الوسطية العلمانية

يمكن الوصول إلى الوسطية عن طريق «الفكر الإسلامي العلماني» أو «الفكر الإسلامي الحداثي». فالعلمانية تقوم على قيم إسلامية، مثل: العقل، الحرية، الكرامة الإنسانية، العدالة الاجتماعية. كما أن الإسلام يقوم على مقاصد الشريعة: الحياة ضد القتل الفردي أو الجماعي كما يحدث في بعض أنحاء دول الربيع العربي؛ العقل ضد الجهل والأمية والغباء؛ الدين أي الحقيقة المطلقة والمبدأ العام ونسق القيم المعياري الأخلاقي ضد النسبية والشك والنفعية والبراجماتية؛ والعرض أي الكرامة الإنسانية التي لا يمكن انتهاكها، والمال أي الثروة الوطنية التي لا يمكن تبديدها أو سرقتها. والأحكام الشرعية أحكام وضع، أي تقوم على تقدير أوضاعها في العالم؛ فكل حكم شرعي له سببٌ وشرط ومانع، ويتحقق عزيمةً أو رخصةً، صحةً أو بطلانًا. والإسلام أيضًا في أصوله الاعتزالية الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والحسن والقبح العقليان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي مبادئ معرفية عقلية، التوحيد، وأخلاقية العدل، ومستقبله، والوعد والوعيد، وعلاقة الحاكم بالمحكوم. فالعلمانية على الرغم من أنها تطهِّر نفسَها من الأحكام الدينية المعرفية المسبقة، مثل العلة الأولى أو الثانية، ومثل القضاء أو القدر، إلا أنها تقع في أحكام مسبقة مضادة، مثل رفض كلِّ المبادئ الأولى للكون وإخضاعها لنظريات علمية كونية حول نشأة الكون وتناقص الطاقة من الاستهلاك.

استطاعت العلمانية أن تحرر العقل وتُطلق الفكر وتُوجِّهه نحو الأرض بدلًا من السماء، ونحو المادة بدلًا من الروح، وأن تبدأ بالمحسوسات قبل العقليات، وبالجزئيات قبل الكليات. كلُّ ذلك ساعد على إنشاء مفهوم الوسط بإيجاد الطرف الآخر المنسي من أجل التعادل بينهما.

وقد تطور الوحي من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام، من الدين القانوني إلى الدين الصوفي إلى الدين الاجتماعي. من الدين المغلق وهو اليهودية، إلى الدين المفتوح وهو المسيحية، إلى الدين الشامل بلا حدود وهو الإسلام. وهو دين بلا كهنوت وبلا مؤسسة دينية وبلا رجال الدين، وبلا سلطة دينية، الاجتهاد متاح لكل عالِم استوعب علوم الشرع. ولا سلطة هناك لأحد، بل اجتهادات متفرقة. للمخطئ أجر، وللمصيب أجران. وهو ما يطابق قانون الجدل من الموضوع إلى نقيض الموضوع إلى مركب الموضوع. وهو القانون الذي توصلَت إليه الفلسفة الغربية عند فيخته وهيجل، والذي يتحقق في مسار التاريخ. وظهور تأويلات صوفية لليهودية، مثل كتاب «الزوهار» وحركة «الأسينيين» التي كان منها يسوع المسيح، أو أخلاقية مثل يهودية باروخ سبينوزا، أو يهودية إصلاحية كجزء من حركة التنوير مثل موسى مندلسون وهرمان كوهين الفيلسوف اليهودي الكانطي من مؤسسي الكانطية الجديدة. ويستطيع قانون الجدل أن يفسِّر بدايةَ كلِّ حضارة ونهايتها؛ فأفلاطون المثالي الذي انشغل بعالم الماهيات والذي سمَّاه عالم المثل، انقلب مثال المثل إلى ضده عند أرسطو الذي انشغل بعالم الوقائع والتجارب والجزئيات. ثم أتت المدارس الخلقية التالية لأرسطو، الرواقيون والأبيقوريون، لتتوسط بين الاثنين وتتجه نحو الإنسان وعالم الأخلاق. وهو ما لاحظه ابن رشد أيضًا الذي كان يشعر بنهاية الفلسفة الإسلامية على يديه كما بدأت عند الكندي ثم الفارابي الموضوع، وابن سينا نقيض الموضوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤