الفصل العشرون

الرسالة

لم تنَم جورجيا إلا قليلًا في الليلة السابقة لزيارة الآنسة جونز. فقد بقيت ساعاتٍ ساهدةً من الانفعال، وحين أغمضت عينَيها أخيرًا أيقظها صوتُ البحر.

كانت معتادةً عليه تمامًا؛ إذ كانت تعيش على الساحل، حتى إنها لم تنتبه له من قبل، إلا باعتباره موسيقى مصاحبةً للفكر. من ثَم فقد كان شعورها بأن صوت البحر دخيل عليها هو شعور جديد منذر بسوء. فمجرد قدْرته على أن يقلِق راحتها يدُل على أنها بصدد فقدان سيطرتها على نفسها.

لم يكن ذلك الهدير البطيء الرتيب الذي اعتادَته. فما جعل أعصابها تضطرب أن الضوضاء كانَت متقطعةً ومتفرقةً؛ نظرًا لعدم تساوي الصخور التي تكسَّرت عليها أمواج المحيط. فكان يأتيها أحيانًا زئير مدوٍّ لأمواجٍ متكسرة يتبعه صوت قعقعة الموج في انحساره، ثم أصوات القرقرة الغليظة الناتجة عن تدفُّق الماء وسط الشعاب المرجانية مستكشفًا شقوقها. وأخيرًا يسود الهدوء مدةً وجيزةً قبل الهجوم التالي.

خبرت جورجيا نفسها بأن هذه الأصوات ستظل تتردد في أذنَيها إلى الأبد. ولا تملك هي أن توقفها. فإذا سمحت لها باختراق حاجز هدوئها فستجلِب لنفسها انهيارًا عصبيًّا، حيث من الممكن لخيالاتها المروعة أن تتنامى في مراحلَ متصاعدة من الهستيريا، حتى تبلغ ذروة الجنون.

ثم قالت تُحاجُّ نفسَها: «إن البحَّارة وخفر السواحل هم ناس عقلاء وراشدون. ويشتاقون إلى صوت البحر إذا اضطُروا إلى العيش بعيدًا عن الشاطئ. فهو يبعث على الاسترخاء. لكنني تركته يُوتِّرني. سأفكِّر بدلًا من ذلك في الآنسة جونز. الآنسة جونز العزيزة.»

بدا غريبًا أن تحافظ على الرسميات بأن تذكر لقبَها في تلك الأزمة، لكنها لم يسبق أن نادتها باسمها الأول قط.

حدَّثت نفسها قائلة: «إنها حجر عثرة في سبيلهم. بدَا لهم خطة مضمونة أن يخفوني في هذا المكان المهجور. وظننتُ أنني هلكت. لكنها عثرت عليَّ بمنتهى السهولة. إنني متأكدة أنهم مذعورون الآن.»

كان من المطمئن استنتاجُ أنهم ما داموا اختطفوها في سعيٍ يائسٍ للاستيلاء على مالٍ ضروري، وليس بخطةٍ محكمة، فربما يكون هناك الكثير من الثغرات. فلم يكن مختطِفوها يعلمون ما سيُواجهونه، أو كيف يتحاشون تطورًا غيرَ متوقَّع.

لكنها عندئذٍ تذكَّرت أن الناس وهي مذعورةٌ تغدو خطيرة؛ لأن اليأس ينتابُها. ربما يندمون على إقدامهم على هذا الأمر، بما أن عائده غير متناسبٍ مع مخاطره، لكن ما داموا قد بدءوه، فلا بد أن يتمُّوه بأي ثمنٍ بما يضمن سلامتهم.

شاعرة أنها لا بد أن تكتم على الأقل صوتَ البحر، خرجت جورجيا من الفراش لتبحث عن قطن. وبعد أن سدَّت أذنَيها، لبثت عند النافذة، تطلُّ على طبقات الزَّبد الكثيفة وهي تتراكم على الصخور المتوارية.

قالت جورجيا لنفسها: «بإمكاني أن أتركَ نورَ حجرتي مضاءً طوال الليل. لكن ليس هناك أحدٌ ليقول: «ثمة شخص مستيقظ في ذلك المنزل.» فلا توجد سفينة ولا قارب.»

وما هي إلا لحظة حتى ابتهجَت جورجيا أنها لم تُنسَ؛ فقد تبيَّنت أن ثمة طريقةً لتتواصل بها مع الآنسة جونز. فقد تركت الصغيرتان إحدى جرائدهما القديمة على كرسيها. بإمكانها أن تقتطع منها الحروف وتلصقها معًا لتكوِّن رسالة قصيرة.

ومن دون أن تعطيَ نفسها الوقت لمزيدٍ من التفكير، بدأَت تؤلِّف رسالتها. كان لا بد أن تكون موجزة، بحيث تستطيع الآنسة جونز أن تقرأها بلمحة عين، إلا أنها لم تُقدِم على حذف أي كلمات قد يلتبس المعنى في غيابها.

وسرعان ما تمكَّنت من قص الكلمات اللازمة، وتجميع القصاصات على المساحة الفارغة لعمود آخر خبر، بمساعدة زجاجة الغِراء.

خطر. لا تحدِّثيني حين تقرئينها. فهم يراقبوننا. تصرَّفي على طبيعتكِ. ارحلي على القارب. أخبري تورش أن حبكة الرواية هي قصتي أنا. إنها تحدُث لي الآن. لا تتركي أحدًا هنا يخمِّن أنكِ تعلمين. خطر عليكِ. اتركي كل شيء لتورش ليتصرَّف.

أزعجها أن تضع شرحًا كثيرًا هكذا، لكنها لن تجازف أن تعتمد كثيرًا على ذكاء الآنسة جونز. وبعد أن فرغت من الرسالة، دسَّتها تحت وسادتها واستغرقت في النوم.

واستيقظت متفائلة يحدوها أملٌ جديد.

فقالت لنفسها وهي تعيد قراءة رسالتها: «انتهى النصف الأول. والآن عليَّ أن أخفيَها في مكان آمن وأتدبَّر طريقةً ما لأعرضها عليها.»

في البداية لم تكن حيلتها مكافِئة للمجهود الذي بذلته. إذ لم توحِ لها إلا بإخفائها داخل كتاب، وهي طريقة أحمق وأخطر من أن تتبعها.

استنتجت قائلة: «سيظلون يراقبوننا طوال الوقت. هذا بجانب أنها مسألة بديهية جدًّا. فلن يسهوا عن احتمال أن أكون قد تدبَّرت كتابة رسالة، بطريقةٍ ما. وسيفتِّشون حجرتي قبل أن تأتيَ وسيفتشونني. فلا يجب أن أضعها في المنزل وإلا عثروا عليها … لا بد أن تكون خارجه.»

تذكَّرت جورجيا كتلةً كبيرة من الطحالب البحرية تدلَّت من مسمار في الجدار أسفل نافذتها. كانت ابنتاها قد علَّقتاها هناك لتعرفا منها حالة الطقس، لكنهما نسيتا أن تتحسَّساها بعد بضعة أيام. وقد بدَت لجورجيا مكانًا مثاليًّا للإخفاء؛ إذ ثبَّتت الرسالة بالمسمار واضعةً إياها أسفل الطحالب.

وقالت لنفسها: «أرجو ألَّا يخطر لأحدٍ البحث هنا. لكن حتى لو فعلوا، فلن يروا شيئًا، إلا إذا فتَّشوا في الطحالب.»

كان يومًا وضَّاءً بسماءٍ تلوَّنت بالأبيض والأزرق وبحر هادئ الأمواج، بَيْد أن جورجيا بالكاد استطاعت أن تتحمَّل إثارةَ انتظار رجوع القارب البخاري. وقبيل الساعة الحادية عشرة، لمحَته كلير من موقعٍ لها للمراقبة على السطح. وكانت تبدو كعضو في جوقة مسرحية من الذكور، بزيِّها المكوَّن من سروال وسترة حين انضمَّت إلى جورجيا على رصيف النزول.

قالت كلير تأمرها: «قفي ثابتةً بينما أفتِّشكِ.»

كانت جورجيا ترتدي ملابسَ خفيفةً جدًّا، حتى إن أقلَّ صوتٍ يصدر من الورقة كان سيشي بمخبئها. وقد امتنَّت كثيرًا أنها لم تحاول إخفاء الرسالة معها، حتى إنها لم تشعر بالإهانة وكلير تمعن في إهانتها.

انقضَّت كلير على حقيبة جورجيا بعد ذلك، فبحثت في أقسامها وتحسَّست البِطانة.

فسألتها جورجيا بعد أن فرغت: «أهو مجرد إجراء شكلي آخر؟»

«بالضبط. فإنني لم أحسبك حمقاء بالقَدْر الذي يجعلك تحملين شيئًا محظورًا.»

لم تكن جورجيا مصغيةً إليها إذ تتطلع نحو القارب البخاري، وهو ينطلق مضطربًا وسط الزَّبد. استطاعت التعرُّف إلى الجسد الضخم المتكئ على جانب القارب يلوِّح بيده، واعتقدت أن الآنسة جونز قد استعدَّت لطقسٍ قاسٍ. ولدى رؤيتها، تلاشى منها رَوعها من محبسها، ولم تخالجها إلا الحماسة الطبيعية للترحيب بصديقة.

لكنها جفَلت حين قبضَت كلير على ذراعها.

حيث قالت لها بنبرةٍ قاسية: «كفِّي عن الابتسام. وأصغي إليَّ. إياكِ أن تحاولي الهمس لصديقتكِ. فإننا أربعة، وستجديننا في كل مكان، طوال الوقت. لن تنفردي بها أبدًا. سنظلُّ نراقبكما ونتنصَّت عليكما.»

تذكَّرت جورجيا تجربتها الخاصَّة حين تسلَّلت من الشرفة الأرضية، وفاجأَت السيدة فاندربانت والبروفيسور في خلوتهما. من الجائز أن يكون المنزل قد بُني خصيصَى لتيسير التنصُّت، لقد صُمِّم بحيث يدخل الهواء والشمس والضوء، لكن شرفاته المتصلة، وخِزاناته المدمجة في البناء، والحجرات المزوَّدة ببابَين كلها تتحوَّل إلى أذنٍ ضخمة.

بعدئذٍ تفكَّرت جورجيا في خطتها وقد تجدَّد أملها. فإن تفتيش كلير لها يدُل على أن رسالتها لم تُكتشف. فهي لا تزال معلَّقة خارج الجدار في الجزء المواجه للريح من الجزيرة، فلا يرى خفقان الورقة البيضاء إلا النورس.

إذا ظلَّ الحظ حليفَها، فسيمكنها التواصل مع الآنسة جونز، حتى في وجود العيون المتطفلة. عليها فقط أن تدعوها إلى مشاهدة البحر في انكساره على الصخور من حجرتها، ثم تَفرِد رسالتها حاملةً إياها تحت النافذة، بحيث لا يراها أيُّ شخص داخل الحجرة.

ولحسن الحظ أن الآنسة جونز كانت بعيدةَ النظر ويمكن أن تقرأها بلمحة، بينما تقبِض هي على معصمها لتؤكد على خطورتها. وبمجرد أن تتأكَّد من أن المربية قد أدركت رسالتها، ستترك دليلَ الإدانة ليسقط في اضطراب الأمواج.

كلُّ ما سيتسنى للمشاهد أن يراه هو امرأتان تُطلَّان من نافذةٍ مدةَ دقيقة، تشاهدان رذاذَ البحر، قبل انصرافِهما متأبطتَين، وهما لا تزالان تعبِّران عن روعة المشهد.

لم تستطِع جورجيا أن ترى عيبًا في خطتها، ما دام لا يوجد ما يربط بينها وبين مؤامرة مضادة. فقد حرصت على تكوير الجريدة الممزَّقة بإحكام وإلقائها في البحر، قبل أن تذهب إلى الفراش؛ وحين أطلَّت من النافذة في الصباح، كان قد اختفى كلُّ ما لها من أثر.

لكن ما أرهب جورجيا هو أن كل شيء كان مرهونًا بشجاعة الآنسة جونز وقدرتِها على أداء دورها. فإذا كانت حمقاء أو أخفقت، فستكون جورجيا مسئولة مسئوليةً مباشرة عن موتها.

وإذا بهمس كلير المبحوح يعيدها إلى اللحظة الراهنة.

«خذي. ارتدي هذا، وبدِّلي مكانكِ معي. عليكِ اللعنة.»

وخلعت من أصبعها خاتمَ زواج من البلاتين المرصَّع بالكامل بأحجار الألماس، وشاهدت جورجيا بعينَين غيورتَين وهي تلفُّه فوق خاتمها الذهبي البسيط.

كان القارب البخاري قد اقترب جدًّا، حتى إنها استطاعت أن ترى وجهَ الآنسة جونز المعبِّر متوهجًا. كانَت ترتدي بذلةً من التويد الوردي الباهت، ومعطفًا طويلًا ومعطفًا للمطر متماشيَين معها. وقد تطاير شعرها خصلاتٍ تحت قبَّعتها المنسوجة من اللَّبَد، واحمرَّ أنفها من الرياح، إلا أن عينَيها كانتا تشعَّان بالود الصادق، حتى إن جورجيا كادَت تبكي.

فها هي ذي إنسانةٌ على استعدادٍ أن تجودَ بنفسها بإخلاص حتى النهاية، دون أن تسأل على ذلك أجرًا. وقد اضطُرت جورجيا أن تكبح رغبتها في الاندفاع نحو ذراعَيها، عندما كادت الآنسة جونز تسقط عند نزولها من القارب.

كانت المربية على استعدادٍ للمصافحة؛ لذلك فقد ابتهجَت بترحيب جورجيا الحميم غير المتوقَّع.

قالت جورجيا: «من الرائع رؤيتكِ مرةً أخرى.»

فتدخَّل الكونت قائلًا: «ألم أكن أنا المقصود بتلك القُبلة؟»

لمَّا ذُكِّرت جورجيا بأنها عروس صورية، تأبَّطت ذراعه طائعةً.

وقالت: «مرحبًا بك يا آنسة جونز على جزيرتنا. كلانا نرحِّب بكِ.»

فقالت الآنسة جونز مبتهِجة: «إنها أجمل مما تخيلت. لكن أين الصغيرتان؟»

«في حمام السباحة. فكأنهما تعيشان هناك. حتى إننا نتوقع أن تنموَ لهما زعانف … تعالي لتريهما.»

رافقهما الكونت وهما تنزلان السلالمَ الوعرة المشقوقة في الصخور.

سألتها جورجيا بحنين: «هل رأيتِ أمي مؤخرًا؟»

«لا، لقد وصلنا أبكرَ مما توقَّعنا.»

حين أعادت جورجيا عليها سؤالها، ضحكت الآنسة جونز على خطئها.

وقالت: «لقد صرت صماء بحق اليوم. لذلك سيكون عليكِ أن تصيحي. هذا نتيجة الانطلاق في البحر، وهبوب الريح على أذنَيَّ. فها أنا ذي أشعر بهما مسدودتَين تمامًا.»

فعلَّق الكونت قائلًا: «لن تستطيعا الهمس بأسرارٍ إذن. يا للخسارة!»

وحين وصلوا إلى حمام السباحة، خرجت منه الصغيرتان وألقيتا بذراعَيهما حول المربية، متعمدتَين أن تغدقا عليها كميةً وفيرةً من المياه، وفقًا للخطة.

وقالت ميفيس وهي تقبِّلها مرة أخرى: «هذا «وداعٌ» أيضًا. فلن ترينا مرة ثانية أبدًا.»

سريعًا ما قالت جورجيا لتوضح لها: «سوف تتناولان وجباتهما هنا. فإنني أريد الاستئثار بكِ لنفسي.»

فعلَّقت ميفيس برزانة: «علينا أن ننمي قوانا.»

فضحِكت المربية من عبارتها غير المناسبة.

وقالت: «إنكما تبدوان مثل زوج من المصارعين الصغار.»

فقالت ميرل مذكِّرة إياها: «لكن الناس الضخام دائمًا ما يكونون ضعافًا، مثل جالوت المسكين.»

فاغتبطت ميفيس التي جعلها شغفها الجارف بالحيوانات تعافُ اللحم، وقالت: «أجل، لقد هزمه داود لأنه يأكل البقول الصحية بدلًا من اللحم الضار.»

فقالت المربية تصوِّب لها: «بل إنه دانيال. سوف أُضطر إلى إعطائكما درسًا آخرَ في الكتاب المقدس.»

هنا ذُعرت الفتاتان من الوعيد، فهُرعتا إلى حمام السباحة مثل زوجٍ من جرذان الماء يطاردهما كلب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤