بستان الفاكهة

(١٩٢٣م)
غفَت ميراندا في الحديقة، فيما كانت مُستلقِيةً فوق مقعدٍ طويل تحت شجرة التفاح. كان كتابُها قد سقط داخل حشائش العشب، وإصبعُها ما زالت كأنها تشير إلى جملة:١«هذا البلدُ في الواقع أحدُ أفضلِ أركان العالم حيث يمكن لضحكات البنات أن تتوهج على النحو الأكمل …»، وكأنما قد سقطَت في النوم عند هذه النقطة بالضبط. أحجار الأوبال٢ في إصبعها كانت تتلألأ بضوءٍ أخضر، ثم بضوءٍ وردي، ثم تشعُّ ضوءًا برتقاليًّا من جديدٍ حين تتسرَّب إليها أشعةُ الشمس عبر أشجار التفاح، وتملؤها. في ذلك اليوم، وبمجرد أن يهبَّ النسيم، كان فستانها الأُرجواني يترقرق متماوجًا مثل زهرةٍ عالقة بغُصن؛ تحني الحشائشُ رءوسَها؛ وتُحوِّم الفراشاتُ البيضاء دافقةً من هذه الطريق ومن تلك الطريق، بالضبط فوق وجهها.

على مسافةِ أربعةِ أقدام في الهواء فوق رأسها كانت التفاحات مُعلَّقةً. وفجأةً، تعالت ضجةٌ حادَّة النغمة كأنما رنينُ نواقيسَ من نُحاسٍ مشقوق تُقرَع بعنف، بغير انتظام، وعلى نحوٍ وحشي. لم يكن ذلك سوى أطفال المدرسة يُردِّدون جدول الضرب مجتمِعين في صوتٍ واحد، يُستوقَفون من قِبَل المعلِّمة، يُوبَّخون بغلظة، ثم يبدءون من جديد في تسميع جدول الضرب مرةً بعد مرة.

لكنَّ هذا الصخب مرَّ على ارتفاع أربعة أقدام فوق رأس ميراندا، مُخترِقًا أغصانَ التفاح، ثم ضاربًا رأسَ الولد الصغير ابن راعي البقر الذي كان يجمع ثمار التُّوت الأسود من سِياج الشُّجيرات، بينما من المفروض أن يكون في المدرسة الآن، ما جعله يَجرح إبهامه بالأشواك.

في الجوار، ثَمَّ نحيبٌ مُنعزِلٌ وحيد — حزين، بشري، وحشي. بريسلي العجوز كان في الحقيقة شديدَ الثَّمَل حدَّ العماء.

آنذاك، الأوراق الأكثر ارتفاعًا في قمَّة شجرة التفاح، منبسطةٌ مثل أسماك صغيرة في مواجهة زرقة السماء الحزينة، على ارتفاع ثلاثين قدمًا فوق الأرض، كانت الأوراق تحفُّ بصوتِ جرسٍ يدقُّ برنينٍ موسيقي عميق وحزين. ذاك هو الأُرغن في الكنيسة يعزف إحدى التراتيل القديمة والحديثة. الصوت حلَّق سابحًا في العُلا ثم تشظَّى إلى ذرَّاتٍ دقيقة بأجنحةِ سِرب من عابري الحقول كان يطير بسرعةٍ هائلة — من مكان إلى مكان.

ميراندا ترقد نائمةً على مسافة ثلاثين قدمًا للأسفل.

ومن ثَم، أعلى شجرتَي التفاح والكُمَّثْرى، على ارتفاع مائتَي قدم من ميراندا التي كانت ترقد نائمةً في الحديقة، كانت أجراسٌ تُقرَع على نحوٍ مُتقطِّع مكتوم، عِظاتٌ نكِدة، لأن ستَّ نساءٍ بائسات من نسوة الأبرشية كُنَّ يؤدِّين صلاةَ الشُّكر بينما كبيرُ القساوسة يرفع الدعاء إلى السماء.

وفي الأعلى، وبصوتٍ ذي صريرٍ حادٍّ، كان السهم الذهبي لبرج الكنيسة، الذي يشبه ريشةَ طائر، يدور من الجنوب إلى الشرق. الرياح تغيِّر اتجاهها. وفوق كل الموجودات كانت تُدمدِم وتُطلِق أزيزَها، فوق الغابات والمروج الخُضر والتلال، وفوق أميال من ميراندا التي كانت ترقد في الحديقة نائمةً. الرياح تَجرف كلَّ شيءٍ دون تمييز، من دون عينين ومن دون عقل، لا شيء قابلتْه كان بوسعه الصمود أمامها، إلى أن، دارَ السهمُ نحو الجهة الأخرى، الرياح تتحوَّل صوبَ الجنوب من جديد. على مسافةِ أميال للأسفل، في فراغ بسعة ثَقبِ إبرة، كانت ميراندا تقف مُنتصِبةً وتهتف بصوتٍ عالٍ: «أوه، سوف أتأخر على موعد الشاي!»

ميراندا نامت في الحديقة — أو ربما هي لم تكن نائمةً، لأن شفتَيها كانتا تتحركان خفيفًا خفيفًا كأنما تهمسان: «هذا البلد في الحقيقة هو أفضلُ مكان في العالم … حيث ضحكةُ البنات … تُجلجِل … تُجلجِل … تُجلجِل.»٣ بعد ذلك ابتسمَت ثم تركَت جسدَها يغوص بكامل وزنه فوق الأرض الهائلة التي أخذَت تصعد، راحت ميراندا تُفكِّر: لا بدَّ أن تحملني فوق ظهرها كما لو كنتُ ورقةَ شجر، أو، مَلِكةً، (هنا كان الأطفال يُردِّدون جدول الضرب)، أو، تستأنف ميراندا، ربما أجد نفسي مُمدَّدةً في استرخاءٍ فوق مُنحدرٍ شاهق ومن فوقي تصرخ النوارس. كلما طارت لارتفاعاتٍ أعلى وأوغلَت في السماء أكثر، تُكمِل ميراندا، بينما المعلِّمة تُوبِّخ التلاميذ وتضرب جيمي فوق مفصلات سُلَّاميات أصابعه حتى تُدميَها، كلما بدا انعكاسُها٤ أعمقَ داخل البحر — داخل البحر، أخذَت تُكرِّر، بينما راحت أصابعها تسترخي وشفتاها قد أُغلقتا بلطف كأنما بدأَت تطفو فوق صفحة البحر، آنذاك، حين بدأَت تعلو صيحةُ الرجل السكران في الأفق، سحبَت ميراندا شهيقًا عميقًا بنشوةٍ غير عادية، إذ تخيَّلَت نفسها تسمع الحياة ذاتها تصرخ خلال لسانٍ خشنٍ فظٍّ داخل فمٍ قِرمِزي داعر، خلال الرياح، خلال الأجراس، وخلال الأوراق الخضراء المُلتوية لثمار الكرنب.

بطبيعة الحال كان حفلُ زفافها حينما عزَف الأرغنُ لحنَ الترانيم القديمة والحديثة، و، عندما قُرعَت الأجراس بعد أن أدَّت النساء السِّت الفقيرات صلاةَ الشُّكر في الكنيسة، راح الصوتُ المُتقطِّع المكتوم النَّكِد يدفعُها لأن تفكر أن هذه الأرض ذاتَها ترتعد تحت حوافر الحِصان الذي كان يَركض نحوها بسرعة («آه، يجبُ عليَّ أن أنتظر وحسب!»، تنهَّدَت بحسرة)، وبدا لها أن كلَّ شيء قد بدأ الآن يتحرك، يصيح، يمتطي صهوةً ما، كلُّ شيء بدأ يطير حولها ونحوها وخلالها وفْقَ تشكيلٍ منتظِم.

ماري تُقطِّع الأخشاب، تُفكِّر ميراندا؛ وبيرمان يرعى الأبقار؛ وعرباتُ اليد قادمة لأعلى من ناحيةِ المروج؛ والرجلُ الراكبُ — ثم هي راحت تقتفي أثرَ الخطوط التي خلَّفها الرجالُ والعربات والطيور والرجل الراكب على أرض القرية، إلى أن بدَوا جميعا كأنما يُجرَفون ناحيةَ الخارج في كل اتجاه، جرفتهم دَقَّةُ قلبها.

تَبدَّل اتجاهُ الرياح على ارتفاعِ أميال في الهواء؛ الريشة الذهبية لبرج الكنيسة تُصدِر صريرًا حادًّا؛ فتقفز ميراندا عاليًا وتصرخ: «أوه، سوف أتأخرُ على موعدِ الشاي!»

ميراندا نامت في الحديقة، أوَهَلْ كانت نائمةً حقًّا، أم هل هي لم تكن نائمة؟

فستانُها الأرجواني كان مبسوطًا ومنشورًا بين شجرتَي التفاح. كان هناك أربع وعشرون شجرةَ تفاح في الحديقة، بعضُها يميل قليلًا، والبعض ينمو مستقيمًا على نحو رأسي بجزعٍ مُنبثِق لأعلى، الجزعُ يتمدَّد بدوره في اتساع ثم يتشعَّب إلى فروع وأغصان تتحوَّر إلى قطراتٍ مستديرةٍ حمراءَ أو صفراء. كان لكلِّ شجرةِ تفاح فضاؤها الكافي. والسماء كانت بالضبط على قدِّ مُسطِّح الأوراق. حين نسيمُ الهواء يعصف، كانت خطوط الأغصان المقابلة للسور تنحني قليلًا ثم تعود. وأبو فصادة يطير حذوَ القُطر من ركن إلى ركن. وعلى نحوٍ حذرٍ كان طائرُ الحَجَل المُغرِّد يَحجل على ساقٍ واحدة ساعيًا نحو تفاحة كانت في طريقها للسقوط على الأرض؛ ومن جانبِ السور الآخر جاء عصفورٌ يُرفرِف تمامًا فوق العشب. أغصانُ الأشجار العلوية كانت موصولةً بالأسفل عن طريق تلك الحركات والمشاهد؛ والكل، كلُّ المشهد، كان مُحكَمًا ومأسورًا بأسوار الحديقة. لعدَّةِ أميالٍ نحو الأسفل، كانت الأرض مشدودةً بإحكام إلى بعضها؛ متموِّجةً عند السطح بسبب الهواء المتذبذِب المتمايل؛ وعبر أحد أركان الحديقة كان الأزرق-الأخضر٥ يشقُّه طوليًّا شريطٌ أُرجواني.٦ الرياح تتغيَّر الآن، عنقودٌ من ثمرِ التفاح كان قد قُذفَ عاليًا جدًّا حتى إنه خبطَ ومحا تمامًا بقرتَين كانتا ترعيان في المَرج. («أوه، سوف أتأخر على موعدِ الشاي!!»، صاحت ميراندا)، بينما التفاح راحَ يتدلى من جديد باستقامة، فوق السور.
١  ‘Ce pays est vraiment un des coins du monde oui le rire des filles éclate le mieux …’ — الجملة بالفرنسية. (ت)
٢  opals حجر كريم يتغير لونه تبعًا للضوء الساقط عليه — يُسمى أيضًا عين الشمس. (ت)
٣  ‘Ce pays est vraiment un des coins du monde oui le-rire des filles … éclate … éclate … éclate’ — الجملة بالفرنسية. (ت)
٤  انعكاس النوارس. (ت)
٥  ربما تقصد خطَّ الأفق عند التقاء السماء بالخضرة. (ت)
٦  فستان ميراندا ربما! (ت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤