الفصل السابع

استقصاءات سرية

تلقى الشقيقان تورش نبأ خطوبة جورجيا من الآنستَين يو. كانا يقضيان عطلةَ نهاية الأسبوع معًا على الساحل، لكنهما ذهبا إلى منزل الروائية في عصر يوم الأحد.

تساءل أوزبرت حين صار الكوخ ظاهرًا مثل خلية نحلٍ في الأفق: «تُرى هل عادت؟» ولاحظ تورش أنه جعل يزيد من سرعة السيارة متلهفًا على طي الأميال الفاصلة، فيما صار وجهه متشنجًا من الترقب.

حين اقتربا، دخل بالسيارة في الرقعة المعشوشبة الممتدة على حافة الطريق الرملي. وهناك، دل على غياب حركة السير غصون اللبلاب بزهوره الوردية الصغيرة، وباقات زهور كزبرة الثعلب النامية بين الأخاديد، مع امتداد الساحل الخالي والبحر على الجانبَين. رفرفت فراشتان زرقاوان فوق الحشائش وغنَّت قُنْبُرة عاليًا في السماء. وخيَّم على كل شيءٍ الهدوء الشديد المعهود في عصر يوم الأحد، هدوء لا يقاطعه المتنزهون وراكبو الدراجات.

قال أوزبرت: «إنه نموذجي المثالي للبيت.»

لقد أحبَّ المكان وأجَلَّه لارتباطه بجورجيا. أما في الواقع فقد كان منزلًا أبيضَ مطليًّا بالمِلاط الخشن، بأسطح منحدرة، ونوافذ بزجاج منقسم على شكلٍ معيَّن، وأبواب بمزاليجَ جعلته يستحقُّ اسم «كوخ»، وهو العُذر المبتكَر لتصميم المهندس غرفًا صغيرة، لكنه كان حَسن البناء وله إطلالاتٌ رائعة من كل جهة.

وبسبب موقعه المكشوف فقد كانت الرياح كثيرًا ما تعصِف بالحديقة؛ فلا تسمح بازدهار الكثير من الزهور، على الرغم من حمايتها بسياجٍ من شجيرات الأَثْل. كانت البوابة والباب الأمامي مفتوحَين، حتى ليستطيع الناظر أن يرى جزءًا من قاعةٍ غُطِّيت أرضيتُها بالقِرميد الأحمر، وساعةً ذات بندولٍ وصندوق طويل — لم تَعُد تدقُّ — ومجموعةً مبعثرةً من القبعات والمعاطف المعلَّقة على صفٍّ من المشاجب.

وإذ توقفا نبَّأتهما الصيحات المتحمسة بأن هناك مَن تعرَّف إلى السيارة المتوقفة من النوافذ. فقد خرجت ميرل وميفيس من المنزل تركضان جنبًا إلى جنب. فانقضتا على أوزبرت، وجعلتا تدوران به في دوامة بأيديهما المسمرة من الشمس، في حين رضي هارفي بتجاهله لصالح أخيه، واقفًا يبتسم من المشهد.

كانتا فتاتَين حسناوَين قويتَي البنيان، بسيقان مستقيمة مثل أعمدة بناية، وشعر كثيف ذهبي يداخله لون بني. ومع أنَّ بينهما فرقًا في العمر يبلغ عشرة شهور، بدتا كأنهما توءم. وقد عكس وجههما شخصيةً قوية، وكانتا حسناوين على الرغم من تشابههما بأبيهما بفكِّه السفلي العريض.

لقد ارتدتا قمصانًا وسراويلَ داخلية من حرير التوسة ذات لون أخضر باهت، وأحذية خفيفة صبغتها مياه البحر، واستطاعتا، مثل أبيهما، أن تُعطيا ذلك الانطباع المضلِّل بالثروة، وهو الذي ضلَّله في نهاية الأمر فقادَه إلى هلاكه.

كانت ميفيس قد نما لديها بالفعل شعورٌ بالاختيال والزهو، وكانت مربِّيتها، الآنسة جونز، ابنة القس، تفعل ما في وُسعها لتثنيها عنه. وكانت ميفيس أول مَن خرج من مسابقة العناق لتحييَ هارفي.

فسألته: «هل سمعت الأخبار أيها السيد؟» مستغلةً غياب أمها لتبُث معلومةً غير مسموحٍ بنقلها.

فقال على الفور: «أخبريني.»

وكالعادة سبقتها أختها الصغرى، لا يعيقها توخي الدقة فيما تقول.

فقد صاحت ميريل قائلة: «سنأخذ جميعًا لقبَ كونتيسة.»

استرقَ تورش النظر سريعًا نحو شقيقه. كان وجه أوزبرت مسمرًّا فلم يَبِن إن كان لونه قد تغيَّر أم لا، لكن عرف هارفي من جموده المفاجئ أن الخبر كان ضربةً قوية.

فقال، محاولًا أن يبدوَ غير مكترث: «لقد وصلهما بعض الثرثرة. لا أعتقد أن الأمر بات رسميًّا.»

ثم تحوَّل نحو ميفيس.

وسألها: «هل عادت أمكِ؟»

فأجابته: «لا. إنها لا تزال في أوروبا.»

«وهل جَدتكِ موجودة؟»

«مؤكد يا عزيزي.»

التقت السيدة بلفري بهما في البهو. كانت مثل ابنتها الموهوبة ضئيلةَ الحجم وبالغةَ الحسن، لكنها على النقيض من جِدية جورجيا، كانت على قَدْر من المرح الجاف. كان شَعرها الرمادي الجميل مهوشًا من أثر النوم، ومن الجلي أنها استعدَّت في عجالة. فقد كان وجهها لامعًا من أثرِ كِريم الترطيب، فيما ارتدَت معطفًا منزليًّا منقوشًا بالزهور مكرمشًا، وانتعلت خُفَّين ورديَّين مزيَّنين بالريش.

صاحت قائلة: «أوزبرت. عزيزي. إنني مسرورة لرؤيتك. وأنت أيضًا يا هارفي.»

مدَّت يدًا لتُصافحَ كلًّا منهما، لكنها ظلَّت ممسكة بأصابع أوزبرت بعد أن تركت يد هارفي.

وتأملت بنيتَه المفتولةَ العضلات قائلة: «ليتك ترتدي سراويلَ قصيرة على الدوام يا أوزبرت. فإنني أفضِّل الرجال في الملابس المريحة.»

ثم تحولت إلى هارفي بسؤال.

«هل سمِعت هذه الشائعة السخيفة؟»

بدا له أن وصف هذا الخبر بأنه شائعةٌ سخيفة ينزل بالكونت منزلةَ الشيء البرَّاق الزائف، مما رفع من معنوياته.

فاستفسر منها قائلًا: «إنها ليست حقيقة إذن؟»

«بالطبع لا. إنها لن تتزوجه على أي حال. ما دامت لي كلمة في الأمر. أيقول إنه كونت؟ لا بد أنه بائع مثلجات أو عاهر. هل تودان احتساء الشاي؟»

فقالت ميفيس تذكِّرها: «إنها ليست ساعة تناول الشاي؟»

«الأوقات كلها ملائمة لتناول الشاي أيتها الصغيرة.» ورفعت السيدة بلفري صوتها قائلة. «هل غلى الإبريق يا هانا؟»

فجاءت الإجابة من المطبخ: «يبقبق.»

«حضِّري الشاي إذن.»

قادتهم السيدة بلفري إلى حجرة الطعام، التي كانت، شأن بقية الكوخ، مفروشةً بأثاث حسن متين، لكنه خالٍ من الذوق. كانت الجدران مطلية بدهان قشدي اللون، والستائر خضراء ضاربة إلى الرمادي، فيما وُضعت سلة مهملات في كل حجرة. كان نموذجًا لمنزل الروائية المشغولة التي لا تجد الوقت للتنقيب عن التحف المميزة لدى باعة التحف.

خلال بضع دقائق كانت هانا العجوز قد جاءت بإبريقٍ بني كبير، وفناجين شاي، وكعكة كبيرة مُعدَّة في المنزل على صينيةٍ وضعَتها في منتصف الطاولة.

قالت: «تفضَّلا ما يروق لكما»، وهي دعوتها لأن يقوما ويتناولا ما يريدان. فاغتنما الإذن، حيث جعلتهما المعاملة غير التقليدية يشعران بأنهما جزءٌ من الأسرة، وإن كانت الفتاتان لم تشاركاهما.

أمرته السيدة بلفري، متحدِّثة بفم مليء بالطعام، فقالت: «حسنًا يا هارفي، أريد أن أعرف كلَّ ما في الأمر. فقد سمعت أنك أيضًا كنت طرفًا في المسألة.»

قال تورش مدافعًا عن نفسه: «لقد عرفتني إليه. وظننت أن الأمر لن يفضي إلى شيء. إنه يبدو صادقًا، إنه شخص مضمون بحق. لا بد أنها قصة حب.»

«أنا أعلَم بالأمر. إنه يحب أموالها.»

«لا. فقد أفصحت عن …»

فقاطعته السيدة بلفري وقالت: «أعلم كل شيء بشأن الوديعة. لكنه يعلم أنها لا تزال تملك ثروةً في رأسها.»

تردَّد تورش مرة أخرى، خشيةَ أن يخون ثقة جورجيا.

وقال: «ثروة سيستغرق زمنًا طويلًا جدًّا ليصيبها، في حال كان ساعيًا وراء ثروتها حقًّا.»

زفرت السيدة بلفري وهي تشعل سيجارة.

وقالت: «المسألة برُمتها مستحيلة. لقد عاشت جورجيا حياتها بأكملها هنا. هنا حيث تنتمي. هذا هو عالمها، ولا يمكن أبدًا أن تكون سعيدة وهي بعيدة عنه وعنَّا جميعًا.»

«ربما تعشن أنتن معها في السويد؟»

«لا، شكرًا، فلست ممن يستمتع بنكات الحموات. ويجب أن نتكاتف جميعًا لجعلها تدرك خطأها بمجرد أن تعود إلى الديار. لا بد أنها فقدت صوابها. وإنني لأول مرة سأقر بقول: «إن أهل سافولك سذج».»

ثم أمسكت عن الكلام حين دخلت الفتاتان إلى الحجرة منطلقتَين، تلوِّح كلٌّ منهما بعددٍ حديثٍ من مجلَّةٍ نسائية.

قالت ميفيس: «إننا نتفق على بعض تفاصيل حفل الزفاف. لكننا لم نتفق على الفستان؛ فأنا أريد تقليد فستان دوقة نورفوك وميرل تريد فستان دوقة كِنت. لكن سيكون هناك حاشيةٌ من ٢٠ وصيفةً للعروس، وسيؤدي المراسم جوقةٌ كاملة.»

فقاطعتها ميرل: «في كنيسة سانت مارجريت بالطبع. وسوف يرأسه رئيس أساقفة كانتربري، يساعده بضعة من الصغار.»

فقالت ميفيس موضِّحة: «صغار رجال الدين. بعض الأساقفة والكهنة وما إلى ذلك. سيقود العروس إلى المذبح اللورد عمدة لندن؛ لأنها كونتيسة وأبوها غير موجود. وسوف ترتدي تاجًا من المجوهرات. وسيقام العرس في فندق كورنر هاوس في ميدان لستر، في القاعة الكبرى في الطابق السفلي، حيث اصطحبتنا أمي لتناول الغداء.»

فقالت ميرل بفخر: «قاعة برازييه.»

وأضافت في الوقت نفسه تقريبًا: «لقد قررت كذلك كيف سيكون زفافي. سوف أستعيض عن وصيفات العروس برجال. أوزبرت والسائق الجديد لدى السيدة دالي، والكونت. وسوف يرتدون سراويل ضيقة فضية، مثل لاعبي الأكروبات. ألن يبدوا رائعين؟»

ظلت ميفيس تحدق إلى شقيقتها الذكية بإعجاب لا يخلو من غَيرة، حتى انقضت على الخطأ.

«وصيفات العروس لا بد أن يكنَّ فتيات. لا يمكن أن يكونوا رجالًا.»

«أستطيع إذا جعلتهم يرتدون ملابس فتيات.»

لبثت الفتاتان في جدالهما، فيما سارَت السيدة بلفري مع الرجلَين إلى سيارتهما.

فهمست قائلة: «طالما كنتَ عونًا كبيرًا يا هارفي. تقول جورجيا إنها من دونك تضل. فأرجوك أن تجد شيئًا مشينًا بشأن ذلك الكونت المزعوم.»

فوعدها قائلًا: «بإمكاني على الأقل أن أجري بعض الاستطلاعات السرية. أعرف رجلًا في ستوكهولم، ربما يستطيع أن يخبرني شيئًا من أسراره.»

«شكرًا يا هارفي. أعلم أنك ستثبت أنه مدعٍ وعندئذٍ سيعود كل شيء إلى مساره الصحيح.»

سألها أوزبرت بشيء من الجهد: «ما الذي أخبرتكِ به على وجه التحديد؟»

فأجابته السيدة بلفري: «لم أتلقَّ سوى رسالة قصيرة. وكانت مشخبطة وغير مترابطة، لا تليق بأي كاتب لا سيما هي، مما يثبت أنها لم تكن في حالة طبيعية. قالت إنها خُطبت إلى كونت، وإنه رائع، وإنه سيعود معها هذا الأسبوع. الأرجح أنها هي مَن ستسدِّد ثَمن تذكرته.»

أثناء عودة الشقيقين بالسيارة على الطريق الممتد على الساحل، بحذاء الخط الزاحف لزبد البحر، تحدث أوزبرت إلى هارفي.

«ما رأيك لو أجريت مكالمة لستوكهولم على نفقتي؟ فهذا سيوفِّر الوقت.»

فقال تورش، رافضًا الفكرة ليوفر نقود هذا البطل: «كلا. لقد قررت ألَّا أكتب الرسالة. فمن الأفضل لهذه الأشياء أن تتم مشافهة، بحيث لا يكون هناك شيء ليُستخدم ضدك فيما بعد. وسوف أخبرك في الحال بما سأعلمه.»

وبعد عودة أوزبرت إلى المدرسة بفترةٍ غير طويلةٍ اتصل به شقيقه، لكن لم يكن ما لديه من أخبارٍ يدعو إلى التفاؤل.

«الكونت لا بأس به، في حدودِ ما يعلمه ووكر. لكن معلوماته عنه ضئيلة جدًّا. إنه يُسافر أغلب الوقت، لكن لدَيه جزيرة في مكانٍ ما. ووضعه المالي جيد. فهو يصرف ببذخٍ ولا يُدان مطلقًا. كما أنه يبدو ذا شعبية.»

مضَت برهة صمت قبل أن يأتيَ صوت أوزبرت عبر الهاتف.

«قد يكون ووكر مطمئنًّا لكنني لست كذلك. سوف أذهب إلى هناك يوم الأحد، وأتمعن في أمور هذا الرجل المثالي. مهما كانت الأدلة على جدارته، فإنها ستخطو خطوةً في الظلام.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤