الأخلاق الديمقراطية

إذا وصفت الأخلاق بالديمقراطية سبق إلى الذهن معنى هذه الصفة بغير حاجة إلى المراجعة، وفهم السامع أن الأخلاق الديمقراطية هي التي تسري في مجتمع لا سيادة فيه لطبقة على طبقة، ولا استئثار فيه بالسطوة لأحد دون أحد، فكل ما يجمل بإنسان أن يتحلى به من الشمائل والسجايا بينه وبين قومه فهو جميل بكل إنسان.

وقد أمر الإسلام بأخلاق ونهى عن أخلاق، وكل أوامره ونواهيه موجهة إلى الناس أجمعين، وصالحة للأخذ بها في مجتمع قائم على المساواة في الحق، وعلى التعاون بين الأقوياء والضعفاء.

وتتلخص الأخلاق الإسلامية، وإن شئت فقل الأخلاق الديمقراطية في كلمة واحدة: وهي السماحة، فما من صفة أمر بها الإسلام إلا جاز أن توصف بالسمحة، وما من صفة نهى عنها إلا كانت على اليقين مجافية للسماحة داعية إلى نقيضها.

ولا تتطلب الديموقراطية «خلقًا مثاليًّا» أرفع من السماحة؛ لأنها أجمل صفة يتصف بها قوم متعاونون، وإن تفارقوا في الأقدار والأعمال.

على الكبير أن يرحم الصغير وعلى الصغير أن يوقر الكبير: «ومن لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا» كما قال عليه السلام.

والكبرياء خلة ذميمة: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُل مُخْتَالٍ فَخُورٍ.

والقول الحسن واجب: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا.

وليس لأحد أن يسخر من أحد: لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ.

وللمرء على صاحبه حق في مغيبه كحقه في حضوره: وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا.

وتعد آداب التحية والمجاملة من الفرائض التي يأمر بها الكتاب والسنة: «فإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها».

يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا.

وقال غير واحد من رواة الحديث من صحابة النبي: «أمرنا رسول الله بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإجابة الداعي وإفشاء السلام.»

ويوجب الإسلام الإحسان كما يوجب العمل، فالغني مأمور بالإنفاق لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ.

ولكن قبول الصدقة مكروه إذا استطاع الرجل عملًا يغنيه عنها: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيأتي بحزمة حطب فيبيعها فيكف الله بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه.»

والحقوق موفاة لذويها، فلا مطل في الدين ولا نكران للمعروف، ولكنه وفاء على المودة والمعونة لا على البغضاء والشحناء، فمن البخل المذموم أن يغلو المرء في مقاضاة غريمه و«حسب امرئ من البخل أن يقول آخذ حقي كله ولا أدع منه شيئًا» و«من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة.»

وعلى المؤمن أن يكون من الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ لأنها صفة القوي القادر وليست بصفة الجبان الخائف، إذ «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب.»

واشتملت السنة النبوية على تفصيلات من هذه الآداب الأخوية لم تخرم شيئًا مما يحسن بالمرء في مجلسه أو قيامه: «فنهى — عليه السلام — أن يجلس الرجل بين الرجلين إلا بإذنهما»، وقال: «يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي.»

وعلى توكيد الصدق في آيات الكتاب وأحاديث النبوة قال — عليه السلام — في الإصلاح بين الناس: «لا أعده كاذبًا الرجل يصلح بين الناس ويقول القول ولا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها.»

والرفق بالناس مطلوب حتى في أداء الفريضة و«إذا أم أحدكم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير، والضعيف والمريض، وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطول ما يشاء.»

وتمام الأدب أن يلتزمه الإنسان مع خادمه على طعامه: «إذا جاء خادم أحدكم بالطعام فليجلسه، فإن أبى فليناوله.»

وقوام هذه الآداب كلها في الأحاديث الشريفة أن «الحياء زينة» وفي الكتاب الكريم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.

•••

إن وقائع التاريخ تروي لنا المئات من المواقف التي اتبعت فيها هذه الآداب عملًا عن طواعية ومحبة، ولم يكن قصاراها أنها أمرٌ ونهي باللسان أو حض على المثل الأعلى الذي يطلب ولا يدرك بين الناس.

كانت الديمقراطية المثالية في آداب السلوك والمعاملة هي شرعة الواقع في عهد النبي وخلفائه وتابعيه.

كان — عليه السلام — لا يميز في مجلس، ويجيء الغريب فيسأل: من منكم محمد بن عبد الله؟ فيقول صلوات الله عليه: قد أجبتك، فيعرفه بجوابه عليه.

وأراد كعب بن زهير أن يعرفه في مجلسه لينشده قصيدته في الاعتذار إليه، فوصفوه له بأوصافه وبمن يجلس على مقربة منه.

وكان الخليفة الأول يحلب لجاراته الضعاف، وينزل عن ثروته وعن تجارته ليحتسب الخدمة بما دون الكفاية.

وكان عمر بن الخطاب يبادل خادمه الركوب مرحلة بمرحلة، وينام إلى جانب المسجد فلا يهتدي إليه الغريب بغير هداية، ويعيش على طعام يعافه أتباعه، ويبلغ من ذلك أن يعجب له من هو مثله في التقوى والإيمان كأبي عبيدة بن الجراح، رآه في بعض طرق الشام قد انحط عن بعيره ورد الخطام على عنقه وحسر عن ساقيه ليعبر ضحضاحًا فقال له: يا أمير المؤمنين، أتفعل هذا ولك الكفاة من أصحابك وأنت بإزاء عدو يُدل بمنه وقدرته؟ فقال عمر: اسكت يا بن أخي عامر! والله ما أعزكم الله بعد الذلة، وكثركم بعد القلة إلا بالخنوع والاستكانة، فإن تروموا العز بغيرها تهلكوا في يد عدوكم.

وقد كانت السنة في آدابهم أن يشتد من يشتد على نفسه، ولا يلزم غيره شدته في غير فريضة واجبة، فالمقام بإزاء العدو الذي يُدل بمنه وقدرته حجة سمعها عمر من معاوية حين رآه في موكب الولاية بالشام، ولكنه لم يتخذها حجة لنفسه حين أشار إليها أبو عبيدة، وهو أمين الأمة كما لقبه النبي وذكره الفاروق.

ومن العسير أن تتفق على «الديمقراطية» آداب قوم ونظام اجتماعهم وقواعد سياستهم وعقائد ضمائرهم كما اتفقت في ديمقراطية الإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤