الفصل الرابع

التوقيع

حين سافرت جورجيا يو إلى الخارج أولَ مرة، كانت في مهمة، لتوسيع آفاق ذهنها. لم تكن مهتمة بأي بلد على التحديد، لكن شخصًا مهتمًّا بالسفر ورفيع المقام في آنٍ واحد نصحها بأن «تبدأ من بلجيكا ثم ترتقي».

وعلى ما في ذلك من تعالٍ ضمنيٍّ، فقد كان لذلك الاختيار أهميةٌ بالغة في مستقبلها. فإنها لو لم تذهب لفاتها مصادفةُ لقاء وكيلها، الذي كان مسئولًا عن زيارتها إلى بروج.

من ناحية أخرى، يجوز الاحتجاج بأنها التقت بالكونت في بروكسل، لكن ربما كان مكتوبًا لها أن تلتقيَ به — أو بالأحرى بمَن على شاكلته — أينما ذهبت، بما أن الطبيعة والظروف جعلتاها هدفًا سهلًا.

لم يتحمَّس هارفي تورش لدى مصادفته جورجيا والكونت أثناء مروره بميدان جراند بالاس. فرغم أنه كان قد ارتحل إلى أوروبا في عمل، فإنه كان يمزجه بالمتعة، ولم يُرِد أن يتذكر عملاءه، حتى إن كانت جورجيا من أصدقائه القدامى.

وتغيَّرت مشاعره حين لاحظ اضطرابها السعيد وربط بينه وبين رفيقها. كان تورش نفسه رجلًا ضئيل الجسم، ذا وجه نحيل، نابهًا يبدو مثقفًا، وإن كان فطينًا فحسب. وقد جعلته ضآلة جسمه يبالغ في أهمية حُسن البنية الجسمية، وكانت سببًا إضافيًّا لتصوره شقيقه الأكبر، أوزبرت، في صورة البطل.

تمتَّع أوزبرت بكل النِّعم والمواهب — الذهنية والجسدية — التي حُرم هو منها، لكنه فَشِل في توظيف عقله بنجاح، ومن سوء حظه أنه اشتغل مدرسًا مبتدئًا في مدرسةٍ حكومية. وهو لم يُخفِ حبَّه لجورجيا، بيد أنه لم يتمتع بالثقة الكافية ليعرض عليها الزواج؛ إذ خشي أنها تعدُّه صديقًا ليس إلا.

وكان تورش يأمُل أن يوفِّق بينهما في زواج سعيد في المستقبل. حيث كان معجبًا بجورجيا من الناحية الشخصية، ويكنُّ لها بالغ الإعجاب بوصفها كاتبة. فقد كانت طاقتها ومهارتها مذهلتَين، وكذلك كانت تتمتَّع بموهبة، كل هذا جعلها تملك مكونات النجاح التجاري. كانت متجردة من التردد الفني والتحذلق على حد سواء؛ إذ كان لديها في رأسها شيطان يمكِّنها من إضافة التطورات اللازمة لحبكات مألوفة وغير مبتكرة.

وكان تورش يرى أن عيبها الوحيد هو إحجامها عن الدعاية، ورفضها المستمر السماح لوكلاء الدعاية باستغلال تاريخ حياتها العاطفية.

وقد جعلته مودَّته إياها وولاؤه لشقيقه يرى الضوء الأحمر حين عرَّفته إلى رفيقها. من ثَم فإن ما باحت به في حفل العشاء بشأن الوديعة لم يرفع من آماله مرةً أخرى فحسب، وإنما زاد من فضوله أيضًا.

حين جاءته جورجيا في بهو الفندق اندهش من مظهرها اليافع. كانت ترتدي ثوبًا رياضيًّا من قماش الفلانيل لونه أبيضُ يميل إلى الاصفرار، فيما لم تغطِّ شعرها الأشقر ذا المَسحة الفضية. بدت نحيفة البنية مثل طالبة في المدرسة، وقد دارى الضوء الخافت الخطوطَ في وجهها الصغير القسمات.

سألته بنبرة شجية قبل أن يتسنى له الكلام: «هل أحتاج إلى ارتداء قفازات؟»

فقال: «يبدو كأنكِ كنتِ تخالطين طبقاتٍ رفيعةً مؤخرًا. لا بد أن مستوى الكونت كان رفيعًا.»

تظاهرت بأنها لم تسمعه وسألته سؤالًا آخرَ.

«هل يجب أن نذهب إلى بروج؟»

«لا. فلتقترحي مكانًا آخرَ.»

«آه … لتكن بروج إذن. ليس في ذهني شيء آخر. إن فكري مشوَّش.»

أدرك تورش أنها كانت تعيسة وتحاول نسيان الواقع؛ ولذلك راح يتحدَّث في أمورٍ تافهة في طريقهما إلى المحطة. ولم يسألها سؤالًا مباشرًا إلا والقطار منطلق وسط الحقول المنبسطة، والقنوات التي ظلَّلتها أشجار الصفصاف.

«هل صحيح ما قلتِه عن الوديعة؟»

فأجابت: «صحيح تمامًا. لقد فعلت ذلك بناءً على نصيحة.»

«نصيحة مَن؟»

«شقيقك. كان أوزبرت يعلم أنني قلِقة على مستقبل ابنتَي؛ لأنه خمَّن خوفي من أن أخضع لسيطرة ذهنية. فإنها مسألة طالما جالت بخاطري. ربما لاعتيادي ابتكارَ حبكات مثيرة؛ ومن ثَم بإمكاني أن أتخيَّل كم من السهل لدرجةٍ مخيفةٍ أن تستسلم لشخصٍ تنامَت ثقتك فيه بلا حدود. لذلك كان يجب أن أحافظ على ميرل وميفيس في أمان، في حال إصابتي بالضَّعف.»

«على كل حال، يبدو أن شقيقي أوزبرت قد بالغ في فعله الذي أراد به خيرًا.»

على الرغم من نقده، فقد تألَّق وجهُ تورش فخرًا بهذا الدليل على نبل شقيقه وزهده. لكنه في الوقت نفسه أسِف على خسارة ملعب التنس والسيارة اللذين تخيَّل أن أوزبرت سيرثهما، جزءًا من ورثه عند زواجه من روائية ناجحة.

سألته جورجيا على الفور: «هل تمانع استشارتي إياه بدلًا منك؟ لقد خشيت أنك ستكون عمليًّا إلى حد الإفراط. أما أوزبرت فقد كان رائعًا. لم تَعُد لديَّ مخاوفُ مادية منذ أن رتَّبت أموري. لم يَعُد هناك إحساس بعدم الأمان أو خوف من المستقبل. بإمكاننا جميعًا أن نعيش مطمئنين على الفائدة.»

ثم أضافت بضحكة مغتصَبة. «لا شك أن أموالنا ستنفد إذا أنفقنا دخلنا على مقياس فاندربانت.»

«حسنًا. لكن حين تبلغ الصغيرتان سنَّ الرشد من الممكن أن تمسكا بزمام الأمور وتنحياكِ جانبًا.»

«لن ترثا قبل أن تبلغا الخامسة والعشرين. إذا كانتا ستصيران مثل ابنتَي الملك لير الكُبريَين، فسأرى نُذر ذلك وأدَّخر المال استعدادًا. لكنهما لن تفعلا. فالمرء في أمانٍ مع ذويه.»

«بالتأكيد. نضيف إلى ذلك أنكِ تغفلين حقيقةً مهمة. وهي أنكِ ما زلتِ لم تبلغي الثلاثين. ولديكِ الكثير من الوقت لتجني ثروة صغيرة أخرى.»

عضَّت جورجيا على شفتها، وهي تنظر من النافذة إلى قطيعِ ماشيةٍ أبيضَ في أسود كان يرعى في الحقل. لاحظَت تلقائيًّا أن أخشاب مباني المزرعة كانت مطليةً بلونٍ غير مألوف من الأزرق الزاهي. وكانت هناك فتاة ذات شعر بالغ القِصر ووجه لا تشوبه شائبة نقصٍ تخوض في وحل الأرض.

مرَّت مهلةٌ ملحوظة قبل أن تتحدَّث.

قالت: «إنك تعلم يا هارفي ما بذلته من جهد. لقد وضعت من طاقتي أكثرَ مما ينبغي. وأشعر أنني أستحق عطلةً طويلة جدًّا.»

لم يكن الخبر مفاجئًا لتورش. رغم أن مخزون جورجيا من المغامرات المثيرة كان يبدو معينًا لا ينضُب، فإنه لم يغفل عن أنها استنفدت هذا المخزون الهائل بلا هوادة. فإنها في سعيها للأمان المادي حشرت عمل سنوات في فترة ضيقة نسبيًّا من الوقت.

مذكرًا نفسه بأنه من الوارد أن يستقيم المستقبل، تقبَّل تورش الصدمة بحكمة.

فوافقها بهدوء قائلًا: «أجل، أعتقد أن الراحة ستكون مفيدةً لكِ، ولعملكِ. هذه مدينة جنت يا سيدتي. لا بد أنكِ تذكرين القصيدةَ التي درسناها في المدرسة: «كيف أتوا بالخبر السار.» أما أنا فستظل جنت مرتبطةً لديًّ بخبر لم يكن سارًّا.»

يبدو أنها لم تسمعه، فيما تجاهلت جنت التي رأتها مجموعةً ضبابية من المداخن والأسطح.

ثم قالت فجأة: «الكثير من الناس يتزوجون أغرابًا يا هارفي. فالفتيات يخرجن لممارسة رياضات الشتاء ويَعُدن مخطوبات. أنت التقيت بسيبيل في جولة بحرية.»

علَت وجهه الذكي أمارات الحماقة عند ذكر زوجته. كانت زوجته امرأةً رياضية قوية ومتوهجة تسلُك طرقًا غير نزيهة في الحب؛ إذ كانت مَن أوقعته في شِباكها من دون استعداد منه، لكنه ما زال مُدلهًا في حبها بشدةٍ إلى حدِّ ألَّا يُدرك أن زواجَه لم يكن أمرًا عفويًّا بالمرة.

فأقرَّ كلامها قائلًا: «الزواج مخاطرةٌ لا محالة في العموم.»

«لم يكن زواجي كذلك. فقد أردت السلامة. وأنت تعلم إلى أي شيء أفضى ذلك.»

كانت المرة الأولى التي تشير فيها إلى حياتها الشخصية؛ لذلك فقد كان فضوله أقوى من أن يقاوم رغبته في أن يسألها.

«هل كنتِ تعيسة؟»

أجابته قائلة: «لا. حين تتزوج الفتاة وهي لا تزال طالبة في المدرسة، فإنها لا تتوقَّع أكثرَ من فستان الزفاف والهدايا. فحَسْبها أهميةً وإثارة أنها عروس.»

«هل جعلكِ إدوارد سعيدة؟»

«نعم، لقد كان لطيفًا على الدوام. حتى إنه قبل أن توافيه المنية، طلب مني أن أسامحه على خذلانه إياي. ولم أدرك أنه كان يعني أنه سيتركني لأعيل ابنتَينا. لكن لا تنسَ هذا. لقد حظيت بزواج آمن.»

مال تورش إلى الأمام وربَّت على يدها.

ونصحها قائلًا: «لا بد أن تختاري شخصًا جديرًا في المرة القادمة.»

ومما أثار استياءه أنها أقرت بتلميحه بصراحة فادحة.

«هل تقصد أوزبرت؟ سأصارحك برأيي الآن. لم يكن هناك مَن يضاهيه، حتى التقيت بجوستاف. لقد اعتدت أن أنتظر وأتساءل لماذا لم يطلب مني الزواج. أما الآن فقد تغيَّر كل شيء.»

حاول تورش أن يخفيَ خيبةَ أمله.

وقال ببرود: «إذا كان هذا ما تشعرين به، فليس لي أن أضيف شيئًا. غير أنني سأقول إن أوزبرت قد أثبت بنصيحته لكِ بشأن الوديعة أنه ليس صائد ثروات.»

«وهل كان يملك أن يفعل غير ذلك؟ لكن أمام جوستاف الفرصة نفسها الآن. إذا طلب مني الزواج بعد أن عرف أنني لا أملك شيئًا، فسيثبت أنه غير طامع هو الآخر. هل تعتقد أنه سيفعل يا هارفي؟»

لكنه تجاهل نظرةَ الرجاء في عينَيها.

وقال مذكرًا إياها: «لا أعلم سوى أنه قد رحل.»

فتنهَّدت قبل أن تنتبه إلى حزنه بحرصها الغريزي على مشاعر الغير.

وقالت: «آسفة جدًّا بشأن أوزبرت. لكن ألا يمكنك أن تقدِّر موقفي؟ كل امرأةٍ تريد أن تحيا حياةً حقيقية. وأنا لم أعِش الحياة.»

«أعتقد أنكِ مررتِ بتجاربَ كثيرة.»

«ولادة وموت وزواج. هذه ليست تجارب. لقد كنتُ أصغر من أن أشعر بها. إنها أشياء ألمَّت بي، وأنا رضيت بها. هذا كل ما في الأمر. كانت كأنها تمرُّ من فوق رأسي دون أن تمسني، مثل موجة عالية. هل تعتقد يا هارفي أنه سيعود؟»

«من الأفضل أن تسألي موظفَ حجز التذاكر في المحطة يا عزيزتي. فكيف لي أن أعرف إذا كان حجز تذكرة رجوع؟»

ظلَّا صامتَين ما بقيَ من الرحلة القصيرة. وحين وصلا إلى بروج ندم تورش على اقتراحِه الذهاب في هذه الرحلة؛ لأن جورجيا كانت مستغرِقة في الكآبة. لم تكن في حالة مزاجية تسمح بتقدير الآثار العتيقة. فالشوارع القديمة الخلابة، وكل آثار العصور الوسطى، والكنوز الفنية في الكنائس والمتاحف، والقنوات الراكدة، كلها لم تثِر في نفسها إعجابًا.

لكنها لاحظت السُّخام على الحصى، وشحوب الألوان، والمياه البنية العكرة، التي علَتها سحابةٌ من الحشرات الطائرة. لقد رأت المكانَ متهالكًا وكريه الرائحة وقذرًا، لكنها كانت على يقينٍ من أن الكونت كان سيضفي عليه الحياة، ويجعله عالمًا جديدًا رائعًا لو كان برفقتها.

كان أكثر غدائها تدخين السجائر، ولم تعلِّق على دقات جرس الكنيسة الشهير.

بعد هنيهةٍ سألها تورش: «ما رأيكِ في بروج؟»

«إنها بديعة … لكن هل هي نظيفة؟»

«لا. إذا احتكمنا إلى معايير النظافة، فلم تَعُد بروج كما كانت. سنأخذ القطار التالي يا جورجيا. لكننا قبل ذلك سنزور نوتر دام زيارةً سريعة.»

فقالت جورجيا محتجة: «يا عزيزي، لكنني رأيت الكثير جدًّا من الكنائس، حتى إنها صارت كلها متشابهة الآن.»

«لكن لا بد أن تري تمثال مايكل أنجلو. ولن نزيد على ذلك.»

لكنه أخلَّ بكلمته حين كانا بالداخل؛ إذ توقَّف أمام لوحتَين ثلاثيتَين لبيير بوربو.

قال تورش: «لقد سمِعت قصة طريفة عن الشخص الذي رسم هذه اللوحات. لقد اعتاد أن يوقِّع لوحاته بأن يرسم نفسه واحدًا من الشخصيات الهامشية. ها هو ذا في لوحة سجود الرعاة. إنه هو الذي يعتمر القبَّعة.»

فعلَّقت جورجيا وقالت: «تبدو دعاية عجيبة ومنفِّرة.»

«ربما من وجهة نظرك؛ لأنكِ تنزعجين من تلك الأمور. لكنني أتفهَّم موقفه. لقد قال الرجل لنفسه: «لقد وضعت كلَّ ما أملك في هذا العمل. لقد بذلت فيه جهدي. من ثَم لا بد أن أثبت ذلك. أنني موجود بداخله في حالِ حاول أيُّ شقيٍّ أن يسرق نجاحي. وصورتي تُثبت أن هذا عملي أنا.» هل فهمتِ الآن الأمر من زاويته الشخصية؟»

ابتسمت جورجيا ونظرت إلى وجهه المتحمس.

وقالت: «لكم أنت طيب ومقدِّر على الدوام!»

فقال: «لكنني لست مقدرًا بدرجةٍ كافية، لأعرف كيف يكون وجع الكاحل الذي تشعر به المرأة بعد المشي بكعبٍ عالٍ على الحصى؟ حسنًا. توقَّفي عن التظاهر بالمسكنة. لكِ ما تريدين. سنذهب إلى المحطة مباشرةً.»

توقَّف في رُواق الكنيسة ليشتري بطاقة بريدية مصوَّرة للوحة «سجود الرعاة».

وقال: «احتفظي بها للتذكرة.»

كانت الأمطار تتساقط وهما يغادران بروج، حتى إن تورش المتحمس نفسه أقرَّ بأن المدينة القديمة بدت تعيسة وكئيبة كآبة لا تُوصف، وهي تحت حجاب الدخان والرذاذ. وشعر بالندم على جرِّه جورجيا إلى تلك الرحلةِ المحبِطة، حيث إن هدفه كان رفع معنوياتها.

قالا «الوداع» على سُلم فندقها.

وقال لها: «سوف أسافر الليلة. لا بد أن أكون في المكتب غدًا. هل تريدين أن أبلغ أي شخص برسالة؟»

«بلِّغ أوزبرت تحياتي.»

«سيسرُّه ذلك. إلى متى تنوين البقاء؟»

«لا أعلم.»

«ويحي. ويحي.»

ضحكت بتحدٍّ وقالت: «لمَ لا. أنا لا أريد أن أفوِّت لقاءه، في حالِ رجع. ومن المحتمل أن أمضي إلى السويد.»

«وهناك إنجلترا. فقد أخبرني الكونت أنَّ نصفه إنجليزي.»

سحبت جورجيا يدها وبدأت تصعد السُّلم على مهَل. هامت مثل السائرين نيامًا في الرُّواق المزدحم، ودخلت البهو الواسع بأضوائه الخافتة.

فكان أول مَن رأته هو الكونت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤