الفصل الأول

تِمْثالُ الْبُطُولَةِ

(١) عَلَى شَطِّ النَّهْرِ

هُنالِكَ، فِي بُقْعَةٍ مِنْ بِقاعِ الرِّيفِ الْجَمِيلَةِ، عَلَى أَطْرافِ الْمَدِينَةِ، كانَتْ تَعِيشَ جَماعاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَرَانِبِ، عِيشَةً راضِيَةً. كانَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ قَرِيبَةً مِنْ نَهْرٍ هادِئٍ، تَتَرَجْرَجُ أَمْواجُهُ، فَتُحْدِثُ أَصْواتًا رَقِيقَةً، كَأَنَّ بَعْضَها يَتَحَدَّثُ إِلَى بَعْضٍ.

وَحَيْثُ يُوجَدُ الْماءُ الْعَذْبُ الصَّافِي تَطِيبُ الْحَياةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ الْماءَ يَتَسَرَّبُ فِي جَوانِبِها، فَتُنْبِتُ نَباتًا حَسَنًا. وَلِذَلِكَ عاشَتْ أَرانِبُ تِلْكَ الْبُقْعَةِ تَتَمَتَّعُ بِأَطْيَبِ ما تُخْرِجُ الْأَرْضُ مِنْ ثَمَرَاتٍ، وَتَجِدُ طَعامَها دُونَ عَناءٍ فِي الْحُصُولِ عَلَيْهِ.

فِي إِحْدَى اللَّيالِي الْمُنِيرَةِ الْقَمْراءِ كانَتِ الْأَرانِبُ فَرْحانَةً. عَلَى شَطِّ النَّهْرِ كانَتِ الْأَرانِبُ تَسْمُرُ، أَعْنِي تَتَحَدَّثُ لَيْلًا.

الْأَرْنَبَةُ الْعَجُوزُ «عِكْرِشَةُ» كانَتْ تَحْكِي لِلْأَرانِبِ الصِّغارِ، فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، طَرائِفَ مِنَ الْأَسْمارِ، وَعَجائِبَ مِنَ الْأَخْبارِ. كانَتْ قَصَّاصَةً بارِعَةً، تَعْرِفُ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ مِمَّا وَقَعَ لِأَسْلافِها الْأَرانِبِ الَّتِي كانَتْ تَعِيشُ فِي هَذا الْمَكانِ، فِي قَدِيمِ الزَّمانِ.

(٢) اَلْفَتَى «دَحْداحٌ»

الْأَرْنَبُ الْفَتَى «دَحْداحٌ» كانَ شَدِيدَ الْفَرَحِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. كانَ فِي أَوَّلِ زِيارَةٍ مِنْهُ لِخالَتِهِ «عِكْرِشَةَ» فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ. كانَتْ هَذِهِ الزِّيارَةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَرَى فِيها شَطَّ النَّهْرِ.

«دَحْداحٌ» لَمْ يُلاقِ خالَتَهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ النَّهْرَ قَبْلَ هَذِهِ الزِّيارَةِ.

«دَحْداحٌ» وَأُمُّ «دَحْداحٍ» وَكَذَلِكَ أَخَواتُ «دَحْداحٍ» كانُوا يَعِيشُونَ فِي مَكانٍ بَعِيدٍ عَنِ الشَّطِّ، فَلَمْ يَرَوْهُ.

فَتَى الْأَرانِبِ وَأُسْرَتُهُ حَضَرُوا إِلَى هَذا الشَّطِّ مُنْذُ ساعاتٍ. أَرانِبُ الشَّطِّ كانُوا فَرْحانِينَ بِقُدُومِ أُولَئِكَ الضُّيُوفِ الْأَعِزَّاءِ.

«دَحْداحٌ» وَأُسْرَتُهُ كانُوا فَرْحانِينَ بِرُؤْيَةِ الْقاصَّةِ الْعَجُوزِ. «عِكْرِشَةُ» كانَتْ فَرْحانَةً كُلَّ الْفَرَحِ بِلِقاءِ أُخْتِها «نَبْهانَةَ» وَلِقاء أُسْرَتِها مِنَ الْأَرانِبِ الذَّكِيَّةِ النَّشِيطَةِ مِنْ حَوْلِها.

فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْقَمْراءِ اجْتَمَعَتْ أَرانِبُ الشَّطِّ، تُحَيِّي الضُّيُوفَ الْأَعِزَّاءَ الَّذِينَ حَضَرُوا لِلزِّيارَةِ مِنْ مَكانِهِمُ الْبَعِيدِ.

أَرانِبُ الشَّطِّ كانَتْ شَدِيدَةَ الشَّوْقِ إِلَى سَماعِ ما تَقُصُّهُ الْعَجُوزُ «عِكْرِشَةُ»، بِمُناسَبَةِ قُدُومِ أَقْرِبائِها الضُّيُوفِ الْأَعِزَّاءِ.

(٣) التِّمثالُ

فَتَى الْأَرانِبِ «دَحْداحٌ» كانَ شَدِيدَ الْإِعْجابِ بِكُلِّ ما رَآهُ فِي رِحْلَتِهِ الَّتِي قامَ بِها لِزِيارَةِ خالَتِهِ «عِكْرِشَةَ».

أَعْجَبَتْهُ الْمَناظِرُ الَّتِي شاهَدَها عَلَى طُولِ الطَّرِيقِ، مِنْ مَكانِهِ الْبَعِيدِ، إِلَى شَطِّ النَّهْرِ، وَأَعْجَبَتْهُ مَشاهِدُ الطَّبِيعَةِ حِينَ وَصَلَ إِلَى شَطِّ النَّهْرِ الْحافِلِ بِالْأَشْجارِ الْمُثْمِرَةِ، وَالْأَزْهارِ النَّاضِرَةِ.

وَأَعْجَبُ ما أَعْجَبَهُ — بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ — تِمْثالٌ نادِرُ الْمِثالِ، مُحْكَمُ الصُّنْعِ، رائِعُ الْجَمالِ، أَبْدَعَهُ مَثَّالٌ فَنَّانٌ مِنَ الْأَرانِبِ، صَنَاعُ الْيَدِ، فائِقُ الْخَيالِ، مَشْهُودٌ لَهُ بِالْبَراعَةِ بِلا جِدالٍ.

جَعَلَ «دَحْداحٌ» يَتَأَمَّلُ التِّمْثالَ، وَكُلَّما عاوَدَ النَّظَرَ إِلَيْهِ ازْدادَ إِعْجابًا بِهِ! كانَ تِمْثالُ «سَوْسَنَةَ» زَعِيمَةِ الْأَرانِبِ، كانَ صُورَةً صادِقَةً لِلزَّعِيمَةِ ذاتِ الْعَزِيمَةِ وَالْإِرادَةِ الْقَوِيَّةِ.

الزَّعِيمَةُ «سَوْسَنَةُ» كانَتْ تَعِيشُ هُناكَ، فِي قَدِيمِ الزَّمانِ. «دَحْداحٌ» كانَ يَسْمَعُ بِجَمالِ هَذا التِّمْثالِ، قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ إِلَى الشَّطِّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَيَراهُ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَيُعْجَبَ بِهِ. «دَحْداحٌ» كانَ مُشْتاقًا إِلَى رُؤْيَةِ تِمْثالِ «سَوْسَنَةَ». تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ أَنْ رَآهُ أَنَّ كُلَ ما سَمِعَهُ أَقَلُّ مِمَّا شَهِدَتْهُ عَيْناهُ.

(٤) «سَوْسَنَةُ»

«دَحْداحٌ» لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ قَبْلًا مِنْ أَخْبارِ «سَوْسَنَةَ» إِلَّا النَّادِرَ الْقَلِيلَ. كُلُّ ما عَرَفَهُ عَنْ حَياتِها: أَنَّها نَجَحَتْ فِي طَرْدِ كُلِّ مُعْتَدٍ وَغاصِبٍ، وَأَفْلَحَتْ فِي سَحْقِ كُلِّ طامِعٍ وَناهِبٍ.

«دَحْداحٌ» وَقَفَ يَتَأَمَّلُ تِمْثالَ «سَوْسَنَةَ» واقِفَةً عَلَى رَأْسِ فِيلٍ ضَخْمِ الْجُثَّةِ، تَلُوحُ عَلَيْهِ أَماراتُ الْفُتُوَّةِ، وَدَلائِلُ الْبَطْشِ وَالْقُوَّةِ، يُمَثِّلُ «سَوْسَنَةَ» مُمْسِكَةً بِعَلَمِ الشَّطِّ الْأَرْنَبِيِّ.

يُمَثِّلُها وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى النَّهْرِ الْأَرْنَبِيِّ، وَعَلى فَمِها بَسْمَةُ الانْتِصارِ. يُمَثِّلُ الْفِيلَ وَهُوَ يُحَيِّي الْعَلَمَ الْأرْنَبِيَّ، فِي خُشُوعٍ وَانْكِسارٍ.

تُرَى: مَنْ ذا الَّذِي أَبْدَعَ ذَلِكَ التِّمْثالَ، الرَّائِعَ الْمِثالِ؟ «نابِهٌ» ابْنُ خالَةِ «دَحْداحٍ» الْمَثَّالُ الْبارِعُ الْمَوْهُوبُ.

«دَحْداحٌ» وَقَفَ أَمامَ التِّمْثالِ يَتَمَلَّاهُ، مُعْجَبًا بِهِ مَفْتُونًا. «دَحْداحٌ» عَرَفَ أَنَّ سُكَّانَ الشَّطِّ أَقامُوا تِمْثالَ «سَوْسَنَةَ» حارِسَةِ النَّهْرِ، تَقْدِيرًا لِما أَسْدَتْ إِلَى الْوَطَنِ الْعَزِيزِ مِنْ بِرٍّ، وَما جَلَبَتْهُ لِأَبْناءِ وَطَنِها الْعَزِيزِ مِنْ خَيْرٍ، وَما دَفَعَتْهُ عَنْهُمْ مِنْ أَذِيَّةٍ وَشَرٍّ، وَما اسْتَطاعَتْ كَشْفَهُ مِنْ بَلاءٍ وَضُرٍّ.

«دَحْداحٌ» أُعْجِبَ بِالتِّمْثالِ، وَصاحِبَةِ التِّمْثالِ، وَصانِعِ التِّمْثالِ.

(٥) حَدِيثٌ شائِقٌ

فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْقَمْراءِ، «دَحْداحٌ» سَأَلَ خالَتَهُ «عِكْرِشَةَ» أَنْ تَزِيدَهُ مَعْرِفَةً بِتارِيخِ «سَوْسَنَةَ» حارِسَةِ النَّهْرِ. «عِكْرِشَةُ» رَحَّبَتْ بِما طَلَبَهُ ابْنُ أُخْتِها «دَحْداحٌ». «عِكْرِشَةُ» ما لَبِثَتْ أَنْ أَنْشَأَتْ تَقُصُّ عَلَى الْأَرانِبِ طَرَفًا مِنْ تارِيخِ «سَوْسَنَةَ» الَّتِي لا يُنْسَى تارِيخُها الْمَجِيدُ.

الْأَرانِبُ جَمِيعًا، صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً، الْتَفَّتْ حَوْلَ «عِكْرِشَةَ»، وَكُلُّها آذانٌ صاغِيَةٌ، وَمِلْءُ نُفُوسِها شَوْقٌ إِلَى أَنْ تَسْمَعَ كُلَّ كَلِمَةٍ تَتَحَدَّثُ عَنْ «سَوْسَنَةَ»، وما قامَتْ بِهِ فِي ماضِيها الْمَجِيدِ.

«عِكْرِشَةُ» قالَتْ، فِي صَوْتٍ هادِئٍ واضِحِ النَّبَراتِ: «عَلَى جَنَباتِ هَذا الشَّطِّ عاشَتْ حارِسَةُ النَّهْرِ «سَوْسَنَةُ»، عَلَى أَرْضِ هَذا الْوَطَنِ الْحَبِيبِ كانَتْ جَدَّتُنا الْكُبْرَى تَقْضِي أَيَّامَ طُفُولَتِها وَصِباها، وَشَبابِها وَكُهُولَتِها وَشَيْخُوخَتِها.

الْجَدَّةُ «سَوْسَنَةُ» أَحَبَّتْ وَطَنَها، فَلَمْ تُفَكِّرْ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ يَوْمًا، بَلِ الْتَزَمَتْ أَنْ تَعِيشَ فِيهِ عُمْرَها كُلَّهُ فِي أَمانٍ. كانَتْ حَياةُ «سَوْسَنَةَ» كُلُّها حافِلَةً دائِمًا بِعَظائِمِ الْأُمُورِ، فَكانَتْ خَيْرَ مِثالٍ لِلْمَهارَةِ وَالْبَراعَةِ، وَالْبُطُولَةِ وَالشَّجاعَةِ.

(٦) بَعْضُ مَزايا «سَوْسَنَةَ»

تَحَدَّثَ عَنْها أَرْنَبٌ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ الثِّقاتِ، فَقالَ: «كانَتْ «سَوْسَنَةُ» — مُنْذُ نَشأَتِها — مَشْغُولَةً بِحِمايَةِ أَهْلِها وَوَطَنِها. دافَعَتْ عَنْهُمْ دِفاعَ الْأَبْطالِ. أَلْهَمَها ذَكاؤُها وَسائِلَ مُبْتَكَرَةً فِي الْقِتالِ، لا تَمُرُّ لِأَحَدٍ عَلَى بالٍ.

حاوَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَعْدائِها أَنْ يَغْلِبُوها، فَلَمْ يُفْلِحُوا. كانُوا أَضْخَمَ جِسْمًا وَأَشَدَّ بَطْشًا، وَلَكِنْ كانَ نَصِيبَهُمُ الْإِخْفاقُ. انْتَصَرَتْ عَلَيْهِمْ بِذَكائِها وَصَبْرِها، وَحُسْنِ حِيلَتِها وَإِخْلاصِها، وَصِدْقِ عَزِيمَتِها. عَرَفُوا — آخِرَ الْأَمْرِ — أَنَّ الانْتِصارَ عَلَى «سَوْسَنَةَ» فِي جَمِيعِ الْأَحْوالِ، مِنَ الْمُحالِ، وَخادِعِ الْآمالِ.

أَفْلَحَتْ فِي حِمايَةِ شَطِّ النَّهْرِ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْرارِ. عاشَ سُكَّانُ الشَّطِّ — فِي عَهْدِها — آمِنِينَ وادِعِينَ.»

عِنْدَ هَذا الْحَدِّ الَّذِي سَجَّلَهُ مُؤَرِّخُ الْأَرانِبِ — حِينَ عَرَضَ لِلْحَدِيثِ عَنْ أَخْبارِ «سَوْسَنَةَ» — تَوَقَّفَتْ «عِكْرِشَةُ» عَنِ الْكَلامِ. جَهَدَها التَّعَبُ. شَعَرَتْ بِحاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَى النَّوْمِ. وَعَدَتْ «عِكْرِشَةُ» الْأَرانِبَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْها أَنْ تَسْتَأْنِفَ — فِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ — ما بَدَأَتْهُ مِنْ تارِيخِ «سَوْسَنَةَ».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤