الفصل الأول

قرار المجمع المقدس أو حرمان تولستوي

في ٢٠ فبراير/شباط سنة ١٩٠١ نومر و٥٥٧ رسالة المجمع المقدس إلى أبناء الكنيسة الأرثوذكسية المؤمنين بخصوص الكونت ليون تولستوي.

إن المجمع المقدس لاهتمامه بأبناء الكنيسة الأرثوذكسية، وحفظهم من العثرات المؤدية إلى الهلاك وخلاص الضالين قد أصدر حكمًا ضد الكونت ليون تولستوي، وتعاليمه الكاذبة المضادة للمسيح والكنيسة، ووجد مناسبًا لحفظ سلام الكنيسة أن ينشر ذلك الحكم في جريدة «أخبار الكنيسة».
«برحمة الله»

من المجمع المقدس إلى أبناء الكنيسة الأرثوذكسية المؤمنين.

«لنفرح بالرب»

وأطلب إليكم أيها الأخوة أن تلاحظوا الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافًا للتعليم الذي تعلمتموه، وأعرِضوا عنهم «رومية ص١٦ عدد ١٧».

إن كنيسة المسيح منذ إنشائها احتملت اضطهادات شديدة، وتجديفًا عليها من كثيرين من الهراطقة وعبدة الأوثان الذين كانوا يسعون لهدمها وتقويض أركان جوهر تعليمها المؤسس على الإيمان بالمسيح ابن الله الحي، غير أن جميع قوات الجحيم حسب وعد الرب لن تقوى على الكنيسة المقدسة التي تبقى غير مغلوبة إلى الأبد، وفي أيامنا الحاضرة ظهر معلم كاذب هو الكونت تولستوي.

إن الكاتب الروسي الشهير الكونت تولستوي الذي ذاع ذكره في العالم حتى طبق الخافقين أرثوذكسي المولد، واعتمد وتهذَّب في الأرثوذكسية، قد غرَّه عقله المتعظِّم على أن يقاوم بوقاحة الربَّ ومسيحَه وميراثَه المقدس، وقد أنكر علانية أمام الجميع أمه الكنيسة الأرثوذكسية التي هذَّبته وثقَّفته، وكرَّس جميع مواهبه العقلية وقواه العلمية لنشر التعاليم المضادة للمسيح والكنيسة ليزيل من عقول وقلوب الناس إيمان آبائهم، الإيمان المستقيم الذي ثبَّت المسكونة، والذي عاش به وخلَّص أسلافنا وأجدادنا، والذي تمسَّكت به للآن روسيا وتعزَّزت فيه، وإنه في تآليفه يكتب كرجل غيور متعصب لهدم جميع طقوس الكنيسة وجوهر الإيمان المسيحي، وهو ينكر الله الحي في الثالوث الأقدس الممجد خالق وضابط المسكونة، وينكر الرب يسوع المسيح الإله والإنسان فادي ومخلِّص العالم الذي تألم من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، وقام من بين الأموات، وينكر الحبل بالرب يسوع المسيح بالجسد بدون زرع، وينكر بقاء والدة الإله الطاهرة عذراء قبل الولادة وبعدها، ولا يعتقد بالحياة بعد الموت ولا بالعقاب والثواب، وينكر جميع أسرار الكنيسة وقوة نعمة الروح القدس فيها، ويهزأ بجميع أواني الكنيسة المقدسة، ولم يخجل من أعظم أسرارها الذي هو سر الأفخارستيا المقدس، والكونت تولستوي كرز بهذه الأمور بدون انقطاع بالكلام والكتابة لعثرة جميع الشعب الأرثوذكسي، ويا ليته جمح في غوايته سرًّا؛ بل هو جاهر بالضلال عن عمد وقصد، وسلخ نفسه عن الكنيسة. وبما أن جميع المساعي التي بُذلت لإرشاده لم تتكلل بالنجاح، فقد اعتبرته الكنيسة ساقطًا من أعضائها وغير تابع لها ما لم يتب ويرجع عن ضلاله، والآن نحن نشهد بذلك أمام الكنيسة؛ لتثبيت المؤمنين، وإرشاد الضالين، وعلى الأخص إرشاد الكونت تولستوي.

إن كثيرين من أقاربه الذين لم يزالوا محافظين على الإيمان أظهروا شدة حزنهم على بقائه في أيامه الأخيرة بدون إيمان بالله والرب مخلِّصنا بإنكاره إياه، وابتعاده عن نيل بركة وصلاة الكنيسة.

ومع شهادتنا واعترافنا بأنه أنكر الكنيسة وشجب تعاليمها نطلب له لكي يعطيه الله توبةً لمعرفة الحق «٢ تي ص٢ عدد ٢٥»، ثم نطلب إليك أيها الإله الرحوم الذي لا تريد أن يموت الخطاة بخطيتهم أن تستجيب صلاتنا وترحمه وترشده إلى طريق كنيستك المقدسة آمين.

التواقيع بيد كل موقع: الوضيع «أنطوني مطران بطرسبرج»، الوضيع: «لاثيوغونست مطران كييف»، الوضيع «فيلاديمير مطران موسكو»، الوضيع «إيوروتيم رئيس أساقفة فارشافا»، الوضيع «يعقوب أسقف كيثسينيسي»، الوضيع «ماركيل أسقف»، الوضيع «بوريس أسقف».

فلما انتشر هذا الحكم تناقلته الجرائد، وتهافت الناس على مطالعته تهافت الجياع على القصاع، وانقسم قراؤه إلى قسمين مختلفين؛ فالقسم الأول: وهم تلميذات وتلاميذ المدارس العالية الذين هاجوا هياجًا عظيمًا؛ لشغفهم الشديد بتولستوي، وافتخارهم به على كل فلاسفة وعلماء أوروبا، فأرسل مئات منهم العرائض إلى المجمع المقدس يطلبون منه أن يحرمهم مع فيلسوفهم الذي يفدونه بأرواحهم، وعدا ذلك فقد قاموا بمظاهرات خشنة في الكنائس والمدارس، فالتزمت الحكومة أن تجنح إلى القوة؛ لتسكين الاضطراب، وألقت القبض على كثيرين وزجَّتهم في السجن، وقد حدث الهياج في ٣٦ مدينة روسية، واتهم بعض الناس الفيلسوف تولستوي بأنه هو الذي كان يحرِّض على الفتنة، وتكذيبًا لذلك نورد ما قالته جريدة الرقيب الغراء١ بهذا الصدد: لقد قالت شركة روتر إن الفيلسوف تولستوي كان أكبر المحرضين على الثورة، وهذا القول خطأ محض؛ لأن الذين طالعوا مؤلفات هذا الرجل الكبير لا يرتابون في أنه من أعداء كل فتنة واضطراب؛ لاعتقاده بأنهما لا يجديان نفعًا، وأن من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ، وما عدا ذلك فقد قال في بعض كتبه: إن الذين يحاولون قلب هيئة الحكومة في هذه الأيام بواسطة الثورات يخيبون سعيًا؛ ذلك أن لكل حكومة جيشًا عظيمًا تكبح به جماح الثائرين، ولديها السكك الحديدية، والتلغراف، والتلفون، وكلها أعمال شديدة التأثير في كبح الثورات، فلا يحاول الناس أمرًا مستحيلًا في هذه الأيام، فإن الثورة تنقلب على مثيريها؛ لقوة الهيئة الحاكمة. ا.ﻫ.

وأما القسم الثاني، فهو الشعب الروسي البسيط، بلغ منه الحقد على تولستوي مبلغًا عظيمًا، ورشقه بألسنة حداد، وأرسل إليه كثيرون كتبًا مشحونة بأنواع السفه والشتايم واللعنات، ولو تسنَّى لهم لفتكوا به.

وعلى أثر ذلك أرسلت زوجة الكونت تولستوي كتابًا إلى سيادة مطران بطرسبرج بصفته رئيس المجمع المقدس تحتج به على قطع زوجها من الكنيسة، وهاك نصه، موسكو في ١١ مارس سنة ١٩٠١:

سيادة المطران أنطوني

طالعت أمس في الجرائد حكم المجمع الصارم الصادر بحرمان زوجي الكونت ليون نيكولا يفتش تولستوي من الكنيسة، ورأيت بين تواقيع رعاتها الذين وقَّعوا الحكم توقيع سيادتكم، فتأثرت تأثُّرًا شديدًا، حتى إني لم أستطع أن أضع حدًّا لحزني الشديد، وليس ذلك ناجمًا عن اعتقادي بأن نفس زوجي تهلك من تلك الورقة التي كتبتم عليها حكمكم الجائر؛ لأن خلاص الأنفس لا يتوقف على الناس، بل ذلك مختص بالله وحده، وإذا نظرنا إلى حياة النفس نظرة دينية فنراها أنها لم تزل مجهولة تمام الجهل، ولا يعرفها أحد غير الله وحده، ومن حسن الحظ أنه لا سلطة للبشر عليها، ولكني لمَّا أرى الكنيسة التي أنا تابعة لها، والتي لا أزال أتبعها ولن أحيد عنها، تلك الكنيسة التي أنشأها المسيح نفسه باسم الله لتبارك حياة الإنسان الكبرى من الولادة، والزواج، والموت، والأفراح، والأتراح، والتي وظيفتها النداء بناموس الرحمة، والصفح، ومحبة أعدائنا، والذين يبغضوننا، والصلاة من أجل الجميع، فمن هذا القبيل لا أعود أفهم أو أدرك تصرف المجمع. أما إذا كان القصد من حرمان ليون نيكولا يفتش تنفير الناس منه واستمالتهم عنه، فهو خطأ واضح؛ لأن جميع الناس زادوا تعلقًا به وميلًا إليه، وسخطوا من هذا الحرمان، ولا تزال تردنا الشواهد على ذلك من جميع أقطار العالم، ثم إني لا أقدر أن أخفي عنكم الغم الذي أحاق بي عندما بلغني قرار المجمع السري سابقًا بشأن منع الكهنة عن الصلاة على جثة زوجي في الكنيسة بعد مماته، والامتناع من دفنه بموجب طقوس الكنيسة، فمن قصدتم أن تقاصوا بهذا القرار؟ هل تقصدون به الميت، أو جثته الجامدة، أو أقرباءه المؤمنين؟ وإذا كان هذا القرار تهديدًا فإلى من توجهون هذا التهديد؟ وماذا تقصدون؟

وهل تظنون حقيقةً أنني لا أجد للصلاة على جثة زوجي في الكنيسة كاهنًا صالحًا مستقلًّا عن الناس لاهتمامه برضى الله الحقيقي، إله المحبة والغفران أكثر من رضى الناس، أو كاهنًا فاسدًا أنال منه مرادي بواسطة المال؟

ولكنني لا أحتاج إلى هذا الأمر مطلقًا؛ لأنني أعتبر الكنيسة بناء روحيًّا لا ماديًّا، ولا أعرف لها رؤساء إلا الذين يفهمون حقيقتها، ويعملون طبق وصاياها، ولو كنت أعتبر أن الكنيسة هي عبارة عن مجمع بشري لا يتردد أحيانًا لرداءة البشر عن مخالفة أعظم وصايا المسيح التي هي وصية المحبة، لكنا خرجنا منها منذ زمن طويل، نحن الذين نحفظ وصاياها، فليس الهراطقة والجاحدون إذن هم أولئك الذين يضلون وهم يفتشون عن الحقيقة، ولكنهم هم أولئك الذين لمَّا جعلتهم كبرياؤهم رؤساء الكنيسة نزلوا أنفسهم منزلة القتلة الروحين، وخالفوا شريعة الكنيسة، التي هي شريعة المحبة، والتواضع، وإنكار الذات، وترك ملاذ العالم، ولو ماتوا خارج الكنيسة. أما الذي يعيشون في داخلها معيشة الفخفخة ويملأون صدورهم بالنياشين، ويزينون رءوسهم بالتيجان، ويطردون «كالرعاة الأردياء» الناس من الحظيرة التي هم رعاتها، فلا ريب أنه يجب أن يكونوا أقل أملًا منهم في الغفران، وإذا حاول الرياء تأويل كلامي هذا فعبثًا يحاول؛ لأن العقل السليم لا ينخدع، بل يفهم مقصودي منه.

الكونتس صوفيا تولستوي
فأجابها المطران بالكتاب الآتي:

حضرة الفاضلة الكونتس صوفيا تولستوي

إن المجمع المقدس بإعلانه سقوط زوجك من الكنيسة لم يتصرف بصرامة مطلقًا، وإنما الصرامة بدت من زوجك بإنكاره الإيمان بيسوع المسيح ابن الله الحي فادينا ومخلِّصنا، فكان يجب عليكِ أن تحزني لهذا الأمر فقط، ولا مراء بأن زوجك لا يهلك من قطعة تلك الورقة المطبوعة، ولكنه يهلك لابتعاده عن ينبوع الحياة الأبدية؛ لأن لا حياة للمسيحي بدون الاتحاد مع المسيح الذي يقول: إنه لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية؛ لأنه هكذا أحب الله معالم حتى بذل ابنه الوحيد كي لا يهلك كل من يؤمن به؛ بل تكون له الحياة الأبدية، والذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله. الحق الحق أقول لكم، إن الذي يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. «يوحنا ص٣ عدد ١٥ و١٦ وص٥ عدد ٢٤». ولذلك نقدر أن نقول كلمة واحدة عمن ينكر المسيح، وهو أنه ينتقل من الحياة إلى الموت، وعلى ذلك يتوقف هلاك زوجك، وإنه هو وحده جنى على نفسه هذا الهلاك وليس أحد سواه.

إن الكنيسة تتألف من جماعة المؤمنين بالمسيح، والتي لم تزالي أنت تابعة لها مع المؤمنين بها وأعضائها. نعم، إن تلك الكنيسة تبارك باسم الله جميع حوادث حياة الإنسان الكبرى من الولادة، والزواج، والموت، والأفراح، والأتراح، ولكنها لا تستطيع ولن تستطيع أن تفعل ذلك مع الغير المؤمنين، مع الوثنين، مع المجدفين على اسم الله الذين ينكرونها، والذين لا يقبلون منها الصلاة والبركة، وبالإجمال مع جميع الذين لا يعدون ذواتهم أعضاء لها، ومن هذا القبيل كان تصرف المجمع غير قابل الانتقاد، بل مفهومًا واضحًا كيوم الله، وهي لم تحِدْ يمينًا أو شمالًا عن شريعة المحبة والصفح والرحمة. نعم، إن رحمة الله لا تحيد، ولكنها لا تصفح عن الجميع، ولا عن كل شيء، «ومن جدَّف على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي.» «متَّى ص١٢ عدد ٣٢».

إن الرب بحسب محبته لنا يريد خلاص الإنسان، ولكن الإنسان يبتعد أحيانًا عن هذه المحبة، ويهرب من وجه الله فيهلك نفسه، وإن المسيح صلى من أجل أعدائه عندما كان مرفوعًا على الصليب، ولكنه في تلك الصلاة لفظ كلمة مرة لمحبته وهي «أنه لم يهلك أحد منهم إلا ابن الهلاك»، وأما زوجك فما دام حيًّا لا نقدر أن نحكم عليه بالهلاك، ولكننا صرحنا بحقيقة حاله بأنه سقط من الكنيسة، ولم يعد عضوًا لها ما لم يتب ويرجع إليها، وإن المجمع في منشوره لم يكن إلا شاهدًا على نفس عمل الكونت فقط، ولذلك فلا يسخط عليه إلا الذين لا يدركون ما يفعلون. تقولين في كتابك إن الناس زادوا تعلقًا بزوجك وإن الشواهد على ذلك تَرِدكم من جميع أقطار الأرض، ولا عجب في ذلك، ولكني أقول لك: إنه ليس في ذلك شيء من التعزية لقلبك؛ لأنه لا يوجد مجد عالمي ومجد إلهي، قال الرسول: «كل مجد إنسان كزهر عشب الحقل، العشب يبس وزهره سقط، وأما كلمة الرب فتثبت إلى الأبد.» «مط ١ ص١ عدد ٢٤ ود ٣٥».

ولما نشرت الجرائد في العالم الماضي خبر مرض زوجك الكونت تولَّد لدى رجال الدين سؤال عام، هو هل يجوز لهم أن يصلوا على جثته ويدفنوه بموجب طقوس الكنيسة مع إنكاره الإيمان بالمسيح والكنيسة؟ وعلى أثر ذلك وردت للمجمع أسئلة عديدة بهذا الشأن، فأصدر إذ ذاك أمرًا سريًّا للكهنة، لا يستطيع إصدار غيره، وهو أنه إذا مات الكونت دون أن يتوب ويرجع إلى الكنيسة، فلا يجوز لهم الصلاة عليه ودفنه حسب طقوس الكنيسة، وليس في ذلك تهديد لأحد، وأنا لا أظن أنه يوجد كاهن حتى ولو فاسدًا يقدم للصلاة على الكونت، ولو أنه صلى عليه كغير مؤمن فيكون عمله مخالفًا لأساس الطقس المقدس، ولماذا تستعملين القوة على زوجك؟ فإنه بدون شك لا يريد أن يدفن بحسب الديانة المسيحية.

أنت لم تزالي حية، وما دمت تعدِّين نفسك عضوًا للكنيسة التي هي بالحقيقة رباط أشخاص أحياء عقلاء يعيشون مع بعضهم باسم الله الحي، وأن إقرارك بأنك تعتبرين الكنيسة بناء روحيًّا يسقط ادعاؤك سقوطًا تامًّا، وعبثًا توبخين خَدَمة الكنيسة، وتنسبين إليهم الرداءة، ومخالفة أعظم وصايا المسيح التي هي وصية المحبة، فالمجمع بإصداره ذلك الحكم لم يخالف تلك الوصية؛ بل بالعكس فإن عمله عمل محبة، ودعوة زوجك للرجوع إلى الكنيسة، ودعوة المؤمنين للصلاة من أجله. أما رعاة الكنيسة فإن الرب جعلهم في رأسها، وليس الكبرياء كما تدعين، وإنهم يرتدون التيجان والنجوم في وقت خدمتهم فقط، وأما في الخارج فإنهم يرتدون المسوح، ولم يزالوا يعامَلون بالطرد والاضطهاد والاحتقار.

وفي الختام أرجوك المعذرة؛ لأني أخرت جوابي إليك لحد الآن، فإنني انتظرت ريثما يخمد وطيس غضبك وتأثرك الشديد، ثم إني أسأله تعالى أن يباركك، ويحفظك، ويرحم الكونت زوجك.

أنطوني مطران، سان بطرسبرج

رد تولستوي على قرار المجمع

أما الكونت فإنه لم يُجِب بادئ بدء على قرار المجمع بشأنه، غير أن بعض الظروف التي ذكرها في كتابه حملته أن يرد عليه بما يأتي: قال: إنني لم أقصد بادئ بدء أن أرد على ما قرره المجمع بشأني، لولا أن ذلك القرار دعا كتَّابًا كثيرين لا أعرفهم يرسلون إليَّ الرسائل تترى مشحونة بملامتي وعذلي، بل وشتمي؛ فالبعض منهم يوبخني على إنكاري ما لست أنكره، والبعض الآخر ينصحني بأن أومن بمن لم أترك الإيمان به، وبعضهم يوافقني على أفكاري، ولكني لا أعتقد أنه يوجد من يعتقد اعتقادي، وإن وُجد فلا يجسر أن يصرح به على رءوس الأشهاد.

وقد عزمت أن أرد على قرار المجمع، وأُظهر للملأ فساده، وأرد أيضًا على جميع مراسليَّ الذين لا أعرفهم.

أما قرار المجمع فإنه يحتوي على نقائص عديدة؛ أولًا: لأنه غير قانوني وذو وجهين متناقضين. ثانيًا: هوائي عديم الحق والأساس، وعدا ذلك فإنه يتضمن نميمة ظاهرة؛ لأنه كان محركًا لصفات ومقاصد سيئة.

غير قانوني وذو وجهين متناقضين لأنه إذا كان مقصودًا به إبعادي عن الكنيسة فإنه لا يوافق عقائدها التي تمنع إصدار مثل هذا القرار، وإذا كان مقصودًا به الإعلان بأن من لا يؤمن بالكنيسة وعقائدها ينفصل عنها، ومن هذا القبيل لم تكن له غاية سوى تهييج الأفكار ضدي، وإيجاد الشغب بين الشعب.

وهوائي لأنه يخطِّئني وحدي فقط بعدم الإيمان بجميع عقائد تعاليم الكنيسة الموضوعة، مع أنه جميع الناس المتنورين يشاركونني برفض تلك الاعتقادات، وصرَّحوا به في الكلام والقراءة والنشرات والكتب.

وهو عديم الأساس لأن معظم فحواه مبني على أنني نشرت بين الناس تعاليم كاذبة كانت سببًا لتشويش أفكارهم، وضعضعت إيمانهم، مع أنني أؤكد أن الذين وافقوني على أفكاري لا يبلغون المائة عدًّا؛ لأن المراقبة كانت حاجزًا حصينًا دون انتشار تعاليمي بخصوص الدين، وقد لاحظت من الكتب الواردة لي بأن جميع الذين طالعوا قرار المجمع بشأني لم يفهموا ما كتبتُه بخصوص الدين.

والقرار عديم الصحة لأنه جاء في بنوده بأن الكنيسة استعملت أنجع الوسائل لرجوعي إليها، ولكن مساعيها لم تتكلل بالنجاح، وليس لذلك ظل من الحقيقة أبدًا، ولم أعلم بشيء من ذلك.

والقرار يتضمن نميمة ظاهرة لأنه حرك الناس لجلب الضرر لي. وأخيرًا أقول: إنه كان محركًا عظيمًا لاقتراف أعمال قبيحة كما كان منتظرًا منه؛ لأنه حرك الناس الجهلاء والبسطاء على بغضي والهياج ضدي وتهديدي بالقتل، وذلك ظاهر من الكتب التي وردت لي؛ فقد كتب لي واحد: «إنك الآن وقعت تحت اللعنة والحرمان أيها الشرير، وستذهب روحك بعد موتك إلى العذاب الأبدي … حيث تموت كالكلب … أنت محروم أيها الشيطان القديم … فلتكن ملعونًا!» وآخر يوبخ الحكومة التي لم تزجَّني بالسجن، أو تقصيني لأحد الأديرة، وقد ملأ كتابه بالشتائم القبيحة. وثالث كتب لي: «إذا كانت الحكومة لا توقفك عند حدك فنحن نجبرك على السكوت!» وأنهى كتابه باللعنات.

وجاء في كتاب رجل رابع: «عندي وسائل فعالة لإيقاف جنونك عند حده.» ثم شتائم ولعنات.

وفي الخامس والعشرين من فبراير «شباط»، وهو اليوم الذي أذاع به المجمع إعلان قطعي من الكنيسة خرجتُ إلى الساحة العامة في موسكو فاستقبلني الجمهور باللعنات، والشتائم، والسب، والقذف، وكانوا يصرخون بصوت واحد قائلين: «هو ذا شيطان بصورة إنسان!» ولولا أني قفلت راجعًا إلى منزلي لقتلني الجمهور لا محالة كما قتل منذ أعوام رجلًا على باب كنيسة بندلايمون.

ومجمل القول أن قرار المجمع كان في غاية الرداءة كالرجال الذين كتبوه وأمضوه وهم يعتقدون بصحة كلامهم اعتقادًا متينًا؛ لكونهم يطلبون من الله أن يغيِّر ما بي لأصير مثل واحد منهم، وإني أحمد الله لأنه لم يستجب دعاءهم.

أردُّ بهذا الكلام ردًّا إجماليًّا على ما جاء في تقرير المجمع، وقد رأيت أن أفصِّل هذا الرد لزيادة الإيضاح، فأقول: جاء في قرار المجمع ما يأتي: «إن الكاتب الروسي الكونت تولستوي الذي اشتهر ذكره في العالم حتى طبق الخافقين أرثوذكسي المولد، واعتمد وتهذب في الأرثوذكسية قد غرَّه عقله المتعظِّم على أن يقاوم بوقاحة الرب ومسيحه وميراثه المقدس، وقد أنكر علانية أمام الجميع الكنيسة الأرثوذكسية التي هذبته وثقفته.» ا.ﻫ.

أما إنكاري للكنيسة التي تدعو نفسها مسيحية فذلك صحيح لا ريب فيه، وبإنكاري لها لم أقاوم الرب؛ بل بالعكس إني أنكرتها لأقدر أن أخدمه بكل قوى نفسي، وقبل أن أنكرها كنت أحترمها كثيرًا، غير أني شككت مرة في صحة تعاليمها وحقيقتها فكرَّست عدة سنين للبحث عن ذلك، فطالعت كل ما استطعت مطالعته من كتب تعاليمها، ودرست عقائد خدمة القداس الإلهي درسًا محكمًا؛ فظهر لي بعد هذا البحث الطويل، والتروي الزائد، والتنقيب المدقق، أن تعاليم الكنيسة ما هي إلا كذب ظاهر مضر، وعقائدها ما هي إلا مجموعة خرافات خشنة وسحر محكم الوضع قد أخفى إخفاء تامًّا جوهر التعليم المسيحي.

وما على القارئ إلا أن يطالع كتاب خدمة القداس الإلهي بإمعانٍ زائد، ويطالع ما به من الطقوس التي ما زال رجال الدين يتممونها تحت اسم الخدمة الإلهية المسيحية، فيظهر له أن جميع تلك الطقوس ما هي إلا أعمال سحرية موضوعة لجميع مطاليب واحتياجات الحياة، منها: إذا مات طفل فَلِكي نستطيع إدخاله الجنة أو الفردوس فما علينا قبل موته إلا أن ندهنه بالزيت ونغطسه بالماء ثلاث دفعات مع قراءة بعض كلمات، ولكي تطهر المرأة الوالدة من النجاسة ينبغي أن يقرأ عليها الكاهن بعض عبارات، أو لكي نتوفق في أعمالنا، أو نعيش عيشة هنيئة في المنزل الجديد، أو لكي تثمر الأشجار وتنمو المزروعات، أو ينقطع الجدب، أو نبرأ من المرض، أو لكي تهنأ نفس الميت في العالم الثاني؛ فلجميع هذه الأمور، ولألوف مثلها، ما علينا إلا أن ندعو الكاهن إلى مكان معلوم فيتمم بعض الطقوس الموضوعة لتلك الغاية فننال ما نتمنى، ويزول الضرر والخطر عنا.

أجل، إنني أنكرتُ الكنيسة وانقطعتُ عن تتميم طقوسها، وكتبت لجميع أقاربي أعلمهم بأن لا يدعوا عند موتي أحدًا من خدمة الكنيسة؛ بل عليهم أن يطرحوا جثتي الجامدة بدون أن يصلَّى عليها كما يطرحون الشيء الفاسد الذي لا لزوم له؛ لكي لا يزعج الناس بوجوده.

ثم جاء أيضًا في قرار المجمع بأنني قد كرَّست كل قواي العلمية والهبة المعطاة لي من الله؛ لكي أنشر بين الشعب التعاليم المضادة للمسيح والكنيسة، وإنني في تآليفي ورسائلي التي عممت نشرها مع تلاميذي في سائر أقطار الأرض وعلى الأخص في أنحاء وطننا العزيز أكرز كرجل غيور متعصب لأهدم جميع طقوس الكنيسة وجوهر الإيمان المسيحي. ولا صحة لهذا الكلام أبدًا؛ لأنني لم أجتهد في حياتي لنشر تعاليمي. نعم، إنني قد ألَّفت لذاتي اعتقادي بتعليم المسيح، ولم أُخفِ هذا التأليف عن الناس الذين طلبوا إليَّ أن يعرفوها، ولكنني لم أطبع أنا كتابًا منها، وقد أظهرت لمن كان يطلب مني أفكاري، وأعطيتهم من كتبي التي كانت توجد عندي.

ثم جاء في ذلك القرار أنني أنكر الله المثلث الأقانيم الممجد والخالق، وأني أنكر الرب يسوع المسيح الإله والإنسان معًا، فادي ومخلِّص العالم الذي تألم من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، وقام من بين الأموات … إلخ. نعم، إنني أنكر الحبل بالرب يسوع المسيح من غير زرع، وأنكر بقاء والدة الإله الطاهرة عذراء قبل الولادة وبعدها، وإنني أنكر التثليث المبهم، ومعمى سقوط الإنسان الأول، وتاريخ الإله المولود من عذراء لافتداء الجنس البشري من الخطية، وإنني أعترف بأن الله واحد، وهو روح ومحبة وأصل كل شيء، وأجتهد أن أكرس حياتي وأعمالي لإتمام مشيئة الله المصرحة في تعليم المسيح.

وجاء أيضًا في ذلك القرار «بأنني لا أعترف بالحياة العتيدة بعد الموت، ولا بالعقاب والثواب». نعم، إنني لا أعتقد اعتقادهم بالحياة الأخرى التي ينتظرونها بالمجيء الثاني؛ إما عذاب أبدي مع الأبالسة في جهنم، أو غبطة دائمة في الفردوس، وإنما أعتقد بحياة أبدية وثواب هنا وفي كل مكان الآن وفي كل أوان، وأتمسك بهذا الاعتقاد تمسكًا زائدًا، ولا أتمنى لنفسي حتى النقطة الأخيرة من حياتي موتًا جسديًّا ماديًّا؛ أعني ولادة لحياة جديدة، وأعتقد أن كل عمل جيد يزيد سعادة حياتي الأبدية، وكل عمل رديء ينقص تلك السعادة. وجاء أيضًا في ذلك القرار «بأني أنكر كل أسرار الكنيسة»، وهذا ما لا ريب فيه؛ لأني أعدُّ الأسرار سحرًا دنيئًا لا تطابق التعاليم عن الله والمسيح، وعدا ذلك فهي تناقض مناقضة ظاهرة تعاليم الإنجيل الواضحة. هذا ما أردت أن أرد به على ما نسبه إليَّ المجمع، والحق يقال بأنني لا أعتقد بما يعتقدون، ولكنني أعتقد بأمور كثيرة يدَّعون أنني لا أعتقد بها.

أما أنا فإني أعتقد أو أومن بما يأتي: أومن بالله أنه روح ومحبة وأصل كل شيء، وأومن أيضًا أنه فيَّ وأنا فيه، وأومن بأن مشيئة الله موضحة إيضاحًا تامًّا في تعليم الإنسان المسيح الذي لا أعتقد به إلهًا، وأعدُّ الصلاة إليه تهكمًا عليه، وأومن بأن سعادة الإنسان الحقيقية تقوم بإتمامه إرادة الله التي تأمر الناس أن يحبوا بعضهم بعضًا، حتى إذا حافظوا على هذه الوصية يستطيعون أن يفعلوا مع غيرهم ما يريدون أن يفعل الناس معهم، وهذا مصرح به في الإنجيل بأعظم صراحة، وأن في ذلك الناموسَ والأنبياءَ، وأعتقد بأن جوهر معيشة كل إنسان ينبغي أن يوجَّه إلى هذا المعنى؛ أي إلى زيادة المحبة فيه، وأن زيادة المحبة تقود كل إنسان بمفرده في هذه الحياة إلى سعادة عظمى، ويكون مقدار السعادة التي ينالها في الحياة الأخرى بقدر المحبة التي تكون فيه، وبواسطة هذه المحبة ينتشر ويسود ملكوت الله على الأرض، وبذلك تتبدل حالة معيشة الناس الحالية المبنية على الفساد والنفاق والبغض والنميمة والخداع، بحب أخوي متبادل وصدق عام، وأعتقد بأنه توجد وسيلة واحدة لانتشار هذه المحبة وهي الصلاة، ولا أعني بها الصلاة العامة في الكنائس التي حرمها المسيح نفسه «متى ص٦ عدد ٥ وعدد ١٣»، بل الصلاة التي أرانا مثالها المسيح وهي صلاة الإنفراد التي تكون بتوجيه كل الأفكار نحو العزة الإلهية، وحصرها لتتميم إرادة الحق. فإذا كانت معتقداتي هذه تحزن أحدًا أو تكون عثرة له أو تغيظه أو لا تعجبه، فأنا لا أستطيع تغييرها، كما أني لا أستطيع تغيير جسدي، فأنا أحيا لنفسي وأموت لنفسي، ولذلك لا أقدر أن أعتقد بخلاف ذلك، وعلى هذا الاعتقاد أستعد للذهاب إلى ذلك الإله الذي خرجت من عنده. ثم إنني لا أجزم بأن اعتقادي هو الحق بذاته، ولكنني لحد الآن لم أجد إيمانًا أوضح منه يسلم به عقلي وقلبي، وإذا اهتديت إلى أحسن من معتقدي الحالي فإني أقبله بكل سرعة؛ لأن الله لا يريد غير الحق، وكذلك لا أستطيع أن أرجع إلى ذلك المعتقد الذي تخلصت منه بعد تلك العذابات الشديدة كما أن الطير لا يستطيع أن يرجع إلى قشرة البيضة التي خرج منها. قال كولريد: «إن الذي يحب الديانة المسيحية أكثر من الحق فذاك لا ريب أنه سيحب كنيسته أو معتقده أكثر من الديانة المسيحية، وينتهي ذلك الشخص بمحبة ذاته «راحته» أكثر من كل شيء في العالم».

أما أنا فسرت راجعًا في طريق أخرى؛ فابتدأت بمحبة إيماني المستقيم أكثر من راحتي وهنائي، ثم أحببت المسيحية أكثر من كنيستي، والآن أحب الحق أكثر من كل شيء في العالم، وللآن أرى هذا الحق مطابقًا للديانة المسيحية كما أفهمها أنا، ولذلك أنا أومن بهذه الديانة المسيحية الحقيقية فأعيش بسرور وراحة وبهناء وهدو أدنو من الموت.

ليون تولستوي

هوامش

(١) الرقيب جريدة أسبوعية، سياسية، أدبية، فكاهية تصدر في ثماني صفحات كبيرة، وبدل اشتراكها ١٥ فرنكًا في السنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤