الفصل الثالث والعشرون

دخول السيدة ييتس

مكثت جورجيا في حجرتها ما تبقَّى من اليوم، تعمل في الدفعة الجديدة من روايتها. فأخذت تخطُّ الكلمات بسرعةٍ محمومة، لعلمها أن الآنسة جونز ستفك شفرةَ حتى أكثر الخطوط استعصاءً على القراءة … هذا بالطبع على فرضِ أن الآنسة جونز ما تزال حية … لكن لا بد من إتمام الرواية في جميع الأحوال؛ نظرًا لأنها قد باعَت حقوقَ النشر الأولى للسلسلة في السوق الأمريكية والبريطانية، ولأنها لم تخرِق عَقدًا من قبل.

كانت الأمطار لا تزال تنهمر بغزارة، وهبَّت الرياح مرة أخرى تسوق نحو نافذتها زخَّات ثقيلة من الأمطار التي حجبت عنها الرؤية، حتى إنها لم تستطِع رؤيةَ البحر إلا كلون رمادي مضطرب. كانت كأنها بداخل كرة بلورية خيالية، تحيط بها جدران من الزجاج تتدفَّق عليها المياه، وهناك توصَّلت إلى حيلة ضعيفة وواهية ربما تصل بهن إلى بر الأمان.

تحمَّست من شعورها بهذا البصيص الخافت من الأمل، بعد أن وطَّنت نفسها على قبول مصيرها بتَجَلُّد واهن، مع أن الثقة في جدوى هذا الأمل تكاد تكون منعدمة. إلا أن وجنتيها تخضَّبتا بحُمرة التوتر وهي تكتب الورقة على عُجالة وتعيد قراءتها. وفي لحظة من اللحظات أوشكت فعلًا على شطب جزء منها لكنها عدَلت عن رأيها.

قالت لنفسها: «لا، لا بد أن تكون صريحة. إن لم تكن الإشارة واضحة فلن تكون ذات جدوى … عِلاوة على ذلك، ما الجدوى من أي شيء الآن؟»

ثم التقطت البطاقةَ البريدية المصوَّرة، وأمعنت النظر فيها وهي تتساءل إن كانت سترفِقها أم لا. ثمَّة شخص واحد باستطاعته فهْم رسالتها، وهو هارفي تورش، لكنها شكَّت أن يكون هو نفسه بمقدوره فَهْم مغزاها من دون إشارةٍ تساعده. وحدَها هذه النسخة من «سجود الرعاة» بإمكانها إنعاش ذاكرته.

لهذا السبب كانت البطاقة بالغةَ الأهمية، حتى إنها هابَت المجازفةَ بإرسالها قبل اللحظة الحاسمة. كان من الأسلم أن تتحمَّل مدةً أطول من العذاب والترقُّب، بينما تمهِّد الطريق لها بدفعات أخرى من الرواية. وهي ترجو أن يكون فضوله قد ثار بدرجةٍ كافية بحلول نهاية تلك المدة حتى يفهم المغزى من البطاقة البريدية المصورة.

صحيح أن تورش لا يقرأ أعمال عملائه مطلقًا حتى تصير مطبوعةً إلا إذا كان الوضع استثنائيًّا. إلا أن الآنسة جونز حين طبعتها لم تستطِع أن تُغفِل التشابه بين قصَّتها وبين أحداث الرواية، وإن لم تستطِع أن تفطن إلى مغزاها.

كانت آمال جورجيا في الحياة والحرية متوقِّفة على سلامة المربية. وقد تذكَّرت العاصفة التي هبَّت في الليلة السابقة؛ إذ نظرت إلى الزجاج المبلل بقطرات المطر. فإن كانت أي حادثةٍ قد وقعت — سواء بتدبير من شخص أو قضاء وقدَر — فستكون ابنتاها بذلك قد هلكتا معها.

انتظرت جورجيا رجوعَ البروفيسور وهي فريسة لجزعٍ بالغ. وكلما سمِعت أصواتًا مرتفعة أو وقْع نِعال الصغيرتَين وهما ترمحان في أنحاء المنزل، تساءلت عما إذا كان القادمون يحملون لها أنباءَ مأساة. ولما كانت حينئذٍ غير قادرة على البقاء دون عمل يشغلها، راحت جورجيا تجمع الأوراق لتقديمها إلى الكونت ليراجعها.

وعند مرورها بحجرة المكتب، التقت بالبروفيسور. كان قد عاد أبكرَ مما توقَّعت ولا يزال يرتدي ملابسَ من المشمَّع مبتلة. ومن دون أن يخلع غطاء رأسه، رنا نحوها بعينين سوداوين لامعتين وأشار بإبهامه نحو حجرة التدخين.

لم يكن جزَع جورجيا بالغًا فحسب، بل بلغ بها الهلع لوجود البروفيسور أقصاه. فقد بدا كأنه منفِّذ حكم الإعدام. ومع ذلك فقد أدركت أنها لو كانت التقت به في رداء قسيس لصدَّقت صلاته دون شكٍّ في تقواه، بناءً على ما يبدو من هدوئه الحميد.

لاحظ الكونت المظروفَ الكبير الذي كانت تحمله بمجرد أن دخلت حجرته، ومدَّ يده ليأخذه.

سألها: «جزء آخر؟ أحسنتِ. إنكِ لا تضيِّعين وقتًا. إن كنتِ لا تمانعين الانتظار، فإنني سألقي عليه لمحة سريعة، في حالِ كان به شيء بحاجة للشطب.»

ملأتها كلماته بالراحة؛ فقد أدركت أنه كان سيوافيها بأي خبر عن وقوع حادثة رسمية للآنسة جونز.

فسألته: «في أي ساعة بلغا سالتسوبدن؟»

«بعد الساعة الواحدة. فقد كانت رحلة عسيرة. اصطحب البروفيسور السيدة صديقتك، للتأكد من دخولها إلى الفندق. وبدلًا من إعطائه إكرامية، صافحته. أخشى أن هذه المجاملة لم تَرُق له … هل تريدين سيجارة؟»

غاصت جورجيا في المقعد المكسوِّ بجلد وردي اللون، حابسة أنفاسها وهو يقلِّب في صفحات مخطوطها. بدا لها أن حيلتها لا بد أن تنكشف نظرًا لمخالفتها لمبادئها الخاصة. لكنه كان دليلًا على مدى قلة معرفته بشخصيتها الحقيقية حين رفع عينيه عن المخطوط بابتسامة جسورة.

علَّق الكونت قائلًا: «إن السيدة ييتس شخصية جذابة. حتى إنني أود أن ألقاها في الحياة الواقعية. إنها ممن يروق للمرء التعرُّف إليهم.»

أخبرتها كلماته بما تمنَّت معرفته، لكن وجهها غدا قرمزيًّا وهي تدافع عن نفسها.

«لقد نبَّهتك إلى أن قدرتي على الإبداع قد نضبت. فلا يمكنني خلْق شخصيات هامشية حسب الطلب.»

«وما الداعي لذلك وبإمكانكِ استخدام هذه السيدة اللطيفة البسيطة، ببغضها للدعاية وتاريخها الرومانسي؟ سوف يعشقها قراؤك.»

«لا يهمني رأي الناس فيها ما دامت ستزيد من مبيعات الرواية … هل لديك بطاقة بريدية؟ لا بد أن أخبر هارفي تورش بأنني سأرسل جزءًا آخرَ إلى الآنسة جونز.»

«سوف نكتب له. لستِ بحاجة للكتابة إلى أمكِ إلا إذا كنتِ تريدين ذلك. سوف أرسل إليها صورة أخرى لتعلم كم نحن سعداء. هل تودين رؤيةَ الصورة؟»

بالكاد لمحت الصورةَ لكن أمكنها أن تجرحها رغم ذلك؛ لأن الكاميرا كانت قد التقطت لحظة ذهبية.

سألت جورجيا الكونت: «متى سترسلها؟»

«غدًا. سوف أذهب لإرسالها في الصباح.»

شاعرةً بأنها قد أرست سابقةَ وجوب أن يصاحب كل دفعة من نصوص الطباعة تُرسل إلى الآنسة جونز، بطاقة بريدية تحمل توصية لتورش، قنعت جورجيا بانتظارِ ما سيطرأ من تطوُّرات. وممَّا سرَّها أن الأحداث تطوَّرت سريعًا؛ فقد عاد الكونت من سالتسوبدن بخطابٍ من الآنسة جونز وخبر بأنها قد عادت إلى إنجلترا.

في الواقع لقد توقَّفت المربية في رحلتها لترى ستوكهولم، حتى إنها لمَّا عادت إلى ديارها، في وقتٍ متأخر من ليلة السبت، كان مظروف جورجيا الضخم ينتظرها في بيت أبيها القس. لكنها لم تجِد الوقت لتنظر فيه، سواء آنذاك أو خلال الجزء الأول من يوم الأحد، حيث إنها عزفت الموسيقى في الكنيسة وحضرت بعد ذلك درسًا في مدرسة يوم الأحد. وحين عادت كان الهاتف يرن.

كانت السيدة بلفري التي حدَّثتها قائلة: «لقد جاء السيد تورش وشقيقه مرة أخرى لرؤيتي. لكنني أعتقد أنكِ مَن يريدان رؤيتها. فإنهما يريدان سماعَ أخبار «الكونتيسة» من المصدر.»

قادت الآنسة جونز دراجتَها متجهةً إلى الكوخ تخامرها سعادة أنها باتت في دائرة الاهتمام في منطقتها. وأثناء تناولهم الشاي، حكَت عن زيارتها التي بدت حين استعادتها في ذاكرتها أكثرَ جاذبيةً الآن حتى مما كانت عليه وقت انتهائها.

وقد حكت عن الجزيرة فأجزلت المدح لرغبتها في إدخال البهجة على السيدة بلفري.

«منزل خلاب، مبني على الطراز الأوروبي الحديث، أبرزُ ما فيه الزجاج. لا بد أن الكونت فاحشُ الثراء. فالسيدة يو — لا أستطيع أن أدعوها «الكونتيسة» — لديها حجرةٌ للكتابة، فوق البحر مباشرةً.»

فسألها أوزبرت: «كيف حال جورجيا؟»

«روعة. في غاية السعادة. إنه زواج مثالي عن حب. لكم أن تتخيلوا أن الكونت جاء هو نفسه قاطعًا كل هذه المسافة لإحضاري. إنها تقريبًا مثل المسافة بين جيرنزي ووايموث.»

فسألتها السيدة بلفري: «وحفيدتاي؟»

«ليستا في أحسن حال. فقد خرجتا عن السيطرة وتكادان لا تبرحان الماء. لكن ميرل صارت جميلة جدًّا. اكتسبت لونًا بديعًا، مثل غروب الشمس.»

حاول تورش أن يداريَ تثاؤبه. ولم يتهلل إلا حين أخبرته الآنسة جونز بطرد المخطوط الذي كان ينتظرها في بيت أبيها.

فسألها بلهفة: «هل من الخطأ الطباعة يوم الأحد؟ فالوقت ذو أهمية.»

فعلَّقت الآنسة جونز: «العمل من أجل السيدة يو لا يمكن أبدًا أن يكون خطأً. كما أنه ليس سوى جزء قصير أُنجز على عُجالة. والمرة القادمة سترسل جزءًا كبيرًا. إذا كان بإمكانك الانتظار ساعة، فسوف أنجزه لك سريعًا.»

إما أن الآنسة جونز ذات مهارة استثنائية في الطباعة على الآلة الكاتبة أو أن الجزء كان صغيرًا للغاية؛ إذ عادت إلى الكوخ خلال ستين دقيقة. وكان وجهها محمرًّا من انفعالٍ أقوى من الاستعجال، ويداها ترتعشان وهي تُخرِج الصفحات المطبوعة من غلافها.

قالت الآنسة جونز: «استمِعوا إلى هذا الوصف لشخصية هامشية. اسمها جيرترود ييتس — جي واي — أرملة وأم لطفلتين، ماري ومارجريت … إم وإم … تزوجت وهي طالبة في المدرسة، لكنها أضحت أرملةً في ظروف تراجيدية. ولكي تعيل أسرتها، تصير روائية ناجحة … مَن تكون إذن؟»

أجابها تورش: «جورجيا يو. لكن ما المغزى من ذلك؟»

فقالت السيدة بلفري بتحدٍّ: «مغزاه أنها عادت إلى صوابها أخيرًا.»

فدوَّى صوتُ الآنسة جونز قائلة: «لكنه أسلوب رخيص وصريح للغاية. السيدة جيرترود ييتس هذه ضئيلة ورقيقة وتبدو صغيرة جدًّا على أن تكون أمًّا لطفلتيها. إنها خجولة خجلًا غير عادي وتكره أي نوع من الدعاية كرهًا بالغًا. وهي ليس من طِباعها أن تعلن عن صفاتها. فما معنى هذا؟»

فقال أوزبرت بمرارة: «لقد شرحت السيدة بلفري التوة معناه. إن جورجيا ترى الكونتيسة أرفع شأنًا من السيدة يو.»

«حتى إن كانت كذلك، فإنها ما كانت ستقحم نفسَها في الرواية بهذه الركاكة. حتى إن كانت قد تخلَّصت من عقدة الدونية، فإنها كانت ستصور نفسها بأسلوبٍ أكثرَ إبداعًا. لا بد أن السيد تورش سيقر بذلك.»

فعلَّق الوكيل قائلًا: «ربما هذا التغيير ناتج عن تأثير الكونت. فالزواج يبدِّل حال الناس. فقد انحدر ذوقي لدرجةٍ شديدة حتى إنني بتُّ أتقبَّل ذوق زوجتي في السيجار.»

فأردف أوزبرت قائلًا: «إنه الكونت بالإضافة إلى ازدهار أحوالها. إن أي امرأة لا بد أن تتغير تغييرًا جذريًّا إذا عاشت في قصرٍ من دون أي جدران، وصار لديها دورة المياه التي أوحت للآنسة جونز أن تحكي لنا عن العمل الفذ الذي أنجزه مهندس المرافق الصحية.»

علا صوت المربية وهي تقول: «لكنني متأكدة أن ثمَّة شيئًا خطأً. وإنني لم أخبركم بكل شيء. هناك أشياء تقبَّلتها رغم عدم اقتناعي بها. لكنني لم أعُد قادرة على التظاهر. فالموقف خطير، وهناك خطأ ما.»

عندئذٍ انقبض وجه السيدة بلفري الصغير المجعَّد استياءً.

وسألتها: «ما شكواكِ إذن؟»

كان على الآنسة جونز أن تستجمع كلَّ ما لديها من عزمٍ قبل أن تتحدَّث. فقد ساورها شعور بائس بأنها أقلية تدعو إلى قضيةٍ مرفوضة. ولأنها سليمة العقل وصافية الذهن، فقد هاجت كبرياؤها لمَّا أدركت أن تعلُّقها بامرأة أخرى من الممكن أن يعتبره آخرون دليلًا على كبتٍ هستيري.

لكنها قالت لنفسها: «كنت سأفعل ذلك لأي شخص. لو لزمتُ الصمت سيكون مثل التظاهر بعدم رؤية شخص وهو يغرَق بالبطيء في رمال متحركة. وأنا الوحيدة التي رأته.»

ثم قالت بنبرة مجرَّدة من أي انفعال: «لا بد أن تقرُّوا بما سأقوله أولًا. وهو أن السيدة يو إذا كانت وقعت فعلًا ضحيةً لمؤامرة، فإن كل شيء كان سيبدو مقبولًا في الظاهر، تمامًا كما كان أثناء زيارتي.»

فقالت السيدة بلفري تذكِّرها: «عدا أن واحدة من أصدقائها كانت في المنزل فعليًّا. فمن المؤكد أنها كانت ستستطيع تدبُّر طريقة لإخباركِ.»

«هذا ما أثار قلقي. إنها لم تستطِع. لم تستطِع أن تهمس لي لأنني كنت مصابةً بصممٍ بالغ ذلك اليوم، ولم تستطِع أن تكتب إليَّ رسالةً لأنه لم يكن هناك أدوات للكتابة. فقد طلبت منها مرتَين ورقة وقلمًا لأكتب إلى الكونت اسمَ أغنية، لكن لم يكن هناك أيٌّ منهما لا في حجرة الاستقبال ولا في الحجرة التي تعمل فيها.»

لاحظت الآنسة جونز إذ تتحدَّث أنه بينما كان الرجلان يستمعان باهتمامٍ محايد، ازدادت السيدة بلفري عدوانيةً.

فقد قالت السيدة بلفري: «إذا طلبتِ مني ورقةً الآن فسأحضِر إليكِ الكراريس التي أستخدمها في المطبخ. أرجو ألَّا يكون هذا دليلًا على خططي الإجرامية. عِلاوة على ذلك، فإن ابنتي لو كانت تريد توصيل رسالةٍ لفعلت ذلك. فطالما اندهشت أنا حتى بحيلتها. فإن بمقدورها إخراج شخصياتها من أي مأزق.»

«لكن لو كانت هي نفسها شخصيةً لاحتاجت إلى أحدٍ من الخارج لينقذَها … وثمة شيء آخر. طوال الوقت وأنا هناك لم نُترك وحدنا مطلقًا، عدا خمس دقائق حين اصطحبتني السيدة يو إلى حجرتها بالطابق العلوي. بل إن السيدة فاندربانت كانَت هي مَن أخذَتْني إلى دورة المياه؛ وهي سيدةٌ ذات مقامٍ رفيعٍ جدًّا، من النوع الذي دائمًا ما يستدعي الخدَم بالجرس.»

«لكنكِ تقرِّين بأنكِ انفردتِ بها. ومن الممكن قولُ الكثير خلال خمس دقائق.»

«إن لم يكن هناك مَن يسترقُ السمع … لكن الحجرة كان لها أربعة أبواب، بما في ذلك باب الخزانة. وكانت مغلقةً كلها. وكان على السيدة يو الصياح لأسمعها. حتى إنها ذكرت أن العطلة لم تكن مثالية تمامًا؛ ذلك لأنني كنت مصابةً بصممٍ شديد.»

ارتعش صوت المربية بنبرة اقتناعٍ وهي تضيف: «لقد فكَّرت مرارًا في كلامها. وأدركت أنه ليس من طبعها أن تعلِّق على إصابتي بالصمم باعتبارها شيئًا مزعجًا. فإنها ستخشى أن تجرح مشاعري. إنه تصرُّف بعيدٌ كلَّ البُعد عنها، تمامًا مثلما هو تصرُّف بعيدٌ كلَّ البُعد عنها أن تضع نفسها في أحد كتبها. ألا يمكنكم أن تروا أن الوضع مغلوطٌ تمامًا؟»

بينما ظل الأخوان صامتَين، هبَّت السيدة بلفري من مقعدها وهُرعت نحو حجرة المكتب. كانت مكدَّسةً بأكوامٍ مرتفعةٍ من الأوراق والخطابات القديمة، انتقَت السيدة بلفري من بينها واحدًا عليه طابع بريد سويدي.

وقالت بنبرة انتصار: «لم يكتب جوستاف غيرَ سطور قليلة في رسالته الأخيرة. لكنه أرسل هذه الصورة له هو وجورجيا. لستِ بحاجة إلى نظارة لتري كم هي في سعادة غامرة … وإذا نظرتِ إلى التاريخ، فستلاحظين أنها التُقطت بعد رجوعكِ إلى إنجلترا.»

احمرَّ وجه الآنسة جونز خجلًا حين رفعت الصورةَ التي بدت فيها جورجيا برداء حفلات رسمية من الشيفون المنقوش بالزهور. لكنها لمَّا تمعَّنت في الصورة جفَلت ثم قرَّبتها من عينيها.

وسألت أوزبرت: «أليست ترتدي سوار الحظ الخشبي الذي أعطيتَها إياه؟»

فأجابها: «بلى.»

«لكن ذلك مستحيل. لقد وقع منها في البحر قبل التقاط هذه الصورة.»

أتمَّت قصتَها ونظرت إليهم بترقُّب، غير أنها وجدتهم غير مقتنعين. وجدت نفسها في مواجهة تحاملٍ جماعي متراكم — لا التحامل الناتج عن وجاهة الالتحاق بالمدارس العامة، ولا المرتبط بالمعايير الذكورية التقليدية فحسب، وإنما كذلك إجمالي التحامل الذي تضمره كلُّ أم منذ حواء؛ إذ غُبنت في حياتها وتبغي أن تعيشها مجددًا من خلال ابنتها.

فقالت السيدة بلفري مفسِّرة: «كلُّ هذا إنما يثبت أن جوستاف وضع تاريخًا حديثًا على صورة قديمة، ليجعلها تبدو أحدث. لا أريد أن أبدوَ فظة لكنني أشعر بأنكِ شغوفة جدًّا بابنتي حتى إنكِ تَغارين عليها من أي علاقة أكثر حميمية.»

قال أوزبرت: «وأنا أوافقك. لا يجب أن نختلق قصةً لمجرد أن نثبت لأنفسنا أن جورجيا لا يمكن أن تكون سعيدة وهي بعيدة عنَّا.»

عرف تورش وهو ينظر إلى أخيه أنه كان يحاول إقناعَ نفسه، ليكبت اختلاج قلبه. فقد كان تعيسًا وساخطًا، يود لو يتسلَّق قمةَ إيفرست. وبدوره خاطبَ تورش المربية بتهكم مشوب بترفُّق.

«هل فكرتِ يومًا أن تكتبي قصصًا أنتِ الأخرى؟»

فأجابته: «كثيرًا. لكنني لم أستطِع ابتداع أي شيء، حتى ينقذني.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤