الرسالة الثامنة والثلاثون١

من حوادث الحياة: المناصب العالية والغرور بالنفس

يا أخي:

إن الغرور بالنفس الذي يتولد عادةً في صدور الرجال الذين يَشْغَلون المناصب العالية يدل دلالة واضحةً على أن هؤلاء الرجال ولو قادهم الحظ لِتَسَنُّم أعلى المراكز، فإنهم — بالحقيقة — لم يُخلَقوا لها.

ذلك ما لاحَظْته، واختبرته بنفسي عند احتكاكي ببعض ذوي المقامات العالية من رجال الدنيا والدين، الذين برهنوا في أعمالهم وتصرفهم بأنهم غير أكفَاءٍ للقيام بعبء مناصبهم الخطيرة.

عرفت رجلًا٢ معرفةً صحيحةً قبل تسَنُّمه إحدى الوظائف المهمة وبعدها.
وعرفت رجل دين٣ قبل سيامته أسقفًا وبعدها، وبما أنني خَبَرْت الرجلين خبرةً تامةً في حالتيهما الماضية والحاضرة، جئت أسرد الآن ماذا كان وَقْع الوظيفة عليهما.

كان الأول لطيفًا متواضعًا، فأصبح بعد الوظيفة متعجرفًا شامخًا.

كان يحترم الناس ويُصغي لكلامهم، فأصبح اليوم يحتقرهم، ويزدري بهم.

كان يَعْرف نفسه نوعًا، فأصبح يجهلها جهلًا تامًّا.

كان يعلم شيئًا، فأصبح بعد الوظيفة يعتقد أنه يعلم كل شيءٍ، ولكنه لو عاد إلى رشده قليلًا، وتدَبَّر نفسه لفطن أنه كان شيئًا قبل الوظيفة، وأما اليوم فقد أَفْقَدَه الغرور الشيء الذي كانه، وأصبح لا شيء.

وأما رجل الدين فكان وهو كاهن يعتقد نفسه أنه من جِبِلَّة البشر، فأصبح وهو أسقف يعتقد نفسه أنه صار من جِبِلَّة الآلهة.

كان يقرُّ بالخطأ الذي يرتكبه، فأصبح بعد الأسقفية معصومًا من الخطأ.

كان يطرق أبواب الفقراء، ويتحدث إليهم، فأصبح بعد الأسقفية لا يطرق إلا أبواب الأغنياء والزعماء.

كان رجل دين فقط، فأصبح بعد الأسقفية رجل الدنيا والدين.

كان يعتقد أنه لا سلطة له غير سلطته الروحية ضمن جدران كنيسته، فأصبح بعد الأسقفية يعتقد أن كل السلطات بيده.

كان شيئًا وهو كاهن، وأما اليوم فلو تبصَّر قليلًا في كثرة هفواته وغروره واعتداده بنفسه، لظهر له جليًّا أن الأسقفية التي ولَّدت الغرور في ذهنه أفقدَتْه الشيء الذي كان متحليًّا به وهو كاهن، وأصبح لا شيء؛ لأنه لم يُخْلَق ليكون أسقفًا، بل كاهنًا فقط.

إن المنصب الرفيع يفعل في صاحبه ما تفعله الثمرة في الشجرة، فكما تُعْلِن الثمرة جودة أصل الشجرة أو رداءته، هكذا المنصب الخطير يُعْلِن كفاية الرجل وحُسْن أَرُومَته وإخلاصه، أو عدم كفايته وصلفه وفظاظة طباعه.

يا أخي:

تراني الآن كلما نظرت بعين العقل والبصيرة، كيف تتوزع على الناس خيرات الأرض ومراكزها الأدبية والمادية، يظهر لي جليًّا أن الغبن الفاحش يلحق بعض الناس بلا سببٍ موجبٍ، كما تلحق الزيادة البعض الآخر عن غير جدارةٍ ولا استحقاقٍ.

فكم غنيٍّ كان أولى بأن يكون فقيرًا؛ لكثرة لؤمه وشُحِّه!

وكم فقيرٍ كان أجدر بأن يكون غنيًّا؛ لفرط كَرَمِه وحِلْمِه!

وكم حاكمٍ قاده النسب أو الحظ للحاكمية، وهو بالحقيقة لم يُخْلَق ليحكم الناس، بل ليحرث الأرض ويرعى السائمة.

وكم رجلٍ حكيمٍ يحرث الحقول ويسوس المواشي، وهو كان جديرًا بأن يسوس الناس ويحكمهم، لا أن يرعى البهائم ويحرث الأرض.

كل ذلك مما يجعلني أعتقد بأن هذه الحياة الدنيا ناقصةٌ من كل وجوهها، وما الموت سوى حكمةٍ من الله ليزيل نقصانها.

وكما قال المسيح بإنجيله: «ما جئت لأنقض الناموس، بل لأتمم.» هكذا أعتقد بأن الله لم يَأْمُر بالموت لينقض الحياة، بل ليتممها ويزيدها رقيًّا وكمالًا.

١  بيروت في ٢٤ ك٢ سنة ١٩٣١.
٢  لا أعني رجلًا مخصوصًا، بل كل من يغتر بنفسه، ويحتقر الآخرين.
٣  لا أعني أسقفًا مخصوصًا من الأساقفة، بل كل من يَغْتَر بنفسه من رجال الدين، على اختلاف الطوائف والمذاهب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤