تمهيد

كانت نشأتي في منزلٍ مليء بالأطبَّاء ويعجُّ بالأحاديث الطبية؛ فقد كان والدي وإخوتي الأكبر سنًّا مُمارسين عموميِّين، وكانت والدتي جرَّاحة. وكان قدرٌ كبير من الحديث الدائر حول طاولة العشاء يدور حتمًا حول الطب، لكن الحديث لم يكُن فقط عن «الحالات». فالمريض يمكن أن يظهر باعتباره حالة لمرضٍ ما، ولكن في أحاديث والديَّ أصبحت الحالاتُ سِيرًا ذاتية، وقصصًا لحياة أشخاص وتفاعُلهم مع مرض أو إصابة، مع توتُّر أو فاجعة. ربما كان يجب أن أصبح أنا نفسي طبيبًا وقاصًّا.

عندما نُشر كتاب «الرجل الذي حسب زوجتَه قُبَّعة» في عام ١٩٨٥، حظِي بمراجعةٍ رائعة للغاية من قِبل طبيب أعصاب أكاديمي بارز. فقد كتب أن الحالاتِ كانت مُدهشة، لكن كان لديه تحفظٌ واحد؛ فقد اعتقد أنني كنت مُخادعًا في تقديم المرضى كما لو كنت قد أتيت إليهم دون أفكار مسبقة، مع القليل من المعرفة بحالاتهم. هل كنت حقًّا أُطالع المؤلَّفات العِلمية بكثرة فقط بعد رؤية مريض يُعاني حالةً معيَّنة؟ لا شك أنه اعتقد أنني كنت أبدأ بوضع موضوع أو فكرة في علم الأعصاب نُصب عيني، ثم أسعى ببساطة للبحث عن مرضى يُمثلونه.

لكنني لست طبيب أعصاب أكاديميًّا، والحقيقة هي أن معظم الأطبَّاء المُمارسين، بصرف النظر عن ثقافتهم الطبية الواسعة، لا يملكون إلا النَّزر اليسير من المعرفة المُتعمقة بالعديد من الحالات، لا سيَّما تلك التي تُعتبر نادرة؛ ومن ثَم لا تستحقُّ إهدار الكثير من الوقت في دراستها في كليات الطب. عندما يُقدِّم المريض نفسه كمُصاب بواحدة من تلك الحالات، ينبغي أن نُجريَ بعض الأبحاث، وأن نرجع بصورةٍ خاصة إلى التوصيفات الأصلية. ومن ثَم عادةً ما تبدأ قصص حالاتي بلقاء، أو برسالة، أو بطَرق على الباب؛ فوصف المرضى لتَجارِبهم هو ما يحفز الاستكشاف الأعمَّ للحالات.

وبصفتي طبيبَ أعصاب عامًّا يعمل في أغلب الأوقات في دُور المسنِّين، رأيت آلاف المرضى على مدار العقود الماضية. وقد تعلَّمت شيئًا منهم جميعًا، وأستمتع برؤيتهم، بل في بعض الحالات كان يرى بعضنا الآخر بانتظام، كطبيب ومريض، على مدى عشرين سنةً أو أكثر. في ملاحظاتي السريرية أبذل قُصارى جهدي لتسجيل ما يحدُث معهم، وفي التفكير بعناية في تجارِبهم. ومن حين لآخر، وبإذن من المريض، تتطوَّر ملاحظاتي إلى مقالات.

بعد أن بدأتُ في نشر قصص الحالات، بدايةً من كتاب «الصداع النصفي» في عام ١٩٧٠، بدأت في تلقِّي رسائل من أشخاصٍ يسعَون إلى فَهم تجاربهم العصابية الخاصة أو التعليق عليها، وأصبحَت مِثل هذه المراسلات، بطريقةٍ ما، امتدادًا لممارستي. ومن ثَم فإن بعض الأشخاص الواردِ ذِكرُهم في هذا الكتاب هم من المرضى، والبعض الآخر أشخاصٌ كتبوا لي بعد قراءة إحدى قصص حالاتي. أنا ممتنٌّ لهم جميعًا لموافقتهم على مشاركة تجارِبهم؛ لأن مِثل هذه التجارِب تعمل على توسيع الخيال، وتُبين لنا ما يكون في الغالب مُستترًا حين نكون متنعِّمين بالصحة، كالعمليات المعقَّدة للدماغ وقدرته المُذهلة على التكيُّف والتغلُّب على الإعاقة، فضلًا عن الشجاعة والقوة التي يمكن للأفراد إظهارها، والموارد الداخلية التي يُمكنهم أن يُسهموا بها، في مواجهة التحدِّيات العصبية التي يكاد يستحيل على بقيَّتنا تخيُّلها.

•••

العديد من زملائي، في الماضي والحاضر، شارَكوا بسخاء بوقتهم وخبراتهم لمناقشة الأفكار الواردة في هذا الكتاب أو التعليق على مُسوداته المختلفة. أنا في غاية الامتنان لهم جميعًا (وللكثيرين ممَّن أغفلتُهم هنا)، وأخصُّ بالذِّكر بول باخ-ريتا، وجيروم برونر، وليام بيرك، وجون سيسن، وجنيفر وجون كلاي، وبيفيل كونواي، وأنطونيو وحنَّا داماسيو، وأورين ديفينسكي، ودومينيك فيتش، وإلكونون جولدبرج، وجين جودال، وتمبل جراندين، وريتشارد جريجوري، وتشارلز جروس، وبيل هايز، وسايمون هايهو، وديفيد هوبل، وإلين إيسلر بمعهد برايل اليهودي، وناريندر كابور، وكريستوف كوخ، ومارجريت ليفينجستون، وفيد ميهتا، وكين ناكاياما، وجوريل كريستينا نسلوند، وألفارو باسكوال-ليون، وديل بورفيس، وفي إس راماشاندران، وبول رومانو، وإسرائيل روزينفيلد، وتيريزا روجيرو، وليونارد شنجولد، وشينسكي شيموزو، ورالف سيجل، وكوني توماينو، وبوب واسرمان، وجانيت ويلكنز.

لم أكُن لأستطيع إتمام هذا الكتاب من دون الدعم المعنوي والمالي لعدد من المؤسَّسات والأفراد، وأنا مَدِين لهم كثيرًا، وعلى رأسهم سوزي وديفيد سينسبري، وجامعة كولومبيا، وذا نيويورك ريفيو أوف بوكس، وذا نيويوركر، ووكالة ذا وايلي، وماكدويل كولوني، وبلو ماونتن سنتر، ومؤسَّسة ألفريد بي سلون. وممتنٌّ أيضًا للعديد من الأشخاص في دار ألفريد إيه نوبف للنشر، وبيكادو المملكة المتحدة، وفينتدج بوكس، وناشرِيَّ الآخَرين حول العالم.

أسهَم العديد من المُراسلين أيضًا بأفكار أو أوصاف لهذا الكتاب، من ضِمنهم جوزيف بنش، وجون سي، ولاري إيكستيد، وآن إف، وستيفن فوكس، وجي. تي. فريزر، وألكسندرا لينش.

أدين بالعِرفان كذلك إلى جون بينيت من جريدة «ذا نيويوركر»، ودان فرانك في مؤسسة «نوبف»، والمحرِّرَين الرائعين اللذين أضفَيا تحسيناتٍ عدةً على هذا الكتاب، وإلى ألين فوربيك لما أبداه من عون في الرسوم التوضيحية. وقد قام هايلي فويتشيك بنسخ العديد من المسودات والبحوث المساهمة، وأسهَم تقريبًا بكل أنواع المساعدة الأخرى، فضلًا عن فكِّ شفرات ونسخِ ما يقرب من ٩٠٠٠٠ كلمة من كلماتي في «يوميات الميلانوما» الخاصة بي. كما قامت كيت إدجار، في السنوات الخمس والعشرين الماضية، بدَورٍ فريد كمُعاوِنة، وصديقة، ومحرِّرة، ومنظِّمة، وغير ذلك الكثير. لقد حثَّتني، كعهدها دائمًا، على التفكير والكتابة والنظر من وجهاتِ نظرٍ مختلفة، ولكن مع العودة دائمًا إلى المركز.

وقبل كل شيء، أنا مَدِين لأفراد بحثي أو مَرْضاي وعائلاتهم؛ لاري أبراهام، وسو باري، وليستر سي، وهوارد إنجل، وكلود وباميلا فرانك، وأرلين جوردون، وباتريشيا ودانا هودكين، وجون هال، وليليان كالير، وتشارلز سكريبنر جونيور، ودينيس شولمان، وصبرية تينبركن، وزولتان توري. فلم يسمحوا لي فقط بالكتابة عن تجارِبهم والاقتباس من أوصافهم، بل علَّقوا أيضًا على المسودات، وعرَّفوني بأشخاصٍ آخرين، وقدَّموا لي مواردَ أخرى، وفي كثير من الأحيان أصبحوا أصدقاءَ جيِّدين.

وأخيرًا، يجب أن أعبِّر عن عميق امتناني وعِرفاني لطبيبي، ديفيد أبرامسون، الذي أُهدي له هذا الكتاب.

أوه دبليو إس
نيويورك
يونيو ٢٠١٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤