الرسالة الثالثة والأربعون١

رسالة الوداع

يا أخي:

لقد ودَّعتني قبل وفاتك وداعًا لا يبرح ذهني مهما طالت أيام حياتي على الأرض؛ لأنه كان وداعًا حسَّاسًا طافحًا بالحكمة والشعور.

ولهذا السبب دَوَّنْتُه لك كلمةً كلمةً في إحدى رسائلي إليك؛ ليبقى محفوظًا في صفحات كتابي هذا، وخالدًا في أذهان كل من يقرؤه ويتمعَّن به.

وفضلًا عن ذلك؛ إن عباراتك الأخيرة التي ودَّعْتني بها، هي التي أَوْحَت إليَّ مُعْظَم ما كتبْتُه لك من الرسائل، فأنا من هذا القبيل مَدِين لك بها، أشهد بذلك أمام الله والناس.

والآن، هذه رسالتي الأخيرة جئت أوَدِّعك بها، لكني لا أدري ماذا أقوله لك؟ وماذا أتحدث إليك؟

لقد تناوَلْتُ القلم مرارًا؛ لأخطَّ كلمة الوداع، واستعصى عليَّ ذلك؛ ولهذا السبب أصبحت الآن لا أدري، هل تلعثم لساني، وخبا ذهني، وجفَّ مدادي عند كتابتي هذه الرسالة، أم اللغة — مع وفرة مترادفاتها — لم تزل عاجزةً عن التعبير عن حاسة النفس وشدة انفعالها وآلامها؟

يا أخي:

كن على ثقةٍ أني كُلَّما تأملت بك وتَذَكَّرْتُ ساعة وفاتك، أُحِسُّ بألمٍ — وما بي من ألم — وبخفقانٍ قلبيٍّ — وما بي من علةٍ قلبيةٍ — وأشعر تارةً بذهول في دماغي، فيحدثني الناس ولا أفهم حديثهم، وطورًا يخاطبونني ولا أسمع خطابهم، وأحيانًا أحدِّق نظري بهم ولا أراهم، مع أني صحيح الجسم، ليس بي أدنى ضعفٍ في دماغي، ولا في حاستَي: السمع والبصر.

كل ذلك يحصل لي من جراء تلك الانفعالات النفسية، التي تعتريني كُلَّمَا فَكَّرْت بفقدك، وهي التي تهزُّ أعصابي هزًّا، وتشل قواي الذهنية، وتثير لواعجي القلبية، وهي التي لم أَقْدِر حتى الآن أن أَكْبَح جماحها، ولا أن أعبِّر عنها.

يا أخي، لم يَبْقَ لي من أملٍ بالتخلص من هذه الانفعالات النفسانية، لقد أصبحْتُ موقنًا — لا بل معتقدًا — بأنها سترافقني إلى مقَرِّي الأخير، إلى القبر الذي سيضم جثماني، وإلى التراب الذي سأتحول إليه، إلى أن يقضي الله فيجمع رميمك برميمي وترابك بترابي.

وأما تلك النفس التي تختلج في جوانحي الآن، هذه النفس التي كانت رفيقةَ نَفْسك في سرَّائها وضرَّائها، وشقيقتها في خُلُقها وتفكيرها.

هذه النفس التي أحبَّتْك حبًّا يقرب من العبادة.

هذه النفس التي بِنْتَ عنها، وكُنْتَ معينها وجناحها الوحيد في هذه الحياة الدنيا.

هذه النفس لم تَزَلْ سجينةً في حنايا هذا الجسم المتضعضع الذي هو جسمي، أصبحَت الآن تود الانفلات منه؛ لتطير إلى عالمك وتلتقي بنفسك.

هذه النفس المنسحقة من لوعة فراقك تناجيك الآن، وتطلب منك إذا كان بَعْدَ هذا العالم يوجد في الملأ الأعلى عوالم عديدة ومنازل كثيرة تغشاها الأنفس قَبْل الوصول إلى الله، أن تنتظرها نفسك هنيهةً في عالمها الجديد، ولو كان هذا الانتظار يضيرها ريثما تلتقي بها، ثم تسافران معًا إلى ملكوت الله، وتتحدان به تعالى.

فإلى اللقاء يا أخي، إلى الله.

١  بيروت في ٢٦ شباط سنة ١٩٣١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤