بين التعليم وقيم المجتمع١

في اعتقادي أن أية مناقشة جادة لمشكلات التعليم، إذا ما سارت إلى مداها الطبيعي، وامتدت إلى أبعادها المنطقية، لا بُدَّ أن تفضي آخرَ الأمر إلى مناقشة أسلوب حياتنا في أعم صوره، ولا بُدَّ أن تنتقل من المنظور الضيق للمشكلات التعليمية على وجه التخصيص إلى المنظور الأوسع لمشكلاتنا الاجتماعية في المرحلة الراهنة من تاريخنا.

والقضية التي أود أن أدافع عنها في هذا المقال هي أن كل مشكلة رئيسية في ميدان التعليم إنما ترتد في نهاية الأمر إلى مشكلةٍ تنتمي إلى صميم حياة المجتمع، وأن التعليم بهذا المعنى ليس إلا الوجه الذهني للمجتمع بكلِّ ما فيه من خير وشر، ومن تقدُّم أو تخلُّف، وأن تشخيصنا لحالة التعليم إنما هو في واقع الأمر تشخيصٌ لحالة مجتمعنا منعكسة على مرآة هذا المرفق الحساس.

وليس من الصعب أن يقدِّم المرءُ أدلةً وشواهدَ تثبت صحة هذه القضية، بل إن الصعوبة ربما كانت تكمن في اختيار أوضح الأمثلة من بين ذلك العدد الهائل من المشكلات التي تثبت كلها ارتباطَ أحوال التعليم بأوضاع المجتمع، وعلى أية حال فإن عددًا قليلًا من الأمثلة الدالة يكفي لكي يثبت أن انتباهنا الراهن إلى عيوب التعليم ينبغي — منطقيًّا — أن يفضي إلى وعيٍ أوسعَ بالأصول الاجتماعية التي تولَّدت عنها هذه العيوب، ومن ثم فإن مناقشاتنا المتعلقة بالتعليم ينبغي أن تَجمع — إلى جانب النواحي الفنية المتعلقة بالعملية التعليمية — مناقشاتٍ أوسعَ مدًى عن وضع التعليم في الإطار الاجتماعي العام. وفي كلمةٍ موجزة فإن السؤال: كيف نصلح التعليم؟ لن يُجاب عنه إجابة وافية إلا في ضوء السؤال: ما الهدف الذي نرسمه لحياتنا؟ وما نوع المجتمع الذي نريد أن نصبحه في المستقبل؟

إن بناء الهيكل التعليمي يرتكز على قاعدةٍ عريضة هي التعليم الابتدائي، وينتهي إلى قمة ضيقة هي التعليم الجامعي، والمشكلة الكبرى عند القاعدة هي الفاقد التعليمي، الذي يتمثل في أمورٍ من أهمها عدمُ إقبال الجماهير — ولا سيما في الريف — على الفرص التعليمية المتاحة لهم، أما عند القمة فإن المشكلة هي التزاحم الشديد والتنافس العنيف على الالتحاق بالجامعة، ومن المستحيل أن نفهم كلًّا من هاتين المشكلتين ما لم نردَّها إلى أصولها في القيم السائدة في المجتمع.

فظاهرة عدم إقبال الآباء في الريف على تعليم أبنائهم تعكس الرغبة في الانتفاع المباشر من الأبناء بوصفهم مصدرًا للدخل أو للإنتاج في الأسرة، وهذه الرغبة ربما لم تكن إلا تعبيرًا ساذجًا عن ظاهرةٍ مماثلة تَصدُق على المجتمع ككل، وأعني بها عدم الاعتراف الكافي بالتعليم بوصفه أفضلَ أنواع الاستثمار، أو لنَقُلْ بعبارة أدق إن الريفي الذي لا يؤمن بما يمكن أن تقوم به المدرسة في تكوين مستقبل أبنائه وأسرته هو صورة مصغرة للمجتمع الذي لا يعطي التعليم حقَّه الكافي من حيث هو استثمار للمستقبل، ويفضِّل عليه أنواعًا أخرى من الاستثمار (وفي بعض الأحيان من الاستهلاك) المباشر.

أما ظاهرة التزاحم على التعليم الجامعي، فإنها تُوصَف عادةً بأنها انعكاس لقيمٍ تحتقر العمل اليدوي أو المهن ذات الطابع العملي البحت، وتعبِّر عن تطلعاتٍ اجتماعية يرضيها ذلك الاستقرار الذي تحققه الوظائف الممنوحة للجامعيين، فضلًا عن ارتفاع المستوى الأدبي الذي يضفيه اللقب الجامعي على صاحبه، ولكن ألم يكن المجتمع ذاته هو الذي شجَّع إلى حدٍّ بعيد على سيادة هذه القيم، حين أتاح للجامعي من فرص الارتقاء ما لم يُتِحه للعامل أو الفني، وحين عمل على تحويل المعاهد الفنية إلى كليات جامعية، مؤكدًا بذلك ضمنًا ارتفاعَ قيمة التعليم الجامعي بالقياس إلى كلِّ ما عداه من أنواع التعليم؟ في هذه الحالة بدورها نجد أسلوبَ التفكير والتقييم السائد لدى الأفراد انعكاسًا لأسلوبٍ أوسعَ منه نطاقًا، تعمل الدولة ذاتها — بطريق مباشر أو غير مباشر — على نشره في المجتمع.

•••

فإذا انتقلنا من الهيكل التعليمي إلى العملية التعليمية، تمثَّلت لنا المشكلة بصورة صارخة في العلاقة بين الطريقة والمضمون، أو بين الأساليب التربوية والمادة التعليمية، ولعل من أوضح الأدلة على حدة هذه المشكلة، إن التربويين يؤكدون أن آفة التعليم عندنا هي عدم إبدائه اهتمامًا كافيًا بالطرق التربوية السليمة، وعدم تطبيق الأجهزة التنفيذية لنتائج أبحاث التربويين، في حين أن كثيرًا من المعنيين بشئون التعليم يؤكدون — على عكس ذلك — أن ما يعاني منه التعليم في بلادنا هو الاهتمام المفرط بالأساليب التربوية، أي بالطريقة على حساب المضمون.

والحق أنني أجد نفسي منحازًا إلى هذا الجانب الأخير، لا لأنني أشك من حيث المبدأ في أهمية التربية، بل لأن الطابع الخاص الذي اتخذه الاهتمام بالتربية في بيئتنا المحلية جعلها في أحيانٍ غيرِ قليلة عائقًا في وجه التقدُّم التعليمي بدلًا من أن تكون مُعينًا عليه؛ ذلك لأن العهود التي سيطر فيها على العملية التعليمية أصحابُ النظريات التربوية (أيًّا كان حكمنا على هذه النظريات) كانت عهودَ تدهورٍ فعلي في التعليم؛ فعلى حين أن التعليم ظل حتى الأربعينيات وأوائل الخمسينيات يهتم أساسًا بالمضمون، فإنه تحوَّل بعد ذلك إلى اهتمامٍ مفرطٍ بالطريقة التعليمية دون اكتراثٍ بالمادة التي تُعلَّم، حتى أخذت مدارسنا تتحوَّل بالتدريج إلى معارضَ مزوقةٍ منمقةٍ لأوجه «النشاط»، من صور ولوحات وأشكال ورسوم بيانية، أما الاهتمام بالعلم ذاته فقد تراجع إلى الصفوف الخلفية وربما اختفى تمامًا في بعض الأحيان، ومن الحقائق المعروفة أن بعض المسئولين عن توجيه التعليم كانوا يعلنون صراحةً أن كلَّ ما يريدون أن يروه في المدارس هو تلك المظاهر الخارجية للنشاط، أما مدى استيعاب التلاميذ للعلم وتحصيلهم للمعلومات وقُدْرتهم على الانتفاع من المعرفة فكان في نظرهم أمرًا ثانويَّ الأهمية.

ومن الواضح أن هذا الاهتمام بنشاط الطلاب والمعلمين ليس في ذاته عيبًا على الإطلاق؛ إذ إنه يكون مظهرًا صحيًّا حين ينبثق تلقائيًّا، وحين يكون دليلًا على ارتفاع مستوى التعلُّم ووصوله إلى مرحلة التعبير عن نفسه بصورة عينية، أما حين يكون في جميع مراحله تكلُّفًا، وحين يُرْغَم عليه التلميذ والمعلم إرغامًا، وحين يصبح وسيلةً لإرضاء الرؤساء وتلبية أوامرهم الملحَّة، فإنه يغدو عندئذٍ ظاهرة مريضة تلفت النظر وتستحق التأمُّل.

والأمر المؤكد أن هذا الخروج بوظيفة النشاط التربوي، من مجاله الأصلي الذي يكون فيه مُعينًا للمادة التعليمية، إلى مجاله المصطنع الذي يصبح فيه بديلًا عنها، لا يمكن أن يحدث إلا في ظلِ قيمٍ اجتماعيةٍ من نوعٍ معيَّن؛ فالمسألة هنا ليست انحرافًا أو خطأ ينتمي إلى مجال التعليم وحدَه، وإنما هي جزء من انحرافٍ أوسعَ نطاقًا بكثير، يتعلق بأسلوب حياة المجتمع بوجه عام؛ ذلك لأن الاهتمام بشكليات التعليم دون جوهره هو مظهر من مظاهر روح النفاق، وعدم الإحساس بالمسئولية، والاتجاه إلى «سد الخانات»، بدلًا من الاهتمام الجاد بالمشكلات، ولا جدال في أن اهتمام المعلم بعرضِ لوحاتٍ أنيقةٍ على الموجِّه أو المدير، واهتمام هذين الأخيرين برؤيتها، مع علم الجميع بأن التلاميذ لم يكونوا هم الذين أعدُّوها، أو بأنها ليست تعبيرًا حقيقيًّا عن مستوى معرفتهم، هو شكل آخرُ من أشكال النفاق الذي ينتشر في مكاتب الرؤساء، ويعلن عن نفسه في صفحاتٍ مدفوعة بالجرائد، وهو النفاق الذي يَعْلم الطرفان معًا أنه لا يعبِّر إلا عن شعور كاذب، وليست المدرسة التي تظهر في أبهى صورة يوم زيارة مدير المنطقة، وتظل بقيةَ أيامها في أقبح مظهر، ليست سوى تعبير جزئي عن اتجاه عام يجعلنا نضفي على منشآتنا يوم حضور أولي الأمر مظهرًا لا ينم على أي نحوٍ عن حقيقة الأوضاع السائدة فيها، ومن هنا فإن الظروف التي أدَّت بالتعليم إلى الاهتمام بالطرق والأساليب الشكلية بوصفها بديلًا عن الجوهر، تبدو من هذه الزاوية وجهًا من أوجه طابع عام في قيم المجتمع بأسره، لا مجرد تعبير عن اتجاه مدرسة بعينها من مدارس التربية.

•••

ولنتأملْ ظاهرة أخرى يَعدُُّها الكثيرون من أوضح مظاهر تدهور التعليم في بلادنا، وأعني بها ظاهرة الحفظ الحرفي للمعلومات العلمية، دون محاولةٍ لهضمها أو اتخاذها وسيلةً لحل المشكلات المعقَّدة التي يواجهها الإنسان في حياته، والتي لا يمكن أن تدخل بحذافيرها ضمن نطاق ما يُدْرَس في الكتب، هذه الظاهرة لا يمكن أن تعلَّل تعليلًا كافيًا بما يحدث في مجال التعليم ذاته؛ فليس يكفي في رأيي أن يُقال إن الاستعمار حين أراد أن يُفسِد التعليم حرص على أن يجعله تلقينًا مباشرًا لمعلوماتٍ تفيد التلميذ في أداءِ وظيفةٍ محددةٍ يُراد له أن يقوم بها بعد خروجه إلى ميدان الحياة العملية، دون أن يكتسب أي نوع من النظرة الشاملة إلى الأمور، قد يكون هذا التعليل صحيحًا على نحوٍ جزئي، وبالنسبة إلى مرحلة معيَّنة في نظامنا التعليمي، ولكنه لا يمكن أن يكون تعليلًا كاملًا لتلك الظاهرة الخطيرة التي تجعل تلاميذنا أشبهَ ما يكونون بآلاتِ تسجيلٍ تُفرِّغ ما لديها وقت الامتحان، دون أن يتبقى لديهم شيء مما عرفوه لكي يستعينوا به في مواجهة المهام المعقدة التي تزدحم بها الحياة.

إن التعليل الحقيقي لانتشار ظاهرة الحفظ الحرفي دون قدرة على التصرف الحر، هو شيوع الخضوع المفرط للسلطة في مجالاتٍ حيوية من حياتنا، وينبغي أن يعلم مَن يحبون أن يُلقُوا بكل أخطاء التعليم على عاتق «الاستعمار» أن عيوبًا أساسية كهذا الذي نتحدث عنه الآن كانت سمة مميزة لتعليمنا قبل أن نعرف أي لون من ألوان الاستعمار، بل قبل أن يصبح لدينا تعليمٌ «علماني» على الإطلاق؛ فالطابع الغالب على أساليب التعليم في كثير من المعاهد التي تقدِّم تعليمًا دينيًّا ولغويًّا تقليديًّا كان منذ عهد بعيد — ولا يزال — هو الحفظ عن ظهر قلب، وحتى أصبحت صورة لابس العمامة الذي يجلس القرفصاء ممسكًا بيده كتابًا يحاول أن يستظهره وهو يهز رأسه جيئة وذهابًا في إيقاع منتظم، من الصور النمطية المميزة لهذا النوع من التعليم.

ولا شك أن هذه الطريقة في تلقي العلم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقداسة التي تحيط بالتعاليم الدينية، وبالسلطة المطلقة التي تتخذها هذه التعاليم في نفوس أفراد المجتمع بوجه عام، ومن هنا فإن جذور هذه الظاهرة التي يعترف الجميع بأنها من أشد آفات التعليم في بلادنا ضررًا، ترجع في واقع الأمر إلى قيمٍ اجتماعية عامة تشيع فيها فكرة السلطة التي لا تُناقَش، بحيث لا يكون من المستغرَب على مَن اعتاد النظر إلى السلطة على أنها معصومة، أن يتلقى كل تعليم يُوجَّه إليه على أنه لا يقبل المناقشة.

ومن ناحيةٍ أخرى فإن انقضاء ألوف السنين التي كانت خلالها السلطة السياسية تمارس حكمًا غاشمًا لا يقبل معارضة، ولا يسمح بقيام أي نوع من القيم الديمقراطية، قد أسهم بدوره في تعميقِ مفاهيمَ اجتماعيةٍ يصبح في ظلها التعليم المبني على المناقشة والنقد أمرًا مستحيلًا؛ فالتقيُّد الحرفي الذليل بما في الكتاب المدرسي هو مظهر من مظاهر العجز عن ممارسة الديمقراطية، والتعوُّد على تلقي الأوامر وتنفيذها دون مناقشة، والخوف من الحرية التي تضع الإنسان وجهًا لوجه أمام مسئوليته، ولكي ندرك الصورة على حقيقتها، علينا أن نقارنها بما حدث في فرنسا إبان ثورة الطلبة في مايو ١٩٦٨م؛ فقد كان من أهم مظاهر هذه الثورة، التمردُ على الطريقة التقليدية في التعليم، تلك الطريقة التي يقف فيها الأستاذ كأنه إلهٌ شامخ وسطَ جمْعٍ من الطلاب الصامتين الخاشعين، والتي يسير فيها تيار العملية التعليمية من قطبٍ موجَب إلى قطبٍ سالب، دون أي تبادل حقيقي بين الطرفين، وكان من أول المطالب التي نادى بها الطلاب، القضاءُ على الكهنوت العلمي الموروث من العصور الوسطى، والذي يجعل من الأساتذة أوصياء على عقول الطلاب وأرواحهم، وكأن هؤلاء الأخيرين أجهزةٌ تستقبل كلَّ ما يأتيها دون أن ترسل من عندها شيئًا. وهكذا كانت الثورة تستهدف أن تحقق في ميدان التعليم نفسَ النوع من الحرية والديمقراطية الذي يسعى الإنسان المعاصر إلى تحقيقه في ميدان الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن تهدم معقلًا أخيرًا من معاقل السلطة التي تكبِّل عقل الإنسان، وأعني به سلطة العلم الذي يتدفق من جانبٍ واحد دون تبادل أو مشاركة، مثل هذه الثورة لا يمكن تصوُّرها في مجتمعٍ تغلغلت فيه القيم المبنية على فكرة السلطة، وأصبح فيه التعليم المرتكز على التفكير الحر والحوار المتبادل أمرًا يفزع منه الشباب ويتجنبونه في سبيلِ تعليمٍ يرتكز على ترديدِ آراءٍ معروفةٍ ومحفوظةٍ ومأمونة.

والحق أنه إذا كانت لطريقة التعليم المرتكِز على سلطةٍ لا تناقش أضرارها حتى في العصور التي كانت فيها هي الطريقة الوحيدة المعروفة، فقد أصبحت لها في عصرنا الحاضر عواقبُ وخيمة تهدِّد مستقبل الأمم قبل الأفراد؛ ففي عصرنا هذا أصبحت المعلومات التي تؤلِّف مضمون العلم تتغير بسرعة هائلة، حتى إن المفكرين في البلاد الناضجة بدءوا يشكون في قيمة تكوين إنسان «متعلم»، أيًّا كان مستوى تعليمه؛ ذلك لأنه عندما يجيء الوقت الذي يستطيع فيه هذا الإنسان أن يستخدم ما تعلَّمه، تكون المعرفة قد تغيرت وتجددت، وتصبح المواقف التي يتعين عليه مواجهتها مختلفةً إلى حدٍّ بعيد عن تلك التي تدرَّب في دراسته عليها، ومن هنا اتجه التفكير إلى ضرورة الاستعاضة عن تكوين الإنسان المتعلم بتكوين إنسان «قابل للتعلم»، أعني إنسانًا لديه المرونة الكافية لمواجهة ظروف سريعة التغيُّر، ولاستيعاب المعارف الدائمة التجدُّد والتوسُّع، وهذا يعني — بعبارة أخرى — أن الجمود والمحافظة — في مثل هذا العالَم الذي يجري تيار التغيُّر فيه بسرعةٍ لاهثة — هو جريمة في حق الفرد والأمة، فما بالك بالتخلُّف والرجوع إلى الوراء؟ إن الحس التاريخي وحدَه يقنعنا بأننا إذا شئنا أن نسير مع تيار التجديد المتلاحق، ينبغي علينا أن نُدْخِلَ على حياتنا بأسْرِها تجديدًا شاملًا لا يسمح للتعليم المبني على السلطة الجامدة بأن يسيطر على عقول المعلمين والمتعلمين على حدٍّ سواء.

•••

وأخيرًا فإن أساليب الاستظهار الحرفي للمعلومات في تعليمنا الراهن ترتبط ارتباطًا وثيقًا بآفةٍ أخرى نشكو منها جميعًا، ولا نكاد نعرف لها تفسيرًا في ضوء الفهم المنعزل للعملية التعليمية، هي ظاهرة الاهتمام المفرط بالامتحانات، والغش الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من التكوين الأخلاقي لشبابنا الدارس.

والحق أن الامتحانات في بلادنا تمثِّل طقسًا من الطقوس العجيبة التي تُجمِع — على نحوٍ يبعث على الدهشة — بين جو الرهبة الشديدة والهزل المفرط، أما الرهبة فتتمثل في جو الرعب الذي يحيط بكل امتحان، وفي توتر الأعصاب وانهيارها الذي أصبح من اللوازم المألوفة للامتحان، وأما الهزل فيتجلى في عدم الجدية التي تُؤخذ بها عملية الامتحان بوصفها مقياسًا لقدرات الطلاب؛ إذ يشتد — من جهة — التهاونُ بين المصححين، وخاصة إذا كان الأمر متعلقًا بأعدادٍ كبيرة من الأوراق، وتنتشر من جهةٍ أخرى فنونُ الغش بين الطلاب في جميع مراحل التعليم، ويبدو لي أن ظاهرة الغش — التي أصبحت ظاهرةً مستفحلة لا يكاد يحجم عن ممارستها أي طالب تُتاح له الفرصة — أشبه ما تكون بظاهرة «النكتة» في حياتنا السياسية والاجتماعية؛ ففي جو الامتحان الرهيب — بطقوسه وشعائره المخيفة — يشيع الغش الذي يهزأ بكل المقاييس والمعايير الرسمية، مثلما يُطلِق شعبُنا النكتة في أشد المواقف هولًا وإيلامًا، لكي يخفِّف عن نفسه حدة التوتر، أو لكي يهرب من المواجهة الجادة المسئولة للموقف الذي لا يرضى عنه.

والنظرة الجزئية إلى الأمور هي التي تجعلنا نواجه ظاهرة الغش بمزيد من الرقابة الصارمة، حتى لتغدو قاعات الامتحان أشبه بمعسكرات الاعتقال، ولكن هذه التدابير كلها لا تزيد الظاهرة إلا استفحالًا، ونتيجتها العلمية الوحيدة هي تفنن الطلاب في البحث عن أساليبَ للغش أذكى وأشدَّ خفاءً، وحين تكون الظاهرة متأصلةً على هذا النحو، يتعيَّن علينا أن نبحث عن أسبابها في قيم المجتمع، لا في الوسط التعليمي وحدَه، وفي هذه الحالة لن نجد صعوبة كبيرة في الربط بين ظاهرة الغش وبين صفاتٍ ظلت حياتنا العامة تتسم بها منذ مئات السنين، أهمها ذلك التهاونُ الأخلاقي الذي يتهرَّب فيه الناس من مواجهة مسئولياتهم، ويلتمسون لقضاء أمورهم أشدَّ الأساليب التواءً وانحرافًا، إن الغش في الامتحان، وانتشار الوساطة والإهمال والرشوة بوصفها عيوبًا متوطنة في حياتنا الاجتماعية، ما هي إلا أشكال متعدِّدة لظاهرة واحدة، ومن المستحيل أن يتسنى علاج هذه الظاهرة — أو حتى فهمها — في الميدان التعليمي وحدَه، ما دامت قد تُرِكَت تستشري في بقية الميادين.

•••

في هذا المقال حاولت أن أضرب بعض الأمثلة التي تكشف عن التداخل الوثيق بين مشكلاتٍ نعانيها في ميدان التعليم، ومشكلات نعانيها في حياتنا الاجتماعية عامة، وأن أوضح مدى قوة التأثير المتبادَل بين ما يحدث في مجال التعليم وبين القيم الاجتماعية التي تسود حياتنا منذ عصورٍ موغلة في القِدَم، وإذا استطاعت هذه الإشارة أن تُقنِع الأذهان بأن الحلول الجزئية لمشكلات التعليم — لو فرضنا أنها قد تحققت — لن تُؤتي ثمارها كاملة ما دامت غير مقترنة بحلولٍ أشملَ لمشكلاتٍ أوسعَ مدًى بكثير، تمس صميم حياة المجتمع ذاته، فإن الهدف الذي أرمي إليه من كتابة هذا المقال سيكون قد تحقق.

١  الفكر المعاصر، العدد ٧٣، مارس ١٩٧١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤