الفصل السابع والعشرون

الأجر

سطعت الشمس مشرقةً ذات صباحٍ من أيام الخريف، حين أدرك القاربُ البخاريُّ القادم من سالتسوبدن الجزيرةَ، فيما هبَّت رياح منعشة، واضطرب البحر بتيارات قوية متضاربة. كان القارب يحمل خمسة شبان مفتولي العضلات، بالإضافة إلى تورش الذي نظَّم فرقة الإنقاذ. كانوا جميعًا في حالة معنوية ممتازة، عداه هو، حيث كان متوجسًا قلقًا.

وفي حين كان الآخرون ما زالوا في عطلة، فقد اضطُر هو إلى تركِ عمله وقضاء وقته الثمين في مغامرة بالغة الخطورة. واضطُر عِلاوة على ذلك إلى دفعِ نفقات أصدقاء أخيه — وهما معلِّمان شابَّان — وتأجير قارب بخاري، مما اشتمل على الاستعانة برجلَين سويديَّين لقيادته.

من حسن الحظ أن مالك القارب يتحدَّث الإنجليزية، فاستطاع أن يحدِّد موقعَ الجزيرة من الوصف الذي أخبرتهم به الآنسة جونز. وأخبرهم كذلك بتاريخ بناء المنزل، الذي يستأجره حاليًّا السيد أوبنهايمر.

تهلَّل أوزبرت في صمتٍ لطمس سيرة الكونت، إلا أن تورش أشار إلى أن استئجاره المنزل مباشرةً أو من الباطن ليس دليلًا على أنه مفلِس. وبينما كان الشابان الآخران يتبادلان حديثًا وديًّا مع الرجلَين السويديين، استغل تورش الفرصةَ لتحذير أخيه.

«لا تتهور. علينا أن نتمهَّل. نتحسَّس طريقنا.»

«مؤكد.»

كان أوزبرت قد درجَ على إخفاء مشاعره، وصار ينقل عاداتِ التحفُّظ القومية إلى الفتيان المسئول عنهم. كان وجهه الوسيم جامدًا، لكن اتَّقدت عيناه إذ أردف قائلًا: «سيتوقَّف الأمر عليها. إذا كانت تلقَّت خطاباتك، فسوف تترقَّب وصولنا. وستُهرع إلى ملاقاتنا. لا بد من ذلك.»

فقال تورش متفقًا معه: «إذا كانت تلقَّتها. أتساءل كيف فهمت الحاشية التي ألحقتها بنهاية خطابي. أتحدَّى أيَّ شخص غيرها أن يفهم ما بين سطورها.»

ونسي أنه مقبِل على مهمة بغيضة؛ إذ تأمَّل مبتسمًا ابتسامةً عريضة دقةَ رسالته، التي أرفقها كاستدراكٍ بعد أن أفادها رسميًّا بتسلُّم مخطوطها.

«بطاقتك جعلتني أريد الذهاب إلى بروج وإحياء الذكريات القديمة.»

ومع اقترابهم أكثرَ من الجزيرة، صار المنزل ببنيانه الأبيض الراسخ واضحًا. استطاعوا تبيُّن السُّلم الحلزوني الواسع بدرجاتِه الفخمة، وشجيرات الزهور ذات الألوان المتداخلة المزروعة على المنحدرات. وعندئذٍ، حين انطلقوا حول أحد أطرافها، أخذ أوزبرت نفسًا عميقًا.

وقال: «انظر. الحجرة التي تكتب فيها. لا بد أنها هناك.»

انعكست أشعة الشمس على الزجاج، فأبهرت عيونهم وهم يحاولون تبيُّن وجهٍ من وراء النافذة. استطاعوا أن يسمعوا الهدير البعيد للمياه المضطربة، ويروا ارتفاع أسوار بيضاء من الزَّبد وهبوطها على الصخور. لكن لم يبدُ أن هناك شخصًا واقفًا يترقَّب وصولهم في الشرفات التي كادت تشكِّل دائرة حول المنزل.

قال أوزبرت: «ستكون في انتظارنا على رصيف النزول.»

وحين داروا دورةً واسعة حول الجزيرة، لتلافي الشِّعاب، رأوا قاربًا صغيرًا يجذف به رجلٌ ضخم، في حُلة شعبية. وكان في القارب فتاتان صغيرتان، أبرزُ ما في ملبسهما قبَّعتان ضخمتان. وقد التمع جسداهما البرونزيان في أشعة الشمس وهما تلقيان بصنارتيهما في البحر.

فتساءل أحد أصدقاء أوزبرت: «مَن هاتان الصغيرتان الشبيهتان بطرَزان؟»

فأجابه تورش: «ابنتا السيدة يو.»

فارتفع حاجبا الشاب غير مصدِّق.

وعلَّق قائلًا: «لا بد أن الرجل لديه روحٌ رياضية ليشمل الأسرةَ في عملية الخطف. إنها لعطلة جميلة ورخيصة للصغيرتَين.»

فقال تورش متجهمًا: «أتفق معك. فقد بدأت أعتقد أننا جئنا المنزل الخطأ … فكل المنازل المبنية على الطراز الحديث لها نفس النمط.»

«بالضبط. كل المنازل القائمة على هذه الجزر المتتالية متشابهة.»

بيْد أن أوزبرت لم يتأثَّر بالشك الذي انتاب الكل، وأخذ يلوِّح بحماسة للصغيرتَين. فردَّتا على تحيته، لكن بلا مبالاة كما يحيي مركب مركبًا آخر. كان من الواضح أنهما لم تتوقعا أو تتعرَّفا على صديقيهما؛ وقد بدتا مبتهجتين في إجازتهما، حتى إن قلب تورش غاص في صدره من الشك مجددًا.

وتفاقم الأمر حين اجتازوا المنعطف الأخير ووصلوا إلى رصيف النزول. لم يكن في استقبالهم إلا رجل سويدي ضخم بشعر أشقر، يرتدي سروالًا أصفر قصيرًا وقبعة سوداء كبيرة من اللَّبَد.

فتحدَّث إلى صاحب القارب الذي ترجم لهم ما قاله.

«يقول إن الكونت قد أرسله ليرشدكم في صعودكم إلى المنزل. وإنه آسف على عدم تمكُّنه من المجيء بنفسه؛ وذلك لأن حادثة بسيطة وقعت التوة للكونتيسة.»

فسأله أوزبرت على الفور: «ماذا؟»

«لقد التوى كاحلها … هل ستبقون لتناول وجبة خفيفة؟»

«لا، فسوف نعود سريعًا. انتظرونا هنا.»

ترك الرجال الإنجليز رفيقَيهم السويديَّين عند المرفأ وساروا على خطى مرشدهم وسط الغابة، حين انحرف عنهم أحدُ صديقَي أوزبرت. فقد اكتشف السلالم الصخرية المؤدية إلى حمام السباحة وصاح بهم ليتبعوه.

تألَّق حمام السباحة المتواري بأشعة الشمس، وقد تخلَّف في مياهه الخضراء الصافية عوامة مطاطية ضخمة منتفخة. وتكدَّست نمارقُ زاهية الألوان على الحواشي التي تناثرت عليها الأشياء الصغيرة المعتاد جمعُها من أجل العطلات. لم يبدُ المكان مثل مسرح لمكيدة أو جريمة، بل كان مشجعًا على المكوث مدةً أطول. وبدا واضحًا على أحد المعلِّمين الشابين الذهول وهو يخاطب تورش.

«هل هناك فرصة أن يختطفني ذلك الرجل في عطلة نهاية الأسبوع؟ ربما بأن توعز إليه بأنني مليونير مستهتر.»

ظل أوزبرت دون أن يتأثَّر بالشك، تدفعه الطاقة النابعة من مطمحه، فمضى بخطواتٍ واسعة يسبق الآخرين. كان قد حفَّز نفسه حتى وصل بها إلى حالةٍ قصوى من الضراوة، حيث رأى نفسه كالقديس جرجس — أو واحد من رجال المباحث الفيدرالية — ذاهبًا في حملةٍ من أجل الإنقاذ. ومع أنه لم يكن يملك قدرة أخيه على التخيُّل، فقد ظل يتصور لحظةَ لمِّ الشمل والتحرُّر السارة تصورًا حيًّا جدًّا، حتى إنه شعر باستياءٍ على كل دقيقةٍ مهدرة.

وحين خرج من بين الأشجار، وقف ينتظر الرَّكب المنهَك اللاهث حتى يصل إلى مرج الحشائش. مسح تورش وجهه، والتفَت نحو الشابَّين. لم يكن أوزبرت قد أسرَّ لهما بالأمر كاملًا، وقد جاءا إلى السويد ولديهما فكرةٌ مبهمةٌ بشأن «الاستعداد لتقديم المساعدة في حالِ وقعت مشاجرة».

قال تورش مقترحًا: «ما رأيكما لو انتظرتما هنا؟ ونحن لن نتأخر.»

ترك الشقيقان الشابين الآخرين متمدَّدَين على مقاعدَ للاستلقاء، وسارا هما نحو المنزل حيث نزل الكونت السُّلم سريعًا لملاقاتهما. فابتسم لهما ابتسامةً ودية ومد يده مرحِّبًا.

فقال: «ممتاز. إنني مسرور لرؤيتكما … وصديقيكما كذلك. ألن يدخلا؟»

فأجابه تورش تلقائيًّا: «لا، شكرًا. فإنما جئنا لزيارة قصيرة.»

«لكن هذا لا يصح. سآمر بإرسال مشروبات لذَينك الشابَّين … فلتتفضل يا عزيزي، تفضَّل. إن جورجيا في انتظار رؤيتك.»

فسأله أوزبرت، متحدثًا بجهد: «أين جورجيا؟»

كان أوزبرت قد تأمَّل هذا اللقاء كثيرًا جدًّا؛ إذ تصوَّره وقد غشَّاه الغضب العارم والعنف؛ إلا أن سلوك الكونت نزل بهما إلى مستوى الضيوف التقليديين. وهكذا فإنه بدلًا من الهجوم، لبِسته حالةٌ من الهدوء فحيَّا مضيِّفه بهزِّ رأسه، وإن كان قد عمد إلى تحاشي مصافحته كي لا يكون منافقًا.

وقد أجاب الكونت على سؤاله؛ إذ تقدَّمهما في براح الرَّدهة ذات الجو المنعش.

«جورجيا في حجرة الاستقبال، لتريح قدَمها. إنها حادثة بسيطة تافهة. فقد التوى كاحلها على السُّلم. الأمر بسيط حقًّا، كلُّ ما في الأمر أنها لن تستطيع السيرَ مدة يوم أو نحو ذلك.»

ولمَّا كان أوزبرت في حالةٍ بالغةٍ من الذهول والارتباك لا تمكِّنه من ملاحظة التفاصيل، تعثَّر عند دخوله حجرةَ الاستقبال. فقد لاحت له صورةٌ مبهمة لمكان فسيح يتخلله الهواء وضوء الشمس، وألوان رقيقة وانعكاس المياه يتراقص على السقف والجدران. وبَروَزَت كلُّ نافذة لوحةَ البحر المضطرب الذي يميلُ إلى اللون الأخضر، وحملت النسمة عبيرًا رقيقًا لزهور رقيب الشمس.

بدَت له الحجرة صحراءَ شاسعة ضمَّت بداخلها واحةً وهي أريكة جورجيا. كانت القدَم المغطاة بالضمادات ممددةً على المقعد، دليلًا على إصابتها. وكانت ترتدي ثوبًا أبيضَ وبدا وجهها شديدَ الاسمرار بالتباين مع شعرها الفاتح اللون، الشاحب مثل ضوء القمر.

رأى عينيها والضوء يتَّقد فيهما فجأةً حين نظرت إليه. كانتا تلمعان مثل نجمتَين، تشعان حبًّا وشوقًا … بيْد أن الشعلة خبَت وانطفأت قبل أن يصل إلى الأريكة. فقد أدرك في لحظةٍ مدمِّرة تبدَّد فيها وهمه أن الواحة كانت محض سراب؛ إذ رحَّبت بهما بابتسامة جامدة شأن مضيِّفة تراعي الرسميات.

ثم شعر بيدِ أخيه تقبض على ذراعه.

وهو يتمتم قائلًا: «اترك الأمر لي.»

جاء صوت تورش مبتهجًا وغير مبالٍ وهو يحيي جورجيا.

«مسرور للغاية لرؤيتكِ مرةً أخرى. لكن يؤسفني سوء الحظ لِما ألمَّ بكاحلك.»

فضحِكت ضحكةً بدَت مصطنعة وقالت: «أليس كذلك؟ واليوم من دون كل الأيام. لكنني مسرورة لرؤيتك. وأوزبرت أيضًا … أعتقد أنك لا تعرف السيدة فاندربانت.»

«أعرفها. فقد التقينا في بروكسل. فهلا تقدِّمين إليها أخي؟»

حين قدَّموا أوزبرت إلى الأرملة الغنية ذات الطبع الحاد والأسلوب الوقور، ذكَّرته ببعض السيدات المهيبات الجانب اللواتي كان قد التقى بهن في المدن التي تقع بها كاتدرائية. لكنه استطاع بطريقةٍ ما أن يرُدَّ على تعليقاتها التقليدية، بينما كان الكونت يقدِّم لهم السيجار والمشروبات بأسلوب مضياف.

إلا أن تورش قال على الفور: «شكرًا، لن نتناول شيئًا. فكلانا ممتنع عن المشروبات الكحولية.»

ازدادت حَيرة تورش الشديدة إزاء الموقف. فقد بدا موقف جورجيا دليلًا على أن خيالهما قد ضللهما. فلم تبادِر بأي إشارة استغاثة، كما أن أسلوبها في الترحيب بهما أوحى بأنهما تطفَّلا عليهما في شهر العسل. لم يكن ثمة شكٌّ أنها متيَّمة بالكونت، فحتى وهي تخاطبهما، كانت عيناها مثبتتَين عليه.

لكنه بدأ فجأةً يتساءل إن كانت خائفة على سلامة صديقيها، كما كان الأمر مع الآنسة جونز. وبينما هو يتحيَّن الفرصة ليبُثَّ الطمأنينة في قلبها، مهَّد الكونت له الطريق.

فقد قال: «إذا رفضتما شرابًا، فلا بد أن تمكثا لتناول الغداء. كلكم. كم عدد الناس في القارب؟»

فأجابه تورش: «اثنان. إننا ستة إجمالًا. إنه لعددٌ كبير على أن نفرض أنفسنا عليكم من دون دعوة.»

جعل يرمق جورجيا بترقُّب أثناء كلامه.

وحدَّث نفسه قائلًا: «ستعلم من ذلك أنهم لا يفوقونا عددًا. ولا يوجد رجالٌ مسلَّحون مختبئون لحمايتهم. لديها لسان. عليها فقط أن تنطِق به.»

فتحت جورجيا فمَها، لكن فقط لتسأل عن أمِّها.

«هل رأيتها مؤخرًا؟»

«قبل أن آتيَ إليكِ مباشرةً. وقد حمَّلتني إليكِ بمحبتها ورسائل.»

«أوه، ما هي؟»

«إنها شخصية. سأخبركِ بها فيما بعد، إذا لم يمانع الكونت.»

«كم هو غريب عليها أن تعمد إلى الغموض. هل حكَت لكم الآنسة جونز عن زيارتها لنا؟»

«لقد أخبرتنا بالكثير والكثير.»

حين انتبه أوزبرت للمغزى في نبرة تورش، بدأ يدرك أنه رغم تبرُّمه من سياسة التباطؤ، فربما يكون أخوه المشاغب الضئيل حكيمًا في عدم اندفاعه. فقد أحسَّ أن أسلوبه بيِّن؛ إذ يمكن لتعليقاته العابرة أن توحي بشيء أو تعطي معنًى مزدوجًا.

قال الكونت مقاطعًا حديثهما، وهو يبتسم لجورجيا: «الطفلتان في حالة ممتازة. هل رأيتهما في القارب؟»

«الحق أنني رأيت زوجًا بديعًا من الهمج الصغار. فخشيت أن تكونا من آكلي لحوم البشر. لكن يبدو أنهما لم تتعرَّفا إلينا.»

«لن تعرفاكما عن بُعد. كما أننا لم نكن نتوقَّع مقدِمكما.»

فقال أوزبرت، قائمًا عن مقعده: «سألوِّح لهما من الشرفة.»

فجاءه صوت جورجيا حادًّا: «لا. لا تذهب يا أوزبرت. أريد أن أتحدَّث معك. فسوف أتذكر كلَّ الأشياء التي أردت سؤالك عنها حين ترحل. أخبرني، كيف حال الرياضات المدرسية؟»

اتخذ أوزبرت مجلسًا بجانب الأريكة، شاعرًا بالامتنان على فرصة اقترابه منها. وفعلَ ما في وُسعه لتسليتها، لكنه كان يعلم أنه لم يكن مستحوذًا على انتباهها. رغم أنه راح يلمح جورجيا الحقيقية من حين لآخر — في شبح نظرة أو ابتسامة — فقد راوده شعور محيِّر بوجود حاجز ملموس، كأنه يراها من خلال لوح زجاج سميك.

وفي أحيان أخرى، شعر أنها لم تكن معه على الإطلاق مع أن بإمكانه مدَّ يده ولمسها، فكأنه إنما يحادث صورتها على المرآة.

وقد تأثَّر أخوه بدوره بالشك الذي انتابه. فقد تساءل قلقًا ما إذا كانت جورجيا خاضعة لسيطرةٍ عقلية؛ وهو الاحتمال الأمكر والأعسر أن يتغلبوا عليه. فسيكون من الأسهل أن تطيح بجمع كامل من رجال العصابات — من دون سلاح ولا مساعدة — على أن تزعزع ولاءها.

كان ثمَّة خللٌ ما، لكنه لم يستطِع أن يحدِّد موضعه. فقد لاحظ كيف أن جورجيا عضَّت على شفتها فجأةً حين سأل عن ابن الأخ، كلير.

وقالت السيدة فاندربانت للتبرير: «إنه في سنٍّ حرجة. وهو حيي، ويتوارى عن الضيوف.»

ولما نفد صبره من حالة الجمود، قرر تورش أن يلمِّح للكونت بغرضه.

فقال: «لقد قرأت الجزء الأول من روايتك يا جورجيا. أعجبني، لكن نهايته في غاية الإبهام. إذا كنتِ ستجعلين البطلة تخلُّ بولاء أحد أفراد العصابة، فمن المحتمل أن يكتسب تعاطف القارئ فلا تروق له الحال حين يُقبض عليه … فلتتذكري أن من القواعد الأخلاقية لروايات الإثارة أن يُعاقب المجرمون.»

أرخى الكونت أحد جفنيه بعض الشيء، ونظر إلى تورش بعينٍ زرقاء صغيرة محدقة وعين أخرى لامعة وواسعة.

وسأله وهو يكوِّر منديله ويرميه في الهواء: «هل لديك أي اقتراحات لتقدِّمها لها؟»

فصاحت جورجيا بصوتٍ عالٍ قائلة: «فلتبقَ ساكنًا يا جوستاف. إنك توترني.»

«لا تمزحي يا عزيزتي … حسنًا يا تورش؟»

فقال تورش: «لا يسعني إلا اقتراح فكرة بسيطة. من الممكن أن تجعل جورجيا بطلتها تبلغ وكيلها بنداء استغاثة، تخبره بشأن محنتها.»

«أمرٌ سهل جدًّا. لكن كيف؟»

«جبنًا مني سأترك هذا الأمر لملَكتها الإبداعية. أما بعدُ فمن الممكن أن يُقنِع هذا الرجل ناشرها — وهو لا بد أن يكون لديه نفوذ من نوعٍ ما — فيستعين بسكوتلاند يارد أن تأتي إلى الجزيرة بقوة صغيرة من رجال الشرطة. فما رأيك؟»

وأمسك تورش عن الكلام، راجيًا أن يكون قد كشف لجورجيا ما في جَعبته، وأن يكون في الوقت نفسه قد خدع الكونت ليظن أن زيارته حملةٌ رسمية.

فعلَّق الكونت قائلًا: «أعتقد أنه سيجد صعوبةً بالغة في إثبات ذلك. فالأرجح أن يبادر الشرير في رواية جورجيا بالهجوم ويكبِّدهم تعويضات باهظة، إذا حدث ووصلت القضية إلى المحكمة.»

وعلى حين غِرة لم يَعُد أوزبرت قادرًا على تحمُّل التوتر الناشئ عن الجمود. فعمد إلى التحدُّث بصوت منخفض إلى المرأة التي يحبها، متجاهلًا الآخرين.

«لقد جئنا لاصطحابكِ إلى المنزل يا جورجيا.»

لكنها انكمشت منه في رعب، مما جعله منزعجًا مذهولًا.

قالت تذكِّره بنبرة ضعيفة ورسمية: «إنني في منزلي.»

وأيَّدها الكونت بكبرياء وهو غاضبٌ.

«إنه لقولٌ عجيب. لا بد أن تفسِّره، رجاءً.»

فقال تورش: «سأفسِّره أنا. فقد جئت في مهمة غير سارة. فقد سرَت شائعة جعلت أم جورجيا منزعجة للغاية. فقد بات يُقال إن ابنتها ليست متزوجة منك وإنك تحتجزها هنا رغمًا عنها.»

فقاطعه الكونت قائلًا: «آه، ها قد بدأت أفهم. فثمة سيدة ردَّت على حسن ضيافتنا لها بنشر الشائعات السامة. وأنا الذي تكبَّدت مشقة مرافقتها من سالتسوبدن بنفسي، رغم أنني كنت قد رجعت لتوي من هناك في اليوم السابق.»

فتساءل تورش: «هل هذا صحيح؟»

«من المفضَّل أن تردَّ جورجيا على ذلك.»

ردَّت جورجيا بسرعة لاهثة تقول: «إنه كلام غير معقول. إن نيتك سليمة، وإنه لكرمُ أخلاق منك أن تقطع كل هذه المسافة. لكنه موقف مزعج جدًّا. و… وأعتقد أنه من الأفضل أن ترحلا.»

كانت تتحدَّث وعيناها مثبَّتتان على المنديل الذي أخذ الكونت يلويه بين أصابعه. أدركت أنه قد نسي أن يمسكه. إلا أن هذه الدمية المتهورة غير المسئولة (المقصود كلير) — المتحولة مع كل تطور جديد في الموقف — كانت تلهو بحياة ابنتيها.

فإنه إذا ألقى المنديل — سواء دون قصد أو بقصد — كانت كلير الواقفة بالخارج في الشرفة الأرضية ستراه يسقط. وبمجرد أن يلمس الأرض، كانت ستلوِّح بوشاحها الأبيض في الحال لتشير إلى البروفيسور حتى يهزَّ القارب بعنف.

كانت جورجيا لا تزال مذهولة من تحوُّلها السريع من الفرح للألم المبرح، والهجوم العنيف الذي وقع عليها. فقد حُبست وكُمِّم فمها بالقوة لتظل ساكنةً وصامتةً إلى أن يستطيع البروفيسور دعوةَ ابنتَيها إلى نزهةٍ للصيد. وضع الكونت يدَه على وجهها غير آبه أنها كادت تختنق، فيما مزَّقت كلير جواربها وربطت ضمادة حول كاحلها ربطةً ضيقة بلا رحمة.

كان الظلام قد بدأ يغشى الحجرةَ حين رُفع عن فمها قيدُ الكمامة ونزل شراب في حلقها. وبينما كانت تبتلعه لا إراديًّا، أدركت أنها تطالع عينَين رماديتَين مثل الصوان خاليتَين من الرحمة.

قالت السيدة فاندربانت بنبرة بطيئة وواضحة، كأنها تخاطب طفلًا أو شخصًا غبيًّا: «فلتصغي إليَّ. لقد التوى كاحلكِ للتو؛ لذلك لن تستطيعي الذهابَ لاستقبال صديقيكِ. ينبغي ألا يشكَّا في شيء. وإلا فستعاني ابنتاكِ من التبعات.»

استطاعت جورجيا أن تهمس فقالت: «أين هما؟»

«تصطادان. مع البروفيسور … إن لم تصرفي صديقيكِ، فستقع حادثة. ولن تكون هناك فرصة لإنقاذهما. سينزل البروفيسور أولًا لنجدتهما. لكنهما ستظلان عالقتَين تحت القارب.»

بينما جورجيا تحدِّق فيهم، خائفةً أن تفتح شفتيها، خشيةَ أن تعجِّل بمأساة، تحدَّثت كلير بكراهية وحشية.

«إنه رجلي. إذا — إذا حدث وقُبض عليه، فستُعاقب ابنتاك على ذلك.»

حتى وهي في خِضم المعاناة، استطاعت جورجيا أن تعرف أن الفتاة قد أصابها الخوفُ بالجنون. فقد كانت مثل حيوانات الغابة حين يتعرَّض وليفُها لفخ، فتغفُل عن العقل والضمير.

كان هذا اليقين من انتقام كلير الذي ختم على شفتيها بخاتم الصمت، وأجبرها على محاولة إقناع صديقَيها أنها على ما يرام. مرَّت عليها أوقاتٌ أوشكَت فيها أن تخرج عن صمتها. وحين صفا ذهنها، أدركَت أن التهديد كان في جوهره كاذبًا. فإنها إذا فضحت العصابة، فلن يكون موت ابنتيها ذا نفع، بل سيكون تضحيةً خطيرة.

كان ما دفعها أن تحسم بهلاكها هو تصورها الجلاد — الخالي من المشاعر أو الخيال — وهو ينتظر بقسوة رؤيةَ المنديل الأبيض وهو يرفرف من الشرفة.

قالت جورجيا: «من الأفضل أن ترحلا.»

لكن على الرغم من طلبها، فقد ظل تورش متمسكًا بموقفه.

وقال يذكِّرهم: «لقد قطعت مسافةً طويلة. فقبل أن أرحل، لا بد أن يكون لديَّ معلومة محدَّدة من أجل أم جورجيا. هلا تخبرينني أين تزوجتما ومتى؟»

فقال الكونت بعجرفة: «لا أرى سببًا يجبرني على ذلك.»

«هلا تطلعني على عقد الزواج؟»

«لن أفعل. فإن طلبك هذا إهانة. أنت نفسك تدَّعي أنك متزوج. فهل شكَّ أحد في ذلك؟»

«الأمر مختلف. ونظرًا للشائعة، أعتقد من الأعقل أن تكون صريحًا.»

«شكرًا. لكنني سأخرِج الدليل على زواجي في الوقت المناسب، إذا جاءت مناسبة.»

أصغت جورجيا إلى المشاحنة بيأسٍ كامد. كانت الضمادة الملفوفة حول كاحلها ضيقة جدًّا حتى إن ساقها بدأت تتورَّم، لكنها كانت فاقدةً الإحساس بالألم. الآن وقد فات الأوان، فقد تعذَّبت لإدراك أنها كان لا بد أن تتوقَّع الاعتداء الذي باغتها مثل انفجار القنبلة، من دون سابق إنذار. لكنها ظلت تعيش في حُلم سعيد حافل بالآمال، منذ أن تلقَّت خطاب تورش وفهمت الحاشية الملحقة في نهايته.

حدَّثت نفسها قائلة: «كان لا بد أن أبقى متنبهةً ليلًا ونهارًا. ما كان يجب أن أجعل ابنتيَّ تغيبان عن ناظري. كان ينبغي أن أحبسهما معي في حجرتي.»

لاحظت جورجيا أن هارفي كان ينظر إلى أخيه كأنه يشير عليه بالتراجع. إلا أن أوزبرت بدلًا من التحرُّك، تحوَّل إليها.

وقال: «دعيني أرَ سوار الحظ الذي أعطيتكِ إياه.»

فأجابته قائلة: «لقد انقطع. في اليوم الذي جاءت فيه الآنسة جونز. لقد وقع في البحر.»

«لكنكِ كنتِ ترتدينه في هذه الصورة، التي التُقِطَت بعدها بأسبوع، حسب التاريخ.»

«دعني أرَها.»

حين مدَّ الكونت يده لتناول الصورة، أسقط المنديل الذي كان قد ظل يلويه بعصبية بين أصابعه. فهوى ناحية الأرض، لكنه استعاده قبل أن يصل إلى البساط بأن التقطه بغتةً.

ثم قال بنفاد صبر: «هذا لا شيء.»

فقال أوزبرت مؤكدًا: «لا شيء، بَيْد أنه كان بمقدورك أن تأتيَ بصورةٍ لامرأةٍ سعيدة … أما الآن فانظر إليها.»

غطَّت جورجيا وجهها بكفَّيها، غير قادرةٍ على مواجهة عيونهما.

وقالت: «ارحلا رجاءً.»

فسألها الكونت: «هل تريدين الذهابَ معهما. فلتتذكَّري أنكِ حرةُ الإرادة. لا يوجد ما يمنعكِ من الخروج من هذا المنزل مع هذَين الرجلَين.»

«لا. لا.»

«إذن فلا يوجد شيء آخر ليُقال. الوداع يا جورجيا. هيا بنا يا أوزبرت.»

سار تورش نحو الباب، مجبَرًا على قبول الهزيمة؛ إلا أن أوزبرت لم يتبعه. بقي مكانه ينظر إلى جورجيا بعينين توَّاقتَين، كأنه لا يطيق أن يتركها.

وإذا به يجفل في انزعاج.

ويحتجُّ قائلًا: «تلك الضمادة ضيقة جدًّا. مَن الذي وضعها؟»

فأجابته السيدة فاندربانت: «أنا. الوتر المصاب لا بد من ربطه بإحكام.»

«لكنكِ أوقفتِ دوران الدم. فقد تورَّمت ساقها. بما أنه لا يوجد طبيب، فمن الأفضل أن ألقي نظرة عليه. لقد درست في جامعة كينجز كوليدج مدة عام؛ من ثَم فإنني على دراية بهذه الأمور.»

فاحتجَّ الكونت وقال: «لكنني لن أسمح لك بذلك.»

تجاهله أوزبرت ونظر إلى أخيه، الذي بات وجهه يقظًا من الارتياب.

سأله أوزبرت: «كيف يبدو لك هذا السلوك الفيكتوري المتزمِّت، مع النظر لعدد المرات التي سبَحنا فيها معًا أنا وجورجيا؟»

فأجابه تورش: «إنه يجعلني أتساءل إن كان بذلك الكاحل ما يثير الريبة أم لا.»

«سوف أتبيَّن ذلك في الحال.»

كانت عينا جورجيا مثبَّتتَين على المنديل الذي أخذ الكونت يكوِّره بين كفَّيه. ثم ألقاه في الأرض، وقبض على ذراع أوزبرت …

كان قد نسي الإشارة. فجنَّ جنون جورجيا من الفزع، وهبَّت قافزةً من فوق الأريكة.

وصرخت تقول: «لا يا كلير. لا. لا تلوِّحي. لقد وقع بالخطأ.»

وحين خذلتها قدمُها الخَدِرة، تلقَّاها أوزبرت بين ذراعَيه، لكنها قاومت لتحرِّر نفسَها.

صرخت بشدة تقول: «ابنتاي. سوف يُغرِق ابنتيَّ. دعني أذهب.»

أفلتت منه، ومشت متعثِّرة إلى الشرفة ثم وقفت، وجعلت تحدِّق نحو البحر.

كان ثمَّة قارب صغير يهتز برفق على مساحة آمنة من الشعاب المرجانية المغمورة تحت المياه. كانت الصغيرتان تسحبان صنارتَيهما، والبروفيسور يلوِّح بمنديل أحمرَ ردًّا على الإشارات المضطربة التي لوَّحت بها كلير من الشرفة.

ولدى رؤيته جورجيا، أنزل مجذافه في الماء وبدأ يجذف متجهًا بالقارب نحو المرفأ.

ظلَّت جورجيا تشاهد القارب، عاجزةً عن الحركة أو الكلام لذهولها الشديد. تجمَّد وجهها كأنها لا تستطيع أن تصدِّق ما تراه. ثم التقطت حقيبتها بغتةً، ونزلت السُّلم مسرعةً وهي تعرُج.

أما الكونت، الذي كان قد استعاد رِباطة جأشه، فقد لاحقها بعينيه مبتسمًا.

وعلَّق قائلًا: «هستيريا شديدة. إنني أحذِّرك يا تورش، ستجد سائرَ شكاواها مختلَقة. فالسيدة لديها خيال خصب جدًّا.»

فقال تورش: «سوف نخوض في هذا الأمر لاحقًا. وبمجرد أن أتمكَّن من المغادرة، سأعفيك من كل مسئولياتك.»

التقى الشقيقان بجورجيا وابنتيها قبل أن يصلا إلى المرفأ. تقدَّمت ميرل وميفيس تجريان، فاستعد تورش لتلقي إقبالهما عليه، في حين ألقت جورجيا بنفسها بين ذراعَي أوزبرت. وبعد برهة من الوقت عبَّروا فيها عن عواطفهم، خلَّص هارفي نفسه وأرسل نظره لأسفل بين أشجار الصنوبر نحو البحر.

وسأل جورجيا: «أين الرجل الضخم الذي كان يجذف بالصغيرتَين؟»

بدا على جورجيا الإقدامُ وهي تشير إلى خطٍّ من الزَّبد كان في أثر قارب بخاري متراجع.

وقالت ميفيس عَرَضًا وهي تفسِّر ما يفعله: «إن البروفيسور يُسخِّن المحرِّك ليس إلا.»

فهزَّ تورش رأسه مبتسمًا.

وقال: «واحدة أخرى من نهاياتكِ غير المحسوبة. إنه لخطأ جسيم في أخلاقيات العمل الروائي.»

لم تُنصِت جورجيا لانتقاده؛ إذ كانت لا تزال تلتمس حلًّا للغز. فإنها حين دفعت بالحقيبة التي احتوت على مالها في يد البروفيسور، تلقَّاها من دون أن ينبِس بكلمة شكر، أو تختلج عضلة في وجهه الأحمر العريض. لم تُخبرها عيناه الصغيرتان اللامعتان بشيءٍ مما يدور في ذهنه. فلن تعلم أبدًا إن كان قد تصرَّف بدوافعَ دنيئة لأجل مصلحته الشخصية، أم إن معاييره الإجرامية تضم حدًّا معينًا للضحايا. بل وبقي احتمالٌ عجيب أن تكون ميرل قد اخترقت الصدوعَ المظلمة لروحه ووجدت طريقها إلى قلبه.

لكن ثمَّة حقيقة واحدة واضحة في خِضم هذا الارتباك. وهي أن الجلاد لا بد أن يتقاضى أجره، وإن كان في حالتها لم يقُم بوظيفته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤