الفصل السادس

زهور من أجل العروس

في البداية لم تستطِع جورجيا أن تصدِّق حُسن طالعها. فقد تحققت أمنيتها، خلافًا للاحتمالات وضد قهر الظروف. ومع ذلك، فإنها بدلًا من الموافقة على عرض الكونت، وجدت نفسها تضع العراقيل في الطريق.

باحت قائلة: «ليس بإمكاني أن أكون كونتيسة مطلقًا. فليس بإمكاني الوفاء بالتزامات اللقب. فلتتذكر أنني نكرة.»

فقال الكونت مبديًا افتخاره بها ليهدِّئ من رَوعها: «بل أنا النكرة. فأنا أحمل لقبًا قديمًا لا يراه أحد مطبوعًا، إلا في صفحة المجتمع في صحف بلدي. أما اسم «جورجيا يو» فهو معروف لدى الملايين في أنحاء الكرة الأرضية.»

همست جورجيا، غير قادرة على تفسير وضعٍ تجده واضحًا من وجهة نظرها الطبيعية: «الأمر مختلف.»

كانت تعلم أنها واحدة من الكثير من الشخصيات الاجتماعية التافهة الذين كانت أسماؤهم مألوفة للآلاف، وذلك لاحترافهم التأليف. فإنهم مرتَين سنويًّا ينتشلون أنفسهم بمشقة من القاع حيث تقبع أسماؤهم المغمورة في الأساس، مع ارتفاع مد موسم النشر، ويبذلون محاولةً قوية أو ضعيفة لاكتساب الشهرة، ثم يأوون مرةً أخرى إلى عزلتهم الأصلية.

كان إنتاجها هي أكثر انتظامًا من أن تكون واحدة من تلك النماذج؛ إذ لم تكن كُتبها تختفي من صفحات الإعلانات إلا فترات وجيزة، لكنها تدبَّرت أمورها لتحظى بعزلة شبه تامة. فهي لم تنضم قط إلى نادٍ أدبي، ولا حضرت أيَّ مناسبة، ولا أُخِذت لها صور، ولا أُجريت معها حوارات.

واصلت كلامها في ارتياع وقالت: «إنك لا تفهم قصدي. إنني لا أعرف أحدًا. ولا أذهب إلى أي مكان. سوف أخذلك. كما أنك أخذت صورةً خاطئة عني. أنت تلتقي بنساء راقيات أنيقات. فما الميزة التي تراها فيَّ؟»

فسألها الكونت: «وما الميزة التي رآها زوجكِ فيكِ؟»

«لقد راقبني وأنا أكبَر. لقد كان هو وأبي في المدرسة معًا. فعقَد عَزْمه على الزواج مني وأنا في الرابعة عشرة.»

«تصرُّف كريم منه. تصرُّف كريم في حقك. لا بد أنه كان هناك رجال في حياتكِ من بعده؟»

«واحد فقط. أوزبرت. شقيق هارفي تورش.»

«هنيئًا له. إن تورش لشابٌّ ضئيل ظريف. هل أوزبرت مثله؟»

«لا. إنه أضخم منك.»

أدركت جورجيا في دهشةٍ أنها كانت سعيدةً سعادةً قاطعة، بإهانة الكونت على تهكُّمه وثقته الزائدة بنفسه. ورغم شعورها بسحر جاذبيَّته، أحسَّت بنفورٍ قويٍّ ينتابها.

وواصلت كلامها فقالت: «ولديَّ ابنتاي. وسوف تظلَّان دائمًا اهتمامي الأول. وهما تتمتَّعان بذوقٍ خاص، وربما لا تألفانك ولا تُعجبان بك.»

«بل ستفعلان. وهذا ليس في صالحي. فمن المعروف أن الأطفال والحيوانات ترتبط دومًا بأحقرِ الأشرار. وانظري كم أنا صريح معك. فأنا أرفض أن أفوز بكِ بادِّعاءاتٍ كاذبة.»

لفَّت جورجيا خاتم الزواج يائسة. فقد أدركت أن عليها الحفاظ على صفاء ذهنها حتى لا تتخذ قرارًا خاطئًا. ومع أن بإمكانها التراجعَ عن قرار الزواج ولو قبله بدقيقة، حذَّرتها غريزتها من الضغط الهائل الذي ستمارسه عليها شخصية الكونت بتأثيرها الذي بلغ أقصاه.

إنها اليوم تملِك نفسها، بإرادة حية، وقدرة صافية على التمييز. لكن غدًا قد تصير دمية يحرِّكها شخص بخيوط غير مرئية.

قال الكونت بثقة: «أنت تحبينني حبًّا جمًّا. لكنكِ خائفة مني.»

قالت جورجيا معترضة: «ليس منك. لكنني بالطبع أخاف أن أرتكب خطأً.»

«هذا أمر سهل. إذا رفضتني فلن يسعني فعل شيءٍ إزاء ذلك. لكن ألن تأسفي على أضواء المدن الباهرة، وأنتِ تسيرين على ذلك الشاطئ الكئيب في شفق الشتاء؟ … أو ربما حين تذهبين إلى السينما. بينما أنتِ في رحلة الرجوع الطويلة في الحافلة وهي تجوب الريف المظلم، ألن تذكِّري نفسكِ قائلة: «كان من الممكن أن أكون متألقةً مثل مارلين ديتريش.» أو حين تلتقين بامرأةٍ مضجرةٍ تتباهى بقصة حبٍّ وضيعة. من المؤكد أنكِ ستقولين لها في النهاية: «كان من الممكن أن أصبح كونتيسة.» لكن هل ستصدِّقك؟»

رجَتْه جورجيا قائلة: «توقَّف. كيف لك أن تعرف كل شيء؟»

كان يستعرض المستقبل بحَدْس عجيبٍ حتى إن كل كلمةٍ أصابَت هدفًا في مخيِّلتها. فقد أمكنها أن ترى شرائط الطحالب البحرية البنية على الشاطئ، وتسمع الصياح الحزين للنورس، وتشم المعاطف العازلة للماء في الحافلة المكتظَّة.

واستأنف الكونت كلامَه فقال: «أعلم أنكِ افتقدتِني. فقد رأيت وجهكِ الصغير الحزين حين دخلتِ البهو أمس.»

مضت اللحظة الحاسمة التي اتخذت فيها جورجيا قرارها دون أن تعيَ ذلك. فقد حقَّق الكونت الفوز بكلماته الأخيرة. وتخيلا معًا ضجرًا مرتقبًا لا يطاق. بروكسل الكامدة وبروج الخاملة. مستقبل كئيب، مثل مسطحات موحلة انحسر عنها الجَزْر. دقائق بطيئة، وساعات كليلة وألم من ندمٍ لا ينفع.

قالت له: «لا بد أنك مجنون. وأنا مجنونةٌ لإنصاتي إليك. إننا غريبان.»

«ماذا ستخسرين؟ فقد أثبتُّ لكِ أنني لست صائد ثروات.»

«أعلم. دعني أفكر إذن.»

ونظرت حولها كأنها تبحث عن علامةٍ تدلُّها على مصيرها. كانا جالسَين في الحديقة المقابلة للقصر الملكي. كان يومًا صافيًا، حارًّا، شديد الرياح، حيث جعلت ظلال أوراق أشجار الكستناء البنية تهتزُّ على وجهَيهما مثل المراوح، وتناثر الرذاذ من النافورة الدائرية الكبيرة في الهواء مثل الدخان.

لكنها لم تَجِد العلامة التي بحثت عنها. كانت منصة الفرقة الموسيقية القائمة وسط الأشجار مهجورة، والكراسي خالية. وكانت المسارات المتعرِّجة المتخللة الأيكة بانتظار ساعة التقاء الأحباء في المساء. لم يكن هناك سوى بضعة أطفالٍ راحوا يلعبون حول دائرةٍ من تماثيل حجريةٍ تبحلق، لكن بعيون عمياء.

ثبَّت الكونت عينَيه على وجهها المضطرب.

وقال: «إنني أطلب منكِ الزواج اليوم. لكنني لن أطلبه غدًا. وأريد ردًّا الآن.»

فأجابت قائلة: «موافقة.»

«يا حبيبتي.» وتألَّقت ابتسامة الكونت. «لن تندمي على قراركِ أبدًا. فإنني لا أُغرِق عروستي في حوض الاستحمام. بل إنني أعدكِ بألَّا تجدي فرصةً للاستحمام أبدًا. فسنحتفظ بالفحم في كل الحمَّامات.»

غير آبهٍ للمربيات اللواتي كن يشاهدْنَهما، أخذ الكونت جورجيا في أحضانه وأرجع رأسها إلى الخلف تحت ضغط قُبلته.

فقالت بجرأةٍ متكلفة: «يا له من أسلوبٍ مباغت!»

فسألها الكونت: «ألم يقبِّلكِ أحدٌ من قبل؟»

فقالَت له وصوتها ما زال متهدجًا: «ألم أخبرك أن لديَّ ابنتَين؟ ذكِّرني أن أخبرك لاحقًا بأنني كنت متزوجة.»

«متزوجة من رجل هرِم. فقد ذهب زوجك إلى المدرسة مع أبيكِ.»

«لكنه كان في المدرسة الابتدائية، في حين كان أبي طالبًا مشرفًا في صف التخرُّج.»

«لا بد أنه كان متأخرًا جدًّا في الدراسة إذن.»

كانت جورجيا مدركة أنها تحاول الشعور بالاستياء، إلا أنها لم تستطِع إجبار نفسها على السخط. شاهدَت بشيءٍ من الانزعاج الكونت وهو يشرع في قطف زهور البيوجونيا الوردية الصغيرة، التي تكوَّنت منها أحواض الزهور التي زيَّنت الحديقة.

قالت محتجة: «لا يجوز أن تفعل ذلك. فهذا مخالف للنظام.»

لكنه لم يَزِد عن أن ضحك واضعًا زهرةً في العروة، ثم دسَّ البقية في يدها.

وقال عاقدًا أصابعها حول الباقة: «باقة من أجل العروس. ها قد ضبطتكِ متلبسة بسرقة الزهور. سوف أسير بكِ أمام كل عاملٍ من المسئولين في الحديقة. وسوف يحتجزونكِ وأصير أنا حرًّا مجددًا.»

وحين نفَّذ تهديدَه فعلًا، حيَّاه الرجل الوحيد في الزي الرسمي، وبدا أنه لم يلحظ أنها كانت تحمل معها ملكيةً عامة. ومع أن عاقبة الموقف لم تكن بغيضة، تساءلت جورجيا إن كان تجرُّؤه على القانون واستهانته بالعواقب ينذران بعيب في شخصيته أم لا.

قال الكونت ملوحًا لسيارة أجرة: «لنتناول الغداء. لا بد أن نحتفل.»

وسريعًا سريعًا … استُؤنفت رحلتها المجنونة في التحليق بالهواء بوتيرة سريعة. فذهبا إلى فندق شاهق على الطراز الحديث، ذي أثاث يعتمد في تصميمه على الأنابيب المعدنية وتصدح في أجوائه موسيقى السوينج. طلب الكونت أغلى الأطباق، التي أُهدر أغلبُها. وتذوَّقت الكافيار لأول مرة، وأقسمت أن تكون الأخيرة، وشربت نوعًا من النبيذ، وجدَته باعثًا على الغثيان لكن يبدو أن النادل يستحسنه.

وبعد ذلك زارا متجر مجوهرات، حيث اشترى لها الكونت خاتمًا للخِطبة بسعر باهظ ودون اعتبار لذوقها. بَيْد أنها كانت، ولحسن الحظ، مسحورةً ببريقه؛ ومن ثَم فقد ارتضت أن تُحسب راضخة رضوخ الدمية في يد مَن يحرِّكها.

وقد دفعتها وتيرة ذلك اليوم المربك إلى آفاق خيالية؛ حيث فقدت هويتها وغدت شخصية في واحدة من رواياتها المشوقة. واستمرَّت الإثارة طوال العشاء، وأثناء ذهابهما بالسيارة إلى دار الأوبرا في الغسق الأرجواني بنجومِه الساطعة في السماء.

حين أُسدل الستار على الفصل الأول شرع الكونت يسألها عن ابنتَيها.

«هل هما رقيقتا البنية مثلكِ؟»

فأجابَت بإخلاص: «لا. إنهما طويلتان ووسيمتان مثل أبيهما.»

«لكنه كان عجوزًا.»

«ولهذا السبب فإنهما في غاية الذكاء. لا أعلم أأجعلهما تعملان صحفيتَين أم وكيلتَي عقارات. إنهما مهووستان بحفلات الزفاف في المجتمع والعقارات. ولا يمكنك التفوق عليهما في معلوماتهما عن تفرُّعات الأسرة المالكة.»

«لا بد أن أحكيَ لهما كل شيء عن الأعراس الفاخرة التي حضرتها. إليكِ خطتي. سوف أعود معكِ إلى إنجلترا، لأحصل على موافقة أمكِ. بعدها أريدكِ أن تعودي معي إلى السويد وتزوري جزيرتي.»

هنا تألَّق وجه جورجيا ابتهاجًا.

وقالت: «بالطبع، لا بد أن تأتي ابنتاي أيضًا.»

«لا.» قالها بنبرةٍ قاطعة. «لا يمكن أن تبعديهما عن دروسهما.»

«هراء. لن يضيرَهما الانطلاق بضعة أسابيع. ولا بد أن تريا بيتهما المستقبلي. لا بد أن تتذكَّر أنك تحت الاختبار … ما الأمر؟»

نظرَت مندهشةً إلى جبينه العابس وشفته السفلى التي مدَّها.

وقال بجفاء: «إنما أنا مصدومٌ للغاية من استهانتكِ بالتعليم. لكن ما دمتِ تصرِّين، فلتأتيا. لكن تذكري هذا. إذا طرأت مشكلةٌ ما فيما بعد، فإنها نتيجة أفعالكِ، فلا تلومي إلا نفسكِ.»

سألته، وقد أحبطتها كلماته المنذِرة بالسوء: «ما المشكلة التي قد تطرأ؟»

قال: «مَن يدري.» وهزَّ كتفيه. «ربما تنزعج عمتي.»

«هل ستكون هناك؟»

«بالطبع، فهي مَن ستستضيفكِ.»

«وكلير؟»

«ألا تحبينه؟»

«نعم. وكرِهت الطريقة التي وضع بها ذراعه حول عنقك.»

بدا الكونت مصعوقًا.

وقال: «كيف وهو لم يضمني في مكانٍ عام من قبل؟»

وفجأةً أدركت جورجيا أنها كانت تفكر في الكابوس الذي راودها. ونظرًا لأن الاضطراب غلبها بسبب خطئها، فإنها لم تلحظ أن الكونت هو الآخر قد زل.

فقالت سريعًا: «بالطبع، إنما كنت أبالغ. فقد لمسك فحسب عند خروجه من الحجرة. لكنني لا أحب أن يتلامس الرجال.»

«لن يكون كلير هناك إذن. ها قد فزتِ مجددًا.»

ملأها إقراره بالثقة. ولأول مرة رحَّبت بالمستقبل من دون أي خوف.

قالت: «إنني متأكدة أنني سأحب جزيرتك.»

فقال مصححًا: «جزيرتنا. كلانا محبٌّ للهدوء. وبما أنكِ تخشين الواجبات الاجتماعية التي يحتِّمها وضعكِ، فسوف نجعلها مقرَّنا الدائم. لكن بمجرد أن تشعري بالملل سنشرع في أسفارنا. فيينا وقسطنطينية ونيويورك، أينما أردتِ أن نذهب. فسنذهب هناك ونعود مجددًا. نعود إلى جزيرتنا الجميلة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤