الأرملةُ والببغاء١

قبل نحو خمسين عامًا كانت مسز كيج، الأرملة المُسنَّة، تجلسُ في بيتها الريفي الصغير في قرية تُدْعى سبيلسبي في يوركشاير. ورغم أنها عرجاءُ وضعيفةُ البصر، إلا أنها راحتْ تبذلُ كلَّ جهدِها لكي تُصلحَ زوجَ حذائها الخشبي، ذاك أنْ لم يكن لديها إلا شلنات٢ قليلة كلَّ أسبوع تعيشُ عليها. وبينما كانت تدقُّ بالشاكوش حذاءها، فتحَ ساعي البريد البابَ وألقى على حجْرها خطابًا.

كان الخطابُ يحملُ العنوان: «ميسيرز. ستيج آند بيتل، ٦٧ هاي ستريت، لويز، سُسيكس.»

فتحتْ مسز كيج وقرأتْ:

«سيدتي العزيزة: نتشرفُ بإخطاركم بوفاة شقيقكم جوزيف جون أخيرًا!»

«لقد أوصى لكِ بكلِّ تَرِكته،»

واستمر الخطابُ: «التي تتكوَّنُ من منزلٍ سكني، إسطبل، تكعيبة خيار، آلة كيِّ ملابس، عربة يد، إلخ، إلخ، في قرية رودميل، جوار لويز. وقد خلَّف لكِ أيضًا كاملَ ثروته؛ وتُقدَّر ﺑ: ٣٠٠٠£.٣ (ثلاثة آلاف جنيه إسترليني).»
سقطتْ مسز كيج في بحر من الفرح. لم تكن قد رأت شقيقَها منذ سنوات بعيدة، ولم يكن حتى يعبِّر عن شكره إياها على كروت الكريسماس التي ظلَّت ترسلها له كلَّ عام، كانت تعتقد أن طباعه التعسة، التي عرفتها من أيام الطفولة، جعلته يبخل حتى ببنس٤ واحد ثمنًا لطابع بريد على خطابِ الرد.

لكن انقلب كلُّ هذا إلى صالحها الآن. بثلاثة آلاف جنيه، فضلًا عن البيت، وإلخ، إلخ، بوسعها هي وأسرتها أن يعيشوا إلى الأبد في رفاهية عظمى.

عقدتِ العزمَ أن تزورَ رودميل في الحال. أقرضَها قسُّ القرية الأبُ صامويل تولبويز، جنيهين وعشرة سنتات، لتدفعَ أجرةَ السفر، وعلى اليوم التالي كانت استعداداتُ السفر كاملةً. كان الأهم من كلِّ هذه الأمور هو العناية بالكلب شاج أثناء غيابها، لأنها وعلى الرغم من فقرها كانت متفانيةً من أجل حيواناتها، قد تُقصِّرُ في حقِّ نفسها لكنها أبدًا لا تبخل على كلبها بقطعةٍ من العظم.

وصلت لويز في ليلة الثلاثاء. في تلك الأيام، عليَّ أن أخبرَكم، لم يكن هناك في الجنوب الشرقي جسرٌ فوق النهر، ولا حتى كانت الطريق إلى نيوهافين قد أُنشئَت بعد. للوصول إلى رودميل كان لا بدَّ من عبور نهر أووز٥ عبر الفورد،٦ الذي لا تزال آثارُه موجودةً حتى الآن، لكن محاولاتِ العبور تلك كانت لا بدَّ أن تتم في مواسم المد والجَزْر٧ المنخفض، حينما الصخورُ في قاع النهر تظهرُ فوق سطح المياه. كان السيد ستاسي، الفلاح، ذاهبًا إلى رودميل في عربته، وعرض مشكورًا أن يأخذ معه مسز كيج. وصلا إلى رودميل عند حوالي التاسعة من إحدى ليالي نوفمبر وأشار مستر ستاسي بلطف إلى البيت الذي تركه أخوها لها في نهاية القرية. دقَّتِ البابَ. ولم تكن هناك إجابة. دقَّت ثانيةً. فزعقَ صوتٌ عالٍ وغريب: «لستُ بالبيت!» فزعتْ جدًّا ووقفتْ مشدوهةً مشلولةَ الحركة، لدرجة أنها لو لم تسمع خطواتٍ قادمةً لكانت هربت بعيدًا. على أية حال، فتحتِ البابَ امرأةٌ قروية مُسنَّة، اسمها السيدة فورد.

«مَن الذي كان يزعق قائلًا: «لستُ بالبيت»؟» سألت مسز كيج.

«إنه هذا الطائرُ الملعون!» قالت مسز فورد على نحو نَكِد جدًّا، مشيرةً إلى ببغاء رمادي ضخم. «إنه يصرخ فيطيِّرُ عقلي. هكذا يجلسُ هناك طيلةَ النهار مُحدودِبًا على عموده الحجري.» كان طائرًا وسيمًا للغاية، كما أمكن مسز كيج أن ترى؛ لكنَّ ريشَه كان مُهمَلًا على نحو بائس. «ربما هو غيرُ سعيد، أو ربما جائع،» قالت. لكن مسز فورد قالت إنه مجرد مِزاج عكِر؛ فقد كان ببغاءَ بحَّارٍ وتعلَّم منه لغة الشرق. وأضافتْ أن مستر جوزيف كان مولعًا به للغاية، وأطلق عليه اسم جيمس؛ ويُقال إنه كان يتكلم معه كأنه مخلوقٌ عاقل. وسرعان ما غادرت مسز فورد. وفي الحال اتجهت مسز كيج إلى صندوقها فأخرجت بعض السكر كان معها وقدَّمته للببغاء، قائلةً في نبرة طيبة للغاية إنها لا تقصد له أيَّ إيذاء، لكنها وحسبُ شقيقةُ سيده، جاءت لتأخذَ ملكيةَ البيت، وسوف تراعيه ليكونَ كأسعد ما يمكنُ لطائر أن يكون. ثم أخذت المصباحَ ودارتْ في البيت لترى أيَّ نوع من المنقولات خلَّفها لها شقيقُها. وكانت خيبةَ أمل مُرَّة. ثقوبٌ بالسجاجيد جميعِها. قيعانُ المقاعد ساقطةٌ. فئرانٌ تركض على رفِّ الموقد. والفُطْرُ كان ناميًا على أرضية المطبخ. لم تكن هناك قطعةٌ واحدة من الأثاث تساوي سبعة بنسات ونصفًا؛ لكن مسز كيج شجَّعتْ نفسها بالتفكير في الثلاثة آلاف جنيه التي ترقد آمنةً دافئةً في بنك لويز.

قررتْ أن تسافر إلى لويز في اليوم التالي لكي تطالبَ بأموالها من ميسرز. ستيج وبيتل الاستشاريَّين بالمجلس القضائي، ثم تعود إلى البيت بأسرع ما يمكنها. السيد ستاسي الذي كان ذاهبًا إلى السوق مع بعض الخنازير السمينة، عرض مجددًا أن يأخذها معه، وحكى لها وهُما في الطريق بعضَ القصص المرعبة عن شبابٍ غرقوا أثناء محاولاتهم عبورَ النهر أثناء علوِّ المد. كانت الخيبةُ مخبأةً للسيدة العجوز الفقيرة بمجرد أن دخلت مكتبَ السيد ستيج.

«أتوسَّل إليكِ أن تجلسي يا سيدتي،» قال، في جلال بصوتٍ أجش. «الحقيقةُ هي أنكِ يجب أن تواجهي بعضَ الأخبار المُحبطة. منذ أرسلتُ إليك خطابي وأنا عاكفٌ على مراجعة أوراق مستر براند. ويؤسفني أن أخبركِ أنني لم أتمكَّن من العثور على أي أثر للثلاثة آلاف جنيه. مستر بيتل، شريكي، سافرَ بنفسه إلى رودميل وبحث جيدًا في العقار باهتمام بالغ. لم يجد شيئًا أبدًا — لا ذهبَ، لا فضةَ، ولا أيَّة أشياء ثمينة من أي نوع — عدا ببغاء رمادي جميل أنصحُك بأن تبيعيه لمن يريد. إن لغته، كما يقول بنيامين بيتل، شديدةٌ للغاية. لكن هذا لا يفرق كثيرًا. أكثر ما أكرهه هو أن تتكبَّدي مشاقَّ الرحلة دون طائل. التركةُ تافهةٌ حقًّا ولا قيمةَ لها؛ وبالطبع أتعابُنا في الحسبان.» إلى هنا توقف عن الكلام، وكانت مسز كيج تعلمُ أنه يريدها أن تمضي. كانت محبطةً جدًّا وتكاد تُجَن. فإنها ليست وحسب قد اقترضت جنيهين وعشرة سنتات من الأب صمويل تولبويز، بل أيضًا ستعودُ إلى بيتها خاويةَ الوفاض، لأن الببغاء جيمس لا بدَّ أن يُباع لكي تجدَ أجرةَ السفر. راحتِ السماءُ تمطرُ بغزارة، لكن مستر ستيج لم يضغط عليها لتبقى، وملأها الحنقُ أسفًا على ما فعلت. وبرغم الأمطار بدأت تأخذ طريق العودة ماشيةً عبر المروج إلى رودميل.

مسز كيج، كما أخبرتكم بالفعل، كانت كسيحةً في ساقها اليمنى. تسيرُ في أفضل الأحوال ببطء شديد، والآن، ماذا مع يأسها وخيبة رجائها والطمي الذي تخوضه على الضفة، تقدمُها كان بالطبع بطيئًا للغاية. وبينما تتحرك بتثاقل، بدأ النهارُ يُعتم ويعتم، فأصبح من الصعب جدًّا أن تستمر صعودًا للطريق حذاءَ النهر. ربما سمعتموها تزمجرُ وهي تسير، وتشكو شقيقَها الخبيثَ جوزيف، الذي وضعها في كل تلك المصاعب «رسولٌ مُكلَّف،» راحت تقول، «ليوقعَ العذابَ بي. لقد اعتاد أن يكون دائمًا ولدًا صغيرًا قاسيًا ونحن أطفال،» ومضت تقول: «كان يحبُّ أن يعذِّبَ الحشراتِ المسكينة، رأيته بعيني يقصُّ بالمقصِّ يرقةَ فَراشة. كما كان أيضًا حقيرًا للغاية. اعتاد أن يخبئ مصروفَه في شجرة، وإذا ما أعطاه أحدُهم كعكةً للشاي، كان ينزعُ السكر ويحفظه لعشائه. لا شكَّ عندي أنه الآن مشتعلٌ تمامًا في جهنم، لكن بماذا يريحني ذلك في هذه اللحظة؟» سألتْ، وبالتأكيد لم يكن ذلك إلا راحةً ضئيلةً جدًّا، لأنها اصطدمتْ بقوة ببقرة كانت تسير على ضفة النهر، وتدحرجت في الطين مرارًا ومرارًا.

انتشلتْ نفسَها بأقصى ما استطاعت وواصلت المشيَ من جديد مُجهَدةً. بدا لها أنها ظلَّت تمشي لساعات. صارتِ السماءُ الآن سوداءَ بلون القار وبالكاد كان بوسعها أن ترى يدَها أمام أنفها. وفجأةً تذكرتْ كلماتِ الفلاح ستانسي عن منخفضِ النهر فورد. قالتْ لنفسها: «على أي نحو سأجد طريقي؟ إذا ما كان المدُّ والجزْر عاليًا، فسوف أخوضُ في المياه العميقة وأُجرَفُ نحو البحر في لحظة! كثيرٌ من الأزواج غرقوا هنا؛ فضلًا عن الخيول، والعربات، وقطعان الغنم، وأجولة القش.»

بالفعل بين الظلام والطين كانت قد أوقعتْ نفسَها في ورطة كبرى. بصعوبة بالغة كانت ترى النهرَ ذاته، ناهيك أن تحدِّدَ إذا كانت قد وصلت الفورد أم لا. لا ضوءَ يُمكن أن يُلمح في أيِّ مكان، ذاك أنه، كما قد تكونون منتبهين منه، لم تكن هنا أيةُ منازلَ أو أكواخٍ على هذه الضفة من النهر أقربَ من منازل آشيهام، الذي تحوَّلَ إلى حديقة مركز السيد ليونارد وولف.٨ وبدا أنه لم يعد أمامها سوى الجلوس وانتظار الصبح. لكنْ في مثل عمرها، ومع الروماتيزم الضاربِ في عظامها، كان من المحتمل جدًّا أن تموتَ من البرد. ومن ناحيةٍ أخرى، إذا ما حاولتْ عبورَ النهر فمن المؤكد تقريبًا أنها ستغرق. لذلك كان حالُها من التعاسة بحيث ودَّت لو تُبادِلُ مكانَها بكلِّ ترحيب مع إحدى البقرات في الحقل. ليس من امرأة عجوز أشد منها بؤسًا في كلِّ بلدة سُسيكس؛ تقفُ الآن على ضفة النهر، ولا تعرفُ هل تجلسُ أم تسبح، أم تتركُ نفسَها تتدحرج على العشب كما هي مُبتلَّةً بطينها، ثم تنامُ أو تتجمدُ صقيعًا حتى الموت، كيفما يقررُ لها قدرُها ويختار.

في تلك اللحظة حدث شيءٌ رائع. برق في السماء ضوءٌ مبهرٌ، كأنما كشَّافٌ عملاق، أضاء كلَّ ورقةِ عشب، فأبان لها أن الفورد لا تبعدُ أكثرَ من عشرين ياردة. كان مدُّ القمر وجَزْره منخفضًا، والعبورُ سيكون سهلًا فقط لو لم ينطفئ الضوءُ حتى تصلَ إلى هناك.

«لا بدَّ أنه نيزكٌ أو أي شيء رائع،» قالت وهي تعرجُ مسرعةً. كان بوسعها أن ترى أمامها قريةَ رودميل متألقةً بالوهج.

«بارِكْنا واحمْنا يا رب!» هتفت.

«هناك بيتٌ يشتعل — الشكرُ لله» — لأنها أيقنتْ أن الأمر سيستغرقُ على الأقلِّ بضعَ دقائقَ حتى تُخمَدَ النيرانُ في البيت، وفي تلك الأثناء بوسعها أن تكون بالفعل قد اتخذت طريقها للمدينة.

«إنها رياحٌ عليلة التي لا تهبُّ عاليًا،» قالت وهي تعرج باتجاه رودميل. وهي واثقةٌ أنَّ بوسعها أن ترى كلَّ بوصةٍ في الطريق، وكانت قد دخلتْ شارعَ القرية تقريبًا حينما ضربتها الفكرةُ: «قد يكون بيتي أنا الذي يشتعلُ كالجمر أمام عيني!»

وكانت مُحقَّة.

جاء ولدٌ في منامته يرقصُ بحماقة ويصرخ: «تعالَي وشاهدي بيت جوزيف براند وهو يحترق!»

كان الفلاحون يتحلقون في دائرةٍ حول المنزلِ حاملين دلاءَ ماءٍ مملوءةً من بئر في مطبخ بيتِ الكاهن، يلقونها على ألسنة اللهب. لكن النيرانَ كانت صَمُودًا قويةً، وحالما وصلت مسز كيج كان السقفُ قد سقط.

«هل أنقذَ أحدُكم الببغاءَ؟» صرختْ.

«اشكري الربَّ أنكِ لم تكوني بالداخل أنتِ نفسُك يا سيدتي،» قال الأبُ جيمس هوكسفورد، القس. «لا تقلقي بشأن تلك المخلوقات الخرساء. لا شكَّ عندي أن الببغاء قد اختنق برحمة الربِّ فوق عموده الحجري.»

لكن مسز كيج كانت مُصرَّةً أن ترى بنفسها. وكان لا بدَّ أن تُمنَع بالقوة من أهل القرية، الذين سجلوا أن المرأةَ لا بدَّ أن تكون مجنونةً لكي تجازفَ بحياتها من أجل طائر.

«يا للمرأة المسكينة،» قالت مسز فورد، «لقد فقدتْ كلَّ ممتلكاتها، لكنهم أنقذوا صندوقًا خشبيًّا قديمًا، به أغراضُها الليلية. لا شكَّ أننا قد نُصابُ بالهوس أيضًا لو كنَّا مكانَها.»

هكذا قالت مسز فورد، ثم أخذت مسز كيج من يدها وقادتها إلى كوخها الخاص، حيث ستنامُ الليلة. كانت النارُ الآن قد أُخمِدَت، وذهبَ كلٌّ إلى بيته لينام. لكنَّ المسكينةَ مسز كيج لم تستطِع أن تنام. ظلَّت تضربُ أخماسًا في أسداس وهي تفكر في حالها التعسة، وتتساءلُ كيف سيمكنها أن تعودَ إلى يوركشاير وتردَّ للأبِ صموئيل تولبويز المالَ الذي اقترضته منه. وفي الوقت نفسه كانت حزينةً للغاية حين تفكرُ في المصير المشئوم الذي حلَّ بالببغاء التعس جيمس. كانت قد أولعت بهذا الطائر حبًّا، وتعتقد أنه امتلك قلبًا حنونًا حتى إنه ظلَّ ينوحُ بعمق لموت العجوز جوزيف براند، الذي لم يفعل أبدًا شيئًا طيبًا لأيِّ مخلوق بشري. لكَمْ كانت مِيتةً بشعةً لطائر بريء، فكَّرتْ؛ فقط لو أنها كانت هناك في الوقتِ المناسب، لكانت جازفتْ بحياتها لإنقاذِ حياته. كانت ترقدُ في الفراش تراودُها تلك الأفكارُ حينما فاجأتها دَقَّةٌ رهيفةٌ على النافذة. تكررتِ الدقةُ ثلاثَ مرَّاتٍ أخرى. نهضت مسز كيج من الفراش بأسرع ما يمكنها وذهبتْ إلى النافذة. وهناك، ولدهشتها القصوى، كان هناك جالسًا على حاجز النافذة البارز ببغاء ضخم. كان المطرُ قد توقَّفَ وبدتِ الليلةُ لطيفةً مُضاءةً بنور القمر. فزِعتْ بشدة لوهلة، ثم تبيَّنتْ أنه جيمس الببغاءُ الرمادي، فغمرتها البهجةُ لفراره. فتحتِ النافذةَ ولاطفته بأن ربَّتتْ على رأسه مراتٍ، ثم سألته أن يدخل. ردَّ الببغاءُ بأن هزَّ رأسَه برقَّة من جانب إلى جانب، ثم طارَ نحو الأرض، خطا بعيدًا عدةَ خطوات، وهو ينظرُ إلى الخلف ليرى ما إذا كانت مسز كيج ستأتي أم لا، ثم عاد إلى عتبة النافذة، حيث كانت تقفُ في ذهول.

«هذه الكائناتُ تحملُ بسلوكاتها من المعاني أكثرَ بكثير مما نعرفُ نحن البشر،» قالت لنفسها. «حسنٌ جدًّا يا جيمس،» قالتْ بصوتٍ عالٍ، مُحدِّثةً إياه كأنما هو إنسان. «سآخذ كلمتَك كما هي. فقط انتظرْ حتى أرتِّبَ مظهري على نحو مناسب.»

وهكذا شبكتْ على كتفيها عباءةً ضخمة، وتسللتْ بخفَّةٍ نحو الأسفل بأكثر ما بوسعها أن تفعل، وخرجت من دون أن توقظَ مسز فورد.

كان الببغاءُ جيمس راضيًا بشكل جليٍّ. الآن راح يَحجِلُ أمامها بنشاطٍ عدة ياردات في اتجاه البيت المحترق. وتبعته مسز كيج بأسرع ما يمكنها. أخذ الببغاءُ يثبُ ويحجل، كأنما يعرفُ طريقَه بدقَّة، دار نحو مؤخرة البيت، حيث كان يوجد المطبخُ في الأساس. لم يتبقَّ منه الآن شيءٌ اللهم إلا أرضيةً من بلاطات الطوب الأحمر، التي كانت لا تزال تقطرُ الماءَ الذي أُلقي عليها لإخماد الحريق. وقفت مسز كيج مشدوهةً بينما راح جيمس٩ يَحجِل حولها، ينقر هنا وهناك، كأنما كان يختبرُ الطوبَ بمنقاره. كان مشهدًا عجائبيًّا، ولو لم تكن مسز كيج معتادةً على الحياة مع الحيوانات، لكانت بسهولة فقدت عقلَها، وعرجتْ من فورها على بيتها. لكن المزيدَ من العجائب كان عليها أن تحدثَ. طوالَ هذا الوقت لم يكن الببغاءُ قد قال كلمةً. ثم فجأةً دخل في وضعيةِ الإثارةِ القصوى، وراح يرفرفُ بجناحيه، ويدقُّ الأرضَ بمنقاره بانتظام، ثم صرخَ في نغمةٍ عاليةٍ ثاقبة: «لستُ بالبيت!» «لستُ بالبيت!» حتى إن مسز كيج خافتْ أن يصحوَ كلُّ سكانِ القرية.

«لا ترفع صوتَك باهتياج يا جيمس؛ سوف تؤذي نفسَك هكذا،» قالت له مهدِّئةً. لكنه كرَّرَ هجومَه على بلاطات الطوب بعنفٍ أكبرَ وأكبر.

«أيُّ معنًى يمكنُ أن يكونَ وراء ذلك؟» قالت مسز كيج، وهي تنظرُ بدقَّة إلى أرضية المطبخ لتفحصَها. كان ضوءُ القمر كافيًا ليُظهرَ عدمَ استواء طفيفًا في رصِّ بلاطات الطوب، كأنما كانت قد انتُزِعَت من مكانها ثم أُعيد رصُّها دون موازاةٍ تامةٍ مع البلاطاتِ الأخرى. كانت قد ثبَّتتْ عباءتَها بدبوسٍ كبير، والآن دسَّتِ الدبوسَ بين بلاطاتِ الطوب فوجدت أنها مرصوصةٌ جوار بعضها البعض دون تثبيت. وسرعان ما انتزعتْ بلاطةً بين يديها. وبمجرد أن فعلت ذلك حتى حجلَ الببغاءُ ووثبَ على البلاطة المجاورة للبلاطة المنزوعة، وظلَّ يدقُّ بمنقاره بذكاء، ويصرخُ: «لستُ في البيت!» ما جعل مسز كيج تفهمُ أن عليها أن تنزعَها. وهكذا استمرا معًا في انتزاع البلاطات تحت ضوءِ القمر حتى أصبحتْ لديهما مساحةٌ عارية عن البلاطات بحوالي ستة أقدام في أربعة أقدام ونصف القدم. هنا ظنَّ الببغاءُ أنها مساحةٌ كافية. ولكن ماذا يجب أن يُفعل بعد ذلك؟

راحت مسز كيج تستريح الآن، وقد قررت أن تمتثل تمامًا لتوجيهات الببغاء جيمس عن طريق تتبُّع سلوكه. ولم يُسمح لها بالاستراحة طويلًا. بعد النبش هنا وهناك لعدة دقائق في الأساسِ الرملي، كما ربما تكونون قد رأيتم دجاجةً تخربشُ في الرمل بمخالبها، كان قد استخرجَ من الرمال شيئًا مدفونًا بدا أوَّل الأمر مثل كتلةٍ صخرية مستديرة تميلُ إلى اللون الأصفر. أصبحت إثارتُه لا حدَّ لها حين راحت مسز كيج تساعده. ولدهشتها وجدتْ أن كلَّ المساحة التي كشفاها عن بلاطاتها كانت مرصوصةً بلفائفَ طويلةٍ من تلك الصخور الصفراء المستديرة، مرصوصةً بترتيب جوار بعضها البعض حتى إن تحريكها كان مهمةً كبيرة. لكن ماذا يمكن أن تكون؟ ولأي غرضٍ خُبئتْ هنا؟ لم يكادا يزيلان الطبقةَ العلوية، وبعد ذلك قطعةً من المشمَّع المدهون بالزيت موضوعة تحتها، حتى بدا أمام عيونهما أكثرُ المناظر إعجازًا — هناك، في صفٍّ وراء صفٍّ، كانت آلافٌ من الجنيهات الذهبية البريطانية الجديدة، مصقولة وفاتنة يشعُّ بريقُها تحت ضوءِ القمر!

هذا، إذَن، كان مخبأ الرجلِ الشحيح؛ هكذا تأكد أن لا أحدَ ثمة سوف يكتشفُ المكانَ بأن اتخذَ وسيلتين احتياطيتين استثنائيتين. أولًا المكان، كما كان قد أُثبِت فيما بعد، أنه قد بنى حدودَ المطبخ فوق البقعة التي خبأ فيها كنزَه، حتى إنه لولا النار قد دمَّرته، فإن لا أحدَ ثمة كان بوسعه أن يُخمِّن وجودَه؛ وثانيًا كان قد طلى الطبقةَ العليا من الجنيهات الذهبية بمادةٍ لزجةٍ ثم لفَّها في تراب الأرض، حتى إذا حدث لأية مصادفة وانكشفَ أحدُها فإنه لا أحدَ سوف يشكُّ أنها أيُّ شيء سوى بعض الحصى كما يمكن أن تكونوا قد رأيتم أيَّ يومٍ في الحديقة. وهكذا، ليس إلا صدفة استثنائية لحريق وحصافةِ ببغاء بواسطتهما هُزمَ مكرُ جوزيف العجوز وخبثُه.

الآن راحت مسز كيج والببغاء يعملان بكدٍّ لاستخراج الخبيئة كاملةً — التي مقدارها ثلاثة آلاف قطعة ذهبية، لا أقل ولا أكثر — ثم وضعتها في عباءتها التي كانت مبسوطةً على الأرض. وبمجرد أن وضعت الثلاثة آلاف قطعة نقدية في كومة، طار الببغاء عاليًا في الهواء ثم حطَّ برقَّة بالغة فوق رأس مسز كيج. وبهذه الوضعية عادا إلى كوخ مسز فورد، في خطوات بطيئة للغاية، لأن مسز كيج كانت عرجاء، كما قلتُ من قبل، وأيضًا الآن قد غدت مثقَلةً بمحتويات عباءتها. لكنها وصلت إلى غرفتها دون أي أثر يشي بزيارتها إلى المنزل المنهار.

عادت في اليوم التالي إلى يوركشاير. ومرةً أخرى أقلَّها مستر ستانسي من لويز واندهش قليلًا من الثِّقَل الذي غدا عليه صندوقُها الخشبي. لكنه كان رجلًا هادئَ الطباع، فاستنتجَ ببساطةٍ أن الناسَ الطيبين في رودميل قد أعطوها بعضَ سَقطِ متاعهم مواساةً لها على خسارتها الفادحة وفقْدها كلَّ ممتلكاتها في الحريق. وبدافعٍ من طيبةِ قلبٍ شفَّافٍ عرضَ عليها مستر ستانسي أن يشتري الببغاءَ بنصف كراون؛ رفضتْ مسز كيج قائلةً بنبرة ساخطة، إنها لن تبيعَ الطائرَ ولا بكلِّ ثروات الإنديز،١٠ حتى إن الرجلَ قد استنتجَ أنَّ المرأةَ العجوز قد أصابها الخبلُ جرَّاء ما مرَّت به من كوارث.

بقي أن نقولَ الآن إن مسز كيج عادتْ بأمانٍ إلى سبيلسبي؛ أخذت صندوقَها الأسودَ للبنك؛ وعاشت مع جيمس الببغاء وكلبِها شاج في راحةٍ قصوى وسعادةٍ ناعمة حتى بلغتْ عمرًا أرذلَ.

وليس قبل أن ترقدَ على فراشِ الموتِ شرعتْ تحكي للقسِّ (ابن الأب صموئيل تولبويز) الحكايةَ كاملةً، مُضيفةً أن البيتَ كان قد أُحرقَ عمدًا بتدبير من الببغاء جيمس، الذي كان واعيًا بالخطر المُحدق بها على ضفَّة النهر، فطار إلى حيث غرفة الغسيل، وقلَبَ الموقدَ الزيتي الذي كان مُحتفظًا ببعض القطَع الدافئةِ من أجل عشائِها. وبهذا العمل هو لم ينقذها من الغرقِ وحسب، بل كشفَ كذلك عن الثلاثةِ آلاف جنيه، التي لم يكن لها أن تُكتشف بأية وسيلةٍ أخرى. وتلك كانت، راحتْ تضيفُ، مكافأةً لها على حُنُوِّها على الحيوانات.

ظنَّ القسُّ أنها كانت تهيمُ في أفكارها. لكن المؤكدَ أنه في اللحظةِ التي خرج فيها النفَسُ من الجسد، صرخَ الببغاءُ جيمس صرخةً مدوِّية: «لستُ بالبيت! لستُ بالبيت!» ثم سقط من فوق عموده الحجري جثةً هامدة. وكان الكلبُ شاج قد ماتَ قبل ذلك بعدة سنوات.

زُوَّار رودميل ربما ما زالوا يشاهدون حطامَ البيت، الذي احترق قبل خمسين عامًا، وكان شائعًا أن يُقال إنكَ لو زرتَه في ضوءِ القمر ربما سمعتَ الببغاءَ ينقرُ بمنقاره على بلاطةِ الأرضية، بينما آخرون يرون امرأةً عجوزًا تجلسُ هناك في عباءةٍ بيضاء.

١  هذه هي القصة الوحيدة في المجموعة القصصية، وربما في مجمل أعمال وولف، التي تميل إلى الحكائية التقليدية بعيدًا عن تيار الوعي الذي شمل كافة تجربتها السردية. وربما كتبتها وولف عمدًا بهذا النهج لتثبت أنها قادرة على كتابة السرد الاعتيادي التقليدي ابن القرن التاسع عشر. راجع المقدمة. (ت)
٢  Shilling عملة نقد إنجليزية ضعيفة القيمة. يعادل ١ / ٢٠ من الجنيه الإسترليني.
٣  تعادل ما قيمته ١٥٠٠٠ جنيه إسترليني وقت كتابة القصة. (ت)
٤  pence قرش إنجليزي. يساوي ١ / ١٠٠ من الجنيه الإسترليني. (ت)
٥  Ouse (ذات النهر الذي أغرقتْ فيه فرجينيا وولف نفسَها عام ١٩٤١م). (ت)
٦  ford موضعٌ من النهر ضحلُ المياه كان الناس يخوضون فيه ليعبروا النهر. (ت)
٧  مدُّ القمر وجزره — حيث يتباين منسوب مياه البحار والأنهار تبعًا لجاذبية القمر للماء. (ت)
٨  ليونارد وولف اسم زوج فرجينيا وولف في الحقيقة! (ت)
٩  طوال القصة أعطت وولف الببغاء ضمير العاقل He — راجع المقدمة لمطالعة هذه التيمة في تجربة وولف. (ت)
١٠  Indies مصطلح إنجليزي يعبر عن جنوب قارة آسيا وجنوبها الشرقي، وكانت منطقةً تضمُّ كلًّا من الهند وباكستان وبنجلاديش وعددًا كبيرًا من الدول كانت تابعة للإمبراطورية البريطانية لعهد طويل. (ت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤