجيا بجمود وبرودة وهي تنزل سُلم الشرفة، ذاهبة إلى الحديقة الصغيرة. كانت كأنها قد غادرت للتو عيادةَ الطبيب الذي أخبرها بدنو أجلها، عدا أن مشاعرها الشخصية في حالتها كانت مكبوتة لاضطرارها أن تمثل دورًا.

أثناء نزولها الطريق المؤدي إلى حمام السباحة، لاحظت التفاصيل كأنها تخزنها في رأسها من أجل المستقبل، فانطبعت في ذاكرتها كل التفاصيل: ورق أشجار الصنوبر الإبرية على المسار الزلق، والبحر ولون مياهه الخضراء المختلطة بالزرقة؛ إذ يظهر من خلال جذوع الأشجار، وأصوات النورس ورائحة الصمغ. وفور أن سَمِعت جورجيا صيحات ابنتَيها حتى حملت نفسها على الدندنة بلحنٍ مرحٍ عند اقترابها من حمام السباحة.

كانت ميرل تؤدي حِيلًا مائية وتتلقَّى الثناء من الجمهور، من دون إعطاء أي اعتبارٍ للعوَّامة المطاطية التي كان لها الفضل الأكبر. وكان الجمهور هو ميفيس التي راحَت تنتقل بين التصفير والتصفيق والهتاف بهتافاتِ تشجيعٍ بالتناوب.

«امتطيه يا راعية البقر.»

فسألتهما جورجيا إذ جلست على الصخرة بجوار ميفيس: «مَن علمكِ هذه التعبيرات؟»

فأجابتها ميفيس: «الآنسة جونز.»

فلما تذكَّرت جورجيا الاهتمامَ الذي كانت ابنةُ القس تولي مفردات طلابها إياه، احتجَّت على ادعائها.

«لا يمكن أن تقول الآنسة جونز كلامًا كهذا أبدًا.»

فتوقَّفت ميرل عن الحركات التي كانت تؤديها وأفصحت تقول: «إنها تقوله أحيانًا. لكن فقط حين لا نكون مصغين.»

كانت جورجيا ستضحك لو كانت في ظروف أفضل، لكنها ذلك الصباح انتابها شعور مبهم بالجزع. مثل العديد من الكبار، كانت قد نسيت كيف أنها في صغرها كانت تستمع عرَضًا إلى محادثاتٍ لا يجوز للصغار سماعها، من دون أن تشيَ بأي دليل على معرفتها بمعلومات ممنوعة.

وبينما هي تحدِّق بارتيابٍ في وجهَي الصغيرتَين البريئَين، بدأت ميفيس تقهقه.

«هل تعلمين يا أماه ماذا خطر لنا ليلة أمس، حين لم يكن هناك عشاء ولم نستطِع العثور على أحد، وكان كل شيء غريبًا ومريبًا؟»

وتدخَّلت ميرل قائلة: «حَسْبُنا أننا قد جئنا إلى بيت عصابة شريرة. مثل تلك التي نراها في الأفلام.»

فقالت جورجيا محتدَّة: «لكنكما لم تشاهدا فيلمًا من ذلك النوع من قبل. فغير مسموح لكما إلا بدخول أفلام الأطفال.»

«تلك الأفلام سخيفة. كانت روزا تصحبنا دائمًا لأفلام الكبار. فقد كان لديها نفوذ.»

فقالت ميفيس لتفسِّر: «نعم، كانت تجعل قاطع التذاكر يُدخِلنا.»

في البدء، لم تستطِع جورجيا ربط ذلك الاسم بأي شخص، حتى تذكَّرت خادمةً حسناء المظهر لكن لم يكن أداؤها لواجباتها مُرضيًا، اشتغلت لديها مدة قصيرة، لكن كانت الفتاتان مولعتَين بها.

وكانت هذه أولَ مرة تدرك فيها الباعثَ الذي يدفع بعضَ الأمهات إلى ضرب أطفالهن لتعليمهم أن يتحاشوا الخطر. ورغم أنها استاءت من نفسها لتخويفهما، فقد تحدَّثت إليهما بصوتٍ خفيض غاضب.

«أنا مستاءة منكما. فالسيدة فاندربانت ليست مضيِّفتنا فحسب وإنما سيدة عالية المقام. وقد منحتكما الأسبابَ لقضاء وقت ممتع، وأنتما تردَّان على كرمِها بادعاء أنها عضوة في عصابة. إنه ليس بالكلام المضحك ولا الملحوظة الذكية. عِداني ألَّا تستخدما تلك الكلمةَ البغيضة «أعضاء عصابة» مرة أخرى.»

شاعرةً بالتأنيب من عينَيهما الفزِعتَين، سارت جورجيا مبتعدةً عن حمام السباحة، وقد شعرت أنها لا تستطيع الاحتمالَ أكثرَ من ذلك. مع أنها كانت تعتقد أن الصغيرتَين ستكونان في أمانٍ ما دامتا جاهلتَين بما يحدث؛ فقد كانتا في الواقع تلعبان على تلٍّ من البارود. وكلمة واحدة كانت ستشعل الشرارة. فلو كان أحدٌ سمِعهما في حديثهما عن أفراد العصابة لَشكَّ أنهما تعلمان شيئًا، وأيُّ معلومة مهما تكن صغيرة فإنها بالغة الخطورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤