الفصل الثامن

لمس الخشب

توجَّه الأخوان تورش مسرعَين إلى الساحل، في الأسبوع التالي، متحليَين بتفاؤل، كان الطقس مسئولًا عنه إلى حدٍّ ما. فقد غطَّت السماءَ بكثافة سحبٌ بيضاء خفيفة، ظل يخترقها باستمرار شعاع مهتز من الضوء. وظهر خط فضي علامةً على التقاء الأفق والبحر، كأنه جير مخفيٌّ يلهو على السهل المتموج من المياه. كانت قبة السماء بلا ريح أو لون، تحمل وعدًا بالإثارة، مختبئًا وراء لغز اتساعها الغامض.

وعند اقترابهما من الكوخ، رأيا جماعةً واقفة عند البوابة للترحيب بهما. كان الكونت هو الأبرز بينهم — متألقًا في سروال أبيض ثلجي — وقد التمع شعره الأشقر في السطوع المؤقت للشمس.

وكان على جانبَيه، ميفيس وميرل، وقد أمسكَت كلٌّ منهما بذراع. ارتدَت كلٌّ منهما فستانًا أبيض عاري الظهر وقبعة ضخمة متدلية، مما جعلهما تبدوان كأنهما ضلَّتا الطريق من أحد شواطئ أوروبا. كانت الاثنتان قد اختلستا مساحيقَ التجميل الخاصة بأمهما، إذ بدا أنف ميفيس في وجهها المسفوع من الشمس مثل لحم مقدَّد أبيض، في حين كانت ميرل الأحذق قد وضعَت البودرة لركبتَيها.

وهكذا لوَّحتا بيدَيهما الأخريَين لزائرَيهما، لكنهما لم تُقدِما على الانطلاق نحو أوزبرت كما اعتادتا.

همس أوزبرت إلى شقيقه: «لقد استغنين عني. شيءٌ ما يخبرني بأنني لن أصير وصيفَ عروس جميلة بملابس ضيقة فضية.»

فتمتم هارفي، وهو غضبانُ مُحنِق: «يا لهما من تافهتَين!»

وحين تقدَّما من البوابة، تولَّت ميفيس التعارف شاعرةً بانتصار: «أقدِّم إليكما الكونت.»

فقالت ميرل مبتهجة، وهي تدُس ذقنها الصغير في عنق الكونت: «إننا نناديه باسم «جوستاف».»

فقال مهددًا: «إذا فعلتِ ذلك ثانيةً فسأعاقبكِ. فإنني لا أقبله إلا من فرسي المفضَّلة.»

ثم مدَّ يده مبتسمًا ابتسامة ترحيب.

«تورش، كم يسرني أن أراك ثانيةً يا عزيزي. هل هذا شقيقك الذي سمعت عنه كثيرًا؟ وكل ما سمِعته عنه حسن. قطعًا. إنني في غاية السرور للقائك ورؤية الحقيقة بنفسي.»

وواصل الدردشة بأسلوب ودي، كأنه يجدد أواصر صداقة قديمة وعزيزة. وكان أسلوبه بسيطًا جدًّا وغير متكلف، حتى إن أوزبرت انجذب إليه، على الرغم من تحامله عليه. وحتى هارفي تراخى قليلًا، وإن كان لاحظ أن بصر الكونت كان ينزع أكثرَ إلى التركيز عليه، بدلًا من التوجُّه لشقيقه الأكبر حجمًا.

قاطعت ميفيس الحديث، قائلة باختيال: «لديَّ ما أخبركم به. إنني غيرى من ميرل.»

فأفصحت ميرل: «وأنا غيرى من ميفيس.»

ثم تابعت ميفيس وقالت: «كلتانا تريد الزواج من جوستاف. وإنني لن أتحدث مع ميرل مرة أخرى.»

«وأنا سأكتب رسائل إلى ميفيس.»

على الرغم من تهديداتهما فقد كانتا تبتسمان بودٍّ كلٌّ منهما للأخرى، بما يدل على أنهما كانتا مزهوتَين عمومًا بالتنافس الجديد بينهما.

أما تورش فقد تملَّكه الاشمئزاز من تصرفاتهما السابقة لسنهما، لكنه كان أمينًا بما يكفي ليقر بأنه كان سيبتسم مثل عمٍّ طيب، لو كان أوزبرت هو مصدر غيرتهما. لكن لم تمضِ سوى دقيقة حتى استاء لمعرفته بأن ثمة خبثًا خفيًّا أمكنه فعلًا أن يعكر الصداقة بين الشقيقتَين الصغيرتَين.

كان هذا جليًّا حين دسَّت ميرل ذقنها باستفزازٍ في عنق الكونت، قبل أن تفرَّ سريعًا إلى مسار الحديقة، وهي تصيح مطلِقة ضحكات البهجة.

فصاح الكونت وهو يجري وراءها: «سوف تنالين العِقاب إذن.»

فصاحَت، منطلقة من الباب الأمامي المفتوح: «لن تلحق بي.»

فقالَت ميفيس: «سوف يلحق بها.»

كان في صوتها نبرة تهكُّمٍ كالكبار حتى إن تورش قد اندهش. بيد أنها ولحسن الحظ نسيَت تذمُّرها؛ إذ راحت تثرثر أثناء توجههم للمنزل.

أسرَّت إليه قائلة: «بات كل شيء عجيبًا. لقد صار جوستاف محورَ كل شيء. فإننا صرنا نتناول الغداء بدلًا من العشاء، ونتناول الشاي في الصالون ومعه صحون. وثمة طرفة كبيرة لا بد أن أحكيَها لك. لقد سأل جوستاف أين الحمَّام الخاص به. إنه يعتقد أن لكل شخص حمامًا كاملًا خاصًّا به. هل تتصور ذلك؟»

فقال تورش مقترحًا: «عنده البحر، إذا كان حجمه الكبير يكفيه.»

«صحيح، إنه يسبح مرتَين. فهو سبَّاح ماهر، وكسب كل الجوائز التي تتخيلها. إنني أحبه، لكن بوجوده ارتبك كل شيء. فلم تَعُد ميرل تلعب لعبة المنازل بأمانة الآن؟»

«منازل؟ ماذا تقصدين؟»

«أوزبرت يعلم. إنها لعبة نلعبها جميعًا. فإننا كل صباح نتصفح الجريدة وتختار كلٌّ منا منزلًا. لكن أمي تقول إننا ينبغي ألَّا نختار منزلًا يحتاج إلى الكثير من الخدم؛ لأننا لن نتخذ أكثر من اثنين. هذه هي القاعدة، واللعبة تفسد إذا لم نلتزم بالقواعد.»

فقال تورش مخمِّنًا: «أعتقد أن ميرل قد سمعت الكونت وهو يتحدث عن قلعته، فاغترَّت بكلامه.»

«حسنًا. لقد اختارت اليوم قصرًا في الريف، به من الحجرات ١٤ حجرة وكل المرافق المعتادة. كان ذلك بعد أن اخترت شقة متكاملة إيجارها ٩٥ جنيهًا في السنة. لكنها قالت إنها ستستضيف الأصدقاء طوال الوقت، وكلٌّ منهم سيقوم بعمله. ليست هذه أمانة؛ لأنها تعلم أننا ليس لدينا أي أصدقاء.»

فقال أوزبرت يذكِّرها: «سوانا.»

«لم أقصدكما. وإنني في غاية القلق. لا أعلم كيف سنملأ كنيسةَ سانت مارجريت من أجل العُرس، من دون ناس.»

فقال أوزبرت مقترحًا: «لا بد أن تدعي جمهورَ أمكِ.»

سرَّه أنها ابتهجت مرة أخرى؛ إذ كان يهوى ميفيس خاصة. فقد كانت طفلة عطوفًا وتلقائية، مُحبة للحيوانات، وذات قلب غاية في الرقة، على الرغم من زهوها وصخبها الخادعين. وبسبب شخصيتها هذه، كانت كثيرًا ما تقع في مآزق تتحاشاها أختها الأوسع حيلةً ميرل.

وما إن دخلا الصالة، حتى رأيا أولَ دليل على «العجب» الذي كان وَصْف ميفيس للتغيير. فقد أُزيلت فوضى القبَّعات والمعاطف، بينما وُضع على صندوق قديم من السنديان مزهرية ورود فاخرة، بدا واضحًا أنها جاءت من متجر لبيع الزهور.

لمح الاثنان من خلال الباب المفتوح لحجرة الطعام المربيةَ وهي تجهز الطاولة بأفضل أدوات المائدة الفضية والأواني الخزفية. كانت الآنسة جونز فتاةً عادية في أواخر العشرينيات، ذات وجه شاحب وعينين داكنتَين برَّاقتَين. وكان الانطباع المرسوم على وجهها عادةً بالحزن بسبب الصمم، الذي قضى على أملها في أن تصير مغنية محترفة.

صاحت ميفيس: «أوزبرت هنا يا جَدتي.»

نزلت السيدة بلفري بتهور على السُّلم غير المغطَّى، محدثةً جلبة كأنها في عجلة لتتشاور سرًّا مع حلفائها. فلاحظ تورش، المنتبِه للصغائر، أن شعرها كان مصففًا في تموجات ثابتة، وأنها كانت ترتدي فستانًا مسائيًّا رسميًّا.

سألتهما بأنفاس لاهثة: «هل ستمكثان للغداء؟» بدلًا من تأكيدها المعتاد أنهما سيتناولان معهم المتاح من الطعام.

وبينما كانا يقبَلان دعوتها، حدثتهما بصوت خفيض.

«كان لا بد أن أراكما في الحال. سأظل في غاية الخجل حتى أجد تفسيرًا … لقد دفع نفقاتِهما هما الاثنين. هل تذكران حين قلت إن جورجيا ستضطرُّ إلى دفع أجرتِه؟»

عندئذٍ أدرك تورش أن التحالف الثلاثي قد انتهى وأنه تبنَّى قضية خاسرة. ارتسم على وجهه تعبير المقاومة إذا تعمَّد رفعَ صوته عن المعتاد وهو يتحدث.

«لقد حصلت على ذلك التقرير الذي أمرتِ به.»

خمد شعوره بالاستياء لأجل أخيه قليلًا؛ إذ خفَّف منه شعورها بالحرج.

قالت ترجوه: «لا، أرجوك. لا أريد سماع كلمة واحدة. كان تصرفًا فظيعًا من جانبي، لكن …»

فقال تورش متممًا: «لكنكِ لم تلتقي به حينذاك.»

«أجل.» ولما شعرت بالراحة باعترافها اعتصرت يدَ أوزبرت. «إنه لَحسنٌ أن يحتشد الأصدقاء حولك في وقتٍ كهذا. أستأذنكما أن أذهب إلى الآنسة جونز لأطلب منها تجهيز مكانَين آخرَين.»

قال تورش معلقًا: «لقد سيطر عليهن جميعًا. إنه سريعٌ في سعيه.»

لم ينتبه أوزبرت له؛ إذ راح يحدِّق في السُّلم. فقد كانت جورجيا نازلةً إلى الرَّدهة، على مهَل، كما لو كانت تشكُّ في الطريقة التي ستُستقبل بها. كان وجهها متوردًا وهي ترمق أوزبرت بنظرةٍ شبه خجلى قبل أن تبتسم له. وفي الحال ذكرت خطوبتها، وإن بدا صوتها المستكين كأنه يعتذر عنها.

«هل سمعت أخباري؟ لم أتوقَّع شيئًا من هذا القبيل حين ذهبت في تلك العطلة. بل إنني لم أُرِد الذهاب. لكن أنت يا هارفي مَن جعلني أذهب. لكن يبدو أن الصُّدف دائمًا ما تحدث لي.»

تمتم تورش قائلًا: «مبارك»، بينما شد أوزبرت على يدها.

وقال بصوت منخفض: «المهم أنكِ سعيدة. هذا كل ما يهم.»

«إنني في غاية السعادة. لكنني مشوَّشة بعض الشيء. سيسرني أن أستقر وأعود إلى الهدوء مرة أخرى. إننا ذاهبين للعيش على جزيرة، على بُعد أميال من كل شيء.»

«ومتى ستتزوجين؟»

«قريبًا، لكنني لا أعلم متى. لقد تركت القرار لجوستاف.»

«تبدين مستسلمة للقدَر.»

«صحيح، أشعر كأنني مثل ريشة في مهب الريح. لن أعلم إلى أين أنا ذاهبة حتى أجد نفسي مستقرةً على الأرض … هلا نرى أَجُهِّز الغداء أم لا؟»

مكثوا منتظرين بلا غاية حتى دخل الكونت حجرةَ الطعام وقد تعلَّقت ميرل بذراعه. كانت قد بدأت تفتعل الحركات، لتغيظ منافستها، حين عالجت ميفيس الخلاف بينهما.

«لا بأس يا ميرل. يمكننا دعوة جمهور أُمِّنا بأكمله إلى الزفاف.»

عجَّ الغداء بالصخب، وإن كان تورش لم يسهم بالكثير لإنجاحه. ولما ظل منتبهًا للتفاعل بين الجلوس، لاحظ أن أوزبرت قد انجذب إلى حديثٍ ودي، موضوعه الألعاب الأوليمبية، وهو أول موضوع وقع عليه اختيار ضيف الشرف. كما أنه لاحظ كيف أن الكونت، عند المقارنة بين بطولات كلٍّ منهما، كان دائمًا يتعمَّد أن يظهر بمظهر الخاسر.

فقد أقرَّ بكرم أخلاق: «أنت أفضل مني دائمًا. ماذا كان أفضل زمن سجَّلته في مسافة نصف الميل؟»

كذلك لاحظ تورش صمت جورجيا، وأنها بدت مكتفية بالإنصات، كأنها منوَّمة مغناطيسيًّا من تأثير حديث حبيبها المتدفِّق. وقرب نهاية الوجبة فتح الكونت زجاجة شمبانيا، أقر بأنه هو مَن جاء بها.

قال الكونت معتذرًا للسيدة بلفري: «أرجو أن تعذريني على شرائها من إبسويتش. لكنها مناسبة خاصة. وسوف أقترح أنا النَّخْب الأول. وقد لا يكون النخب الذي كنتِ تتوقعينه.»

هكذا قام واقفًا، حاملًا الكأس في يده.

وقال: «إن بطولة عزيزتي جورجيا ليست بحاجة لمديح مني. فكلكم تعلمون ما فعلَته. لكنني أود أن أذكِّركم أن هذا أضحى ممكنًا بفضل بطلة ثانية. ربَّة بيت بطلة قامت بكل الواجبات المنزلية التي لا تُقابل بالشكر … إنني أقر بالفضل لسيدة بالغة الشجاعة. وهي أمها.»

ثم انحنى للسيدة بلفري، التي راحت تحدق في الفراغ باللامبالاة غير الطبيعية، التي تنتاب أولئك الذين يستمعون إلى مديحهم على الملأ. كانَت تحاول التغلُّب على الانفعال، إذ كانت المرة الأولى التي يقرُّ فيها أحدٌ بالخدمات التي قدَّمتها خلال أسوأ فترة من حياتها.

فقد تولَّت رعاية المنزل، هي التي لم تعتَدِ الأعمال المنزلية — إلى جانب تولي مسئولية طفلتَين — لتتيح لجورجيا الوقتَ لتقوم بواجب عائل الأسرة. وقد تبيَّن أنها مهمة شاقة، ومرَّت عليها أوقات شعرت فيها بقليل من السخط لغياب عبارات التقدير.

وقد حدَّث تورش نفسه في ضيق: «لماذا لم يخطر لنا أن نفعل ذلك، بدلًا من أن يقوم به هذا الشخص الجديد؟»

وهكذا شربوا النَّخب بحماسة تدُل على شعور بالذنب، وقد أُدينوا بافتقارهم إلى الخيال والتعاطف مع الآخرين.

إذا كانت السيدة بلفري حظيت بالتبجيل في الغداء، فقد دخلت الآنسة جونز دائرةَ الضوء في عصر ذلك اليوم، حين التمس الكونت منها أن تغني. فعزفت افتتاحية موسيقية لأغنية ثم توقفت لتخاطب مستمعيها.

فقد حذَّرتهم قائلة: «قد أشذ عن النغمة. فقد بِت أفعل ذلك أحيانًا. وهو ما يثير الضحك حقًّا؛ لذلك إذا فعلت، فتذكروا أنني لن أبالي إذا ضحكتم.»

لكن لم تقع الكارثة وبدا واضحًا أنه فُتن بصوتها الجميل. فقد أغمض عينَيه لينفرد بصوت المغنية دونًا عن أي شيءٍ آخر، ولم يفتحهما حتى انتهت الأغنية.

وقال: «أود أن تكوني معي على جزيرتي، وحسبك أن تغني لي.»

هنا بان على وجه جورجيا الحالم تعبيرُ اليقظة، الذي كان مألوفًا بدرجةٍ كبيرةٍ لدى وكيلها.

فقد قالت: «إنها لفكرة سديدة. عندئذٍ ستستطيع البنات متابعةَ دروسهن. هل يروق لكِ أن تقضي عطلة في السويد يا آنسة جونز؟»

انفرجت شفتا الفتاة بلهفة لتتكلم، لكن سبقها الكونت.

فقد قال: «يسرني ذلك لكنه مستحيل. فليس لدينا حجرات نوم كافية.»

فقاطعته ميفيس قائلة: «لكنك قلت يا جوستاف …»

«لا، تلك كانت قلعتي. إنني في غاية الأسف يا آنسة جونز، إنها لخسارة كبيرة لي.»

حين انتهَوا من تناول الشاي — «في حجرة الاستقبال، من دون صحون» — همَّ الشقيقان بالرحيل … متحينًا الفرصة، مكث أوزبرت ليتحدث مع جورجيا على انفراد.

حيث سألها: «هل ما زلتِ تأخذين بالفأل والطِّيرة؟»

فأجابته: «بل وأكثر مما كنتُ يومًا.»

«جيد. كنت أرجو أن تعجبكِ هذه.»

وتصيَّد من جيبه سوارًا خشبيًّا. كان السوار مكونًا من كرات خشبية منتظمة في خيط مطاطي، وكل كرة مزيَّنة برمز فضي من رموز حُسن الطالع: حدوة حصان، وترقوة طائر، وما إلى ذلك.

قال لها: «ارتديه فسيجلِب لك حُسن الحظ كأنكِ «تلمسين الخشب»».

«سوف أرتديه دومًا إذن.»

ووضعته في معصمها، ثم تحدثت بشوق.

«ما رأيك في الكونت يا أوزبرت؟»

تردَّد أوزبرت قبل أن يجيبها، تردُّدًا يعود إلى حدٍّ ما إلى محاولته السيطرةَ على عضلات وجهه.

قال أوزبرت: «لقد ارتضيت بالنصيب. فقد خسرتكِ يا جورجيا. وهو أمر مؤلم أشدَّ الإيلام. وأسوأ ما في الأمر أنني إنما لم أنتظر إلا لأمهلك الوقت لتسوية الوديعة … والآن لا يسعني إلا أن أتمنى أن أكون خسرتك لصالح رجل أفضل مني.»

كان يتحدَّث بصراحة تامة. فقد شعر فعلًا بأنه في غاية الضآلة بجانب شخصية الكونت، حتى إنه تاق إلى العودة إلى المدرسة، حيث يستطيع على الأقل تحمُّل المقارنة مع طلاب المدرسة.

وبعيدًا عن إحساسه بالدونية، فإنه لم يستطِع أن يرى سببًا للشك في نجاح الزواج، بما أن أفضل مميزات الكونت هي أنه لا يضمِر دوافعَ خَفية. إن أوزبرت المحب العاشق، اعتبر أنه من المسلَّم به أن يكون سِحر جورجيا النادر، وجمالها الغامض الخيالي، شكلًا وروحًا، كانا ظاهرَين لزوجها المستقبلي، مثلما تجلَّيا له دائمًا.

لذلك فقد خلا باله من الحَيرة التي انتابت أخاه، والتي زادتها ملاحظات الآنسة جونز. فبينما كان تورش يشاهد الكونت وهو يطارد ميفيس — ليعدِل بين المتنافستَين — لاحظ أن المربية هي الأخرى كانَت من المتفرجين على هذا المشهد. فكانت شفتاها مضمومتَين وعيناها في غاية الحزن، حتى إنه حاول أن يُظهِر لها بعض التعاطف.

فقال لها: «لا بد أنكِ ستفتقدين السيدة يو.»

فقالت مفصحة: «لا أستطيع أن أتخيل كيف ستمضي بي الحياة من دونها. فإنها دائمًا في غاية اللطف معي.»

«فلتنظري إلى الجانب المضيء. إنه في صالح تلميذتَيك. لا بد أن يسرَّكِ أن الكونت محبٌّ لهما.»

فقالت بانفعال: «إنه ليس محبًّا لهما. فإنه لا يقبِّلهما، ولا يُجلِسهما في حِجره، كما يفعل شقيقك. فهما اللتان تُقبِلان عليه، وهو إنما يدعهما تفعلان ذلك.»

لم ينطِق تورش بتعليق.

لكنه سألها بفضول: «ما الشيء الذي حداكِ إلى إعطاء تلك الخُطبة القصيرة غير اللازمة، قبل أن تغنِّي يا آنسة جونز؟»

فقالت: «لم تكن أنت المقصود. قلت ذلك لحماية السيدة يو. فإنني لم أُرِد أن تستاء من أجلي، في حال ضحِك الكونت مني. فإنني متأكدة أنه كان سيضحك.»

وحين استدعاه نفير تنبيه، ترك تورش المربية وهُرع نحو السيارة. ومع انطلاقهما، التفت الشقيقان إلى الخلف مرسلَين البصرَ نحو الكوخ.

كان الكونت واقفًا باسطًا إحدى ذراعَيه حول جورجيا، فيما تعلَّقت ميفيس بالذراع الأخرى. كادَت ميرل تَخطَف اللقطة؛ إذ تسلَّقت البوابة خلفهم — مثل مَلاك مُحلق في السماء — لتضع ذقنها على شعر الكونت وتطوِّق رقبته بذراعَيها.

بعد أقل من ثلاثة أسابيع، تلقَّى أوزبرت صورةً من السويد، ربما كانت نسخة طبق الأصل للمجموعة نفسها، غير أنهم كانوا متخففين من ملابسهم. لكنهم كانوا لا يزالون مترابطين ومبتسمين ومواجهين للشمس.

وكان الكونت قد كتب رسالةُ على إطار الصورة.

تقول الرسالة: «سعداء رغم أننا متزوجون.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤