الفصل العاشر

السر الرهيب

عند بداية انتقالهم للعيش في المنزل ذي المداخن الثلاث، كان الأطفال يكثرون من الكلام عن أبيهم، كما كانوا يكثرون من الأسئلة عنه، وعمَّا كان يفعله وعن مكانه ومتى سيعود إلى البيت. كانت أمهم دائمًا تجيب أسئلتهم بقدر ما تستطيع. لكن مع مرور الوقت قلَّ حديثُهم عنه. لقد شعرت بوبي من البداية تقريبًا أنه لسببٍ غريب تعيسٍ كانت تلك الأسئلة تجرح أمهم وتحزنها. وبدأ الآخران رويدًا رويدًا يشعران بهذا الشعور أيضًا، رغم أنهما لم يستطيعا أن يعبرا عنه بالكلمات.

ذات يومٍ، عندما كانت أمهم منهمكةً للغاية في العمل لدرجة أنها لم تستطع أن تتوقف عنه ولو لعشر دقائق، صعدت بوبي إليها بمشروبها من الشاي في الغرفة الكبيرة الفارغة التي كانوا يسمونها ورشة أمي. لم يكن فيها أي أثاث تقريبًا. فقط منضدة وكرسي وسجادة. لكن دائمًا ما كانت توجد أُصُصُ الزهور الكبيرةُ على عتبات النوافذ ورف المدفأة. كان الأطفال يحرصون على ذلك. ومن خلال النوافذ الطويلة الثلاث التي لا تغطيها ستائر كان المرء يستطيع أن يرى المرج والمستنقع الممتدَّين الجميلَين، واللون البنفسجي الذي يكسو التلال من بعيد، والتغير المستمر الذي تتسم به السحب والسماء.

قالت بوبي: «ها هو شايُكِ يا أمي الحبيبة؛ فلتشربيه وهو ساخن.»

وضعت أمها قلمها وسط الأوراق التي كانت مبعثرةً على كل جزءٍ فوق المنضدة، تلك الأوراق المغطاة بخطها، الذي كان في وضوح الكتابة المطبوعة تقريبًا، وأجمل منها بكثير. وأخذت تمرر يدَيها عبر خصلات شعرها، وكأنها كانت ستشده وتملأ به كفَّيها.

قالت بوبي: «يا لرأسكِ المسكين الغالي! هل يؤلمك؟»

قالت أمها: «لا … بلى … ليس بشدة. بوبي، أتظنين أن بيتر وفِل قد نسيا أباكِ؟»

قالت بوبي بسخط: «لا. لماذا؟»

«لم يعد أيٌّ منكم يتحدث عنه الآن.»

وقفت بوبي أولًا على إحدى قدَميها ثم على الأخرى.

وقالت: «إننا كثيرًا ما نتكلم عنه عندما نكون بمفردنا.»

قالت أمها: «لكنكم لا تُحدِّثونني. لماذا؟»

لم يكن من اليسير على بوبي أن تقول السبب.

قالت بوبي: «أنا … إنكِ …» ثم توقفت عن الكلام. ثم توجهتْ إلى النافذة وراحتْ تنظر منها.

قالت أمها: «بوبي، تعالَي إلى هنا.» فأقبلتْ بوبي إليها.

قالت أمها وهي تُطوِّق بوبي بذراعها وتُسنِد رأسها المشوَّشَ على كتف بوبي: «والآن، حاولي أن تُخبريني يا حبيبتي.»

لكن بوبي أخذت تتململ.

«أخبري أمك.»

قالت بوبي: «حسنٌ إذن، لقد كنتُ أرى أنكِ حزينةٌ جدًّا لأن أبي ليس هنا، وكان حزنكِ يزداد عندما أتكلم عنه. لذلك امتنعتُ عن هذا.»

«والآخران؟»

قالت بوبي: «لا أدري بشأنهما. أنا لم أقل لهما أي شيءٍ عن هذا الأمر مطلقًا. لكنني أتوقع أن شعورهما نحوه كان كشعوري تمامًا.»

قالت أمها وهي لا تزال تسند رأسها عليها: «حبيبتي بوبي، سوف أُخبرك. علاوةً على ابتعاد أبيكِ عنَّا، كنتُ أنا وهو نشعر بحزنٍ شديد — أُوه، حزن فظيع — أسوأ من أي شيءٍ تستطيعين أن تتخيليه، وفي البداية كان يؤلمني بحقٍّ أن أسمعكم جميعًا تتحدثون عنه وكأن شيئًا لم يتغير. لكن الأمر كان سيُصبح أسوأ بكثيرٍ لو أنكم نسيتموه. كان هذا سيصبح أسوأ من أي شيء.»

قالت بوبي بصوتٍ خفيضٍ للغاية: «المشكلة، لقد وعدتُكِ ألَّا أسألكِ أي أسئلة، ولم أسألْك مطلقًا، أليس كذلك؟ لكن المشكلة … إنها لن تدوم طويلًا، أليس كذلك؟»

قالت أمها: «بلى، سوف تنتهي أسوأ مشاكلنا عندما يعود والدكِ إلينا.»

قالت بوبي: «ليتني أملك مساعدتك.»

«أوه، يا حبيبتي، أتظنين أنكِ لا تساعدينني؟ أتظنين أني لمْ أُلاحظ كيف كنتم جميعًا تُحسِنون التصرف، وكيف أنكم لمْ تتشاجروا مثلما كنتم تتشاجرون من قبل، وأني لم ألاحظ كل الأشياء الصغيرة اللطيفة التي تفعلونها من أجلي؛ الورود، وتنظيف حذائي، وإسراعكم إلى ترتيب فراشي قبل أن أتمكن من ترتيبه بنفسي؟»

كانت بوبي تتساءل أحيانًا إن كانت أمها تلاحظ هذه الأشياء.

وقالت: «إن هذا لا يُذكَر، مقارنةً بما …»

قالت أمها وهي تضم بوبي ضمةً أخيرة: «يجب أن أواصل عملي. لا تقولي أي شيءٍ للآخرَين.»

في الساعة السابقة لوقت النوم من مساء ذلك اليوم لمْ تقرأ لهم أمهم، وإنما راحت بدلًا من ذلك تحكي لهم قصصًا عن الألعاب التي اعتادت أن تلعبها هي ووالدهم عندما كانا صغيرَين، وكانا يسكنان متجاورَين في القرية؛ حكاياتٍ عن المغامرات التي خاضها أبوهم مع إخوة أمهم عندما كانوا جميعًا صِبيةً بعضهم مع بعض. كانت قصصًا مضحكةً للغاية، وكان الأطفال يضحكون وهم يسمعونها.

قالت فيليس عندما أضاءت أمُّها شموع غرفة النوم: «لقد تُوفي خالي إدوارد في سن صغيرة، أليس كذلك؟»

قالت أمها: «بلى يا حبيبتي. كنتِ ستُحبينه لو رأيتِه. لقد كان صبيًّا شجاعًا جدًّا، وكان مولعًا بالمغامرات. ودائمًا ما كان يشاغب، لكنه برغم هذا كان صديقًا جيدًّا للجميع. وخالك ريجي في سيلان؛ نعم، ووالدك مسافرٌ أيضًا. لكنني أظن أنهم جميعًا كانوا سيَسعدون لو علموا أننا استمتعنا بالحديث عن الأشياء التي كانوا يفعلونها. ألا تعتقدين هذا؟»

قالت فيليس بنبرةٍ تُعبِّر عن الصدمة: «ما عدا خالي إدوارد. إنه في السماء.»

«لا تظني أنه، لأن الرب قبضه إليه، قد نسينا ونسي الأيام الخواليَ كلها مثلما لم أنسَه أنا. أوه، لا، بل إنه يذكر. إنه فقط غائبٌ لمدةٍ قصيرة. وسوف نراه يومًا ما.»

سألها بيتر: «وسنرى خالي ريجي؛ وأبي أيضًا؟»

قالت أمه: «نعم، وخالك ريجي وأباك أيضًا. طابت ليلتكم يا أحبائي.»

قال الجميع: «طابتْ ليلتُكِ.» ضمتْ بوبي أمَّها إليها بشدةٍ أكبر من المعتاد، وهمست في أذنها قائلةً: «أوه، أُحبكِ كثيرًا يا أمي، أحبكِ … أحبك …»

عندما جلست بوبي أخيرًا تتأمل الأمر برُمته، حاولتْ ألَّا تتساءل ما هي المشكلة الكبرى. لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من ذلك طيلة الوقت. إن أباها لمْ يَمُتْ — مثلما حدث لخالها المسكين إدوارد — لقد قالت أمها هذا. كما أنه لم يكن مريضًا، وإلَّا لظلت أمها إلى جواره. ولم تكن المشكلة أنهم فقراء. لقد أدركت بوبي أنها مشكلة تؤلم القلب أكثر مما قد يؤلمه المال.

قالت بوبي تُحدِّث نفسها: «يجب ألَّا أُحاول التفكير في طبيعة هذه المشكلة، لا، يجب ألا أفعل. أنا سعيدةٌ لأن أمي لاحظتْ أننا لا نتشاجر كثيرًا. سوف نواظب على ذلك.»

لكن وا أسفاه؛ لقد وقع بينها وبين بيتر بعد ظهر ذلك اليوم نفسِه ما أسماه بيتر مشاجرةً من الدرجة الأولى.

لم يكن قد مر عليهم أُسبوعٌ في المنزل ذي الثلاث المداخن حتى طلبوا من أمهم أن تسمح لكلٍّ منهم بالحصول على جزءٍ من الحديقة لنفسه، وقد وافقتْ، وقُسِم الطرفُ الجنوبي الواقع تحت أشجار الدُّرَّاق إلى ثلاثة أجزاءٍ وسُمِح لكلٍّ منهم بزراعة ما يحبه هناك.

زرعتْ فيليس البُليحاء العطرية وأبا خنجر وزهرة فيرجينيا في جزئها. بدأت البذور تنبت، ورغم أن النباتات بدَتْ شبيهةً تمامًا بالعُشب البري، فقد اعتقدت فيليس أنها ستُنبِت أزهارًا يومًا ما. وقدمتْ زهرةُ فيرجينيا ما سوغ اعتقادها خلال وقتٍ قصيرٍ جدًّا، وزهَتْ حديقتُها بزُمرةٍ من الزهور الصغيرة البهية، فكان منها الوردي والأبيض والأحمر والبنفسجي الفاتح.

كانت فيليس تقول بارتياح: «لا أستطيع أن أزيل الأعشاب الضارة لأنني أخشى أن أقتلع ما لا ينبغي اقتلاعه، وهذا يوفر عليَّ الكثير من العمل.»

أما بيتر فبذر بذور الخضراوات من الجزر والبصل واللفت في جزئه من الحديقة. لقد حصل على البذور من المزارع الذي كان يعيش في المنزل الجميل المصنوع من الخشب والجص والمدهون باللونَين الأبيض والأسود الواقع خلف الجسر مباشرةً. لقد كان يربي الديوك الرومية والدجاج الحبشي، وكان رجلًا ودودًا للغاية. لكن خضراوات بيتر لمْ تحظَ قط بفرصةٍ مناسبة للإنبات؛ لأنه كان يُحِب استخدام تربةَ حديقته في حفر القنوات، وبناء القلاع والتحصينات الميدانية لجنوده من اللُّعب. ونادرًا ما تزدهر بذور الخضراوات في تربةٍ مرهقة دائمًا بأغراض الحرب والري.

أما بوبي، فزرعت شجيرات الورد في حديقتها، لكنَّ جميع الأوراق الصغيرة النابتة حديثًا في شجيرات الورد تغضنَت وذبلت، ربما لأنها نقلَتْها من الجزء الآخر من الحديقة في شهر مايو، وليس هذا هو الوقت المناسب من العام بأي حالٍ من الأحوال لنقل الورد. لكنها لمْ تشأ أن تعترف بموتها، وظلتْ تُرجِّي ما لا يُرجَّى، حتى أتى اليوم الذي جاء فيه بيركس لرؤية الحديقة، وقال لها بكل وضوح إن جميع ورودها قد ماتت إلى الأبد.

قال بيركس: «لا تصلح سوى حطبٍ للنيران يا آنستي. فقط اقتلعيها من التربة وأحرقيها، وسوف أعطيكِ بعض الجذور الطازَجة الجيدة من حديقتي؛ البنفسج الثالوث، ونبات المنثور، والقَرنفُل الملتحي، وزهور أذن الفأر. سأحضرها معي غدًا إذا جهزتِ التربة.»

وهكذا بدأت بوبي العمل في اليوم التالي، وتصادف أنْ كان هذا هو اليوم الذي مدحَتها فيه أمُّها ومدَحَت الآخرين لأنهم لا يتشاجرون. نقلت بوبي شجيرات الورد وحملتها إلى الطرَف الآخر من الحديقة، حيث صار كوم مخلفات الشجيرات بالشكل الذي أرادوه من أجل إحراقه في احتفالات يوم جاي فوكس.

في هذه الأثناء كان بيتر قد قرر أن يُسوِّي كل قلاعه وتحصيناته الميدانية بالأرض، وذلك بغرض بناء نموذجٍ لنفق السكة الحديدية المغلق، والنفق المكشوف الذي تمر فيه قضبان السكة الحديدية، والسد، وقناة الماء، وقنطرة الماء، والجسور، وكل شيء.

وهكذا عندما عادت بوبي من آخر رحلاتها الشائكة مع شُجيرات الورد الميتة، أخذ بيتر مجرفة الحديقة وراح يعمل بها بنشاط.

قالت بوبي: «لقد كنتُ أستعمل مجرفة الحديقة.»

قال بيتر: «حسنٌ، وأنا أستعملها الآن.»

قالت بوبي: «لكنني مَن استعملتُها أولًا.»

قال بيتر: «إذن إنه دوري أنا الآن.» وهكذا بدأت المشاجرة.

قال بيتر بعد نقاشٍ ساخن: «إنكِ دائمًا ما تُصبِحين فظَّة بسبب أشياء تافهة.»

قالت بوبي بتحدٍّ وقد احمرَّ وجهها، ويدُها مُطبِقةٌ على مقبض مجرفة الحديقة: «لقد أخذتُ مجرفة الحديقة قبلك.»

«لا تفعلي هذا؛ صدقيني لقد قلتُ في هذا الصباح إنني أعتزم أخذها. ألم أقُل هذا يا فِل؟»

قالت فيليس إنها لا تريد أن يُقحِموها في مشاحناتهما. لكنها ما لبثتْ أنْ أُقحِمتْ بالطبع.

«إذا كنتِ تتذكرين، فإن عليكِ أن تتكلمي.»

«إنها بالطبع لا تذكر؛ لكن يمكنها أن تقول هذا.»

قال بيتر: «ليت كان لي أخٌ بدلًا من أختَين صغيرتَين متذمرتَين سخيفتَين.» كانتا تعرفان دائمًا أن هذه الكلمات تشير إلى أن بيتر قد وصل إلى ذروة غضبه.

أجابت بوبي بإجابتها المعتادة على كلماته تلك.

«لا أدري لماذا اخترعوا الصبيان الصغار أصلًا.» وما إن قالتها حتى نظرتْ إلى أعلى، ورأت النوافذ الطويلة الثلاث في ورشة أمها تلتمع في أشعة الشمس الحمراء. لقد أعاد المنظرُ إلى ذاكرتها كلمات الثناء تلك:

«إنكم لا تتشاجرون كما كنتم تتشاجرون من قبل.»

«يا إلهي!» هكذا صاحت بوبي، وكأنها تلقتْ ضربةً، أو أقفلت أحدَ الأبواب على إصبعها، أو أحستْ ببدايات ألم الأسنان المبرحة البشعة.

قالت فيليس: «ما الأمر؟»

أرادت بوبي أن تقول: «فلنكف عن الشجار. إن أمنا تكرهه بشدة.» ولقد حاولتْ جاهدةً، لكنها برغم هذا لم تستطع أن تقولها؛ فلقد بدا بيتر مسيئًا وشديد الفظاظة.

كان أفضل ما تمكنتْ من قوله: «فلتأخذ مجرفة الحديقة البغيض إذن.» وأرختْ يدها فجأةً من على المقبض. كان بيتر يشده إليه وهو مُحكِمٌ قبضته عليه بقوة، والآن، ولأن الجذب من الناحية الأخرى قد توقف فجأةً، فقد أخذ يترنح ثم انكفأ على ظهره، ووقعتْ أسنان مجرفة الحديقة بين قدمَيه.

قالت بوبي، ولمْ تتمكن من كبح نفسها: «تستحقها.»

ظل بيتر في مكانه نصف دقيقة؛ وهي مدة كافيةٌ لإخافة بوبي قليلًا. ثم زاد في تخويفها بعض الشيء؛ إذ نهض من مكانه، وصرخ صرخةً واحدة، واستحال وجهه إلى شيءٍ من الشحوب، ثم ارتمى على الأرض مرةً أخرى وبدأ يصيح، بوهن ولكن من دون انقطاع. بدا الصوتُ أشبه تمامًا بصوت خنزيرٍ يُقتَل على بُعد ربع ميل منهم.

أخرجَت أمهم رأسها من النافذة، ولمْ تمضِ نصفُ دقيقةٍ حتى كانت جاثيةً على ركبتَيها في الحديقة إلى جوار بيتر، الذي لمْ يكف لحظةً واحدةً عن الصياح.

سألت الأم: «ماذا حدث يا بوبي؟»

قالت فيليس: «إنها مجرفة الحديقة، كان بيتر يشدها إليه، وكذلك بوبي، وقد تركَتْها فسقط بيتر على ظهره.»

قالت الأم: «توقف عن هذا الضجيج يا بيتر. تعالَ. توقف في الحال.»

وضع بيتر كُلَّ ما تبقى من أنفاسه في صيحةٍ واحدةٍ أخيرةٍ ثم توقف.

قالت الأم: «والآن، هل تأذيت؟»

قالت بوبي وهي لا تزال ترتجف من شدة الغضب: «لو كان فعلًا تأذَّى لما أحدث مثل هذه الضجة؛ إنه ليس هلوعًا!»

قال بيتر مُغضَبًا: «أظن أن قدمي قد كُسرت، هذا كل شيء.» ونهض. ثم استحال لونه إلى شحوبٍ كامل. طوقته أمه بذراعها.

وقالت: «لقد تأذى بالفعل. لقد أُغمي عليه. تعالَي يا بوبي، اجلسي وضعي رأسه في حجرك.»

بعد ذلك فكت الأم نعلَي بيتر. وخلعَت اليُمنى منهما، فقَطَرَ من قدمه شيءٌ على الأرض. كان دمًا أحمر اللون. وعندما نزعتْ أمه الجورب وجدتْ ثلاثة جروحٍ حمراء في قدمه وكاحله، في المكان الذي جرحتْه فيه أسنانُ مجرفة الحديقة، ووجدت اللطخات الحُمر تُغطي قدمه.

قالت الأم: «أسرعي بإحضار الماء؛ أحضري جفنةً مملوءة.» فأسرعت فيليس لتحضرها. قلبتْ معظم ما في الجفنة من ماء بسبب استعجالها، واضطُرَّت إلى جلب المزيد منه في دورق.

لم يفتح بيتر عينَيه من جديد إلَّا وكانت أمه قد ربطتْ منديلها حول قدمه، وحملتْه هي وبوبي إلى داخل البيت ووضعتاه على المقعد الخشبي البني الطويل في غرفة المائدة. في ذلك الوقت كانت فيليس قد قطعتْ نصف المسافة في طريقها إلى الطبيب.

جلست الأم إلى جوار بيتر وراحت تغسل قدمه وتكلمه، وخرجت بوبي من الغرفة وأعدت الشاي، ووضعت الغلاية.

أخذت بوبي تُحدث نفسها قائلةً: «هذا كل ما أستطيع أن أفعله. يا إلهي، ماذا لو مات بيتر، أو أصبح مُقعدًا عاجزًا لبقية حياته، أو اضطُر إلى المشي بعكازَين، أو لبْسِ حذاءٍ طويلٍ ذي نعلٍ شبيهةٍ بكتلةٍ خشبية!»

وقفتْ بجانب الباب الخلفي تتفكر في هذه الاحتمالات الكئيبة، وعيناها مثبتتان على برميل الماء.

«يا ليتني لمْ أُولَد أبدًا.» هكذا قالت بوبي، وقالتها بصوتٍ عالٍ.

جاءها صوت يتساءل: «يا إلهي، رحماك يا ربنا! لمَ تقولين هذا؟» ووقف بيركس أمامها ومعه قُفةُ بستانيٍّ خشبيةٌ مليئةٌ بأشياء ذات أوراق خضراء، وتراب ناعم.

قالت بوبي: «يا إلهي، إنه أنت. لقد جرح بيتر قدمه بمجرفة الحديقة؛ ثلاثة جروحٍ كبيرةٍ غائرة، كالتي يُصاب بها الجنود. وقد كان لي يدٌ فيما أصابه.»

قال بيركس: «سوف أشهد بأنها لمْ تكن غلطتكِ. هل رآه الطبيب؟»

«فيليس ذهبت لإحضار الطبيب.»

قال بيركس: «سوف يتعافى، تأكدي من هذا. يا إلهي، لقد دخلت مِذراةٌ قش في جسم حفيد عم والدي، اخترقت جسمه تمامًا، ولقد عادت صحته إلى سابق عهدها في أسابيع قليلة، باستثناء وهن خفيف فقط أصاب دماغه فيما بعد، وقد قالوا إن سببه أنه أُصيب بضربة شمسٍ خفيفةٍ في حقل القش، ولم يكن بسبب المذراة على الإطلاق. إنني أذكره جيدًا. لقد كان رجلًا طيب القلب، لكنه ضعيف، إذا صح القول.»

حاولت بوبي أن تبتهج بهذه الذكرى المشجعة.

قال بيركس: «حسنٌ، أظن أنكِ لن ترغبي في تجشُّم عناء العناية بالحديقة الآن. أريني مكان حديقتكِ، وسأضع لكِ هذه الأشياء هناك. وسأنتظر، إذا كان لي أن أتصرف من دون أي تكليف هكذا، لأرى الطبيب عندما يخرج وأعرف ما سيقول. هوني عليكِ يا آنستي. أُراهنكِ أنه لمْ يُجرَح كذلك.»

لكنه كان قد جُرِح. لقد أتى الطبيبُ ورأى القدم وضمَّدها جيدًا، وقال إن على بيتر ألَّا يطأ بها الأرض لمدة أسبوعٍ على الأقل.

همست بوبي من عند الباب، بأنفاسٍ متقطعة من الفزع: «هل سيُصبِح كسيحًا، أو يُضطَر إلى السير بعُكازَين، أو لبس كتلةٍ خشبية في قدمه، هل سيفعل هذا؟»

قال الدكتور فوريست: «يا للهول! لا! بل سيسير على قدمَيه برشاقةٍ كما كان دائمًا خلال أسبوعَين. لا تقلقي يا صغيرتي.»

عندما رافقتْ أمهم الطبيبَ إلى البوابة كي تأخذ تعليماته الأخيرة، وراحت فيليس تملأ الغلاية من أجل الشاي، أصبح بيتر وبوبي بمفردهما.

قالت بوبي: «إنه يقول إنك لن تُصبح كسيحًا أو تُصاب بأي شيء.»

قال بيتر وقد شعر بانشراحٍ كبيرٍ برغم ما قيل: «بالطبع لن أُصاب بشيءٍ أيتها الحمقاء.»

قالت بوبي بعد هُنيهة صمت: «يا إلهي، بيتر، أنا حقًّا آسفةٌ للغاية.»

قال بيتر بفظاظة: «لا بأس.»

قالت بوبي: «أنا التي تسببتُ في كل هذا.»

قال بيتر: «هذا هراء.»

«لو لم نتشاجر لما حدث ما حدث. كنتُ أعلم أن من الخطأ أن نتشاجر. لقد أردتُ أن أقول هذا، لكنني بطريقةٍ ما لمْ أستطع.»

قال بيتر: «كُفِّي عن هذه الحماقة. ما كان سيوقفني عن المشاجرة أن تقولي ذلك. بالتأكيد لا. وعلاوةً على هذا، فإن عراكنا لمْ يكن له أي علاقة بإصابتي. كان من الممكن أن أضرب قدمي بالمعزقة، أو أن تقتلع أصابعي ماكينةُ فرم القش، أو أن أُحرِق أنفي بالألعاب النارية. كانت قدمي ستُصاب سواءٌ تعاركنا أو لم نتعارك.»

قالت بوبي باكيةً: «لكنني كنتُ أعلم أن عراكنا خطأ، وقد أُصِبتَ الآن و…»

قال بيتر بلهجةٍ حاسمة: «اسمعيني جيدًا، كُفِّي عن الكلام. إذا لم تأخذي حذركِ، فستتحولين إلى متزمتةٍ بغيضةٍ من طالبات مدارس الأحد، صدقيني.»

«لا أقصد أن أكون متزمتة. لكن يشق على النفس جدًّا ألَّا تكون جيدًا رغم محاولاتك الجادة أن تكون كذلك.»

(ربما يكون القارئ الكريم قد عانى من هذه المعضلة.)

قال بيتر: «الأمر ليس هكذا، جميلٌ جدًّا أنه لمْ يكن أنتِ مَن أُصيب. أنا سعيدٌ أنني أنا الذي أُصبت. اهدئي! لو كنتِ أنتِ التي أُصبتِ، لرقدتِ على الأريكة وعلى وجهكِ ملامح ملاكٍ يُعاني ولأصبحتِ محطَّ اهتمام الأسرة القلقةِ وكل هذه الأشياء. وما كنتُ لأتحمل هذا.»

قالت بوبي: «لا، ما كنتُ سأفعل هذا.»

قال بيتر: «بلى، كنتِ ستفعلين.»

«أقول لك إنني لم أكن لأفعل هذا.»

«وأنا أقول إنك كنتِ ستفعلينه.»

جاء صوتُ أمهم من عند الباب: «أوه، يا أولاد، أتتشاجران ثانيةً؟ بهذه السرعة؟»

قال بيتر: «إننا لا نتشاجر؛ ليس بالضبط. ليتكِ لا تظنيننا نتشاجر في كل مرةٍ نختلف فيها!» عندما خرجتْ أمهما ثانيةً، انفجرت بوبي فجأةً:

«بيتر، أنا حزينةٌ حقًّا لإصابتك. لكنكَ وغدٌ لأنكَ تقول إنني متزمتة.»

قال بيتر، على خلاف المتوقع منه: «حسنٌ، ربما أكون كذلك. لقد قلتِ إنني لستُ هلوعًا، حتى وأنتِ في تلك الحالة من الغضب. إن ما أعنيه فقط؛ لا تكوني متزمتةً، هذا كل ما في الأمر. كوني على حذر وإذا أحسستِ بقدوم التزمُّت توقفي عنه في الوقت المناسب. هل فهمتِ؟»

قالت بوبي: «نعم، فهمت.»

قال بيتر بنبرة شهامة: «لنعتبرها هدنة إذن، ولندفن أسلحة العَداء في أعماق الماضي. لنتصافح على هذا. بوبي، عزيزتي، إنني أشعر بالتعب.»

ظل بيتر مُتعَبًا أيامًا عديدةً بعد ذلك، وبدا المقعد الخشبي الطويل صلدًا ومُتعِبًا رغم كل الوسائد والمساند والبطانيات الناعمة المطوية. كان من المؤلم ألَّا يكون قادرًا على الخروج من البيت. فنقلوا المقعد الخشبي الطويل إلى جوار النافذة، وتمكن بيتر وهو في ذلك المكان من رؤية دخان القطارات وهو يلتف على امتداد الوادي. لكنه لم يتمكن من رؤية القطارات.

كان من العسير جدًّا على بوبي في بداية الأمر أن تُعامله المعاملة الحسنة التي كانت تريد أن تعامله بها، وذلك خشيةَ أن يحسب أنها تُغالي في التمسك بالسلوك الحسن. لكن سرعان ما زال هذا الشعور، وأصبحتْ هي وفيليس، كما لاحظ هو، طيبتَين للغاية. كانت أمه تجلس معه عندما تكون أختاه خارج البيت. وجعلت عِبارةُ «إنه ليس هلوعًا» بيتر يعقد العزم على ألَّا يثير أي ضجةٍ حول الألم الذي في قدمه، رغم أن ألمه كان شديدًا بعض الشيء، خاصةً أثناء الليل.

إن المديح يفيد الناس كثيرًا، في بعض الأحيان.

لقد جاءه بعض الزوار كذلك. فجاءت زوجة السيد بيركس لتسأل عن حاله، وكذلك فعل ناظرُ المحطة، والعديد من سكان القرية. لكن الوقت مرَّ عليه ببطءٍ شديد.

قال بيتر: «ليتني أجد شيئًا أقرؤه. لقد قرأت كتبنا كلها خمسين مرة.»

قالت فيليس: «سأذهب إلى عيادة الطبيب. من المؤكد أن لديه بعضَ الكتب.»

قال بيتر: «فقط عن كيفية الإصابة بالأمراض، وعن الأجزاء الداخلية المقززة من أجسام الناس، أتوقع هذا.»

قالت بوبي: «إن لدى بيركس كومةً كاملةً من المجلات التي يُخرِجونها من القطارات عندما يملُّ الناس من قراءتها. سأذهب إليه وأطلبها منه.»

وهكذا ذهبت كل واحدةٍ من البنتَين في طريقها.

وجدت بوبي بيركس مشغولًا بتنظيف المصابيح.

قال بيركس: «وكيف حال الفتى الصغير؟»

قالت بوبي: «أفضل من ذي قبل، أشكرك. لكنه يشعر بمللٍ شديد. لقد جئتُ لأسألك إن كان لديكَ أي مجلاتٍ تستطيع أن تُعيرها إياه.»

قال بيركس بتأسفٍ وهو يحك أذنه بقطعة قطنٍ سوداء مشبعةٍ بالزيت: «يا إلهي، الآن، لماذا لمْ يخطر ذلك ببالي، الآن؟ لقد كنتُ أُحاول التفكير في شيءٍ يُسليه في صباح هذا اليوم تحديدًا، ولمْ أهتدِ إلى أي شيءٍ أفضل من أرنب غينيا. وسيذهب به إليه اليوم في وقت تناول الشاي فتًى من معارفي.»

«يا للروعة! أرنب غينيا حقيقي! سوف يسعد به بيتر. لكنه سيريد المجلات أيضًا.»

قال بيركس: «هذه تحديدًا هي المشكلة. لقد أرسلتُ أفضلها لتوِّي إلى ابن سنيجسون، الذي تعافى لتوه من الالتهاب الرئوي. لكن لا يزال لدي الكثيرُ من الجرائد المصورة.»

التفت بيركس إلى القدر الهائل من الجرائد التي في ركن الغرفة وأخذ منها كومةً بسُمك ستِّ بوصات.

وقال: «جيد! سوف ألفُّها فقط بقطعة خيط وورقة جريدة.»

سحب بيركس جريدةً قديمةً من بين كومة الجرائد وبسطها فوق المنضدة، وصنع منها طردًا أنيقًا.

وقال: «ها نحن ذا، إن فيها الكثيرَ من الصور، ولو أراد أن يعبث فيها بعلبة ألوانه أو بطباشيره الملون، دعيه يفعل. أنا لا أريدها.»

قالت بوبي: «إنكَ رجلٌ لطيف.» ثم تناولت الطرد وانطلقت. كانت الجرائد ثقيلةً، وعندما اضطُرَّت إلى الوقوف عند المزلقان ريثما يمر أحد القطارات، أسنَدت الطرد فوق الحاجز الحديدي. وألقتْ نظرةً عشوائيةً على الكلام المطبوع على صفحة الجريدة التي تُغلِّف الطرد.

فجأةً أحكمَت قبضتها على الطرد بقوةٍ أكبر وأحنَت رأسها فوقه. بدا وكأنها في كابوسٍ فظيع. وراحت تقرأ، لكن الجزء الأخير من العمود في الجريدة كان مقطوعًا، ولمْ تستطع أن تقرأ أكثر مما قرأتْه.

لم تتذكر قطُّ كيف وصلتْ إلى البيت. لكنها سارت على أطراف قدمَيها إلى غرفتها وأغلقت الباب. بعد ذلك فكَّت الطرد وراحت تقرأ ذلك العمود من الجريدة مرةً أخرى، كانت تجلس على حافَة سريرها، وكانت يداها وقدماها في برودة الثلج وكان وجهها مُتقدًا. بعدما قرأت الكلام المكتوب كله، أخذت نفسًا طويلًا غير منتظم.

وقالت: «لقد عرَفتُ الآن إذن.»

كان عنوان ما قرأته: «نهاية المحاكمة. القرار. العقوبة.»

كان اسمُ الرجل الذي يُحاكَم هو اسم أبيها. كان الحُكم «مُدان»، وكانت العقوبة «خمس سنواتٍ من السجن مع الأشغال الشاقة.»

همست بوبي وهي تسحق الورقة بيدها بقوة: «آهٍ يا أبي، هذا ليس صحيحًا؛ أنا لا أُصدقه. إنكَ لم تفعلها أبدًا! أبدًا، أبدًا، أبدًا!»

كان ثمة طرقٌ على الباب.

قالت بوبي: «ما الأمر؟»

سمعتْ صوت فيليس تقول: «إنه أنا. الشاي جاهز، وقد أحضر صبي أرنب غينيا لبيتر. تعالي إلى الأسفل.»

واضطُرَّت بوبي إلى النزول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤