كيف ترجم العقَّاد للشيطان

١

عندما اقتربت الحربُ العالمية الأولى من ختامها، بعد أن طُحنَ العالمُ طحنًا في رحاها. نظم شاعرنا الأستاذ عباس محمود العقَّاد قصيدتَه «ترجمة شيطان». وكان العقَّاد عندئذٍ قد أوشك على الثلاثين من عمره، فجاءت القصيدة — كما يقول الشاعر عنها في مقدمة نثرية قصيرة قدَّمها بها — لفْحة من نار الحرب وغيمة من دخانها، وما هي إلا سنوات قلائل بعد قصيدة العقَّاد، حتى ظهرت في الإنجليزية أختٌ لها، تنتمي معها إلى أسرة من الشعر واحدة، وأعني بها قصيدة ت. س. إليوت «الأرض اليباب» التي جاءت هي الأخرى لفحة من نار الحرب العالمية الأولى، وغيمة من دخانها.

والحق أن الأدب في أوروبا، بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، قد اجتاز مرحلة تستوقف النظر، وهي مرحلة حقيقة هنا بالذكر؛ لأنها ستُلقي ضوءًا على قصيدة العقَّاد، فلقد أحس نوابغ الأدباء أن القِيَم الإنسانية قد أهدرت إهدارًا، وأن الغلبة قد أصبحت للطَّغام ومَن هم دون الطَّغام، فكأنما زمام العالم قد بات في أيدي الدهماء، هم الذين يسوقون أصحاب المواهب، بدل أن يُساقوا، ويَسوسون بدل أن يُساسوا، فماذا يصنع صاحبُ الموهبة الأدبية إلا أن يثور من أجل كرامة الأدب؟ ماذا يصنع سوى أن يُقيم حاجزًا بينه وبين هؤلاء الدهماء، إنه لم يُخلَق ليكون أداة لتسلية هؤلاء، إنما خُلق ليكون لهم منارة وهداية، فإذا عزَّ عليهم أن يهتدوا وأن يستنيروا، فلا على الأديب من حرجٍ إذا هو أبى واستكبر، وانطوى على نفسه انطواءً لا تتسلل إليه منه أعين الدهماء إلا بناءات أدبية صعبة عسيرة لا يقربها إلا الدارسون، فلم يعُد معيار الأثر الأدبي عندئذٍ هو: كم من الناس قد أقبلوا على هذا الأثر، وكم طبعة طُبع هذا الديوان، بل أصبح المعيار هو: هل جاء الأثر الأدبي إضافة جديدة جادة للتاريخ الأدبي كلِّه؟ فلقد أراد أدباء ما بعد الحرب الأولى مباشرة أن يُسدلوا الستار على مأساة بشرية صنعتها غفلةُ الحمقى، ليفرغوا إلى فنِّهم الخالص، ولكي يُفرِّقوا بين أنفسهم وبين أدباء ما قبل الحرب، كان لا بد لهم — فوق عنايتهم بجدة المضمون — أن تجيءَ الصورة هي الأخرى جديدة، على أن أهم طابع يطبعهم جميعًا هو الغوص في أعماق أنفسهم، كأنما الأديب قد أصبح راهبًا يلوذ بصومعته التي لا شأنَ لأحد بها سواه.

جاء أدب ما بعد الحرب أدبًا خاصًّا أُريدَ به خاصة الخاصة، ولم يُحسَب للقارئ العادي حساب، لا بل لم يكن يكفي أدباء ذلك العهد أن يغضوا أنظارهم عن القارئ العادي وما ينشده من تزجية لفراغه، بل تعمَّدوا أن يحولوا بين أدبهم وبين أمثال هذا القارئ، بأسوار يُقيمونها من عمق في المادة وصعوبة في العرض وكثرة في الإشارات التي لا تُفهم إلا بعد مراجعات أدبية كثيرة ومقارنات ودراسة متأنِّية متروية، أفكانت مجرد مصادفة هي التي جمعت في عام واحد (هو عام ١٩٢٢) قصيدة ت. س. إليوت «الأرض اليباب» وقصة جيمس جويس «يولسيز» وهما ما هما عليه من عسر وعمق معًا؟ ثم هل كانت مصادفة عمياء أن يسبقهما مباشرةً شعرُ بول فاليري في قصيدة «مقبرة عند شاطئ البحر» (عام ١٩٢٠) وأن يلحقهما فورًا قصة «الجبل المسحور» لتوماس مان (١٩٢٤) وقصة فيرجينيا وولف «مسز دالواي» (١٩٢٥) و«الحصن» (١٩٢٦) لكافكا؟ أكانت مصادفة أن تزدحم كلُّ هذه الآثار الأدبية في خمسة أعوام تعقب الحرب العالمية الأولى، وهي كلُّها آثار تلتقي في صعوبة المأخذ وعسْر المنال، وفي بُعد الغَور واتساع الأفق، وفي الانطوائية التي تأنف أن تضرب في زحمة الناس؟

كلَّا، لم تكن هذه كلُّها مصادفاتٍ عمياء، ولا كان من قبيل المصادفة أن تجيءَ قصيدةُ العقَّاد «ترجمة شيطان» في أوائل هذه الفترة نفسها. ولستُ أشكُّ لحظة واحدة في أنه لو كانت هذه القصيدة قد نُظمت بالإنجليزية أو الفرنسية، واتخذت موضعها من تاريخ الأدب الأوروبي، لما ذُكرت تلك الآثار بما بينها من طابع مشترك، إلا وتُذكَر في طليعتها قصيدةُ العقَّاد؛ لأنها منطبعة بالطابع نفسه عسرًا وعمقًا واتساعًا وانطوائية تزدري أن تتوجَّه بالخطاب إلى عامة القرَّاء، فهي وحيدةُ نوعها في الشعر العربي كلِّه، وهي آية فريدة تستطيع أن تجمع حولها خيوط عصرها، كما هي الحال دائمًا بالنسبة إلى الآثار الأدبية الكبرى. فانظر كم قيل — مثلًا — عن «الأرض اليباب» وكم قيل عن «يولسيز» من حيث هما قطبان يدور حولهما أدبُ العصر، فهكذا كان ينبغي أن يكون الأمر بالنسبة إلى قصيدة العقَّاد «ترجمة شيطان» لو أن حركة النقد عندنا سارت عن بصيرة وعلى هدًى، على أن أمرها لم يغِب عن ناقد نافذ كالدكتور طه حسين، فقال في العقَّاد بصفة عامة وفي هذه القصيدة بصفة خاصة (في حفل تكريمي أقيم للعقَّاد عام ١٩٣٤): «إنني أجد عند العقَّاد ما لا أجده عند غيره من الشعراء، وإن شئت فإني لا أجد عند العقَّاد ما أجده عند غيره من الشعراء، لأني حين أسمع شعر العقَّاد، أو حين أخلو إلى شعر العقَّاد (وما أبرع الدكتور طه في هذا الاستدراك السريع؛ لأن شعر العقَّاد يحتاج إلى خلوة الدرس العميق، وليس هو شبيهًا بضربات الطبل التي قد تهزُّ الآذان هزًّا ثم لا يصل منها إلى النفس شيءٌ) فإنما أسمع نفسي أو أخلو إلى نفسي، إنما أرى صورة قلبي وصورة قلب الجيل الذي نعيش فيه … إنني لا أقول لنفسي: قد قرأت هذا الكلام من قبل، أو أين قرأت هذا؟ أفي شعر البحتري أم عند أبي تمام، أم سبق أبو نواس إلى مثل هذا الكلام؟ كلَّا، إنما تقرءون العقَّاد فتقرءونه وحده؛ لأن العقَّاد ليس مقلِّدًا، ولا يستطيع أن يُقلِّد، ولو حاول التقليد لفسدت شخصيتُه …»

٢

وها هي ذي حياة الشيطان كما ترجم له العقَّاد، ننثرُها ليطَّردَ سياق الحديث، ولنتيحَ لأنفسنا فرصة التسلل إلى ما وراء الكلمات هنا وهناك.

الصائغ هو الرحمن الذي وسِعت رحمتُه كلَّ شيء، ومكان الصياغة هو قاع الجحيم، وزمانها غسق الظلماء، والمصوغ هو شيطان صاغه الله ليرمي الأرض به، وإن تجريد كلمة شيطان من أداة التعريف، ليدل على أنه واحدٌ من زمرة، فليس هو مقصودًا لذاته، ولكنه قُصِد للمهمة التي أُريد له أن يؤدِّيَها، وهي أن تُرمى الأرض به ليكون لأهل الأرض عبرة. فإذا طُلِب من سائر الإنس والجن أن يعبدوا الله شكرًا على أنه خلقهم من عدَم، فلا يُطلب مثل هذا الشكر من شيطان كهذا، وعلامَ الشكر وقد كُتب له السوء قبل أن يظهر إلى الوجود؟ والله في ذلك كلِّه عليم وقادر فهو يعلم ما لسنا نعلمه من حكمة وراء صياغة كائن كهذا يُراد به أن يكون رسولَ شرٍّ للأرض ومَن عليها، فلم يكن على علم الله وقدرته بعزيز أن يأمر مخلوقه هذا المنكود الكنود قائلًا: كن محنة للأبرياء. نعم للأبرياء لأنهم هم الذين ابيضَّت صحائفُهم، وأمَّا من اسودَّت صحائفُهم بالسوء قبل نزول الشيطان، فلم يكونوا بحاجة إلى رسالته ولا إلى عِبرته. قيل له: كن محنةً للأبرياء. فكان الإحراج الذي لا مخرجَ منه، أيعصي أمر القضاء فيكسب رضى أهل الأرض لكنه يستحق اللعنة في الآخرة لعصيانه، أم يُطيع الأمر فيكون هو الشيطان اللعين الرجيم كما أُريد له أن يكون؟ إنه إمَّا أن يعصيَ أو يُطيعَ، ولا ثالث لهذين الفرضين، وفي كلتا الحالتين هو الفاجر الخاسر، ولعل هذا الإحراج كان هو النموذجَ الأزلي الذي جاء ساسةُ الدول بعدئذٍ فنسجوا على منواله، فما على السياسيِّ إذا قبض على السلطان في يده، وأراد أن يُخرِج من جنَّته أحد أعدائه، إلا أن يكلِّفه بما يُوقعه في حرج كهذا، بحيث يوصَم بالخيانة إن أطاع وإن عصى على حدٍّ سواء. تُرى هل تكون السُّنَّة التي جرى عليها أصحابُ الحكم طوال التاريخ، وهي أن يُعنوا أكبرَ عناية بإقامة المعابد، علامة أرادوا بها أن يدلُّوا على عرفانهم بالجميل، وما أعظمه من جميل ذلك الذي هداهم كيف يكون سبيل النقمة كلما أرادوها!

قال الخالق لمخلوقه الشيطاني: كُن محنةً للأبرياء، فأضلِلْ من الناس من تشاء، وستكون الجحيمُ مأواك ومأواه. قال له ذلك وقذف به ليؤديَ رسالته، فهوَى على الأرض، صفْرَ الراحتين، خاويَ الزاد، فأين يمضي ورحاب الأرض واسعة؟ إن رسالته هي أن يبذر للشر بذورَه، وليست الحيرة هي: أين يجد التربة صالحةً لبذْر هذه البذور، كلَّا، فلا حيرةَ في ذلك؛ لأن الأرض صالحةٌ لبذوره أينما ألقاها، وإنما الحيرة هي أيُّ أصقاع الأرض يبدأ بها سيرتَه؟

هنالك احتمالان لعلهما قد وردَا على خاطره ليختار منهما، فهو إمَّا أن يختار أرضًا بلغت من المدنية شأْوًا، أو أن يختار أرضًا لم تزل على الطبيعة بكرًا، فاختار الثانية، أو لعله أُرغم عليها، فهبط من الأرض في وادٍ يسكنه الزنج، فلئن كانت الشمس هناك لا تُحدث للأشياء ظلًّا يمتدُّ على سطح الأرض، فأهله عُوِّضوا عن الظلِّ المسطوح بظلٍّ قائم، هو الظلُّ البادي في جلودهم. فوا عجبَا! لقد اختلط هنا الأمرُ بين حيوان وإنسان، فلا تدري أيها هو أيها؟ أهذا الكائن المكتسي جلدًا وريشًا من فئة الإنسان أم من فئة الحيوان؟ فالذي يفرق بين الفئتين مفقود؛ إذ لا يفرق بين الفئتين إلا ما يظفر به الإنسان — دون الحيوان — من علمٍ ومن فنٍّ ومن حضارة في الأكل والشرب والمأوى، فإن غابت هذه الأشياءُ كلُّها غاب معها المسوِّغ الذي يجعل من الإنسان إنسانًا. وأعجب العجب أن الطبيعة هنا قد سخت على النبات ثم شَحَّت في عالم الإنسان، فمن النبات خُذ ما تشاء ازدهارًا وسموقًا وغزارةً وإثمارًا، وليس في عالم الإنسان من ذلك كلِّه شيء. وفي أرض كهذه لا يكون تاريخ، فالماضي والحاضر سواء، فمن العبث أن يسألهم سائل: كيف كنتم وماذا صرتم إليه؟ لأن ما كانوا عليه وما صاروا إليه هو الطبيعة الفجَّة الشائهة.

فهل يسعُ الشيطان إلا أن يسْخرَ من نفسه عندئذٍ ومن رسالته التي جاء من أجلها؟ أمِن أجل هؤلاء قد استُذلت كبرياؤه وهبط من سمائه؟ لقد كان في وسع خالق الحيوان أن يفعل بالإنسان ما فعله بالحيوان من غواية وضلال، فيستغني عن الشيطان وعن رسالته. ألا إنها لحياة مهدرة عبثًا تلك الحياة التي خُلقت لتُضلَّ سواها من الإنس أو من الجن؛ لأن هؤلاء وأولئك عبثٌ في عبث. وإذن فلا عليه، إنَّ خَطْبه على كل حال هيِّنٌ يسيرٌ، فليذهبِ الآن إلى بلاد الحضارة لعله واجد فيها ما يُغنيه. واختار أرضًا حول بحر الروم أو بحر العجم، وها هنا رمى الشيطان أولَ فخٍّ فأصاب، ووقع في الفخِّ الجميعُ، وما فخُّه هذا إلا أن يُوهمهم بشيء من صنعه، يُطلق عليه اسم «الحق» وقذف به فيهم وأوى إلى الراحة، فما حاجته الآن إلى سعْيٍ ونشاط؟ إن هذا «الحق» الخلَّاب سيكفيه مئونةَ التضليل الذي جاء من أجله. وصدقت فراسته، فمن أجل «الحق» الموهوم دبَّت الخصومة بين الأصدقاء، وبات «الحق» سلاحًا لكل من أراد سلاحًا. أيريد الخبيث أن يسترَ خبثه عن الناس؟ إذن فليُسمِّ خبثه هذا «حقًّا». أيريد الضعيف أن يلتمس المعاذير لضعفه؟ إذن فليقل إنه ابتغاء وجه «الحق» قد زهد في الكفاح. أيريد المعتدي أن يسوغَ اعتداءه حتى يُنزل سيفَه على رقاب الناس بردًا وسلامًا؟ إذن فمن أجل «الحق» ما سُلَّ الحُسام. نعم إنه هو هذا «الحق» الذي جهِل حقيقتَه الجاهلون وراحوا ينشدونه فضلُّوا، وهو نفسه «الحق» الذي ابتغاه الحكماء فلما استعصى عليهم حسِبوه سرًّا تعالى أن يبلغَه البشر. لله ما أعجبه من فخٍّ شيطاني فظيع! فهذا عبدٌ مستذلٌّ، يُقال له إن إذلاله هو «حق» لسيده، وهذا سيدٌ مفترٍ طاغية يدَّعي أن قوَّتَه هذه مستمدة كلها من «الحق» الذي يؤيده. فإذا أزلت عن عينَيك الغشاوة لترى هذا «الحق» وجهًا لوجه وعينًا لعين، فماذا تراك واجدًا في حياة الناس مما يسمونه «حقًّا»؟ هو آخر الأمر طعام يلهث في سبيله البطن الجائع، ومأوًى يأوي إليه الضالُّ من خوف، وذهَبٌ يخطف الأنظار ببريقه، فلو شبِع الجائع وأمِن الخائف ومات صاحب الذهب لاختفى من الوجود شيءٌ يسمونه «الحق»، وما هو إلا تلك المطامع الحيوانية الدنيا. وإذن فيا لها من لفظة زوَّقها الشيطان للناس تزويقًا لم يكْفِه أن يُبرِّر الرذيلة، بل جاوز ذلك إلى جعْل الرذيلة بشتى صنوفها فروضًا واجبة الأداء.

فحُقَّ له وقد نصَب هذا الشَّرَك أن ينام ملءَ جفنَيه، وقد كان يستطيع أن ينعم براحة البال إلى أبد الآبدين لو أراد، لكن هيهات لمن كان الشرُّ لُحمتَه وسَداه أن يعرف للطمأنينة معنًى، سواء جاءت صفقتُه رابحة أو خاسرة، فشاء له حظُّه الأنكد أن يفتح عينيه بعد غمض، فإذا البذرة التي كان بذرها في الناس لتفعل فعلها — بذرة ما أسماه لهم «بالحق» — قد أينعت وازدهرت، حتى لأوشك من فرحته أن يشكر الله على نُعْماه، لولا أن الشكر ليس من طبيعة الشياطين، فأمسك! وطفق يزرع نباتًا للشر بعد نبات، كلما زرع نباتًا هنا أو نباتًا هناك، هالَه أن يجيئَه الحصادُ موفورًا غزيرًا، وهكذا توالت الأجيال حتى استقرت دولتُه واستتبَّ له السلطان.

ولكن هل يدوم سلطانٌ حتى لشيطان؟ ما هكذا تجري سنَّةُ القدَر؛ فللشياطين كما للأناسي جوانب الضعف، ولولا ما فيهم من ضعف لما عرفوا أين تكون مواضع الضعف من الإنسان فيهاجموه منها حتى يفتِكوا به، فمن أمثلة الضعف التي مُنيَ بها شيطانُنا هذا أن أخذت نفسُه تميل إلى الهوى العذري، فلما أن بلغ من الانحلال حدًّا يؤرِّق جنبَيه، أخذتْه الأنفةُ مرة أخرى من أن تكون هذه هي رسالته، فما جدوى أن يُضلِّل الفجَّار وقد رأى بعينيه ألَّا فرق — في الصميم — بين فاجر وعفيف؟ ألا إن حياة الإنس والجن كلَّها هباءٌ في هباء، ما جدوى أن يُفسِد أناسًا قد عُدموا الرشد؟ وحتى إن توافر لهم رشدُهم فما ذاك بشيء يُحسدون عليه حتى يعمل على سلْبهم إياه، فكلُّهم — آخر الأمر — طالبُ قوتٍ، وها هي ذي الأرض تُنبت ما يكفي لملْء بطون الناس أجمعين — سفل الناسُ أو علوا — وإذن فكلُّهم سواء، وقصارى الأمر في هذا الورى راسبٌ يطفو وطافٍ يرسب. وهكذا كفر شيطاننا المسكين بالشر، فالشرُّ عقيم ليس بذي غناء، فجاء كفرُه هذا لونًا بديعًا من الكفر؛ إذ الكفر بالنعيم معروف ويستحقُّ العقاب، وأما الكفر بالشر أو الكفر بالكفر ذاته فأمرٌ غير مألوف. وهو في طبقات الشر أمعن؛ لأنه ضربٌ من الكفر يرى فيه صاحبُه ألوانَ الخير كلَّها أهون من أن تستحق العناية بإزالتها ورصْد المكائد لها، فالراشد والغاوي عندئذٍ سيان … أليس عجيبًا — إذن — أن تفوت هذه اللفتة على الله، حتى ليعُد كفر الشيطان بالشر بمثابة الندم. ويرفعه إلى الجنة بعد أن توعَّده ألا يكون من أصحابها؟ لكنَّ فضلَ الله عميمٌ يؤتيه من يشاء بغير حساب!

نزل الشيطان من جنته منزلًا يرضى به الفنُّ الجميل، ومشى فاختار من مشيته هضبة عند مصبِّ السلسبيل، فيها نخيل وثمر، وفيها براكين خبَا ضِرامُها، وازَّيَّنت زينة هي المثل الأعلى لكل فنان، فما فنون الأرض إلى محاكاة تبعد أو تقرب من هذه الص ورة المثلى، ولقد كملت الزينة بكل أسبابها، فوِلْدان وحُور يُضفون عليها زهوًا، وأحواض عليها طيرٌ يغنِّي مسبِّحًا مبتهلًا للكريم الحليم الغفور، وزُمَر الأملاك تملأ رحابها، فهل يرضى الشيطان بنعمة الله هذه؟ كلَّا، فذات يوم من شتاء، قُبيل الصبح أو نحو الأصيل، لا بل إن جنان السماء لا تعرف الساعات والأيام والفصول، فهي رقعة بغير تاريخ، ركب الشيطان فوق السلسبيل مركبًا حوله جوٌّ من نغم، وقد انبعث من الزهر شَذاه فعطَّر كلَّ شيء، وكان على يمين الشيطان وعلى يساره أملاكٌ تحرسُه، ومُدَّ له رواق الرضى، لو كان الرضى يعرف إليه سبيلًا، وأخذ الأملاك يُسبِّحون لله مالك الملك، وكلما ازدادوا تسبيحًا ازداد الشيطانُ انقباضًا. فما إن لحَظ الأملاكُ هذا العبوس على وجهه حتى رأوا عجبًا؛ لأن الجنة لا تعرف عبوسًا، والتقت أعينُهم فابتسموا كابتسام الطفل في مهدِه الرخي، ثم تمادى بهم الأمرُ على هذه الحال حتى سئِموا هذه الجهامة التي لم يألفوها، وتمشَّت فيهم الثؤباء كأنما قد مالوا إلى نعاس.

فقال أدناهم إلى مجلس الشيطان مخاطبًا الشيطان: ما لمولاي؟ أرى في نفسه قبضةً كالتي قيل إنها تُصيب أهلَ الجحيم؟ فتوقَّد جبينُ الشيطان وصرخ في السائل قائلًا: أيُّ جحيم؟ ما لكَ أنت ومثل هذا الحديث؟ فطارت هذه الصرخةُ المدوية بألباب الأملاك ففروا كما يفرُّ الجيش الهزيم، وفزعوا كما تفزع الطير وقد راعتها الدِّيَم. ولم يكن فرارُهم ولا فزعهم خوفًا من غضبة الشيطان فحسب، بل ما هو شرٌّ من ذلك؛ وهو أن ساءهم ألا يُحسدوا على ما هم فيه من نعيم الفردوس، فأنت إذا أريت سعيدًا من الناس أنه لا يستحقُّ أن يُحسد على ما هو فيه، فكأنما جعلته كمن لا يتمتَّع بشيء، وكأنك بهذا قد سلبتَه تلك السعادة التي أنكرتها عليه، وهكذا الأملاك: راعهم في الخُلد ألا يسعدوا بما يستحق أن يُحسدوا عليه من الشيطان، فمن يُنكر عليك سعدك هو كمَن يسلبُك إياه، وإذن فقد غضب الملائكة بعد أن كانوا لا يعلمون ما الغضب، وثاروا بعد أن لم تكن ثورة. والحق إنهم مدينون للشيطان بما قد علَّمهم إياه من غضب وثورة، ولكنهم لم يشكروا له هذا الفضل، وأرادوا الانتقام، والانتقام من الشيطان إنما يكون برجمِه، رجمُه بماذا؟ بأجرام السماء، فلو أنهم قد همُّوا بهذا الانتقام الرهيب لخلَت السماء من أنجمها، لكنَّ الله سلَّم الكون من سوء العقبى.

ذلك أن الله لم يترك الأمر ليتراخى إلى عقباه، وأوحى من جنته بوحيٍ سريٍّ في الأرجاء كأنه الصدى، وهدأ الثائرُ وسكَن الغاضبُ وقرَّ الأملاكُ في مواقفهم:

فإذا الجنة أمن وسكون
كسكون الليل في ضوء القمر
خشعت حتى الشوادي في الغصون
وصَفَتْ حتى وريقات الشجر
ساعة ثم انجلى موقفها
عن جلال الله فردًا في علاه
غابت الأملاك لا تعرفها
وبدا الشيطان معروفًا تراه
وبدا الشيطان معروفًا ترى
كبرياء الكفر في وقفته
عالي الجبهة يأبى القهقرَى
وتَؤُجُّ النار من نظرته
وتنحَّى كلُّ مشهود فما
ثَمَّ إلا الله والطاغي المريد
ويكاد الكون ما بينهما
يغلب الشكُّ عليه فيبيد
ساعة أخرى وقد حُمَّ القضاء
وانقضى العفو وحق الغضبُ
ساعة للنحس حلَّت والبلاء
ومتى حلَّت فأين المهربُ؟
حاقت اللعنة، حاقت كلها
وقضاها المنعم المنتقم
وجناها — وهو لا يجهلُها —
ذلك الجاني الذي لا يندمُ

نعم سكنت الجنة سكونًا رهيبًا، ووقف الله والشيطان وجهًا لوجه، وما هو إلا أن دوَى في رحاب الخلد هاتفٌ هزَّ الأرجاء كما تهزها العاصفة. فمَن الهاتف يا ترى؟ أهو الرحمن يأمر وينهى؟ كلَّا — وا أسفَا — بل هو الروح العصي الذي دبَّ في نفسه الحسدُ من مكانة الله في ملكوته، والذي كلما أبصر الله صاحب السلطان المطلق أخذ منه الغيظُ واستصغر الكون وازدرى الخلود؛ لأنه يريد أن يكون له الملك من دون الله، وعبثًا يُقال له إن الله هو المنعم على خلائقه بنعمة الخلق والحياة؛ إذ أين الإنعام في ذلك، وهو كمن يبذر البذور في أرضه لتنموَ وتترعرع؟ عبثًا يُقال له هذا أو غير هذا؛ لأنَّ طغيانه قد تطرف به حتى بلغ حدًّا يجد فيه أن مجرد الإصغاء لقول يقوله له قائلٌ ليسمع، هو العقاب أشد العقاب؛ لأنه يطمح أن يكون هو وحده صاحبَ القول وأن يكون الإنصات من نصيب الآخرين. فكيف بك إذا وجَّهت إليه اللوم فضلًا عن أن تُوجِّهَ إليه الزواجر والنواهي.

ونظر الشيطان إلى الله وأخذ يخاطبه: لستُ أريد بخطابي هذا مسالمة ولا مهادنة، فلئن كنتَ أنت المولى، فأنت مولى الموالي. فيا أيها المولى، ها أنا ذا أُعلن المروق والعصيان على سيدي، وإذا عصى عبدٌ على سيد، فالسيد هو أولى بالرثاء من عبدٍ فقَد سيدَه، فلا يغضبنك — أيها المولى — أن يعصيَ واحدٌ من عبيدك لأنه غيرُ راضٍ عنك، وقل إن شئت إنه عبدُ سوء رفض الخُلد، ولا تعاجلْني باللوم على موقفي هذا؛ لأنني سأكفيك مئونة اللوم. وسأتولَّى بنفسي تأنيبَ نفسي، فأنا لا أعرف المجاملةَ حتى مع نفسي، ولو وجدتها جديرة بالذمِّ لذممتها، فلا حرجَ عندي في ذلك، لأنني أجد الذمَّ والثناء على حدٍّ سواء. وعلى أيِّ شيء تلوم؟ ألائمي أنت على كفري بنعمتك؟ ولكن أين هي النعمة حتى يُقال إني كفرتُ بها؟ إنك في هذا لتقيسني إلى قوم يشكرونك على نقمتك وما أنا من هؤلاء، إنك في هذا لكمَن يُعطي العشب للآساد ثم يعجب كيف لا تأكل وتشكره على هذه النعمة؟ وإنما العشب يكون للشَّاء، ولا عجبَ أن تفوز الشَّاءُ بالطعام فتحسب طعامها وسيلة خودها؟ فإن كان في ذلك كلِّه حكمة، فهي إذن كحكمة العاهل الذي يحكم الناس في ملكه بما ليس يفقهون، فالويل لمن يسأل منهم سؤالًا، والأمن لمن يمضي في جهله يأكل ويشرب ولا يسأل أين؟ وكيف؟ ولماذا؟ فهكذا أنت يا رب، تصبُّ الشقاء على من يحاول الكشف عن حكمة القدر، وتنكِّل بمن يقف ليشك فينكر فيعصي، كأنما الواجب في حكمك هو أن يترك الستر مسدولًا على سرِّه.

اللهم، إن وجدتَ من يرضى عن هذه القدر، فانعَمْ بهم ما شئت، وأفسح لهم من جنانك؛ لأنك — في الحق — نعم العتاد للمالكين، فهم الراضون أبدًا الطائعون الطَّيِّعون أبدًا، فالخُلد عند هؤلاء هو أن يجدوا كفايتهم من قوت ومأوًى، فلا فرقَ بين الضبِّ الذي يستقر آمنًا في جُحره ويحسبه فردوسًا من السماء، وبين الإنسان يُوضع لرجائه حدٌّ أقصى لا يجاوزه فيرضى به شاكرًا. إنني أواجهُك يا ربَّاه بالصدق، والصدق مرٌّ، فلا تعاجلْني بالسكوت، أم تحسب أن قول الصدق لا يتفق مع شيطان غوي؟ كلَّا، فأنت تريد إهلاكي والصدق خير وسيلة لإهلاك صاحبه، فما رأيتُ صدقًا قد عاد على قائله بالخير أبدًا، وإنما يعود بالخير قول الزور والبهتان والهوى. أفليس هذا عجيبًا أن تصنع لنا عالمًا لا يُهلكه الباطل، ويودي به قول الحق؟ نعم، فبلوغُ الإنسان منزلةَ الحق الخالص معناه تجرُّده عن أهوائه ونزعات طبائعه ومطالب اللحم والدم في كيانه — لأن هذه كلها أشياء لا تجري مجري العقل وأحكامه — وفي هذا نذير بالهلاك.

أمجيبي أنت يا الله عن هذه الأسئلة أم سيكون نصيبي هو الصَّدَى؟ قل لي كيف رضيت أن تجعل ثمرة الكون كلِّه والخلق كله والرقي كله راحةً يستريح بها المستريحُ في جنَّتك سدًى، فلا يشغلها بعلم ولا فنٍّ؟ كيف حسبت أن خالدًا يرضيه أن يظل بينك وبينه مسافة لا تُعبَر؟ لماذا تسدُّ أمامه أبواب الطموح والرجاء، قائلًا له: إلى هنا وقِفْ؟ أتراه يرضى بالوقوف لأنه يعافُ السمو، أم لأنه يجهل أن وراء غايته غاية أبعد، أم لأنه يعلم أن وراء شأْوِه شأْوًا، ويريد بلوغَه لكنه عاجزٌ؟ إنَّ كل هذه الحالات الثلاث انتقاصٌ من الخُلد الذي قلتَ إنه من نصيب أصحاب الجنة؛ إذ كيف يتفق خلود وقيود؟ ألا ما أشدها غفلة من الفانين أن يحسبوا فناءهم ضربًا من الخلود. فيخلطوا بين امتداد الزمن وبين البقاء الذي يعلو على قيود الزمن، وما أشد غفلة الغافلين إذا هم حسبوا الخلد في نَيْل المنى؛ لأن أحقرَ الديدان تبلغ مأمولها! إنما الكمال الحق الجدير بالتمني هو أن يبلغَ الإنسان منزلةً لا يعود بعدها سؤال، وتلك منزلة لم يجعلها الله من قسمة مخلوقاته، لأنه يريدهم سائلين نعمتَه أبدًا.

سواء لديَّ أعفوت عني أم لم تعفُ، فلا تأملْ مني توبة، وليسجدْ لك من شاء، لكني لست لك بساجد. فاجعل مني حجرًا صلدًا إذا شئت، فذاك عندي خير من هذا الوجود.

فيا لها من قولة قالها الشيطان! فها هنا أظلمَ السَّنَى، وتحوَّلت تلك الشعلة المتَّقِدة — شعلة الشيطان الثائر — تحولَّت حجرًا، لا انتقامًا من الله، فتعالى الله عن الانتقام، ولا حلم الله قد نفد؛ لأن حلم الله ليس له حدود، ولكنه أخمد جُذوةَ الشيطان رحمةً بالخلق أن يُفسدَه هذا الرجيم. أفلم يكن الملائكة أنفسهم — في الجنة — على وشك أن يخرجوا من عصمتهم ويقترفوا الإثم بفعل غوايته لولا أن عجَّل الله بالحضور؟ هما كلمتان نطق بهما العليُّ القدير، بعد هذا الخطاب الطويل الذي ألقاه الشيطان، والله في حلمه منصتٌ؛ فقد قال الله للشيطان: كن عبدي! فأبى الشيطان! فقال الله: كن صخرًا! فكان الشيطان صخرًا.

ولكن هل زالت غواية الشيطان بعد أن خَبَتْ شعلتُه وتجمَّد صخرًا؟ كلَّا، فهيهات أن تتغيَّر الطبائع؛ فالغاوي ما يزال غاويًا، وهو هذه المرة يُغوي الناس «بالفن» الذي قد تحوَّل إليه، فإذا ما صادفتَ تمثالًا يفتنك بسحره، أو إذا رأيت صنمًا معبودًا، فاعلم أن ذلك التمثال وهذا الصنم هو هو نفسه الشيطان بعد أن تحوَّل حجرًا. فتعجَّبْ ما شاء لك التعجب من كيدٍ هو أخلد من الروح والجسد معًا، فقد تفنَى الروح وقد يفنى الجسد. لكنَّ الكيدَ باقٍ لا يزول.

وكما غضب الله على هذا الشيطان، فقد غضب عليه كذلك كبيرُ الشياطين — إبليس — وأنكر أن يكون واحدًا من أسرتهم؛ إذ متى كان الشيطان من الحماقة بحيث يقع في شرَك ينصبه له الله؟ فمن أين أتى هذا المسخ الذي لا هو من الأملاك الخُلَّص ولا هو من الشياطين الخُلَّص؟ لعل شيطانة أغوت مَلَكًا ذات مرة، فأَنْسلَا هذا الشيطانَ، فجاء هجينًا من أملاك وشياطين، وإلا فكيف بلغ به الطيش أن يقول الحق صريحًا؟ فباءَ صاحبُنا بالسخط فلا شيعتُه رضيت عن مسلكه ولا رضيَ عنه الأعداء، وتلك هي نهاية النوابغ دائمًا: يهتفون بالحق، فيتنكَّر لهم أصحابُ الغيِّ وأصحاب الرشاد جميعًا.

٣

ذلك هو الشيطان الذي ترجَم له العقَّاد، العقَّاد المتمرد، العقَّاد الطموح، فهل رأيتَ متمرِّدًا أو طموحًا قد عبَّر عن تمرُّدِه وعن طموحه بمثل هذه الصورة؟ نعم قد تناول كثيرون موضوعَ الشيطان وموضوع الجنة بأدبهم شعرًا ونثرًا، وتوشك ألا تخلوَ من مثل هذه أسطورة منذ أقدم العصور؛ فقد تصوَّر المصريون الأقدمون — وصوَّروا — الجحيمَ وما تحتويه من ألوان العذاب، والجنة وما فيها من نعيم، وفي أساطير البابليين هبطت «عشتروت» إلى الجحيم لينبعثَ إلى الحياة «تموز»، وفي ديانة الفُرس القدماء جحيمٌ وفردوس ولكلٍّ منهما إلهٌ يرعاه، والمعركة لا تنقضي بين أهورا مازدا إله الخير وأهريمان إله الشر، وكذلك في موروث الهند شيءٌ كهذا. ويذكر هوميروس عالم الجحيم وعالم النعيم، وهذا أيضًا هو موضوع الكوميديا الإلهية عند دانتي، وقصة الشيطان في فاوست معروفة، وهكذا وهكذا … لكنَّ شيطان العقَّاد فريدٌ مبتكر، فوسيلتُه في الغواية هي «الحق». وأحسب أن كلَّ شياطين الأدب من قبله كانت تُغوي بالباطل لا بالحق. وشيطان العقَّاد قد كفر بالشر عندما أيقن ألَّا فرق بين شرٍّ وخير في مثل هذا الوجود التافه العقيم، وما أظن شيطانًا قبل شيطانه قد يئِس من الشر، وشيطان العقَّاد قد رُفع إلى الجنة ثوابًا له على كفره بالشر، ولم يُرفع شيطان إلى الجنة من قبل. وأهمُّ من هذا كلِّه أن شيطان العقَّاد هو المنتصر حتى النهاية؛ فقد جمَّده الله صخرةً لكنه ما فتئَ يُباشر غوايتَه حتى وهو صخر.

وإنه ليحلو لنا أن نقارن خطابَ الشيطان لله عند العقَّاد بخطاب الشيطان في الفردوس المفقود عند ملتن، فها هنا ترى الشيطان هزيمًا: «طوَّح به الله ذو الجبروت، فهوى من علياء السماء يتَّقِد لهيبًا، يُروِّع القلبَ منه ما احترق وما انحطم، وتردَّى في هاوية ما لها من قرار، بها يأوي مغلولًا بصمِّ السلاسل يصطلي النار جزءًا بما حدَّثته النفسُ أن يُناجز القويَّ القدير، وفي قرار مهواه تسع فضاوات مما يذرع به الأناسي خطو الليل والنهار، تردَّى الأثيم هزيلًا بصحبة شيعته، يتقلَّب في حمأة الجحيم …» لا، ما هكذا شيطان العقَّاد الذي لم تَلنْ قناتُه أبدًا.

أمَّا بعد، فضع مكان كلمة «الله» كلمة أخرى، هي «الحاكم المستبد»، ثم ضع مكان كلمة «الشيطان» كلمة أخرى هي «المفكر الحر» — أو العقَّاد — تجد شاعرنا العقَّاد إنما يترجم لحياة كلِّ مفكر حر يثور في وجه الطغيان. فإذا استطاع الطاغية أن يُخمدَ جذوتَه، فسيظل فكرُه خالدًا في نفوس الناس لا يفنى، وإذن فهذه القصيدة الكبرى، هي — كبقية شعر العقَّاد ونثره، بل كحياته الشخصية كما يحياها أبيًّا معتزًّا بنفسه — أقول إنها كأدب العقَّاد، وكحياة العقَّاد، دعوة إلى الحرية التي لا يشتري بها العقَّاد الفردوس، إن كان في الفردوس ما يحول دون بلوغها غاية شأْوها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤