الفصل الثاني

الْجَبَّارانِ

(١) اسْتِئْنافُ الْحَدِيثِ

فِي أُمْسِيَّةِ الْيَوْمِ التَّالِي اجْتَمَعَتِ الْأَرانِبُ — عَلَى عادَتِها — لِلاسْتِمْتاعِ بِأَحادِيثِ «عِكْرِشَةَ»، وَقِصَصِها الْمُعْجِبَةِ.

لَمَّا اكتَملَ الْمَجْلِسُ أَنْشَأَتْ «عِكْرِشَةُ» تَقولُ: «لا شَكَّ أَنَّكُمْ تَبْتَغُونَ مِنِّي أَنْ أُتابِعَ الْحَدِيثَ فِي تارِيخِ جَدَّتِنا الْعَظِيمةِ «سَوْسَنَةَ»، وَإِنِّي مُوفِيَةٌ بِما وَعَدْتُكُمْ بِهِ.»

وَأَنْتُمْ تَذْكُرُونَ قِصَّةَ بُطُولَةِ «سَوْسَنَةَ» وَهِيَ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ، سَمِعْتُمُوها مِنْ قَبْلُ مَرَّاتٍ، وَعَرَفْتُمْ — مِنْ أَحْداثِها — كُلَّ ما جَرَى بَيْنَ جَدَّتِنا «سَوْسَنَةَ» وَالثَّعْلَبَيْنِ الْغادِرَيْنِ «أَوْسٍ» «وَثُعالَةَ».

لَقَدْ حاوَلا الظَّفَرَ بِها، وَالنَّيْلَ مِنْها؛ فاسَتَطاعَتْ بِسَعَةِ الْحِيلَةِ أَنْ تَنْتَقِمَ مِنْهُما شَرَّ انْتِقامٍ، وَأَنْ تَسْتَمْتِعَ بِالْأَمانِ وَالسَّلامِ.

إِنَّ مَنْ يَتَدَبَّرُ قِصَّةَ بُطُولَةِ «سَوْسَنَةَ» يَجِدُ فِيها مِنَ الْبَراعَةِ ما يَسْتَوْجِبُ أَنْ يُسَجِّلَ اسْمَها بَيْنَ الْأَبْطالِ الْأَمْجادِ، فِي كُلِّ الْبِلادِ. وَلَكِنَّ أَمْجادَ «سَوْسَنَةَ» وَبُطُولَتَها لا تَقِفُ عِنْدَ جِهادِها فِي التَّخَلُّصِ مِنْ «أَوْسٍ» وَ«ثُعالَةَ»، كَما سَتَرَوْنَ.

(٢) حَياةٌ وادِعَةٌ

وَبَعْدَ أَنْ سَكَتَتِ الْجَدَّةُ «عِكْرِشَةُ» هُنَيْهَةً، قالَتْ: «اللَّيْلَةَ أَسْتَأْنِفُ الْحَدِيثَ فِي تارِيخِ جَدَّتِنا «سَوْسَنَةَ» … وَما كادَتْ «سَوْسَنَةُ» تَتَخَلَّصُ مِنْ هَذَيْنِ الْعَدُوَّيْنِ الْماكِرَيْنِ «أَوْسٍ» وَ«ثُعالَةَ»، حَتَّى اهْتَمَّتْ بِالْعَمَلِ النَّافِعِ الْجادِّ، مَعَ أَبْناءِ الْوَطَنِ مِنَ الْأَرانِبِ، مُجْتَهِدِينَ غايَةَ الاجْتِهادِ.

لَقَدْ دَعَتِ الْأَرانِبَ إِلَى انْتِهازِ فُرْصَةِ الْأَمانِ، لِإِصْلاحِ الشَّانِ، وَشَمَّرَتْ مَعَهُمْ عَنِ السَّواعِدِ، مُواصِلَةً السَّعْيَ لِما فِيهِ الْخَيْرُ، وَهِيَ فِي دَعْوَتِها مُؤْمِنَةٌ كُلَّ الْإِيمانِ بِأَنَّ الْوَقْتَ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنَّ الرَّفاهِيَةَ وَالسَّعادَةَ مَرْهُونَةٌ بِبَذْلِ الْجُهْدِ وَتَنْشِيطِ الْعَزِيمَةِ، وَتَرْكِ التَّراخِي وَالتَّكاسُلِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحِرْمانِ وَالْخُسْرانِ.

قالَتْ «سَوْسَنَةُ» لِقَوْمِها: «أَمَا وَقَدْ فَرَغْنا مِنْ مُكافَحَةِ الْأَعْداءِ، وَمُطارَدَةِ الْأَشْرارِ، وَالتَّرَبُّصِ بِالْمُغِيرِينَ الْغادِرِينَ؛ فَعَلَيْنا أَنْ نُعْنَى بِإِصْلاحِ وَطَنِنا الْعَزِيزِ، بِهِمَّةٍ وَإِخْلاصٍ.»

وَاسْتَمَعَ أَبْناءُ الشَّطِّ لِنُصْحِ الزَّعِيمَةِ «سَوْسَنَةَ»، وَلَبِثُوا عامًا يُصْلِحُونَ وَيُعَمِّرُونَ، فِي أَمْنٍ وَرَغادَةٍ، وَهُدُوءِ بالٍ وَسَعادَةٍ، وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ أَنَّ دَوامَ الْحالِ مِنَ الْمُحالِ!

(٣) «أَبُو خُرْطُومٍ» وَ«أَبُو حَيْزُومٍ»

ذا صَباحٍ فُوجِئَ الْأَرانِبُ بِأَنَّهُ قَدْ وَفَدَ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ ضَيْفَانِ ثَقِيلانِ، أَزْعَجا الْآمِنِينَ مِنَ السُّكَّانِ.

هَذانِ الضَّيْفانِ لَيْسا مِنْ بَنِي الْإِنْسانِ، أَحَدُهُما: قَدِمَ عَلَى الشَّطِّ مِنْ أَقْصَى الْغابَةِ. والْآخَرُ: قَدِمَ عَلَى الشَّطِّ مِنْ عُرْضِ النَّهْرِ.

أَوَّلُ الضَّيْفَيْنِ الْفِيلُ «أَبُو خُرْطُومٍ»، جَبَّارُ الْغابَةِ. والْآخَرُ فَرَسُ النَّهْرِ «أَبُو حَيْزُومٍ»، جَبَّارُ النَّهْرِ. كِلاهُما حَيَوانٌ قَوِيُّ الْبَأْسِ، شَدِيدُ الْبَطْشِ، ضَخْمُ الْجِسْمِ. كِلاهُما عَنِيفٌ مُخِيفٌ، لا يُغْلَبُ. كِلاهُما غاشِمٌ ظالِمٌ، لا يَرْحَمُ.

قالَ جَبَّارُ الْغابَةِ لِصاحِبِهِ جَبَّارِ النَّهْرِ: «مِنَ الْمُصادَفاتِ الْغَرِيبَةِ أَنْ نَلْتَقِيَ — السَّاعَةَ — فِي هَذا الْمَكانِ، كَأَنَّنا نَحْنُ مَعًا عَلَى مَوْعِدٍ ارْتَبَطْنا بِهِ يا «أَبا حَيْزُومٍ»!» فَأَجابَ جَبَّارُ النَّهْرِ بِقَوْلِهِ: «ما أَظُنُّكَ قَدِمْتَ هُنا إِلَّا لِلْغَرَضِ الَّذِي قَدِمْتُ مِنْ أَجْلِهِ، أَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ يا «أَبا خُرْطُومٍ»؟»

قالَ جَبَّارُ الْغابَةِ الْفِيلُ: «عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ هَذا الشَّطِّ الْجَمِيلِ تَعِيشُ جَماعاتٌ مِنَ الْأَرانِبِ الصِّغارِ. وَتَظُنُّ أَنَّها سَيِّدَةُ الْمَكانِ، وَكَأَنَّها لا تَحْسِبُ لِأَحَدٍ حِسابًا، وَلا تَخافُ مِنْ أَحَدٍ عِقابًا!»

قالَ فَرَسُ النَّهْرِ «أَبُو حَيْزُومٍ»، ناظِرًا إِلَى الْأَرانِبِ مِنْ بَعِيدٍ: «إِنَّ هَذِهِ الْأَرانِبَ الصِّغارَ قَدْ نَسِيَتْ أَنَّ أَمْثالَنا الْأَقْوِياءَ، هُمْ أَصْحابُ السُّلْطانِ فِي كُلِّ مَكانٍ، وَأَنَّ أَمْثالَها الضُّعَفاءَ يَجِبُ أَنْ تَخْضَعَ لَنا كُلَّ الْخُضُوعِ، وَلا تَكُونَ لَها — بِأَيِّ حالٍ — كَلِمَةٌ غَيْرُ كَلِمَتِنا، وَلا يَرْتَفِعَ لَها صَوْتٌ فَوْقَ صَوْتِنا!»

أَجابَهُ جَبَّارُ الْغابَةِ «أَبُو خُرْطُومٍ» عَلَى الْفَوْرِ: «إِنِّي أَعْجَبُ لِهَذِهِ الْأَرانِبِ الصِّغارِ، كَيْفَ لا تَعْتَرِفُ بِضَعْفِها؟ كَيْفَ لا تَخْشَى قُدْرَتَنا عَلَى أَنْ نَبْطِشَ بِها؟ كَيْفَ لا تَعْتَرِفُ بِأَنَّنا أَوْلَى بِهَذا الْمَكانِ مِنْها؟ هَيَّا بِنَا نُؤَدِّبُها يا أَبا حَيْزُومٍ!»

الْأَرانِبُ انْزَعَجَتْ حِينَ شَهِدَتْ جَبَّارَ الْغابَةِ وَجَبَّارَ النَّهْرِ، يَحْتَلَّانِ أَرْضَها الْعَزِيزَةَ، ماذا تَصْنَعُ أَرانِبُ الشَّطِّ يا تُرَى؟ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى طَرْدِ عَدُوَّيْهِمْ، وَالْخَلاصِ مِنْهُما؟ لا قُدْرَةَ لِأَرانِبِ الشَّطِّ عَلَى مُحارَبَةِ هَذَيْنِ الْجَبَّارَيْنِ.

لَمْ يَبْقَ أَمامَ الْأَرانِبِ غَيْرُ الذَّهابِ إِلَى الزَّعِيمَةِ «سَوْسَنَةَ» حامِيَةِ الْوَطَنِ مِنَ الْمُعْتَدِينَ، وَحارِسَةِ النَّهْرِ مِنَ الْمُغِيرِينَ.

الْأَرانِبُ أَسْرَعَتْ إِلَى «سَوْسَنَةَ». الْأَرانِبُ حَدَّثَتْ «سَوْسَنَةَ» بِما تَمَلَّكَها مِنْ خَوْفٍ شَدِيدٍ مِنْ قُدُومِ هَذَيْنِ الْعَدُوَّيْنِ.

(٤) حَبْلُ السَّفِينَةِ

«سَوْسَنَةُ» لَمْ يُساوِرْها الْفَزَعُ، وَلَمْ تَسْتَسْلِمْ لِلْهَلَعِ. «سَوْسَنَةُ» طَمْأَنَتِ الْأَرانِبَ، وَطَلَبَتْ مِنْها ضَبْطَ النَّفْسِ.

«سَوْسَنَةُ» أَعَدَّتْ خُطَةً بارِعَةً لِطَرْدِ الْجَبَّارَيْنِ الْعَنِيدَيْنِ: جَبَّارِ الْغابَةِ «أَبِي خُرْطُومٍ»، وَفَرَسِ النَّهْرِ «أَبِي حَيْزُومٍ».

«سَوْسَنَةُ» وَجَدَتْ — لِحُسْنِ حَظِّها — حَبْلًا مَتِينًا مِنْ حِبالِ السُّفُنِ، تَرَكَتْهُ سَفِينَةٌ كانَتْ تَرْسُو عَلَى شَطِّ النَّهْرِ بَعْضَ الْوَقْتِ. «سَوْسَنَةُ» رَأَتْ ذَلِكَ الْحَبْلَ الْمَتِينَ مُلْقًى عَلَى مَسافَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ شَطِّ النَّهْرِ، غَيْرَ مُرْتَبِطٍ طَرَفُهُ بِشَيْءٍ.

«سَوْسَنَةُ» فَرِحَتْ بِالْعُثُورِ عَلَى حَبْلِ السَّفِينَةِ. أَتَعْرِفُونَ لِماذا فَرِحتْ «سَوْسَنَةُ» هَذا الْفَرَحَ؟

بَعْدَ قَلِيلٍ سَتَعْلَمُونَ الْجَوابَ عَنْ هَذا السُّؤالِ.

«سَوْسَنَةُ» كانَتْ — كَما أَخْبَرْتُكُمْ — تَرْسُمُ خُطَّةً بارِعَةً، لِطَرْدِ هَذَيْنِ الضَّيْفَيْنِ الثَّقِيلَيْنِ اللَّذَيْنِ حَلَّا بِالْمَكانِ.

كانَتْ خُطَّتُها ناجِحَةً، كَفِيلَةً بِتَحْقِيقِ كُلِّ ما تُرِيدُ.

لَعَلَّكَ تَدْهَشُ لِأَرْنَبَةٍ ضَعِيفَةٍ، تَنْجَحُ خُطَّتُها فِي مُقاوَمَةِ عَدُوَّيْنِ يَفُوقَانِهَا قُوَّة وَحَجْمًا. ولَكِنَّ دَهَشَكَ لَنْ يَبْقَى طَوِيلًا.

(٥) يا جَبَّارَ النَّهْرِ!

«سَوْسَنَةُ» أَسْرَعَتْ إِلَى شَطِّ النَّهْرِ. «سَوْسَنَةُ» وَقَفَتْ تُنادِي فَرَسَ النَّهْرِ، «سَوْسَنَةُ» صَرَخَتْ بِأَعْلَى صَوْتِها: «يا جَبَّارَ النَّهْرِ، يا جَبَّارَ النَّهْرِ، تَعالَ الْآنَ إِلَيَّ، تَعالَ إِلَيَّ، مُسْرِعًا أَيُّها الْجَبَّارُ الْقَوِيُّ الْعَنِيدُ، «سَوْسَنَةُ» تُنادِيكَ، بِصَوْتِها الْعالِي يا «أَبا حَيْزُومٍ». ادْنُ مِنِّي، وَلا تَخَفْ عَلَى نَفْسِكَ. لَنْ أَمَسَّكَ بِسُوءٍ أَبَدًا. إِلَيَّ، إِلَيَّ يا «أَبا حَيْزُومٍ». هَلُمَّ أَلَا تَسْمَعُ؟!»

فَرَسُ النَّهْرِ سَمِعَ صَوْتَ «سَوْسَنَةَ»، وَهُوَ فِي النَّهْرِ. فَرَسُ النَّهْرِ أَسْرَعَ بِالْخُرُوجِ مِنْ وَسَطِ النَّهْرِ إِلَى الشَّطِّ. فَرَسُ النَّهْرِ تَعَجَّبَ حِينَ أَبْصَرَ الْأَرْنَبَةَ الضَئِيلَةَ «سَوْسَنَةَ» وَهِيَ تُنادِيهِ! وَسَأَلَ نَفْسَهُ: «ماذا تُرِيدُ مِنِّي بِندائِها إِيَّايَ؟»

«سَوْسَنَةُ» ما كادَتْ تُبْصِرُهُ عَلَى الشَّطِّ، حَتَّى قالَتْ: «مَرْحَى، مَرْحَى، يا «أَبا حَيْزُومٍ»، أَنا فَرْحانَةٌ بِكَ يا «أَبا حَيْزُومٍ». أَنا مُعْجَبَةٌ بِكَ يا «أَبا حَيْزُومٍ». أَنْتَ — بِلا شَكٍّ — شُجاعٌ جَرِيءٌ. لَوْ لَمْ تَكُنْ هَكَذا شُجاعًا لَما جَرُؤْتَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ النَّهْرِ، وَأَنا أُنادِيكَ!»

(٦) حِوارٌ عَجِيبٌ

«أَبُو حَيْزُومٍ» دَهِشَ مِمَّا سَمِعَ. «أَبُو حَيْزُومٍ» سَخِرَ مِنَ الْأَرْنَبَةِ. «أَبُو حَيْزُومٍ» لَمْ يَفْهَمْ ما تَعْنِيهِ «سَوْسَنَةُ». «أَبُو حَيْزُومٍ» سَأَلَ «سَوْسَنَةَ» وَهُوَ يُحَدِّقُ فِيها: «ماذا تَقْصِدِينَ بِهَذا الْكَلامِ التَّافِهِ الَّذِي تَقُولِينَ؟»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «سَمِعْتُ أَحَدَ سُكَّانِ الشَّطِّ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: «أَبُو حَيْزُومٍ» هُوَ جَبَّارُ النَّهْرِ، لا شَكَّ! وَسَمِعْتُ آخَرَ يَقُولُ: «أَبُو حَيْزُومٍ» أَقْوَى دابَّةٍ مِنْ دَوابِّ النَّهْرِ وَالشَّطِّ جَمِيعًا، بِغَيْرِ اسْتِثْناءٍ، دُونَ نِزاعٍ.

أَنا تَعَجَّبْتُ مِمَّا سَمِعْتُ! أَنا لَمْ أُصَدِّقْ ما سَمِعْتُ! لِهَذا جِئْتُ إِلَى مَكانِكَ أَسْأَلُكَ: أَأَنْتَ حَقًّا كَما يَقُولُونَ؟»

«أَبُو حَيْزُومٍ» قالَ لَها ساخِرًا مِنْها: «مَنْ ذا الَّذِي يَدْرِي؟! لَعَلَّ «سَوْسَنَةَ» أَقْوَى مِنِّي! لَعَلَّ «سَوْسَنَةَ» هِيَ جَبَّارَةُ الشَّطِّ وَحْدَها، لا شَرِيكَ لَها فِي قُوَّتِها وَجَبَرُوتِها!»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «أَأَنْتَ تَشُكُّ فِي هَذا يا «أَبا حَيْزُومٍ»؟! هَذِهِ حَقِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ. أَعْجَبُ ما أَعْجَبُ لَهُ مِنْكَ: أَنْ يَدْفَعَكَ الْغُرُورُ إِلَى نِسْيانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، الَّتِي لا يَجْهَلُها أَحَدٌ!

اسْأَلْ مَنْ تَشاءُ عَنْ قُوَّةِ «سَوْسَنَةَ»، إِنْ كُنْتَ تَشُكُّ فِيما أَقُولُ. لَنْ تَسْمَعَ مِنْهُمْ جَمِيعًا إِلَّا أَنَّ «سَوْسَنَةَ» أَقْوَى مِنْ كُلِّ جَبَّارٍ قَوِيٍّ، وَأَعْتَى مِنْ كُلِّ مارِدٍ عَتِيٍّ!»

«أَبُو حَيْزُومٍ» تَعاظَمَتْهُ الدَّهْشَةُ مِنْ غُرُورِ «سَوْسَنَةَ». «أَبُو حَيْزُومٍ» قالَ لَها، مُسْتَنْكِرًا حَدِيثَها مَعَهُ: «أَيَصِحُّ فِي الْأَذْهانِ: أَنَّ الْأَرانِبَ أَقْوَى مِنْ أَفْراسِ النَّهْرِ؟! كَيْفَ يُصَدِّقُ عاقِلٌ: أَنَّ الْحَصاةَ أَثْقَلُ وَزْنًا مِنَ الصَخْرِ؟ كَيْفَ يَصِحُّ فِي الذِّهْنِ أَنَّ الضِّفْدِعَ أَقْوَى عَزْمًا مِنَ الثَّوْرِ؟ يَجِبُ أَلَّا يَتجاوَزَ أَحَدٌ ما لَهُ مِنْ قَدْرٍ.»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «شَدَّ ما أَخْطَأْتَ يا «أَبا حَيْزُوم»، ضَخامَةُ الْجِسْمِ لَيْسَتْ دَلِيلًا على الْقُوَّةِ وَالشَّجاعَةِ وَالْفُتُوَّةِ.»

«أَبُو حَيْزُومٍ» قالَ: «يا لَكِ مِنْ تاعِسَةٍ شَقِيَّةٍ، مَغْرُورَةٍ غَبِيَّةٍ!»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ، غَيْرَ مُبالِيَةٍ بِما يَصِفُها بِهِ: «ما رَأْيُكَ — أَيُّها الْجَبَّارُ — إِذا دَعَوْتُكَ لِلْمُباراةِ؟ ماذا تَقُولُ فِي أَنْ يُجَرِّبَ كُلُّ واحِدٍ مِنَّا قُوَّتَهُ؟ سَنَرَى مَنْ مِنَّا أَقْوَى جِسْمًا، وَأَصْلَبُ عُودًا وَأَشَدُّ عَزْمًا؟ عَلَيْكَ أَنْ تَقْبَلَ أَنْ تُبارِيَنِي، ما دُمْتَ واثِقًا بِنَفْسِكَ!»

«أَبُو حَيْزُومٍ» قالَ: «حَذارِ أَنْ تَتَمادَيْ فِي هَذا الْهَذَيانِ.»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «ما لِي أَراكَ وَقَدْ خِفْتَ مِنَ الْمُباراةِ؟ أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ الْعُقَلاءِ: عِنْدَ الامْتِحانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهانُ!»

«أَبُو حَيْزُومٍ» قالَ لِلْأَرْنَبَةِ «سَوْسَنَةَ» مُتَعَجِّبًا: «ما أَشَدَّ عِنادَكِ وَغَباوَتَكِ، وَما أَعْظَمَ خَبالَكِ وَبَلاهَتَكِ!»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ، لِتُثِيرَ نَفْسَ جَبَّارِ النَّهْرِ:

«خَبِّرْنِي يا «أَبا حَيْزُومٍ»: ماذا تَصْنَعُ إِذا غَلَبْتُكَ؟»

«أَبُو حَيْزُومٍ» قالَ لَها مُسْتَهْزِئًا: «إِذا غَلَبَتْ «سَوْسَنَةُ» «أَبا حَيْزُومٍ» أَصْبَحَ لَها خادِمًا طائِعًا، لا يَعْصِي لَها أَمْرًا!»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «سَتَرَى كَيْفَ أَغْلِبُكَ يا فَرَسَ النَّهْرِ. أَنا أَتَحَدَّاكَ، تَحَدِّيًا صَرِيحًا قاطِعًا، يا «أَبا حَيْزُومٍ». كُنْ مُسْتَعِدًّا يا «أَبا حَيْزُومٍ». صَبْرًا أَيُّها الْجَبَّارُ الشُّجاعُ.»

لَمْ يُطِقْ فَرَسُ النَّهْرِ سُكُوتًا، فَقالَ: «مَتَى الْمُبارَاةُ؟»

قالَتْ «سَوْسَنَةُ»: «لا تَتَعَجَّلْ، بَعْدَ قَلِيلٍ تَبْدَأُ الْمُباراةُ. امْسِك طَرَفَ هَذا الْحَبْلِ، وَلا تَجْعَلْهُ يُفْلِتُ مِنْكَ. أَنا ذَاهِبَةٌ إِلَى هُناكَ، لِأَمْسِكَ طَرَفَ الْحَبْلِ الْآخَرِ. سَأُثْبِتُ قُوَّتِي بِالْبُرْهانِ، وَعِنْدَ الامْتِحانِ تُكْرَمُ أَوْ تُهانُ.»

(٧) يا «أَبا خُرْطُومٍ»!

«سَوْسَنَةُ» اطْمَأَنَّتْ إِلَى قَبُولِ «أَبِي حَيْزُومٍ» الدُّخُولَ فِي الْمُباراةِ مَعَها، وَأَنَّهُ سَيُمْسِكُ بِطَرَفِ الْحَبْلِ، حِينَ تَبْدَأُ الْمُباراةُ. وَقَبْلَ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْهُ قالَتْ لَهُ فِي تَأْكِيدٍ: «لا تَنْسَ الشَّرْطَ الَّذِي بَيْنَنا يا «أَبا حَيْزُومٍ». ذَلِكَ الشَرْطُ هُوَ أَنَّ الْغالِبَ سَيُصْبِحُ صاحِبَ الْحَقِّ فِي طَرْدِ الْمَغْلُوبِ مِنَ الشَّطِّ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ يا فَرَسَ النَّهْرِ الْعَظِيمَ؟»

«أَبُو حَيْزُومٍ» قالَ: «قَبِلْتُ الشَّرْطَ أَيَّتُها الْمَغْرُورَةُ. سَتَرَيْنَ عاقِبَةَ غُرُورِكِ يا بَلْهاءُ! وَلَسَوْفَ يَشْتَدُّ نَدَمُكِ عَلَى أَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي قَدْرَ نَفْسِكِ، وَتَقِفِي عِنْدَ حَدِّكِ!»

«سَوْسَنَةُ» تَرَكَتْ «أَبا حَيْزُومٍ» يَنْتَظِرُ ابْتِداءَ الْمُباراةِ. «سَوْسَنَةُ» اعْتَزَمَتْ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى جَبَّارِ الْغابَةِ الْفِيلِ. كانَتْ خُطُواتُها سَرِيعَةً، وَهِيَ ذاهِبَةٌ إِلَى حَيْثُ يَقِفُ.

لَمَّا وَصَلَتْ «سَوْسَنَةُ» إِلَى مَكانِهِ صاحَتْ بِهِ: «يا «أَبا خُرْطُومٍ»، يا «أَبا خُرْطُومٍ»، تَعالَ مُسْرِعًا إِلَيَّ. «سَوْسَنَةُ» تُنادِيكَ بِأَعْلَى صَوْتِها. أَلا تَسْمَعُ صَوْتَ «سَوْسَنَةَ»؟ أَتَخْشَى أَنْ تُجِيبَ نِدائِي؟ هَلُمَّ إِلَيَّ، يا «أَبا خُرْطُومٍ».»

(٨) دَهْشَةُ الْفِيلِ

«أَبُو خُرْطُومٍ» دَهِشَ أَشَدَّ الدَّهَشِ مِمَّا سَمِعَ. «أَبُو خُرْطُومٍ» سَخِرَ مِنْ نِداءِ «سَوْسَنَةَ» لَهُ. «أَبُو خُرْطُومٍ» لَمْ يَفْهَمْ ماذا تُرِيدُ «سَوْسَنَةُ» بِقَوْلِها. «أَبُو خُرْطُومٍ» مَدَّ خُرْطُومَهُ، وَسَأَلَ الْأَرْنَبَةَ فِي كِبْرِياءَ: «ماذا تَقْصِدِينَ بِهَذا الْهُراءِ، أَيَّتُها الصَّغِيرَةُ الْحَمْقاءُ؟»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «أَنا سَمِعْتُ بَعْضَ سُكَّانِ الشَّطِّ يَقُولُ: «أَبُو خُرْطُومٍ» هُوَ جَبَّارُ الْغابَةِ الْأَوْحَدُ! وَسَمِعتُ آخَرِينَ يَقُولُونَ: «أَبُو خُرْطُومٍ» أَقْوَى دابَّةٍ مِنْ دَوابِّ الْغابَةِ! هَكَذا وَهِمَ الزَّاعِمُونَ الْواهِمُونَ، بِهَذا نَطَقَ الْمَخْدُوعُونَ، لِهَذا جِئْتُ أَسْأَلُكَ: أَأَنْتَ تُصَدِّقُ ما يَقُولُونَ؟»

«أَبُو خُرْطُومٍ» اشْتَدَّ عَجَبُهُ مِنْ هَذا الْحَدِيثِ! «أَبُو خُرْطُومٍ» أَجابَ «سَوْسَنَةَ» ساخِرًا مِنْها: «مَنْ يَدْرِي؟! لَعَلَّ «سَوْسَنَةَ» الَّتِي أَرَاها الْآنَ أَمامَ عَيْنِي أَقْوَى مِنِّي! لَعَلْها حَقِيقَةٌ بِأَنْ تُدْعَى «جَبَّارَةَ الشَّطِّ»! لَعَلَّ الْأَرْنَبَةَ «سَوْسَنَةَ» — وَحْدَها — فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةِ، هِيَ صاحِبَةُ الْحَوْلِ وَالطَّوْلِ، وَباعِثَةُ الرُّعْبِ وَالْهَوْلِ!»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «أَعِنْدَكَ شَكٌّ فِي هَذا يا «أَبا خُرْطُومٍ»؟ كَيْفَ غابَ كُلُّ ذَلِكَ عَنْ فِطْنَتِكَ وَذَكائِكَ وَبَراعَتِكَ؟ هَذِهِ حَقِيقَةٌ يُؤْمِنُ بِها كُلُّ مَنْ وَهَبَهُ اللهُ عَيْنَيْنِ، وَعَقْلًا وَأُذُنَيْنِ. أَعْجَبُ الْعَجَبِ: أَنْ يَدْفَعَكَ الْغُرُورُ إِلَى نِسْيانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، مَعَ أَنَّها حَقِيقَةٌ وَاضِحَةٌ وُضَوحَ الشَّمْسِ السَّاطِعَةِ في ساعَةِ الظُّهْرِ، لا يَشُكُّ فِيها أَحَدٌ مِنَ الْأَعْداءِ وَالْأَصْدِقاءِ، عَلَى السَّواءِ!

اسْأَلْ مَنْ تَشاءُ، فِي كُلِّ مَكانٍ، عَنْ قُوَّتِي أَنا «سَوْسَنَة». لَنْ تَسْمَعَ مِنْهُمْ — يا «أَبا خُرْطُومٍ» — إِلَّا جَوابًا واحِدًا، هُوَ أَنَّ «سَوْسَنَةَ» هِيَ — حَقًّا — أَمِيرَةُ الْوادِي، وَأَنَّها جَبَّارَةُ الشَّطِّ — دُونَ شَكٍّ أَوْ نِزاعٍ — وَأَقْوَى مَخْلُوقٍ فِي هَذا الْبَلَدِ.»

«أَبُو خُرْطُومٍ» تَعاظَمَتْهُ الدَّهْشَةُ مِمَّا سَمِعَ.

«أَبُو خُرْطُومٍ» أَجابَ «سَوْسَنَةَ» ساخِرًا هازِئًا: «كَيْفَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهانِ أَنَّ الْأَرانِبَ أَقْوَى مِنَ الْأَفْيالِ، وَالتِّلالَ أَعْلَى مِنَ الْجِبالِ، وَالنِّمالَ أَضْخَمُ مِنَ الْجِمالِ؟!»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «شَدَّ ما أَخْطَأْتَ يا «أَبا خُرْطُومٍ»! أَنْتَ تَتَوَهَّمُ أَنَّ الْقُوَّةَ لا تَكُونُ إِلَّا فِي ضِخامِ الْأَجْسامِ! أَلَا تَعْلَمُ أَنَّ ضَخامَةَ الْجِسْمِ لَيْسَتْ — عَلَى الدَّوامِ — دَلِيلًا عَلَى الْقُوَّةِ!»

«أَبُو خُرْطُومٍ» قالَ: «يا لَكِ مِنْ شَقِيَّةٍ، مَغْرُورَةٍ غَبِيَّةٍ! أَيْنَ تَكُونُ الْقُوَّةُ إِذَنْ، أَيَّتُها الْحَمْقاءُ، إِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدِي؟»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «ماذا تَقُولُ إِذا اقْتَرَحْتُ عَلَيْكَ، أَنْ يُحاوِلَ كُلُّ واحِدٍ مِنَّا أَنْ يُجَرِّبَ قُوَّتَهُ، فِي مُباراةٍ عادِلَةٍ؛ لِتَرَى: أَيُّنا أَقْوَى مِنْ صاحِبِهِ عَزْمًا، وَأَشَدُّ جَلَدًا.»

«أَبُو خُرْطُومٍ» قالَ: «كَفَى ما أَنْتِ فِيهِ مِنْ طَيْشٍ وَغَباءٍ، وَحَذارِ أَنْ تَتَمادَيْ فِي هَذا الْهُراءِ، أَيَّتُها الصَّغِيرَةُ الرَّعْناءُ!»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «ما بالُكَ تَخافُ مِنَ الْمُباراةِ؟ إِنِّي أَدْعُوكَ، فَما لَكَ لا تُجِيبُ؟ أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ الْعُقَلاءِ: عِنْدَ الامْتِحانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهانُ؟!»

«أَبُو خُرْطُومٍ» قالَ: «ما أَشَدَّ عِنادَكِ، وَما أَعْظَمَ خَبالَكِ!»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «خَبِّرْنِي يا «أَبا خُرْطُومٍ» الْعَظِيمَ: ماذا تَصْنَعُ إِذا أَنْتَ بارَيْتَنِي، وغَلَبْتُكَ فِي الْمُباراةِ؟»

«أَبُو خُرْطُومٍ» قالَ: «إِذا غَلَبْتِنِي أَصْبَحْتُ لَكِ أَسِيرًا، لا أَعْصِي لَكِ أَمْرًا، وَلا أُخالِفُ لَكِ أَيَّةَ مَشِيئَةٍ!»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «أَنا أَتَحَدَّاكَ يا «أَبا خُرْطُومٍ». سَتَرَى كَيْفَ أَغْلِبُكَ. كُنْ مُسْتَعِدًّا يا «أَبا خُرْطُومٍ».

أَمْسِكْ جَيِّدًا طَرَفَ هَذا الْحَبْلِ. أَنا ذَاهِبَةٌ لِأُمْسِكَ طَرَفَهُ الْآخَرَ. صَبْرًا صَبْرًا يا «أَبا خُرْطُومٍ»، ولا تَتَعَجَّلْ.

بَعْدَ قَلِيلٍ نَبْدَأُ الْمُباراةَ. سَأُثْبِتُ لَكَ قُوَّتِي بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهانِ. سَتَرَى صِدْقَ ما أَقُولُ: عِنْدَ الامْتِحانِ تُكْرَمُ أَوْ تُهانُ!»

«أَبُو خُرْطُومٍ» قالَ، وَهُوَ غَيْرُ مُبالٍ بِالتَّهْدِيدِ: «لَكِ ما شِئْتِ، أَيَّتُها الضَّالَّةُ الْمَفْتُونَةُ، الْواهِمَةُ الْمَجْنُونَةُ!»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «لا تَنْسَ الشَّرْطَ يا «أَبا خُرْطُومٍ». سَيُصْبِحُ الغالِبُ صاحِبَ الْحَقِّ فِي طَرْدِ الْآخَرِ مِنَ الشَّطِّ!»

«أَبُو خُرْطُومٍ» قالَ، وَهُوَ يُقَهْقِهُ، فِي سُخْرِيَةٍ: «ها، ها! قَبِلْتُ الشَّرْطَ الَّذِي شَرَطْتِهِ يا «سَوْسَنَةُ».»

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «شُكْرًا لَكَ يا «أَبا خُرْطُومٍ». الْآنَ عَرَفْتُ أَنَّكَ شُجاعٌ، لا تَخافُ! أَمْسِكْ طَرَفَ الْحَبْلِ. انْتَظِرْ إِشارَةَ الْبَدْءِ. كُنْ مُسْتَعِدًّا، يا «أَبا خُرْطُومٍ».»

«أَبُو خُرْطُومٍ» كانَ غَيْرَ مُهْتَمٍّ بِما يَسْمَعُهُ مِنَ التَّحَدِّي.

«سَوْسَنَةُ» قالَتْ: «بَعْدَ قَلِيلٍ تَبْدَأُ الْمُباراةُ فِعْلًا. أَنا ذاهِبَةٌ إِلَى شَطِّ النَّهْرِ؛ لِأُعْطِيَ فَوْرًا إِشارَةَ الْبَدْءِ. لا تَنْسَ الشَّرْطَ الَّذِي تَمَّ بَيْنَنا يا «أَبا خُرْطُومٍ».»

(٩) مُباراةُ الْجَبَّارَيْنِ

«سَوْسَنَةُ» تَرَكَتْ «أَبا خُرْطُومٍ» يَنْتَظِرُ بَدْءَ الْمُباراةِ.

«سَوْسَنَةُ» مَشَتْ فِي طَرِيقِها، عائِدَةً مِنْ حَيْثُ جاءَتْ.

«سَوْسَنَةُ» وَصَلَتْ إِلَى مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ إِلَى شَطِّ النَّهْرِ.

«سَوْسَنَةُ» وَجَدَتْ جِذْعَ شَجَرَةٍ مُلْقًى عَلَى الطَّرِيقِ.

«سَوْسَنَةُ» خَبَّأَتْ نَفْسَها خَلْفَ جِذْعِ الشَّجَرَةِ.

«سَوْسَنَةُ» صاحَتْ بِصَوْتٍ مُجَلْجِلٍ فِي الْفَضاءِ: «أَيُّها الشُّجاعُ الْقَوِيُّ، حانَتْ ساعَةُ الْمُباراةِ! الْآنَ نَتَجاذَبُ الْحَبْلَ مَعًا، كَما اتَّفَقْنا مِنْ قَبْلُ. اسْتَعِدَّ جَيِّدًا لِلْمُباراةِ بَيْنَنا، فَإِنَّها تَبْدَأُ عَلَى الْفَوْرِ. الْآنَ تَعْرِفُ أَيُّها الْبَطَلُ الفَرْدُ: أَيُّنا أَقْوَى مِنْ صاحِبِهِ! الْآنَ تَنْجَلِي لِعَيْنَيْكَ الْحَقِيقَةُ واضِحَةً، لا رَيْبَ فِيها.»

«أَبُو حَيْزُومٍ» ظَنَّ أَنَّ «سَوْسَنَةَ» بِصَوْتِها تُنادِيهِ.

«أَبُو خُرْطُومٍ» ظَنَّ أَنَّ «سَوْسَنَةَ» بِهَذا الصَّوْتِ تَعْنِيهِ.

كِلاهُما حَسِبَ أَنَّهُ — هُوَ وَحْدَهُ — الْمَقْصُودُ، لا أَحَدَ سِواهُ.

«أَبُو حَيْزُومٍ» لَبَّى — فِي سُرْعَةٍ — نِداءَ «سَوْسَنَةَ» لَهُ.

«أَبُو حَيْزُومٍ» جَذَبَ الْحَبْلَ الْمَتِينَ بِفَمِهِ، فِي إِصْرارٍ وَعِنادٍ.

«أَبُو خُرْطُومٍ» لَبَّى — هُوَ أَيْضًا — نِداءَ «سَوْسَنَةَ».

«أَبُو خُرْطُومٍ» شَدَّ الْحَبْلَ بِخُرْطُومِهِ، فِي عَزِيمَةٍ وَقُوَّةٍ.

«أَبُو حَيْزُومٍ» قالَ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ يَجْذِبُ الْحَبْلَ: «ما بالُ «سَوْسَنَةَ» لَمْ تَتَحَرَّكْ مِنْ مَكانِها خُطْوَةً واحِدَةً؟ ما كُنْتُ أَحْسَبُ الْأَرْنَبَةَ الضَّئِيلَةَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْقُوَّةِ الْبالِغَةِ! لا شَكَّ فِي أَنَّها — عَلَى ضَآلَتِها — جَبَّارَةٌ لا تُغْلَبُ!»

«أَبُو خُرْطُومٍ» قالَ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ يَشُدُّ الْحَبْلَ: «ما بالُ «سَوْسَنَةَ» لَمْ تَتَحَرَّكْ مِنْ مَكانِها خُطْوَةً واحِدَةً؟ ما كُنْتُ أَظُنُّها بِمِثْلِ هَذِهِ الْعَزِيمَةِ، لا رَيْبَ أَنَّها جَبَّارَةٌ لا تُقْهَرُ!»

«أَبُو حَيْزُومٍ» كانَ يَتَوَهَّمُ أَنَّ «سَوْسَنَةَ» تُجاذِبُهُ.

«أَبُو خُرْطُومٍ» كانَ يَتَخَيَّلُ أَنَّ «سَوْسَنَةَ» تُبارِيهِ.

«أَبُو حَيْزُومٍ» وَ«أَبُو خُرْطُومٍ» ظَلَّا يَتَجاذَبانِ الْحَبْلَ.

«أَبُو حَيْزُومٍ» لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَجْذِبَ إِلَيْهِ مُنافِسَهُ.

«أَبُو خُرْطُومٍ» لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَجْذِبَ إِلَيْهِ مُنافِسَهُ.

«أَبُو حَيْزُومٍ» وَ«أَبُو خُرْطُومٍ» اشْتَدَّ عَجَبُهُمُا.

أَتَعْرِفُونَ: كَيْفَ انْتَهَتِ الْمُباراةُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَجاذِبَيْنِ؟ اشْتَدَّتِ الْمُجاذَبَةُ مِنْهُما، فانْقَطَعَ الْحَبْلُ الْمَتِينُ بَيْنَهُما!

كانَ ما حَدَثَ مُباغَتَةً، لَمْ يَحْسِبِ الْمُتَبارِيانِ حِسابَها.

«أَبُو خُرْطُومٍ» الضَّخْمُ الْجِسْمِ، ما لَبِثَ وَقَعَ، جِسْمُهُ الثَّقِيلُ كادَ يَتَحَطَّمُ كُلُّهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ!

«أَبُو حَيْزُومٍ» الْكَبِيرُ الْجُثَّةِ هُوَ الْآخَرُ وَقَعَ، كادَ يَسْقُطُ لِثِقَلِهِ تَحْتَ الْمَوْجِ، فِي قَرارِ النَّهْرِ!

«أَبُو حَيْزُومٍ» عَرَفَ الْآنَ قُوَّةَ «سَوْسَنَةَ».

«أَبُو خُرْطُومٍ» عَرَفَ هُوَ أَيْضًا قُوَّةَ «سَوْسَنَةَ».

«أَبُو حَيْزُومٍ» قالَ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ فِي أَشَدِّ الدَّهْشَةِ: «لا شَكَّ أَنَّ «سَوْسَنَةَ» أَقْوَى مَخْلُوقٍ فِي الدُّنْيا!»

«أَبُو خُرْطُومٍ» قالَ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ فِي حَيْرَةٍ بالِغَةٍ: «لا شَكَّ أَنَّ «سَوْسَنَةَ» هِيَ أَقْوَى مَخْلُوقٍ فِي الدُّنْيا!»

«أَبُو حَيْزُومٍ» قالَ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ يُغالِبُ الْمَوْجَ: «حَقًّا إِنَّ أَرانِبَ هَذا الشَّطِّ عَجِيبٌ أَمْرُها كُلَّ الْعَجَبِ! إِذا كانَتْ أَرْنَبٌ واحِدَةٌ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ الْخارِقَةِ وَالْعَزِيمَةِ الْجَبَّارَةِ، فَيا تُرَى: ماذا أَصْنَعُ إِذا اجْتَمَعَتْ عَلَيَّ أَرانِبُ الشَّطِّ كُلُّها؟!

حَمْدًا للهِ عَلَى هَذِهِ النَّتِيجَةِ! ماذا كُنْتُ صانِعًا لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ بِيَ الْحَبْلُ؟! كُنْتُ أَقَعُ فِي أَسْرِ تلْكَ الْأَرانِبِ الْجبَابِرَةِ!»

«أَبُو خُرْطُومٍ» قالَ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ يُحاوِلُ الْوُقُوفَ: «حَمْدًا للهِ عَلَى هَذِهِ النَّتِيجَةِ الَّتِي انْتَهَيْتُ الْآنَ إِلَيْها. تُرَى: ماذا كُنْتُ أَصْنَعُ، لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ بِيَ الْحَبْلُ؟! كُنْتُ أَقَعُ — بِلا شَكٍّ — فِي أَسْرِ الْأَرانِبِ الْأَقْوِياءِ!»

هَكَذا خَيَّمَ عَلَيْهِما الْخَوْفُ والْفَزَعُ، والرُّعْبُ والْهَلَعُ. خارَتْ عَزِيمَةُ الْجَبَّارَيْنِ: «جَبَّارِ النَّهْرِ» وَ«جَبَّارِ الْغابَةِ». لَمْ يَبْقَ أَمامَهُما، بَعْدَ ما حَدَثَ لَهُما، إِلَّا سُرْعَةُ الْفِرارِ.

«جَبَّارِ النَّهْرِ» هَرَبَ، حَمِدَ اللهَ عَلَى سَلامَتِهِ مِنَ الْعَطَبِ.

«جَبَّارِ الْغابَةِ» هَرَبَ، حَمِدَ اللهَ عَلَى خَلاصِهِ مِنَ الْهَلاكِ.

الْجَبَّارانِ — كِلاهُما — فَرِحا بِالنَّجاةِ، مِنْ بَطْشِ الْأَرانِبِ الطُّغاةِ.

سُكَّانُ الشَّطِّ فَرِحُوا بِانْتِصارِ «سَوْسَنَةَ» عَلَى هَذَيْنِ الْجَبَّارَيْنِ. سُكَّانُ الشَّطِّ سَخِرُوا مِنْ جِسْمِهِما الضَّخْمِ، وَجِرْمِهِما الْكَبِيرِ، وَهُما يَرْحَلانِ عَنِ الْبُقْعَةِ، إِلَى غَيْرِ رَجْعَةٍ.

سُكَّانُ الشَّطِّ اطْمَأَنُّوا بِرَحِيلِ هَذَيْنِ الْعَدُوَّيْنِ الْجَبَّارَيْنِ، شَكَرُوا اللهَ عَلَى نَجاةِ الْوَطَنِ مِنْ أَذاهُما، وَخَلاصِهِ مِنْ شَرِّهِما.

سُكَّانُ الشَّطِّ مِنَ الْأَرانِبِ الْوَديِعَةِ أَقْبَلُوا عَلَى «سَوْسَنَةَ» يَشْكُرُونَ لَها فَضْلَها، وَيُطْلِقُونَ عَلَيْها لَقَبَ «حارِسَةِ النَّهْرِ».

(١٠) الذِّكْرَى الْخالِدَةُ

الْجَدَّةُ «عِكْرِشَةُ» قالَتْ فِي خِتامِ حَدِيثِها الشَّائِقِ: «لَعَلَّكُمْ عَجِبْتُمْ يا أَوْلادِي الْأَرانِبَ الصِّغارَ فِي أَوَّلِ حَدِيثِي، كَيْفَ اسْتَطاعَتْ «سَوْسَنَةُ» أَنْ تُواجِهَ عَدُوَّيْنِ كَبِيرَيْنِ، هُما: الْفِيلُ «أَبُو خُرْطُومٍ»، وَفَرَسُ النَّهْرِ «أَبُو حَيْزُومٍ»؟!

وَحُقَّ لَكُمْ أَنْ تَعْجَبُوا؛ فَإِنَّ وَزْنَ مِائَةِ أَرْنَبٍ لا يَعْدِلُ وَزْنَ عُضْوٍ صَغِيرٍ مِنْ أَعْضاءِ الْفِيلِ، أَوْ فَرَسِ النَّهْرِ!

وَإِنَّ قُوَّةَ مِائَةِ أَرْنَبٍ، لا تَعْدِلُ قُوَّةَ أَصْغَرِ وَلَدٍ مِنْ أَبْناءِ الْفِيلِ «أَبِي خُرْطُومٍ» أَوْ فَرَسِ النَّهْرِ «أَبِي حَيْزُومٍ»!

هَذا حَقٌّ، وَلَكِنَّ الْقُوَّةَ الْجُسْمانِيَّةَ لَيْسَتْ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْكِفاحِ، وَلَيْسَتْ هِيَ وَحْدَها الَّتِي تُعِينُ عَلَى الانْتِصارِ. هُناكَ قُوَّةُ الْعَقْلِ، وَصِدْقُ الْعَزْمِ، إِلَى جانِبِ قُوَّةِ الْجِسْمِ، وَهُناكَ الْحِيلَةُ النَّاجِحَةُ، والتَّدْبِيرُ الْحَكِيمُ، وَالرَّأْيُ الرَّشِيدُ.

وَهَكَذا اسْتَحَقَّتْ «سَوْسَنَةُ» الزَّعِيمَةُ الشُّجاعَةُ الْمُنْتَصِرَةُ أَنْ تَظْفَرَ — بَيْنَ قَوْمِها — بِلَقَبِ «حارِسَةِ النَّهْرِ».

وَهَكَذا كانَ حَقًّا عَلَيْنا أَنْ يُقامَ لَها هَذا التِّمْثالُ الرَّائِعُ، تَنْوِيهًا بِذِكْرِها، وَتَخْلِيدًا لِمَجْدِها، عَلَى طُولِ الزَّمانِ.»

يُجابُ مِمَّا في هذه الحِكايةِ عن الأسئلةِ الآتية:

(س١) أين كانت تتحدَّثُ الأرانِبُ؟ وماذا صنعتْ «عِكْرِشَةُ»؟
(س٢) لماذا كانت أرانِبُ الشَّطِّ فرحانةً؟
(س٣) بماذا أُعجِبَ الأرنبُ «دَحْداحٌ»، عند شَطِّ النَّهْرِ؟
(س٤) ما هو وصْفُ التِّمْثالِ؟ ومن الذي صنَعه؟ ولماذا أُقِيم؟
(س٥) ما هي القِصَّةُ التي حكَتْها الأرنبةُ «عِكْرِشَةُ»؟
(س٦) ماذا قال المُؤَرِّخون في شأنِ الأرنبةِ «سَوْسَنَةَ»؟
(س٧) ماذا صنعت الأرنبةُ «سَوْسَنَةُ» بِالْعَدُوَّيْنِ الْغادِرَيْنِ: «أَوْسٍ» و«ثُعالةَ»؟
(س٨) ماذا طلبتْ «سَوْسَنَةُ» من الأرانبِ بعْدَ الانتِصار؟
(س٩) مَنْ هُما اللَّذانِ وفَدا عَلَى شطِّ النَّهْرِ؟ وما حديثُهما؟
(س١٠) ماذا وجدت «سَوْسَنَةُ» على شطِّ النَّهْرِ؟
(س١١) ماذا دار بيْن «سَوْسَنَةَ» وفرَسِ النَّهْرِ؟ وماذا طلبتْ منه؟
(س١٢) أين ذهبت «سَوْسَنَةُ» بعد اتِّفاقِها مع «أبي حَيْزومٍ»؟
(س١٣) ماذا طلبت «سَوْسَنَةُ» من الفيل: «أبي خُرطوم»؟
(س١٤) لماذا سخِرَ الفيلُ من الأرنبةِ؟ وماذا دار بيْنهُما؟ وإلى أَيِّ شيءٍ دَعَتْه؟
(س١٥) أين اختبأت «سَوْسَنَةُ»؟ وبماذا صاحَتْ؟ وماذا ظنَّ كلٌّ من: «أبي خُرطومٍ» و«أبي حَيْزوم»؟ وماذا حدثَ لكلٍّ منهما؟
(س١٦) بأيِّ شيْءٍ تمكَّنت «سَوْسَنَةُ» من التغَلُّبِ على الْعَدُوَّيْن؟ وبأيِّ لقَبٍ ظفِرَتْ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤