أزمة العقل في القرن العشرين١

يعتقد الكثيرون أن السمةَ الغالبة على الفكر في القرن العشرين هي أنه يعاني أزمة، ويرون أن أبرزَ صفات العقل في هذا القرن هي تلك المحنةُ التي جعلته يشكُّ في أكثر مبادئه رسوخًا وأشد بديهياته وضوحًا، على أن هذا الاعتقادَ تواجهه اعتراضاتٌ شديدة يرى أصحابها أنه ليس من الممكن — أو ليس من الواجب — الكلام عن أزمة العقل في القرن العشرين.

أمَّا أن الكلام عن هذه الأزمة غير ممكن؛ فذلك لأن العقل لم ينتصر في أي عهد، فيما يرى أصحاب هذه الاعتراضات، مثلما انتصر في هذا القرن؛ فالعلم قد أحرز في فترة وجيزة مكاسبَ تزيد عما أحرزه طوال تاريخه السابق، والفكر الفلسفي قد ازدهر وتنوَّع وازداد خصبًا على الدوام، وربما كان الأهم من ذلك أن حياة الإنسان ذاتها قد أصبحت تُنظَّم على أساسٍ يستحيل تصوُّره بدون العقل، سواء كنا نَعني حياةَ الإنسان الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو حتى حياته اليومية، فهل يحق لأحد — بعد ذلك — أن يتحدَّث عن أزمةٍ للعقل؟

وأمَّا أن الكلام عن هذه الأزمة غير واجب؛ فذلك لأن هذا الكلام موجَّه إلى مجتمعٍ يحتاج إلى مَن يحثه في كل لحظة على الثقة بالعقل والاعتماد عليه في فكره وفي فعله، وحتى لو كانت أزمة العقل — من الوجهة الموضوعية — حقيقةً واقعة في المجتمعات الغربية، فمن الواجب أن يكون ما نعرضه على مجتمعنا الشرقي حافزًا له على السير في طريق العقل الذي هو أحوج ما يكون إليه، لا أن يكون مشجعًا للعناصر الضيقة الأفق فيه على الدعوة إلى الابتعاد عنه والاستعاضة عنه ببدائلَ أخرى طالما اقتُرِحَت علينا، وطالما جربناها ولم نَفُز منها إلا بالتخلُّف.

ولسنا نزعم أن هذا الاعتراضَ لا يقوم على أساس، ولكن من الصحيح بالرغم من ذلك أن موقف الفكر العالمي من العقل قد طرأ عليه — منذ مطلع القرن العشرين — تغيرٌ أساسي يستحق أن يُوصف بأنه أزمة، وذلك إذا ما قُورن بموقف الثقة من العقل الذي كان سائدًا في القرون السابقة، ومن جهة أخرى فإن الإشارة الصريحة إلى أزمة العقل في مجتمعٍ كمجتمعنا ليست على الإطلاق دعوةً إلى الهروب من العقل أو تشجيع الاتجاهات المعادية له، وإنما هي جهد يُبْذَل من أجْل التنبيه إلى الدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه في حياتنا مَلَكَةٌ كدنا أن ننساها، وإلى الثمن الباهظ الذي كلَّفَنا إياه هذا النسيان.

على أنني أود — منذ البداية — أن أبيِّن بوضوحٍ قاطع أن أزمة العقل في مجتمعنا تَعني شيئًا مختلفًا كلَّ الاختلاف عنها في المجتمعات الغربية، ولا جدال في أن المقارنة بين مظاهر هذه الأزمة في نوعَي المجتمع هذين يمكن أن تُلْقِي ضوءًا ساطعًا على المشكلة بأكملها، بل يمكن أن يكون فيها ردٌّ كافٍ على الاعتراض السابق بشقَّيه معًا؛ إذ إن هذه المقارنة ستكشف — من جهة — عن الملامح الإيجابية إلى جانب الملامح السلبية فيما يُسمَّى بأزمة العقل في الفكر العالمي، وستُثبِت — من جهةٍ أخرى — أن الأزمة التي نعانيها من نوعٍ مختلف كلَّ الاختلاف، وأن ما يَصدُق على المجتمعات الغربية في هذا الصدد لا يصدق على مجتمعاتنا على الإطلاق، وعلى هذا النحو نتحاشى خطرَ تشكيك شعوبنا في الالتجاء والاحتكام إلى العقل الذي هو أحوجُ ما تكون إليه في المرحلة الراهنة من تاريخها.

•••

إن من الضروري لمن يتصدَّى لموضوعٍ له مثل هذا الخطر، أن يبدأ بحثَه وهو على وعيٍ تامٍّ بما يستخدمه من ألفاظ وعبارات، وأفضلُ سبيلٍ لتحقيق هذا الوعي هو أن يحاول تحديدَ المصطلحات الرئيسية التي يستخدمها بقدْر من الدقة يسمح له بالمضي في تناول الموضوع وهو آمن من التخبط أو التناقض غير الواعي، الذي يمكن أن يثيره الاستخدام الفضفاض للألفاظ.

ولعل أول لفظ ينبغي أن نعمل على إيضاحه هو لفظ «الأزمة»؛ فالأزمة — قبل كل شيء — انقطاعٌ وانفصالٌ عن حالةٍ سوية أو مألوفة أو مستمرة، ومن شأن هذا الانقطاع أن يجلب اضطرابًا أو ألمًا؛ لأن المألوف بطبيعته مريح، ولأن السوي بطبيعته صحي، وبهذا المعنى نتحدث عن المرض بوصفه أزمة، غير أننا إذا انتقلنا من المجال الجسمي إلى المجال المعنوي، وجدْنا أن الأزمة هي التي تصبح أقربَ إلى معنى الصحة؛ فالخروج عن المألوف — في هذا المجال — يظل يجلب الاضطرابَ والقلق، ولكنه لا يُعَد بأي معنًى من المعاني تعبيرًا عن المرض، بل إن أزمات العقل هي في معظم الأحيان دليلُ حيويته وفاعليته ونشاطه، ومن السهل تعليل هذا الاختلاف في معنى الأزمة بين المجالين؛ ذلك لأن الجسم بطبيعته يخضع لقوانين ثابتة، ومظهرُ الصحة فيه هو احتفاظه بقدرته على أداء وظائفه المحدَّدة التي لا تتغير إلا في أضيق الحدود، أمَّا العقل فإن صحَّته في تغيُّره وانتقاله على الدوام إلى مواقعَ جديدة، وأي تصوُّر للعقل من خلال فكرة الثبات، أو فكرة الوظائف المحددة التي لا تتغير، هو إلى المرض أقرب، على أن من الواجب أن نتنبَّه إلى أن الأزمة في المجال العقلي تمثِّل خطوةً أولى تتسم بطابع سلبي نحوَ تحقيق صحة العقل؛ فهي تَعني الوعي بقصور القديم وضرورة تَجاوزه، وهي بذلك تشكِّل الشرطَ الذي لا غَناء عنه من أجْل تحقيق هذا التجاوز، ولكن من الممكن أن تظل الأزمةُ في مرحلتها السلبية دون أن تهتدي إلى وسيلةٍ تُعين العقلَ على تجاوز ذاته، أو تؤدي إلى خطوةٍ أخرى تبدو في مظهرها إيجابية، وإن كانت تمثِّل بالفعل ارتدادًا لا تقدُّمًا، وفي هاتين الحالتين يمكن أن تكون أزمة العقل في عصرٍ أو مجتمعٍ معيَّن مظهرًا من مظاهر مرض هذا العصر أو المجتمع.

أما اللفظ الثاني الذي ينبغي أن نقوم بتحديدٍ أدقَّ لمعناه، فهو لفظ «العقل»، وهنا يتعيَّن علينا أن ننبِّه إلى أن تعريفات هذا اللفظ بالذات يمكن أن تستغرق مجلداتٍ بأكملها، بل إن من الفلاسفة مَنْ نظروا إلى تطوُّر البشرية كلها — في جميع مظاهر حضارتها من فكر وفن وعلم ودين وتشريع — على أنه تطوُّر للعقل، وعلى ذلك فإن مجرَّد الكلام عن تحديدٍ لمعنى العقل في مقالٍ كهذا، يبدو أمرًا بعيدًا كلَّ البُعد عن الروح العلمية ذاتها، ومع ذلك فسوف نحاول أن نقوم بتحديد، لا لمفهوم العقل ذاته، بل للمجال الذي يتناوله هذا المقالُ من مجالات العقل الكثيرة.

ولعل أفضلَ سبيلٍ لفهْم المقصود بالعقل — في الحدود التي تخدم أغراضَ بحثِنا الحالي — هو أن نفهم العقل من خلال ما يقابله أو ما هو مضاد له؛ ذلك لأن كل أزمة يمر بها العقل كانت تؤدي إلى تغليب مفهومٍ آخَرَ مضادٍّ وتمجيده وإعلاء شأنه على حساب العقل، وعلى ذلك فإن قدْرًا كبيرًا من الغموض الذي يحيط بطريقة فهْمنا للعقل يمكن أن يتبدَّد لو عرفنا ما هي القوى أو المَلَكات المضادة التي يهيب بها الإنسانُ كلما مرَّ العقلُ بمرحلةٍ من مراحل الأزمة.

  • (أ)

    لعلَّنا جميعًا نعرف — بصورة أو بأخرى — ذلك التقابل المشهور بين العقل والعاطفة أو الانفعال، ونعبِّر عن فهْمنا لهذا التقابل حين نصف شخصًا بأنه يحكم على الأمور بعقله وآخَر بأنه يُصدِر أحكامًا عاطفية، هذا التقابل يعبِّر في حقيقة الأمر عن تكامل؛ إذ إن العقل والعاطفة ليسا طرفَين يستبعد كلٌّ منهما الآخر، بل هما قوَّتان تجتمعان معًا في كل إنسان، وإن كان طغيانُ إحداهما على الأخرى في أفرادٍ معيَّنين هو الذي يبعث فينا الاعتقادَ بأن كلَّ قوة منهما مضادة للأخرى، والحالة السوية — بطبيعة الحال — هي تلك التي تلتزم فيها كلٌّ منهما مجالَها الخاص، أو تتضافر مع الأخرى في إصدار حكم متكامل في الحالات التي يتعيَّن فيها الرجوعُ إلى العقل وعدمُ تجاهل صوت العاطفة في الآن نفسه.

    على أن العصور الرومانتيكية قد أثارت ما يمكن أن يُسمَّى بأزمةٍ للعقل، حين تمادت في العاطفية والانفعالية إلى حد اعتبار العقل مَلَكةً انقطعت صلاتُها بالمنابع الفياضة للنفس الإنسانية، وعملت على محاربة كل فكر منهجي ومنطقي بقدْر من العنف وصل إلى حد الخصومة المرضية، وظهرت لدى أصحاب الأمزجة الرومانتيكية مجموعةٌ كاملة من المبادئ التي ترتد في النهاية إلى العاطفة أو الانفعال، وتشترك كلُّها في التنديد بالعقل أو تأكيد قصوره، منها مبدأ الإرادة عند شوبنهور، أو إرادة القوة عند نيتشه، أو الحياة عند دلتاي، أو الحدس عند برجسون، في كل هذه الحالات يؤكِّد الفكرُ أن لدى الإنسان قوةً أخرى تعلو على منطق العقل، وتَنفُذ إلى لب الأشياء أو جوهرها الباطن، على عكس العقل الذي لا يصل إلا إلى العلاقات الخارجية بين الظواهر فحسب.

  • (ب)

    أما المقابل الرئيسي الثاني للعقل، فهو السلطة، وإذا كان التقابل بين العقل والعاطفة (بأشكالها المختلفة واشتقاقاتها المتعدِّدة) ينصبُّ على «المضمون»، فإن التقابل بين العقل والسلطة ينصبُّ على «الطريقة أو المنهج»؛ ذلك لأن التفكير على أساس السلطة لا يتعيَّن أن يؤدي — بالضرورة — إلى نتائجَ مخالفةٍ لتلك التي ينتهي إليها التفكير العقلي، بل قد يكون المضمون الفكري واحدًا في الحالتين، ولكن طريقة التفكير أو منهجه هي التي تختلف؛ ففي حالة اتباع السلطة يكون التفكير خاضعًا لمصدرٍ يعلو عليه، ويقبَل أحكامه بلا مناقشة، على حين أن التفكير المرتكز على العقل يعتمد على الموارد الإنسانية وحدها، ويؤمن بأن كلَّ ما يصدر نتيجةً لجهود الإنسان الخاصة يسري عليه كلُّ ما يسري على الإنسان ذاتِه من قابليةِ التغيُّر والتطوُّر والتعديل الصحيح، وبينما يؤدي اتباعُ منهج الخضوع للسلطة إلى التحجُّر والجمود، فإن الارتكان إلى العقل يَعني المرونة والتفتُّح واتساع الأفق.

    وللسلطة — كما نعلم جميعًا — أشكالٌ متعدِّدة؛ فهناك سلطة الأسرة أو القبيلة أو المجتمع، وحين يرتكز الفكرُ على واحدةٍ من هذه السلطات يكون معنَى ذلك كبْتَ حريةِ العقل الفردي في فهْم الأمور على أساسِ تقديره لها وحكمه الخاص عليها. على أن أشهر مظاهر السلطة هو — بلا جدال — سلطةُ الوحي الديني، ولقد آثرت أن أتحدث عن الوحي الديني بوصفه السلطةَ الحقيقية المقابلة للعقل، بدلًا من الحديث عن الإيمان، على الرغم من أن التقابلَ بين العقل والإيمان كان له تاريخُه الطويل منذ العصور الوسطى حتى أيامنا هذه؛ ذلك لأن الإيمان — في ذاته — لا يمثِّل بالضرورة قوةً مضادة للعقل، أو حتى مخالِفةً له، وإنما هو قبْل كل شيء طاقةٌ انفعالية يمكن توجيهها في أي اتجاه نشاء؛ فمن الممكن أن يوجِّه العالِمُ المتحمس لكشفه الجديد طاقةَ الإيمان لديه في الدفاع عن هذا الكشف والدعوة إليه، على الرغم من أن الكشف كان مرتكزًا على أسسٍ عقلية بحتة، وبذلك يمكن القول إن الإيمان — في معناه العام — قوةٌ محايدة إزاء العقل، أما القوة التي تمثِّل التضاد الحقيقي فهي الوحي الديني، بوصفه مصدرًا للسلطة يرى الكثيرون أنه ينافس العقلَ ويتفوق عليه؛ لأن السلطة في هذه الحالة إلهية تعلو على ضَعْف العقل الإنساني وقصوره.

  • (جـ)

    أما المقابل الرئيسي الأخير للعقل فهو الأسطورة، التي كانت في العصور البدائية هي البديل الوحيد للعقل، نظرًا إلى ضَعْف الإمكانات الفكرية للإنسان، ولكنها وجدت في العصور الحديثة ذاتها أنصارًا يضعونها في مقابل العقل بوصفها تعبيرًا رمزيًّا عن القوى الحيوية التي يباعد العقل بين الإنسان الحديث وبينها بما يفرضه عليه من كبْت وقهر، ويمكن القول إن بعض جوانب نظرية التحليل النفسي — وخاصة ما يتعلق منها بالدلالة الرمزية للأحلام، وبالتضاد بين الشعور واللاشعور — تُهيب مرة أخرى بقوة الأسطورة اللاواعية في مقابل العقل الواعي، هذا فضلًا عن أن عددًا لا يُستهان به من المذاهب الفنية الحديثة — في التصوير والمسرح والنحت والأدب — قد تأثرت بهذا الجانب من نظرية التحليل النفسي، وهاجمت العقل الشعوري المنظم سعيًا إلى استكشاف الأغوار الخفية للنفس البشرية في عالَم الأسطورة الرمزية اللاشعورية.

يكفينا إذن — بالنسبة إلى أغراض هذا المقال — أن نشير إلى أن العقل قوةٌ بشرية تُوضع في مقابل الانفعال أو العاطفة، وهي قوة مضادة للسلطة بشتَّى مظاهرها، تسعى إلى التخلص من كل آثار التفكير الأسطوري، ويكفي أن نشير إلى أن العقل يعاني أزمةً في كل حالةٍ يسعى فيها الإنسان إلى الدفاع عن إحدى هذه القوى المضادة وتغليبها عليه.

على أن هذا التحديد لمعنى العقل لن يكتمل إلا إذا أشرنا إلى بُعْدٍ آخَر للعقل لم يظهر بوضوح من خلال العرض السابق؛ ذلك لأن العقل كان يبدو لنا — في كلِّ ما سبق — قوةً للمعرفة أو العلم فحسب، ولكنَّ للعقل جانبًا عمليًّا أو جانبًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا لا يصح تجاهله؛ فمنذ أيام اليونانيين كان العقل مرتبطًا بالتناسب الصحيح وبالعدل، وفي أوروبا الحديثة كانت العقلانية فلسفةً تنادي بإقرار العدل في نفس الوقت الذي تنادي فيه بتحقيق سيادة الإنسان على الطبيعة وإعلان حُكم العقل في العالم.

ولو رجعنا إلى الأصول اللغوية لما وجدنا عناءً في الاهتداء إلى الجوانب العملية في معاني كلمة العقل، بالإضافة إلى جوانبها النظرية؛ فالحقيقة (وهي الهدف النظري الرئيسي لكل تفكير عقلي) ترتبط لغويًّا بالحق، أي بالمبدأ الأخلاقي الذي يدافع عنه الإنسان، وفي اللغات الأجنبية يظهر هذا الارتباط نفسه؛ ففي الفرنسية مثلًا نستخدم كلمة raison (العقل) للتعبير عن الحق أو المبِّرر، كما في قولنا: il a raison (أي إن له حقًّا أو لموقفه ما يبرِّره)، ولفظ الفهْم مرتبط بالتفاهم (عقليًّا واجتماعيًّا) في العربية وفي الإنجليزية understanding والفرنسية entendement، وإذا كان العقل قد ارتبط بالنور والعدل، فإن انعدام العقل قد ارتبط بالظلم، ويكفي أننا نتحدث دائمًا عن «ظلام الجهل»، وأن الارتباط قوي بين الظلام والظلم، أي بين المجالين النظري والعملي أو العلمي والأخلاقي، وإذا لم يكن هذا الاشتقاق اللغوي يقدِّم تبريرًا كافيًا لوجهة النظر هذه، فإن التاريخ ذاته خيرُ شاهد على وثوق الارتباط بين الدفاع عن العقل والدفاع عن الخير والعدل؛ إذ كان كبار العقلانيين في أوروبا في القرن الثامن عشر هم أصحاب أقوى الأصوات دفاعًا عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، على حين أن فلسفات اللامعقول (شبنجلر وروزنبرج) كانت تقدم مبرِّرًا لعهود الاضطهاد والديكتاتورية، أو تستخدم رغمًا عنها (كما في حالة نيتشه) من أجل تبرير أمثال هذه العهود.

•••

هذا التحديدُ الذي قمْنا به للمفاهيم الرئيسية التي تدور حولَها المشكلةُ موضوعُ بحثنا، ليس على الإطلاق مقدمةً تمهيدية، بل هو ينتمي إلى صميم البحث ذاته؛ فبفضل هذا التحديد نستطيع أن نوفِّر على أنفسنا عناء الدخول في كثيرٍ من المناقشات التفصيلية المتعلقة بطبيعة أزْمةِ العقل في المجتمعات الغربية، وندرك بوضوحٍ دلالةَ الأزمة المناظرة التي تمر بها مجتمعاتنا، ونجيب بسهولةٍ عن السؤال الحاسم: هل تُعَد أزْمة العقل لدينا صدًى لأزمة الفكر العالمي، أم أنها شيء قائم بذاته، وبالتالي لا يصح أن تُطبَّقَ عليه المقولات المستخدمة في وصف الأزمة الفكرية العالمية؟

لقد شهد الفكر الغربي — منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى وقتنا هذا — ظواهرَ لا يمكن أن تُوصف إلا بأنها أزمة؛ ففي وقتٍ واحد على وجه التقريب، أصبحت منابع الفكر الفلسفي هي آراء برجسون ونيتشه وكروتشه وشبنجلر ووليم جيمس، وكلها آراءٌ تمجِّد قوًى أخرى غير العقل الاستدلالي المنهجي المنظم، وتُهيب بمبادئ الحدس أو الإرادة أو القدر الصارم أو النجاح العملي، حتى أصبح أنصار العقل التقليديون — لأول مرة منذ عهدٍ بعيد — أقليةً ضعيفة خافتة الصوت، تدافع عن مواقعها بخجل واستحياء إزاء هجوم جارف لا سبيل إلى مقاومته.

وفي هذا الوقت ذاته كان علم النفس عند فرويد يجعل من السلوك الواعي ما يشبه «البناء العلوي» (بالمعنى الماركسي لهذا التعبير)، ويكتشف تحته طبقاتٍ كثيفةٍ من «الأبنية الدنيا» التي تتحكم فيه، والتي تتألف من ذكرياتٍ وتجارِبَ لا شعورية مكبوتة، وتكون عالمًا مظلمًا معتمًا لا يُدْرك إلا من خلال رموزه، ولا ينفذ إليه العقل الواعي، وإن كان هو أساس تفسير الكثير مما يدور في مجال الوعي.

وفي المجال الأدبي والفني، اتخذت الرواية والدراما والموسيقى والفنون التشكيلية طابعًا خلا من الترابط المنطقي والقالب المحدد المنظم، وحلَّت محله الانطباعات السريعة المباشرة المختلطة والقوالب غير المألوفة، وأصبح الفن بدوره يخاطب القوى اللاواعية في الإنسان، ويبدو كما لو كان يريد الغوصَ في أعماقٍ معتمة تقرِّبه من المنابع السحيقة للحيوية البشرية.

وحتى في المجال العلمي النظري ذاته — وهو المجال الذي فيه يجد العقلُ نفسه «في بيته» كما يقولون — مرَّ العقل بأزمة حادة تنازل من أجْلها عن مبادئَ ظلَّ يتخذها أساسًا يرتكز عليه طوال قرون عدة، وطرأ تغيُّر أساسي على نظرته إلى العالَم الأكبر والأصغر؛ فالنظرة الآلية إلى العالم أصبحت تحتاج إلى مراجعةٍ جذرية، ومبدأ السببية ذاته أصبح موضوعًا لهجومٍ جارف، وأشد البديهيات وضوحًا حلَّت محلها مواضعات، والمُطْلق — في شتَّى المجالات — قد أُنْزِلَ عن عرشه لكي يحل محله النسبي، والمبادئ التي كان يُظَنُّ أنها سارية على كلِّ ما في الكون أصبحت — على أحسن الفروض — تكتفي بمجالاتٍ معيَّنة لا تدَّعي لنفسها الصحة خارجها، كما هي الحال في هندسة إقليدس، بل في منطق أرسطو ذاته.

هذه الظواهر يستحيل أن تجتمع كلها في توقيتٍ زمني واحد، وتشير جميعها إلى اتجاه واحد، ما لم تكن تعبيرًا عن أزمة واحدة؛ فمن المستحيل أن نفهم كيف تتوافق التطوُّرات في ميادينَ متباعدةٍ لا تجمعها أية رابطة ملحوظة، إلا إذا نظرنا إليها على أنها مظاهرُ مختلفة لجوهر واحد، هو وجود أزمة حادة يمر بها العقل.

ولكن ينبغي أن ندرك أن هذا الاستنتاج ذاته لم يتم التوصُّل إليه إلا عن طريق العقل، أي إن العقل الاستدلالي هو الذي يستنتج وجودَ أزمة عامة للعقل من ملاحظته لظواهرَ معيَّنةٍ تتلاقى كلها في نقطة واحدة، وتجمعها دلالة واحدة، وتلك في واقع الأمر هي أبرز سمات ما يُسمَّى بأزمة العقل في العالم الغربي؛ فالأزمة في هذه الحالة ليست على الإطلاق اتجاهًا إلى التنازل عن العقل، وإنما هي سعي إلى الخروج به عن آفاقه المألوفة، واستكشاف أبعاد جديدة له، وإدماج قوًى أخرى — حتى تلك التي تبدو مضادة له — في داخله. ومن المستحيل أن نفهم هذه الأزمة إلا في ظل حضارةٍ كان لها مع العقل تاريخٌ بلغ من الطول حدًّا جعلها تضيق بالحدود التقليدية التي ظل العقل يحصر نفسه فيها، وتعمل على تفجير الحواجز التي ظلت تحول دون انطلاق العقل إلى أرحبِ الآفاق. إن العقل هنا هو الذي يتمرد على نفسه، وهذا التمرد على الذات هو أعلى درجات تحقيق العقل لذاته.

•••

ولو شئنا أن نلخِّص في عبارةٍ واحدةٍ طبيعةَ الأزمة العقلية التي تمر بها المجتمعات الغربية، ونحدِّد وجه الاختلاف الأساسي بينها وبين أزمة العقل في مجتمعاتنا الشرقية، لقلنا إن الأزمة عندهم هي أزمةُ ما بعد العقل، على حين أننا لا زلنا نمر بأزمةِ ما قبل العقل، إنهم قد تجاوزوا نطاق التفكير العقلي التقليدي بعد أن تشبَّعوا بالعلم والمنطق والفلسفة، وأصبحوا يتطلعون إلى عقلٍ يتجاوز نطاق العقل الذي أَلِفوه، أما عندنا فلا زال العقل يعمل جاهدًا من أجْل استكشاف ذاته وتحقيق أبسط مطالبه الضرورية.

ولنضربْ لذلك مثلًا واحدًا: ففي نقد الفكر الغربي لفكرة السببية، يرتكز هذا الفكر على التعقُّد الذي لا يسمح لنا بإخضاع كل نتيجةٍ لسبب واحد بعينه، على النحو الذي كان سائدًا في ظل الفهْم الميكانيكي التقليدي لفكرة السببية، إن العقل هنا — بعد أن ظل يطبِّق فكرة السببية طويلًا وبنجاح — يكتشف من المجالات ما يدعوه إلى تجاوزها؛ فهو يبحث عما بعد السببية وما بعد الضرورة دون أن يتخلَّى عن مبدأ السببية أو مبدأ الضرورة، وفي مقابل ذلك حارب العقلُ في حضارتنا مبدأَ السببية (في أحوالٍ معيَّنة) دفاعًا عن الفهْم الغائي واللاهوتي للظواهر، ومع ذلك ترتفع أصواتُ باحثينا فخورة بأن نقد الغزالي لفكرة السببية — مثلًا — قد استبق نقد هيوم، وربما استبق الاتجاهات المعاصرة ذاتها، دون أن يتنبهوا إلى أن الغزالي كان ينقد السببية لكي يدعم الغائية، على حين أن هيوم والمعاصرين ينقدون السببية لكي يوسِّعوا من نطاق العقل العلمي ويضموا إلى مملكته مجالاتٍ أرحب. إن الفرْق هنا واضحٌ بين أزمة العقل الناجمة عن رغبة العقل في تجاوز ذاته، وبين أزمته الناجمة عن هروب العقل من ذاته وعجزه عن تحقيق مطالبه وارتمائه في أحضان القوى التي تحكم عليه بالقصور الأبدي.

وفي وُسعنا أن نعبِّر عن هذا الفارق تعبيرًا آخَر، فنقول إن الباعث إلى ظهور أزمة العقل الغربي هو الرغبة في إعطاء العقل مزيدًا من «الحرية»، وفي مجالٍ كهذا يكون للحرية معنًى مزدوج، وهو رفض القديم من جهة، وخلق الجديد من جهةٍ أخرى، والحق أننا لو حاولنا أن نتتبع السمة المشتركة بين تلك الظواهر المتعدِّدة التي تنتمي إلى مجالاتٍ شديدة التباين، والتي تبيَّن لنا من قبلُ أنها هي التي تؤلِّف ما يُسمَّى بأزمة العقل في الفكر الغربي، لما وجدنا سمةً تعبِّر عن روح هذه الظواهر جميعًا خيرًا من سمة الحرية؛ فالعقل يسعى إلى أن تكون له حرية حتى إزاء مبادئه الأساسية وبديهياته المطلقة، وإزاء كل نوعٍ من الإلزام والضرورة العقلية، وهو يحارب كلَّ محاولة لرد الإنسان إلى مجرد جزء من الطبيعة، ويهدف إلى تأكيد طابع الحرية فيه بوصفه مقابلًا للضرورة السارية على الطبيعة، وهو يود التحررَ من كلِّ ما هو مُطْلق أو تقليدي أو مألوف، حتى لو كان هذا المألوف هو الشكل الطبيعي للأشياء، وليس أدل على أن مطلب الحرية هو الذي خلق أزمة العقل، وهو الذي يَحُل هذه الأزمة، من أن طريقة الخروج من هذه الأزمة كانت في معظم الأحيان وضعَ أنساقٍ أرحبَ من الأنساق القديمة يستطيع العقل أن يتحرَّك خلالها بمزيد من الحرية، بعد أن كاد يختنق داخل الأنساق القديمة الضيقة، وفي مقابل ذلك يمر العقل في الشرق بأزمةٍ ليس لها من سببٍ سوى الرغبة في تبديد حرية العقل وتضييق الخناق عليه؛ فالعقل يعاني من اتجاهاتٍ تريد تعطيله أو إلغاءه، زاعمة أنها تفعل ذلك لحساب سلطة دينية تعرف كل شيء، أو لحساب سلطة سياسية قادرة على أن تدبِّر للناس أمورَهم وعلى أن تفكِّر بدلًا منهم، وحين يستمر تعطيل العقل زمنًا طويلًا، يعتاد الناس إلغاءَ عقولهم، ولا يجدون أية غرابة في أن تَطْلُب إليهم اليوم أن يتخذوا موقفًا مناقضًا لِما كان يُطْلَب إليهم بالأمس، بل إن الاعتداء على قانون التناقض ذاته لا يعود أمرًا مستغربًا، وحين يقترن هذا الصدأ العقلي بعامل الخوف من التفكير الحر، فإن العقول تفقد القدرة على ممارسة فاعليتها حتى عندما تزول الأسباب التي تؤدي إلى الخوف. ومجمل القول أن الفارق بين الأزمتين هو الفارق بين عقلٍ يسعى دومًا إلى توسيع نطاق حريته، وبالتالي إحكام سيطرته على العالم، وعقلٍ تكبِّله الأغلال ويشغله الكفاح من أجل تحقيق الحد الأدنى من مطالبه الضرورية.

إن مستوى المناقشات التي تدور في مجتمعاتنا الشرقية حول مشكلة العقل كفيلٌ بأن يكشف لنا عن نوع الأزمة التي نعانيها، أزمةِ «ما قبل العقل»، أو أزمةِ العقل الذي يكافح لكي يخرج إلى النور؛ فما زالت مشكلة التوفيق بين العقل والإيمان تشغلنا وتستغرق من جهودنا الفكرية قدْرًا غير قليل، وما زلنا نجد علماءَ يحاولون أن يُثبِتوا أن أحدث الكشوف العلمية لها أساسٌ في النصوص الدينية، ورجالَ دِينٍ يسعون إلى إثبات أنهم مستنيرون لأنهم يسمحون للعقل بالتحرُّك في الحدود التي يَسمح بها الإيمان فقط.

ولقد كان من العوامل التي أثارت هذه المشكلة — في العهود الأولى للمجتمع الإسلامي — أن المسيطرين على مقاليد الأمور (روحيًّا أو سياسيًّا) نبذوا الفلسفة على أساس أنها غريبةٌ أو دخيلة، ما دامت يونانيةَ الأصل، وكان من المحتَّم أن يؤدي نبذُ الفلسفة هذا إلى نبذٍ للعقل ذاته؛ إذ إن خصوم الفلسفة قد خلطوا بين «المصدر» و«المبدأ»، أعني بين المصدر الذي أتت منه الفلسفة — وهو بالفعل يونانيٌّ دخيل — وبين مبدأ التفلسف ذاته، أي إخضاع الأمور لحكم العقل والمنطق، ومن المؤسف أن اسم الفلسفة ظل رَدَحًا طويلًا من الزمان محوطًا بالشبهات، على أساس أنها بدعةٌ دخيلة، ولم يكن ذلك في واقع الأمر إلا استغلالًا لمصدرها الأجنبي من أجْل تجريح أسلوب التفكير العلمي في ذاته، وحين يُوضع الإيمان في كِفَّةٍ والتفكير العقلي الإنساني (وخاصة إذا كان معتمدًا على مصادرَ دخيلة) في كِفَّةٍ أخرى، فإن النتيجة لا بُدَّ أن تكون معروفةً منذ اللحظة الأولى.

إن مهمتنا ليست على الإطلاق إصدارَ حُكمٍ حول هذه المشكلة، بل إن كلَّ ما نود أن ننبِّه إليه هو النتائج الحتمية التي يؤدي إليها الاهتمام المفرط الطويل الأمد بمشكلةٍ مثل مشكلة التقابل بين العقل والإيمان؛ ذلك لأن تفضيل الوحي أو الإيمان معناه تفضيلُ الخصوصية على العمومية؛ فالإيمان خصوصي بطبيعته، والعقيدة بطبيعتها تسري على فئةٍ محددة من الناس، هي فئة المؤمنين، وتصطدم بعقائدَ أخرى تؤمن بها فئاتٌ أخرى إيمانًا مماثلًا في قوَّته وحماسته، ولا جدال في أن لدى كلِّ عقيدةٍ ميلًا إلى أن تضفي على نفسها طابعَ العمومية والشمول والوحدانية، غير أنها لا بُدَّ أن تجد في مواجهتها عقائدَ أخرى تدَّعي لنفسها هذا الطابع ذاته، ومن هنا لا يكون ثمَّة مفرٌّ من أن يظل الإيمان خصوصيًّا، مهما كانت قوة سعيه إلى العمومية، أما العقل فهو القوة الوحيدة التي لا يملِك البشر غيرَها حَكَمًا مشتركًا بينهم، إنه عامٌّ وشاملٌ بحكم ماهيته ذاتها، ومن هنا كان تغليب الإيمان على العقل يعني ضمنًا انطواءَ ثقافةٍ معيَّنة على نفسها وتجاهلها للثقافات الأخرى ولحقيقة الاتصال التاريخي والاجتماعي بين البشر، وبطبيعة الحال لم تكن لمشكلة الاتصال هذه أهميةٌ كبيرة في العصور الوسطى، حين لم تكن إنجازات العقل من الضخامة بحيث تستدعي مشاركة الجميع في الجهد العقلي وفي الانتفاع من ثمار هذه الإنجازات، أما في عصرنا الحاضر، فإن الحد الفاصل بين الحياة الخصبة والحياة العقيمة يتوقَّف على الاختيار بين التقوقع وبين المشاركة في ركب الحضارة العالمية؛ فعناصر النضال المشترك بين فئاتٍ هائلةٍ من البشر أصبحت أقوَى من أن يمكن تجاهلها بتأكيد خصوصية العقيدة في مقابل عمومية العقل، والأهداف العليا التي يسعى إليها الإنسان المعاصر — كتحقيق العدالة الاجتماعية والسيطرة على الطبيعة وغزو آفاق جديدة في الكون — تحتاج إلى استخدام المعايير العقلية المشتركة، لا إلى انطواء الحضارة على ذاتها بتغليب معاييرها الإيمانية الخاصة.

وقد يجد بعض القراء أن فيما قلته عن استمرار مشكلة التقابل بين العقل والإيمان قدْرًا من المبالغة، ويستشهدون على ذلك بأن الاتجاه السائد الآن هو التوفيق بين العقل والإيمان، لا تأكيد التقابل بينهما، ولكن الاهتمام بالتوفيق بين أي طرفين يعكس تأكيدًا ضمنيًّا لتقابلهما، ومن المؤكد أننا لم نكن لنبذل كل هذا الجهد في التوفيق لو لم نكن نؤمن بأن كلًّا من الطرفين يتجه إلى أن يكون مضادًّا للآخر.

ومن جهةٍ أخرى فإن إلقاء نظرة سريعة عابرة إلى المشاكل التي تشغلنا يكفي لإقناع كل متشكك بأن مشكلة العقل والإيمان — التي تخلَّص منها الفكر الأوروبي منذ زمنٍ بعيد — ما زالت تشكِّل جوهر أزمة العقل في مجتمعاتنا الشرقية؛ فالمجتمع يلمس بنفسه — وبصورة واقعية تُغني عن كل تبرير — أضرارَ الإباحة غير المقيدة لتعدُّد الزوجات وللطلاق، ويدرك أن حقوق المرأة الأساسية — وكذلك حقوق الطفل — تحتاج إلى قدْرٍ كبير من الدعم والحماية، ويعرف الأخطار الفعلية — التي تشهد بها تجربته اليومية — لزيادة النسل، ولكنه لا يزال يتخذ من هذه المشكلات كلِّها موقفًا سلبيًّا يرجع في حقيقته إلى تغليبه لوجهة نظر الإيمان على وجهة نظر العقل في هذه الأمور، ولا بُدَّ أن يؤدي مثلُ هذا الموقفِ إلى توتر حاد، ربما وصل إلى حد التمزُّق الصامت، حين يجد الفرد العادي أن تجربته الفعلية (وبالتالي أحكام العقل) تثبت له أن نظام تعدُّد الزوجات — في صورته الراهنة — يجلب أضرارًا اجتماعية لا حصر لها، ويجد من جهةٍ أخرى أن حكم الشرع (أي حكم النص الديني) صريحٌ في هذا الصدد، كما يقول له الفقهاء.

وفي وُسعنا أن نضرب أمثلةً كثيرةً أخرى تُثبِت أن مشكلة التقابل بين العقل والإيمان ما زالت تقوم في مجتمعاتنا بدور رئيسي في حياتنا الفكرية، وأنها ليست على الإطلاق مشكلةً كانت تنتمي إلى فترةٍ تاريخية معيَّنة، وتم حسمُها بعد ذلك بصفة نهائية، من هذه الأمثلة تلك المناقشات الطويلة التي دارت — في صدد وضْع الدستور الدائم — حول مركز الشريعة الإسلامية كأساسٍ لأحكام الدستور، وأيًّا كانت النتيجة التي سوف تسفِر عنها هذه المناقشات، فإن ما يهمنا هو دلالتها على وجود توتُّر بين حكم الإيمان، وهو توترٌ يعبِّر عن أزمةٍ حقيقية، ولكنها أزمةُ «ما قبل العقل»، وخلال هذه المناقشات ذاتها ارتفعت أصواتٌ لا حصرَ لها تنادي بأن سبب هزيمتنا في ٥ يونيو هو انحرافنا عن طريق الإيمان، ووجدت هذه الأصوات صدًى واسعًا بين فئات عريضة من الجماهير، مع أن قليلًا من التفكير في أوضاع الطرف الآخر الذي انتصر في ٥ يونيو يكفي لإقناعنا بأن هذا الطرف المنتصر هو الذي حُكِمَ عليه — بموجب هذا الإيمان ذاته — بالتشرُّد الأبدي.

وأخيرًا فقد يُعْتَرَض علينا بأن الفئات التي تمثِّل هذه الأمورُ في نظرها مشكلاتٍ جديةً لا تمثِّل المجتمعَ كله، وأن هناك إلى جانب هؤلاء مَن يكرِّسون حياتهم للعمل العلمي المرتكز على مبادئ العقل وحدَه، ولكن الواقع أن وجود هذه الفئة ذاتها يزيد من حدة المشكلة ولا يلغيها؛ إذ إنه يمثِّل تجسيدًا حيًّا للتوتُّر العام بين العقل والإيمان في المجتمع الواحد، هذا فضلًا عن التوتُّر الخاص بينهما في نفوسِ كثيرٍ ممن كرَّسوا حياتهم كلها للبحث العلمي الصرف (ارجع إلى شخصية «الدكتور سعيد» في مقالات الأستاذ توفيق الحكيم عن الشخصية المصرية في جريدة الأهرام، أعداد ٣٠ يوليو، و٦ و١٣ أغسطس ١٩٧١م)، ونتيجة ذلك كلِّه هي أننا نقيم نُظمًا تعليمية كاملة، تقدِّم خلاصةَ العلم الحديث (في حدود الإمكانات المتاحة بالطبع) فوق أرضيةٍ من العقلية الغيبية الأسطورية تتنافس مع تعاليم العلم تنافسًا صارخًا حينًا، وتنافسًا صامتًا رهيبًا في معظم الأحيان، وفي هذا التنافس الذي لا يزال العقلُ فيه يحتل مركزًا ضعيفًا تكمُن أخطرُ مظاهر أزمة العقل في مجتمعنا.

ولو حاولنا أن نبحث عن الجذور الاجتماعية لهذه الأزمة فلن يكون من الصعب الاهتداءُ إلى أصولها إذا ما قارنَّاها بالأزمة المماثلة التي مرت بها المجتمعات الغربية في البدايات الأولى للعصر الحديث؛ فالصراع بين القيم العقلية والقيم المرتكِزة على سلطة الوحي كان في تلك المجتمعات صراعًا بين أسلوبٍ جديدٍ للحياة (اصطُلِحَ على تسميته بالأسلوب البورجوازي) وبين الأساليب الإقطاعية الحريصة على التشبُّث بآخِرِ معاقلها، ولم يكن من قبيل المصادفات أن ينتصر العقل، ويبدأ مسيرته الظافرة في نفس الوقت الذي توطَّد فيه أسلوبُ الحياة الجديد، وأخذت فيه النظمُ الإقطاعية تتداعى واحدًا بعد الآخر، ولم تكن انتصارات العقل الساحقة — ابتداءً من منظار جاليليو حتى خطوات أرمسترونج وجولات «لونوخود» على سطح القمر — تَحدُث في فراغ، بل كانت ترتبط على الدوام بتغييرات اجتماعية أساسية تُمهِّد لها الطريق، وتُهيِّئ الجو الملائم لانتفاع البشر بها.

وفي هذا الإطار ذاته يمكن القول إن الأزمة التي مر بها العقل الغربي، والتي بدأت في أوائل هذا القرن وما زالت مظاهرُها مستمرةً حتى اليوم؛ هي أزمة لنمط الحياة البورجوازي الجديد، وهي بطبيعة الحال لا تستهدف العودةَ إلى علاقاتٍ اجتماعيةٍ إقطاعية، بل تستهدف أولًا التعبيرَ عن ضيق الإنسان الغربي بالواقع البورجوازي السائد، وبحثه عن بديلٍ لم تتحدَّد معالمه بعدُ، ولعل الدليلَ على أن هذا البديل لم تتحدَّد معالمه هو الأزمة الموازية التي يمر بها العقل في المجتمعات الاشتراكية الأوروبية والآسيوية؛ ففي هذه المجتمعات بدورها أخذ العقل يراجع خطواته ويعدِّلها وينقدها — وخاصة في الآونة الأخيرة — على نحو ينمُّ عن قدْرٍ قليل من عدم الاستقرار، وازدادت المراجعات والتحريفات إلى حدٍّ زالت معه الحواجز بينها وبين «الأصل»، بل أصبح من الصعب الوصولُ إلى «أصلٍ» تُعَدُّ الاجتهاداتُ الأخرى «تحريفاتٍ» بالقياس إليه، وأخذ كل اجتهاد في التفسير يؤكد لنفسه الحقَّ في أن يُعَدَّ أصلًا من الأصول. وعلى الرغم من التباين الشديد بين جذور هذه الأزمة وجذور الأزمة في المجتمع البورجوازي، فإن الأمر المرجَّح هو أن وسيلة الخروج منها ستكون توسيعًا لنطاق العقل وخروجًا له من إسار الأنساق الضيقة التي كان من قبلُ منحصرًا فيها.

فإذا طبقْنا هذا التفسيرَ على مجتمعاتنا، كانت النتيجة الواضحة هي أن استمرارَ الدفاع عن مبدأ السلطة — بشتَّى مظاهره — واضطرارَ العقل حتى الآن إلى اتخاذ موقع الدفاع، والمطالبةَ بالحد الأدنى من حقوقه، وهي حريته في التعبير عن نفسه؛ كل ذلك دليلٌ على أن العلاقات الإقطاعية — ولا سيما في المجال الفكري — ما زالت متشبثةً بمواقعها، وعلى أن المرحلة التالية في تطورنا الاجتماعي (التي نريدها أن تكون مرحلةً اشتراكية) لم تستطِع بعدُ أن توطِّد أقدامها، وأن تؤثِّر على عقول الناس وأساليب تعاملهم ونظرتهم العامة إلى الحياة.

وبعدُ، فلعل النتيجةَ التي تفرض نفسها بعد هذا الحديث الطويل عن أزمة العقل بين مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية، هي أن نوعَ الأزمة في الحالتين مختلفٌ اختلافًا جذريًّا، وأن إحداهما أزمة مجتمع فاضَ فيه العقل حتى طغت أمواجه على مجالاتٍ لم يكن يستطيع من قبلُ أن يقترب منها، على حين أن الأخرى أزمةُ مجتمعٍ ما زال العقل فيه يكافح لكي يكتسب حقه المشروع في التعبير عن نفسه إزاء قوًى متأصلة تهدِّده من كل جانب.

وفي اعتقادي أن الدرس الذي نخرج به من هذا التحليل هو أن أعراض الأزمة العقلية ينبغي أن تكون متباينةً تمامًا في الحالتين، أو لِنَقُلْ بعبارةٍ أخرى إن مَن يتصور أن مظاهر أزمة العقل عندنا ينبغي أن تكون مماثلةً لمظاهر الأزمة في الفكر العالمي لا بُدَّ أن يكون شخصًا يخدع نفسه ويخدع الناس، ويكفي أن أضرب لذلك مثلًا واحدًا مستمدًّا من فكرة «العبث» أو «اللامعقول».

فالمجتمع الغربي قد سادَتْهُ في وقتٍ قريب موجةٌ تصفُ العصر الحاضر بأنه عصرُ العبث الذي لا يكون فيه لأي شيء معنًى ولا غاية، ولكن هذا الوصف للوجود بأنه عبث absurde، لا يمكن أن يكون له معنًى إلا على أساس «مقارنةٍ» ضمنيةٍ تَحدُث داخل ذهنٍ كان يتوقَّع أن يجد العالم معقولًا، وأن يجد له معنًى، ولولا هذه المقارنة لما طرأت أصلًا فكرةُ العبث أو اللامعقول على ذهن أحد؛ فالإنسان البدائي — مثلًا — لا يصف العالَم بأنه عبثٌ، ولا تطرأ على ذهنه فكرةُ اللامعقول، وذلك على الرغم من أنه يعيش هذه اللامعقولية في كل لحظة من حياته؛ لأنه لم يكن يتوقع أن يجد العالَم غير ذلك، ولم يقم بأية مقارنة ضمنية بين الحالة الفعلية والحالة المتوقَّعة أو المرغوب فيها، ومن ثَم فإن اللامعقولية تفرض نفسها عليه بوصفها الحالةَ الأصلية والدائمة والمفروضة للعالم، وعندما تكون اللامعقولية حالةً أصليةً على هذا النحو، يستحيل أن يصل الوعي إلى إدراك فكرة اللامعقول، وبعبارة أخرى: فإن اللامعقول لا يمكن تصوُّره إلا على أرضيةِ خلفيةٍ من المعقول، وفي الحضارات العقلانية وحدَها يمكن أن تظهر — من آن لآخر — فكرةُ العبث، وتُبْنَى عليها فلسفاتٌ كاملة وأعمال أدبية وفنية كبرى، أي يمكن أن تصل هذه الفكرة إلى نطاق الوعي الإنساني.

هذا الكلام موجَّه — أساسًا — إلى أولئك الذين يتصورون إمكانَ قيامِ فلسفةٍ أو فن أو أدب للعبث في المجتمع الذي نعيش فيه؛ فبالقدْر الذي لا تكون فيه مجتمعاتنا الشرقية قد مرت بتجربةٍ عقلانية هزَّت حياتها من جذورها، لا يكون هناك معنًى للقول إن الوجود عبثٌ، لسببٍ بسيط هو أن العقل الذي يُصْدِر هذا الحكمَ لم يكن يتوقَّع أن يجد الوجود على خلاف ذلك، إنه عقلٌ اعتاد اللامعقول طويلًا، وما زالت الخرافة وحَرفية النص تحتل في حياته مكانةً رئيسية، ومن ثَم فلا معنَى عنده لفلسفة العبث أو لفنون اللامعقول وآدابه، وإذا ظهرت هذه فلن تكون إلا محاكاةً ببغائية تفتقر إلى الأصالة.

إن مَن يعيش طيلةَ حياته في اللامعقول لا يملِك ترفَ التفلسف أو التفنن على أساسٍ من اللامعقول؛ لأنه لا يشعر بتناقضه و«عبثيته» عن وعي، ولا يقارنه بأي مقياس عقلي مخالف، فلنعرفْ إذن حدودَ أزمتنا العقلية، ولنعملْ على الخروج منها بمنْح العقل حقوقَه كاملة، بدلًا من أن نقفز — دون تبصُّر — من مرحلة التفكير الأسطوري إلى مرحلةِ ما بعد العقل، متخطين المرحلةَ الوسطى، مرحلة ممارسة التفكير العقلاني، التي هي أملنا الوحيد في أن نصبح مجتمعًا مسايرًا للعصر.

١  مجلة الفكر المعاصر، العدد ٧٩، سبتمبر ١٩٧١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤