خاتمة: هدف هذه الورقة

هذه ليست دعوة إلى التطرف، بل إقرار الحق على ما هو عليه، أي المطابق للواقع، وتقابل النص مؤوَّلًا في كليته مع عموم التجربة الإنسانية. هذه دعوة حقيقية من مضمون النص تقابل الموقف النفسي الاجتماعي للمواطن البسيط الذي يعيش مواقف قد تدعو إلى التطرف، مثل الفقر والقهر، فيقرأ نصوصًا تطابق هذه المواقف ظانًّا أنه يُؤوِّلها، ولكنه في الحقيقة إنما يُسقط وضعه النفسي عليها. وعليه، قد يكون التطرف إحساسًا مكبوتًا ينفجر حين تحينُ الظروف. ففي هذه الحالةِ الوسطيةُ خيرُ بديل، لأنها فعلٌ ظاهر لا يهدِّد المجتمع بالانفجار غير المتوقع، من تطرُّفٍ إلى تطرُّفٍ نقيض. ويكون التوسطُ في هذه الحالة خيرَ ضامن للاستقرار الاجتماعي.

وهي ليست دعوةً أيديولوجية تنطوي على أحكام مسبقة لا تتزحزح مثل التصور الشائع لعقائد الإيمان؛ لأن العقائد الإسلامية تتحقق في التجربة وفي مسار التاريخ. فالبرهان جزء من العقيدة، قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّیَطۡمَىِٕنَّ قَلۡبِي (البقرة: ٢٦٠)، لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ (يوسف: ٢٤). الأيديولوجيا حكم مسبق. تقابله أيديولوجيا مضادة. وتتصادم الأيديولوجيات ولا تتحاور وتتبادل الرؤى. وقد قرر بعض المفكرين الغربيِّين بأن عصرنا هو عصر «نهاية الأيديولوجيا»، ويعنون بذلك سقوط الأيديولوجيا الماركسية في الاتحاد السوفيتي وفي أوروبا الشرقية وتحوُّل الأيديولوجيا الوحيدة الباقية وهي الرأسمالية إلى نظام أوحد للعالم هي العولمة التي تؤكد قسمة العالم إلى المركز والأطراف، إلى الإنتاج والاستهلاك.

وهو ليس بحثًا فقهيًّا يقلِّب وجهات النظر للفقهاء في فقه التعدد والاختلاف والحجج والحجج المضادة. ويضيع الموضوع في الخلاف الفقهي. يعتمد على النصوص من القرآن والسنة، والسنة أكثر. وإنما هو بحث فلسفي يعتمد على النقل والعقل والواقع. والعقل والواقع هما دعامتا النص. والبحث الفقهي هو الذي يعتمد على النص وحده مجردًا من دعامتَيه. وينزع النص من سياقه. وتكون المباراة كلها في النصوص.

بل هو بحث يحتوي على الرأي والرأي الآخر مدعمًا أيضًا بالنقل بأقل قدر، تاركًا ذلك لأهل النقل، وبالعقل بأكثر قدر كما يفعل المفكرون والفلاسفة، وبالواقع كما يفعل علماء الاجتماع بتحليل البيئة الاجتماعية التي يظهر فيها التطرف أو الوسطية. فهما ليسا حكمَين مطلقَين، بل هما حكمان ظرفيان يتغيران بتغير الظروف والأحوال. وفي الوقت نفسه هي رؤية سياسية لتطوير المجتمعات طبقًا لقوانين الصراع متجاوزة إنشاء الدعاة. الوسطية مطلبٌ للروح ولا ريب. وعندما تتجدد الروح في الجسد فإنها قد تكون أقرب إلى التطرف. فالجسد هو الذي يحرك إلى التوسط أو إلى التطرف. والجسد قد يتحرك فرديًّا أو جماعيًّا. والحراك الاجتماعي هو الذي يدفع إلى التوسط أو إلى التطرف طبقًا لقوانين التوازن التي تحكم الفرد والمجتمع، أو طبقًا لقوانين الصراع التي تحكم المجتمع. وهي في الغالب دعاية، وفي الأكثر استعمالًا تشدقٌ ومدحٌ للنفس المتوسطة وهجومٌ على الآخر المتطرف.

التوسط إذن سلاح نفسي لتبرئة النفس وتجريم الآخر. والوسطية مثل كل المفاهيم، مفاهيم فعالة (Operative) لها معانٍ وظيفية متغيرة في الاستعمال وليس معانيَ باطنيةً ثابتة في العقل. وكلُّ مَن يدَّعي أن «الوسطية» لها معانٍ ثابتةٌ ودائمة إنما يريد تثبيت الواقع الاجتماعي طبقًا لما يظن أنه يساوي معنى النص منتقيًا بعض النصوص دون البعض فيتغير معنى الوسطية بتغير السياق. والمفسر هنا لا يفسر النص، بل يُسقط المعنى الثابت على النص ويستنبطه منه ظانًّا أن هذا المعنى حالٌّ في النص؛ يكفي إخراجه من اللغة طبقًا لقواعد اللغة العربية ومعجم المصطلحات وتفسير قديم مثل الطبري أو ابن كثير. ومَن مِن المستمعين أو القراء يستطيع مناهضة اللغة أو التاريخ أو الرغبة في رؤية الإسلام وسطيًّا بدليل النص الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ويقف مفسر الوسطية أمام مفسري التطرف صائلًا جائلًا في باقي النصوص، واضعًا إياها خارج سياقها حتى تُثبت ما يريد. ويضيع الموضوع في صراع التأويلات وجدل النصوص.

هذا وصفٌ لما يحدث بالفعل في تأويل النصوص وكيفية استعمالها وليس لما ينبغي أن يكون. ويصعب على الإنسان أن يُقرَّ بالواقع، ويسهل عليه وصفُ ما ينبغي أن يكون. التفسير الأول على الرغم من صدقِه ما زال قلقًا ظنيًّا يحتاج إلى يقين. والتفسير الثاني يُخيل إلى صاحبه أنه ثابت يقيني لا يحتاج إلى مراجعة. الأول تفسير متواضع، والثاني تفسير مغرور، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (الحديد: ٢٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤