مفهوم الوسطية

الوسطية مفهومٌ جديد له أصوله اليونانية وجذوره الإسلامية ودوافعه الحاضرة، وله قراءتان: «الوسْطية» وقد يكون هو الأصح والأقل استعمالًا. و«الوسَطية» وهو الأكثر شيوعًا واستعمالًا، والأقرب إلى قراءة بقية أشكال اللفظ. والترجمة الأصح هي اﻟ Mediate التي تعني الوسط بين اثنين، لا اﻟ Moderate التي تعني اﻟ «معتدل». فالفضيلة وسطٌ (μεσoς) بين طرفين عند أرسطو، تبنَّاه الفلاسفة الأخلاقيون والمسلمون مثل مسكويه. فالشجاعة وسطٌ بين التهور والجبن، والكرم وسطٌ بين التبذير والبخل، وهو ما يتفق مع العقل. والوسط له أصوله الإسلامية في القرآن والحديث؛ فقد ذُكر لفظ «وسط» ومشتقاته في القرآن خمس مرات؛ الوسطية في الصلاة: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (البقرة: ٢٣٨). واختلف المفسرون حول تلك الصلاة: الوسط أي العصر بين أربع صلوات، أم هي وسط النهار، أم هي على الزوال، أم هي المغرب حين يغيب النهار! والوسطية في الأبناء، وهي يصعب وجودها إلا إذا وُجد عدد فرد مثل ثلاثة أو خمسة، مثل قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (القلم: ٢٨). والوسطية في الناس، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ (المائدة: ٨٩)، والتوسط هنا يعني الاعتدال، لا الزهَّاد ولا الشرِهين، لا المستقلِل ولا المستكثِر، والوسطية بين الأمم، وتعني أن تكون الأمة الإسلامية لا شرقية ولا غربية، مثل المصباح الذي يضيء وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (البقرة: ١٤٣). والوسطية في الشهادة، وتعني عدمَ التطرف فيها لا ظالمًا ولا مظلومًا. والوسطية في الجمع بين الأطراف المتباعدة، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (العاديات: ٤-٥)، وتعني التوحيد بين الأطراف، وضم الأجزاء صورة للتوحيد.

ولا يعني التفسير بالضرورة إحالة اللفظ إلى شيء، بل يكفي إلى معنى. وقد يتحول المعنى إلى حركة. والحركة تُثير معانيَ جديدةً في النفس. وقد أحال إلى ذلك سيد قطب في كتابه: في ظلال القرآن. وقد بدأت مدرسة أمين الخولي ذلك، وخلف الله محمد خلف الله، ونصر حامد أبو زيد، فالنص القرآني قول أدبي. والكلام الإلهي كلام إنساني يتبع قواعد اللغة العربية وأساليب البلاغة. ورُوي في الأثر: «خير الأمور أوسطها.» وربما لا يظهر اللفظ ولكن يظهر المعنى بألفاظ وصور أخرى، مثل وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (الإسراء: ٢٩). فالتوسط هو أقوم سبيل وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (الإسراء: ١١٠). وكلُّ شيءٍ على قدر موزون وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (الحجر: ١٩)، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (الرحمن: ٧-٨). وهو يدعو إلى الهدوء والاستكانة، وتخفيف حدة الغضب، والصبر، والانتظار، كما في العبارات العامية: «ربنا يفرجها»، «خليها على الله»، «الكون له رب»، أو ما معناه أن ما من مولود يُولَد إلا ومعه رزقه وعمله، فقير أو غني، سعيد أو شقي. ومن ثَم تخفُّ ثورتُه، وتهدأ غضبتُه، ويطمئن كلُّ مواطن على ما معه. فيزداد الثبات الاجتماعي. وتبقى البنية الطبقية باسم الدين، والتقاليد، والتاريخ.

التوسط شيءٌ تقبله النفس في حين أن التطرف شيءٌ تعافه النفس. التوسط في الموسيقى هو الاعتدال والاتزان والانسجام، في حين أن التطرف هو الشذوذ المتنافر. والغريب أنه في بعض جوانب الموسيقى الغربية المعاصرة أصبح الشذوذ هو الانسجام. أما التوسط في الثقافة الدينية الدعائية فهو الحسن المطلق، والتطرف هو القبح المطلق. ومَن يدعو إلى التوسط فهو على الطريق المستقيم، ومَن يدعو إلى التطرف فهو الشاذ الذي يجب استبعاده.

ومع ذلك فالوسطية هي أحيانًا كلمةُ حقٍّ يُراد بها باطل. فالوسطية الصحيحة تبعث على راحة النفس، وتبعد من التطرف. وقد تكون راحة النفس عن قدرة مؤجلة. وقد تكون عن ضعف، حيلة العاجز. قد يكون الهدف منها القضاء على الصراع الاجتماعي، وإنهاء الصراع بين الحق والباطل. فليس كلُّ شيءٍ صحيحٍ له وسط. فلا وسطَ بين الغني والفقير إلا المساواة والعدالة الاجتماعية. ولا وسط بين الظالم والمظلوم إلا إحقاق العدل، وأخذ حق المظلوم من الظالم. والوسطية بين الغنى والفقر هي الطبقة المتوسطة التي تتعاون مع الأغنياء، وتقتسم المغانم معهم، ومع الفقراء لاستغلالهم كما يفعل الأغنياء؛ لذلك وُصفت بأنها انتهازية لا مبدأ لها إلا الإفادة من الجانبَين. والوسطية بين الظالم والمظلوم هي التعاون مع الظالم في ظلم المظلوم، وفي الوقت نفسه التعاون مع المظلوم في الثورة على الظالم، فهي إفادة من الطرفين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤