الفصل الخامس والعشرون

الجلَّاد

رغم أنها كانت نادرًا ما تراه فقد ظلَّت رهبةُ جورجيا من البروفيسور تزداد. لم يكن يُحدِّثها متى تَصادف والتقيا، لكن نظرةً من عينَيه الصغيرتَين الثاقبتَين كانت قادرةً على أن تجعلها تجفل.

مع أنه لم يكن يفعل شيئًا ليذكِّرها بأمر محدَّد، فلم يكن بوسعها أن تنسى أنه الجلاد.

ظل البروفيسور لغزًا، تمامًا مثلما كان وضعه غامضًا. كانت تعلم أنه حافظ أسرار السيدة فاندربانت؛ إذ إنها كانت تسمع صوتَ المرأة العجوز المزعج وهي تحدِّثه في حجرتها، وإن كان هو يلتزم الصمت عادةً، لكن بخلاف أنه كان طوعًا لها، لم تعلم جورجيا شيئًا عن العلاقة بينهما.

كان البروفيسور، مثل الكونت، يحافظ على لياقته بالعمل في الحديقة، وفي غرفة التدفئة المركزية، بل ويقوم بإطعام المَعْز والطيور. وكان كثيرًا ما ينزل البحر، فيسبح ضاربًا المياهَ بقوةٍ ليغوص عميقًا، حتى إن رأسه المغمور دائمًا في الماء بانحناء خفي كان يذكِّرها بسمكة قرش تلاحق فريسة.

ولما استقوت شكوكها أنه لم يكن غريبًا على ميرل، استجمعت شجاعتها لتتقصى الأمر. كانت تعلم أنها ستثير فضولًا خطيرًا بحظر أي صداقة، وكذلك أنه من المستحيل أن تسيطر على حركات ميرل. من الجلي أنها كانت الرفيقة الدائمة لشقيقتها، لكن بما أن حتى أدق أُذنٍ لا يمكنها تعلُّم اللغة السويدية بين ليلة وضحاها، فهذا دليل على أنها كثيرًا ما تتسلل لتقضي حاجاتٍ خاصة بها.

ذات مساء، تشجَّعت جورجيا وسألتها سؤالًا.

قالت بنبرة طبيعية بينما كانت ميرل مستلقيةً تتشمَّس بجانب حمام السباحة: «أرى أنكِ تهوين البروفيسور.»

فأجابت بلا مبالاة: «إمممم. إنه رجل طيب جدًّا. لقد قتل كثيرًا، لكن كله بدافع الرحمة.»

سيطرَت جورجيا على ارتجافها لدى تذكُّرها فجأةً أنها قد تصير فعلًا من ضحايا هذه القِتْلة الرحيمة.

«هل يشعر بالأسف عليهم؟»

زلَّ لسانها رُغمًا عنها.

فأجابتها ميرل: «لا. إنه لا يشعر بالأسف أبدًا؛ لأنه أرقُّ من أن يؤلمهم. إنه سريع جدًّا جدًّا.»

«حسنًا، لكنه لا يجدُر به أن يخبركِ بمثل تلك الأكاذيب السخيفة، ولا يجدُر بكِ سماعه.»

«لكنه لا بد أن يسليني.»

«ليس بقصصٍ كريهة غير حقيقية. فلتتذكَّرا أنتما الاثنتين أنه لا يجب تصديقُ كلِّ ما تسمعانه.»

«إننا لا نصدِّق. أليس كذلك يا ميفيس؟»

بينما تبادلت الصغيرتان نظراتِ الشعور بالذنب، شعرت جورجيا بأن حملتها اليائسة لإبقائهما في جهالة قد باءت بالفشل. فقد كان واضحًا أنهما تتشاركان سرًّا أرادتا البوح به، لكنهما تشكَّان إن كان من الحكمة أن تفعلا ذلك أم لا.

لكن سريعًا ما تحوَّل قلق جورجيا إلى شعور سارٍّ بالراحة، حين أدلت ميرل باعترافها.

إذ قالت: «إنني غير مؤمنة بالإنجيل. فقد قلت كذبة ولم أخرَّ صريعة.»

وأضافت ميفيس بأسلوب مؤثِّر: «وأنا أمرت جبلًا أن يتحرك. لكنني لم أستطِع أن أحمله على أن يطيعني. ولم يفعل أيَّ شيء.»

عندئذٍ أخذت بيدِ ميرل الممتدة طلبًا للطمأنينة، فيما نظرت الصغيرتان حولهما بعينَين مرعوبتَين بعض الشيء، كما لو كانتا تتوقَّعان أن يعلوَ البحر ويجتاحهما من فوق الجزيرة.

وحين لم يحدُث شيء، انفجرتا في صيحاتٍ من الضحك وأخذتا تصارع إحداهما الأخرى على الأرض. وقد بدَتا طفلتَين طليقتَين في غايةٍ من السرور والصحة؛ إذ لوَّحتهما الشمس بلون ذهبي، حتى إن جورجيا لم تطاوعها نفسُها على توبيخهما.

قالت جورجيا: «الإنجيل صحيح. حين تعودان إلى إنجلترا لا بد أن تخبرا الآنسة جونز بما لا يمكنكما فهمه، وهي ستشرح لكما كل شيء.»

وسارت سريعًا مبتعدةً عنهما، بغضب مضطرم من احتمال إطفاء شعلتَين متقدتَين من الجمال والمرح. أعمتها الدموع التي تجمَّعت في عينيها، فحادت عن المسار، لا تعلم ولا تكترث أين تهيم، إلى أن اكتشفت أنها ضلَّت الطريق إلى الحوض المزروع بالخضراوات على الجانب المغطَّى من الجزيرة.

وجدت البروفيسور يكاد يسدُّ الطريق أمامها؛ إذ كان شارد الذهن يربِّت على عنزة وهي تأكل من يده. وكالعادة لم يلقِ لها بالًا إلا بلمحة سريعة.

وإذا بها تجد بداخلها رغبةً في الحديث معه.

فسألته: «هل تحب الحيوانات؟»

فأجابها بعد السكوت طويلًا: «إنها تحبني.»

جاز في تلك اللحظة وهو بملابسه المتسخة بالوحل أن تظنه فلاحًا لا يجيد الكلام. وبدا مستحيلًا أنها في أول لقاء بينهما في بروكسل قد صدَّقت أن هذا الرجل الضخم حائزٌ درجاتٍ أكاديمية، وأنها قد هابت أن تتحدَّث مخافةَ أن تفضح جهلها. وتذكَّرت ملابسه الغالية، وأزرار قميصه المصنوعة من اللؤلؤ الأسود، والخير والإحسان اللذَين يشعَّان من سيمائه التي بدا أنه قد خلعها مع نظارته.

لكن في حين أنه آنذاك أرهبها بشخصيته، فإنها الآن تشعر بأنها مهزومة بقوة أكبرَ بكثير من الغباء وحدَه؛ كأن حجرًا ثقيلًا قد هوى فوقها.

تابعت كلامها، تحاول بصعوبة أن تتغلَّب على نفورها وأن توقظ بداخله جذوةً من العطف: «تعتقد ميرل أنك صديقها. إنها فتاة كبيرة بالنسبة إلى سنِّها. لكنها لا تعدو السابعة. وهي منطلقة دائمًا في سعادة بالغة … أنا لا أكترث كثيرًا لما قد يحدُث لي، لكن لا يبدو من العدل …»

لمَّا خذلها صوتُها تشجَّعت وتطلَّعت إلى الوجه الجسيم الأحمر. كانت عيناه تراقبان باهتمامٍ سيرَ حشرة راحت تجول في فراء العنزة. وإذا بأصابعه الضخمة تهبِط عليها فجأةً لينتزعها بأظافره.

إما أنه لم يُصغِ إلى رجائها، أو أنه كان يبرهن على أن التقاط البرغوث كان ذا أهميةٍ أكبر. شعرَت جورجيا بالهزيمة وخيبةِ الأمل، فأسرعَت مبتعدةً عنه وهي تحادث ميفيس في مخيِّلتها بسذاجة.

وقالت: «إنكِ على حق يا عزيزتي. لا أحد يسعه أن يحرِّك جبلًا.»

وحين وصلت إلى حجرتها، وقفت لدى النافذة، تشاهد الأمواج في تدافعها متقدِّمة نحو الأفق.

ثم فكَّرت: «لا يمكن لإنسان أن يكون شريرًا شرًّا محضًا. لا بد أن تكون به نقطة خير.»

ثم أدركت فجأةً أنها كانت تفكر في الشخصيات في رواياتها. كانت رواياتها مناقِضة لِما تشهد به قصص الجرائم في الصحف اليومية. كانت تصرِف ذهنها مرتعدة عن تقارير الجرائم البشعة التي يرتكبها وحوشٌ بشريُّون، بَيْد أنها كانَت واقعية.

لكنها وإن كانت أدركت أنه لا رجاءَ من استعطاف السيدة فاندربانت أو الكونت، فقد بدا ثمَّة أمل ضعيف في اكتسابِ عطف كلير من أجل الصغيرتَين، في حالِ لم يفهم أصدقاؤها الإشارات التي أرسلتها إليهم.

وقالت لنفسها تذكِّرها: «إنها ليست مجرمة. فهي نفسها واحدة من ضحايا الكونت. وكل هذه القسوة مجرد تكلُّف.»

وجدت جورجيا كلير في حجرة الاستقبال، مستلقيةً على الأريكة، تدخِّن سيجارةً كعادتها. بدت الفتاة كبقعة شاذة من الألوان الزاهية وسط الدرجات الباهتة المحيطة بها. فقد كانت ترتدي ثوبًا منزليًّا ورديًّا منقوشًا بزهور خشخاش زرقاء، وقد لوَّنت شفتيها بلون أحمر أرجواني وجفنيها بلون أزرق فاقع. وكان رأسها معصوبًا بمنديل من الشيفون بدت مستاءة منه.

بادرت بمخاطبة جورجيا بعدوانية كأنها شكَّت أنها ستوجِّه إليها نقدًا سلبيًّا.

«هيا. فلتضحكي. كان شَعري أفضل من شَعرك. كان طويلًا حتى ليمكنني الجلوس عليه. أليس رائعًا أن يكون شَعركِ قصيرًا مثل المساجين؟»

أدركت جورجيا لأول مرة وهي تصغي إليها أن كلير تَغار من شَعرها الأشقر الطويل. كانت بئس المقدِّمة لما أرادت أن تلتمسه منها، لكنها حاولت استرضاءَ الفتاة العدوانية.

فقالت لها: «بل إنه شيء رومانسي. فإنكِ تذكرينني بسيدةٍ من العصور القديمة قصَّت شعرها، وارتدت ملابس الغلمان، حتى ترافق سيدها في حملته.»

«بئس الحملات. حيث نُجري التجارب على الفئران … ماذا تريدين؟»

«أريد أن أطلب منكِ معروفًا.»

«إنه مرفوض.»

«لماذا تكرهينني؟ إنه شيء لا يسعني فهمُه. فليس لديكِ دافع للحَنق عليَّ.»

«إننا امرأتان لرجل واحد. هذا كلُّ ما في الأمر.»

«هذا كلام سخيف. فلا يمكنكِ أن تغاري مني. أنت تعلمين أن الكونت لا يكنُّ لي مشاعر.»

«وأنتِ لا تكنين له مشاعر. وهذا ما يكدِّره. فهو ليس معتادًا ذلك. وسينتهي بكِ الحال بإثارة عواطفه.»

نظرت جورجيا إلى الفتاة المُتيَّمة، وهي تكاد تشعر بالأسف عليها. فهي حبيسة مثل نبتة في أصيص، غير قادرة على الازدهار والتمتُّع بخيرات الحياة؛ فقد اقتُلِعت وأُجبرت على أن تنموَ نموًّا غير طبيعي بفعل لهيب العاطفة الحارق.

قالت جورجيا بحدة: «هذه أوهام. إنما يشغلني شيء واحد. وهو ابنتاي.»

«إنهما مشكلتكِ.»

«أعلم ذلك … لكن لو حدث لي شيء، هلا تحرصين على أن تعود ميرل وميفيس إلى إنجلترا مباشرةً؟»

«لماذا؟ هذا لا يعنيني في شيء.»

«لكن يا كلير، إنهما مجرد طفلتَين.»

ضحِكت كلير بقسوة وهي تنفض الرمادَ عن سيجارتها.

ثم قالت: «وهذا هو السبب. أنا أكره الأطفال. طالما كرهتهم. وسأظل دائمًا … حين كنت في الخامسة، وُلد طفل جديد. كنت ملكةً صغيرة حتى ذاك الوقت، لكنه خلعني من عرشي. فكرهت ذلك الوليد. هل تعلمين ما الذي خطَّطت للقيام به. خطَّطت لإشعال النار في ناموسيةِ مهدِه ذات يوم. لكنه مات قبل ذلك، إلا أنني ما زلت أكره الأطفال … ولن أنجب أطفالًا أبدًا، ولا أريد واحدًا. فلا يمكنني المرض أو الراحة أو الابتعاد عن جوستاف أبدًا، وإلا خسِرته. لا شيء يهمني. ما دمت معه، فهو كلُّ ما أريد. وإذا لم نَعُد معًا فسوف أموت.»

بينما تستمع جورجيا إلى سيل الكلمات، أدركت أنه لا رجاء من الاستمرار في التضرُّع إليها. وهكذا انسحبت بعيدًا عن الأريكة، وهي تبوح بالأسى المختزَن في قلبها.

قالت: «على الرغم من كل شيء، فإنني لن أرضى أن أكون مكانكِ … بل إنني أشفق عليكِ.»

صاحت كلير بصوتٍ مختنق من الغضب: «كيف تجرئين؟ اخرجي من حجرتي … يا جوستاف.»

ما كاد صوتها يعلو، حتى دخل الكونت الحجرةَ يمشي الهوينى. كان يرتدي بذلةً من الحرير بلون كريمي، وفي عروتها زهرة خشخاش أيسلندية برتقالية ذابلة. وبدا واضحًا من ابتسامة الرضا على وجهه أنه يعرف أنه سببُ الخلاف.

وفجأةً صار وجهه أكثرَ صرامة ونظر سريعًا نحو الشرفة.

وقال يأمرهما: «الزما الصمت. فهذه ساعة الطفلتين. ثمَّة مَن يسترقُ السمع.»

تتبَّعت جورجيا اتجاه عينيه لتطالع الظل الطويل الملقى على الأرضية البيضاء للشرفة، ليفضح المستمع غير المرئي. حدَّثتها نفسها بكارثةٍ وشيكةٍ فتجمَّدت أوصالها؛ إذ تساءلت منذ متى والطفلة واقفةٌ بالخارج وما الذي فهمته.

شاعرة أنه ما زال من الممكن إنقاذ الموقف بالفطنة، حدَّثت نفسها تقول: «أرجو أن تكون ميرل.»

وكأنه خمَّن ما يدور بخَلَدها بادر الكونت يتحدث.

«فلتدخلي يا سيدتي الصغيرة. هل هي الأعزُّ على قلبي؟ … لا، إنما هي ميفيس.»

وبمجرد أن رأت جورجيا أي الطفلتين هي، سقط قلبها في قدمها. كان وجه ميفيس أحمرَ وبغيضًا والمخاط يسيل من أنفها. ورمقت الكونت بنظرة كراهية، وهُرعت نحو أمها مجتذبة ذراعها.

وقالت: «هيا بنا يا أماه. لا بد أن نعود جميعًا إلى بيتنا.»

فسألها الكونت بنبرة حادة: «ولماذا يجب أن ترحلن؟»

حاولت جورجيا إسكاتَ الصغيرة المنفعلة، وإن كانت أدركت أن الأمور قد خرجت عن سيطرتها. انتابها شعورُ العجز الذي يساور شخصًا خرج بالسفينة في البحر قبل الأوان. هي وحدَها أحسَّت باهتزازها الطفيف الأول، لكنها عرفت أنه لا شيء يستطيع منعها من الغرق. فبمجرد أن تبدأ، ستستمر في الهبوط، مكتسبةً الزخم مع كل قدم نحو الأسفل، حتى تغوص في الأعماق.

انتزع الكونت ميفيس بعيدًا عن أمِّها وسألها مرة أخرى: «لماذا؟»

فقالت الطفلة وهي تشير نحو كلير: «إنها تحرق الرضَّع.»

ثم ضربت الكونت لتتحرر من قبضته محاولةً الوصول إلى جورجيا.

وقالت ترجوها: «هيا بنا نرحل يا أماه. إنها عصابة. وهذا منزل عصابة بغيض.»

استُقبِلت الكلمات بصمت لم يخرقه إلا الكونت.

وهو يقول: «يا للخسارة … كانت ميرل جميلة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤