الفصل الثاني

مشكاة البديهة

أدب وفلسفة وفروسية وسياسة

٦

لستُ أكتب هذه الصفحاتِ كما يَكتب المؤرِّخون، فأُتبِع اللَّواحقَ بسوابقها والنتائجَ بمقدِّماتها، بل إني أكتبها كما يَكتب الرحَّالة عن مُشاهداتهم أثناء الطريق، فليست وقفتي وقفةَ العالم وهو يُحلِّل موضوعه إلى عناصره، بقدر ما هي وقفةُ الأديب الذي ينطبع بالحوادث مِن حوله، فيَقُص على الناس ما قد أحسه في مَجرى شعوره الواعي؛ إنها أقربُ إلى وقفةِ هوسرل في تعقُّبه لظواهر الوعي عند إدراكه لما يُدركه، تعقبًا يهتم بوقع الشيء المدرَك في جملته، منها إلى وقفةِ ديكارت في ردِّه الإدراكَ إلى بسائط الحَدْس، أو وقفةِ هيوم في رجوعه بالإدراك إلى مُعطَيات الحواس؛ لا، ليس هو تحليلًا وتشريحًا ما أقصد إليه بهذه الصفحات، لكنه الأثرُ الذي يَخرج به المتفرِّج بعد مسرحية شَهِدها لتوِّه، وانصرف إلى داره يَستعيد الصوتَ واللون والحركة، وكيف كان وقْعُها على بصره وسمعه.

ومن يكتب عن الماضي أحدُ رجلَين: فإما هو رجل تعمَّد نسيان عصره وخبرته وأفكاره، ليكرَّ راجعًا إلى العصر الذي أراد الكتابةَ عنه، مُنخرِطًا في أهله كأنه واحد منهم، ينظر إلى الأمور بعينٍ كعيونهم، ويُقوِّم الأشياء بمعيارٍ هو نفسُه مِعيارهم، الْتِماسًا للإنصاف؛ وذلك لأن الناس في زمن لا يُطالَبون بالعيش في زمن آخر لم يَئِنْ أوانُه بعد، وإما هو رجل يَحمل معه خبرته كلَّها وأفكارَه كلها وظروفَ عصره هو؛ لِيَرجع إلى العصر الذي أراد الكتابةَ عنه، لا كتابةَ رجل يريد إنصافَ الناس بحكمه على مواقفهم من شئون دنياهم، فيَلبس لَبوسهم ويَحكم بأخلاقهم على سُلوكهم، بل كتابةَ رجل يريد أن يَنتفع في عصره القائم بما عساه واجِدُه من خيرٍ عند الأسلاف، فسواءٌ كان للأقدَمين أعذارُهم فيما قالوه وفعلوه أو لم يكن، فليس هذا مِن شأن صاحبنا هذا، وإنما هو كالوسيط في عالم التجارة، يبحث عند المنتِجين عن السِّلعة التي يَستطيع بيعها لزبائنه، فقد يَغُض نظرَه عن الجيد إذا علم أنْ ليس عنده مَن يشتريه، ويسعى وراء الرديء؛ لأنه السلعة الرائجة في سوق بيعه، بل إنه عند النظر إلى السِّلَع المعروضة لا يَكاد يفهم ماذا تَعني الجودة والرَّداءة؛ لأن الجودة والرداءة ليستا موضعَ نظره في هذه الحالة، إنما موضع نظره هو ماذا ينفع الناس في بلده، وماذا لا ينفعهم.

ولستُ هنا أُفاضِل بين الرجُلَين؛ فلكل منهما وجهةُ نظر ترتَّب عليها أسلوبُه في البحث، وكلُّ أسلوب يبحث به صاحبُه عن غايته هو أسلوبٌ صحيح إذا انتهى بصاحبه إلى تلك الغاية، فلا صوابَ هنا ولا خطأ إلا بالقياس إلى ما يَبتغيه الباحث، وإني لأُقرر عن نفسي أنني حين همَمتُ بهذه الرحلة في دنيا تراثنا الفكري، لم أجعل غايتي تقويمَ ذلك التراث، ومَن أكون حتى أُجيزَ لنفسي مثل هذا التقويمِ لتراثٍ كان بالفعل أساسًا لحضارةٍ شهد لها التاريخ؟ لكني جعَلتُ غايتي شيئًا آخر، أظنه مِن حقي إذا أردتُه، وهو البحث في تراثنا الفكري عما يَجوز لعصرنا الحاضر أن يُعيده إلى الحياة ليكون بين مقوِّمات عيشه ومكوِّنات وجهة نظره، وبهذا يرتبط الحاضرُ بذلك الجزء من الماضي الذي يَصلح للدخول في النسيج الحيِّ لعصرنا الذي يَحتوينا راضِين به أو مُرغَمين.

٧

عدتُ إذن بكلِّ أحمال عصري على كتفيَّ وفي شراييني وأعصابي، لأجِدَني قد وقفتُ أولَ ما وقفتُ عند هذه المعركة التي نَشِبَت على الخلافة بين عليِّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان؛ وقفتُ أنظر وأسمع، يأخذني العجَبُ مرةً والإعجابُ مرة؛ ذلك أني وجدتُ بين ما أراه وما أسمعه كثيرًا مما يَستحيل أن أجد له مكانًا في ثقافتي العامة مهما حاولتُ إقحامه عليها، وكثيرًا آخرَ مما تتقبَّلُه هذه الثقافة نفسُها وتتمثَّله كأنه أصلٌ أصيل من بِنائها.

وكان أميز ما يميز الموقف كلَّه عندي، هو أنه مُصطبِغ في جملته بشيء من الإدراك الفِطري المباشر، الذي يُصدِر أحكامه بغير لجوء إلى تحليل وبرهان، وإذن فهو مثل جيد لصِدْق ما زعَمتُه في الفصل السابق من هذا الكتاب، وهو أن أُولى مراحل الطريق متَّسِمة بضربٍ من عفوية النظر، ترى الفكر فيها وكأنه الومضات التي تَلمع، لا تدري كيف جاءت، لكنها — على كل حال — تُضيء وتَهدي.

وماذا تقول في موقف امتزَج فيه أدبٌ وفلسفة وفروسية وسياسة، امتزاجًا لا تستطيع معه أن تستلَّ عنصرًا منها لتُقيِّمه وحده بعيدًا عن سائر العناصر؛ فرجلُ السياسة هنا يُرسِل الرأي في عبارة مصقولة بحِسِّ الأديب، والأديب هنا يَصوغ العبارة بحكمة الفيلسوف، والفيلسوف هنا يَنتزع الحكمة ببَديهته الصافية والسيفُ في يده وعِنان جَواده في قبضته؛ فهو الأديب الذي جادَت عبارتُه إن شئت، وهو الفيلسوف الذي نَفِذَت بصيرتُه إن شئت، وهو الفارس الباسل المقدام المدرَّب على القتال إن شئت، ثم هو السياسي البارع بحيلته في حل ما تعقَّد من الأمر إن شئت؛ لأنه كلُّ هذه الأشياء معًا وفي آنٍ.

ولنقف — في هذا الصدد — وقفة عند الإمام عليٍّ رضي الله عنه؛ لننظر كم اجتمع في هذا الرجل من أدب وحكمة، وفُروسية وسياسة؛ ليكون وحده شاهدًا على ما قد زعَمْناه عن الروح التي تميَّز بها القرن السابع (الأول الهجري)، ومن هذا القطب سنظل نتَّجه بأبصارنا إلى يمين وإلى يسار، لِنُلمَّ بلمحات من أبطال ذلك الموقف الذي نحن واقفون الآن بإزائه، وعندئذ سوف تتكامل بين أيدينا قطعةٌ من نسيجٍ حي، هو هو حياة السلف في تلك الفترة من زمانهم، وهو هو ثقافتهم ووِجْهة أنظارهم، فإذا رأينا في أنفسنا — وهي ممتلئة ما تزال بزادها الفكري من عصرنا — إذا رأينا فيها ميلًا إلى جانب من المشهد دون جانب، كان ما تَميل إليه أقربَ إلى عصرنا، وبالتالي فهو أيسرُ مأخذًا وأولى بأن يُبعَث حيًّا في زماننا.

ونَجول بأنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام عليٍّ التي اختارها الشريف الرضيِّ (٩٧٠–١٠١٦م) وأطلَق عليها «نهج البلاغة»، لنقف ذاهِلين أمام روعة العبارة وعُمق المعنى، فإذا حاوَلْنا أن نُصنِّف هذه الأقوال تحت رءوسٍ عامة تجمعها، وجَدْناها تدور — على الأغلب — حول موضوعات رئيسية ثلاثة، هي نفسُها الموضوعات الرئيسية التي ترتدُّ إليها محاولاتُ الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء، ألا وهي: الله، والعالم، والإنسان، وإذن فالرجل — وإن لم يتعمَّدْها — فيلسوفٌ بمادته، وإن خالف الفلاسفةَ في أن هؤلاء قد غلب عليهم أن يُقيموا لفكرتهم نسَقًا يَحتويها على صورةِ مبدأ ونتائجه، وأما هو فقد نثَر القول نثرًا في دَواعيه وظروفه.

على أنَّ حِرفتي — وهي الأستاذية في الفلسفة — تَقتضيني هنا ألَّا أُرسل القول إرسالًا مهملًا بغير تحديد، فأقول — لأنبِّه القارئ إلى تمييز هام ومفيد — إن الفلسفة إنما تَجيء على أحد وجهَين، كثيرًا ما يُسمَّى أحدهما «بالحكمة» ليقتصر لفظ «الفلسفة» على الوجه الآخر، أما أول هذَين الوجهَين فهو ذلك الضرب من القول النافذ إلى صميم الحق، لكنه صادرٌ عن تَجرِبة شخصية فردية حيوية عند قائله؛ ولذلك فهو أقربُ إلى التعبير الأدبي منه إلى التجريد الرِّياضي الذي نَعرِفه في النوع الثاني، ولك أن تُقارِن — مثلًا — بين كونفوشيوس أو بوذا من ناحية، وأفلاطون أو أرسطو من ناحية أخرى، فعندئذ ترى في الحالة الأولى خبرة شخصية فريدة نابِضة بحياة صاحبها، وترى في الحالة الثانية تعميماتٍ مجردةً قريبة من معادلات الجبر وأشكال الهندسة، لا تكاد تلمح فيها أثرًا من حياة صاحبها الحميمة، ومن الضرب الأول — ضربِ الحكمة — كان الإمام عليٌّ في ومضاته الفكرية.

لقد عرَفتُ «نهج البلاغة» في صدر الصِّبا، بل لعل الصواب هو أني عرَفتُه في أطراف الصِّبا الأولى، وبقيَتْ منه نغمات في الأذن، ثم أخذتُ أسمع بعد ذلك — كلما لمع خطيبٌ على منابر السياسة — قول الناس تعليقًا على بلاغة الخطيب: لقد قرأ نهج البلاغة وامتلأ بفصاحته، وها أنا ذا أُعيد القراءة هذه الأيام، فإذا النغماتُ قد ازدادت في الأذنَيْن حلاوة، وإذا العباراتُ كأنها أضافت طلاوةً إلى طلاوة، وأما محصول المعنى فلا أدري كيف انكمش أحيانًا وراء زُخرفه الكثيف.

كلا، لستُ أَعْني بزخرف الكلام هنا طِلاءً يُزيَّن به ليَخْفى على الناس هُزاله، بل أعني طريقةً في اختيار اللفظ الصُّلب العنيد، الذي لا يَقوى على تشكيله إلا إزميلٌ تُحرِّكه يد صَناع، وكان يُمكن للمعنى نفسِه أن يُساق في لفظٍ أيسرَ منالًا، فصنعة الفنان هنا شبيهة بصنعة المثَّال في الحضارة المصرية القديمة؛ يتخيَّر لتماثيله صُمَّ الجلاميد، فكأنما الكاتب هنا كالنحَّات هناك، أراد عملًا أقوى من الدهر دَوامًا وخلودًا، لكنني مع ذلك كلِّه أحسستُ في كثير من مواضع «النهج» أن صلابة اللفظ تُهيِّئني لاستجماع قوتي كلِّها قبل أن أهمَّ بحمل المعنى الذي قدَّرتُ له أن يتناسب مع لفظِه قوة، فإذا قوتي التي استَجمعتُها لم يُستنفَد منها إلا أقلُّها، وذهب معظمُها هباء.

اقرأ — مثلًا — خُطبته التي قالها يوم بُويِع في المدينة، وفيها يُخبِر الناس بما سوف تَئول إليه أحوالهم:

«ذمَّتي بما أقول رَهينة، وأنا به زعيم، إن مَن صرَّحَت له العِبَر عما بين يدَيْه من المَثُلات، حجزَتْه التقوى عن تقَحُّم الشبهات، ألا وإن بَليَّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعَث الله نبيَّه ، والذي بعثه بالحقِّ لتُبَلبَلُنَّ بلبلةً، ولتُغَربَلنَّ غربلة، ولَتُساطُن سوط القِدْر، حتى يعود أسفَلُكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلَكم، وليَسبقنَّ سابقون كانوا قصَّروا، وليُقصِّرن سبَّاقون كانوا سبَقوا … ألا وإن الخطايا خيلٌ شمُسٌ، حُمِل عليها أهلها، وخُلِعَت لُجمُها، فتَقحَّمَت بهم في النار، ألا وإن التقوى مَطايا ذُلُل، حُمِل عليها أهلها، وأُعطُوا أزِمَّتها، فأوردَتْهم الجنة؛ حقٌّ وباطل، فلئن أَمِر الباطلُ لقديمًا فعَل، ولئن قلَّ الحق فلرُبَّما ولعل، ولَقلَّما أدبر شيءٌ فأقبل.»

هذا مثَلٌ أسوقه، وإني لأدعو القارئَ أن يتخيَّل نفسه كما لو كان واحدًا من أهل المدينة آنَذاك، وجلس مع الجالسين لِيَستمع لأمير المؤمنين يوم بيعتِه، فبأيِّ معنًى راسخ يترك مكانه بعد أن سمع الخطاب؟ إن اللفظ هنا — بالنسبة إلينا نحن أبناءَ هذا العصر — قد نُحِت من حجَر صوَّان، وصُفَّ بعضُه إلى بعض صفًّا عجيبًا، فإذا استمَعْنا إليه، خيل إلينا أنه قد قُصِد لذاته لا لِيَلفِت السمع إلى معنًى وراءه، فترانا قد شُغِلنا به هو، نَعجَب لقوته وبراعةِ تركيبه، لكننا لا نَكاد نَنفُذ منه إلى شيء وراءه.

ليس هذا نقدًا لبلاغة «النهج»؛ فبلاغته مقطوعٌ بها، لكنني أردتُ الإشارة إلى الاختلاف البعيد بين ثقافتَين؛ ثقافتنا اليوم، وثقافتهم بالأمس، كانت صياغة اللفظ عندهم هي الهدفَ وهي الوسيلة، فإذا أجاد صائغُ الكلام صوغَ كلامه فقد فرَغ من مهمته، وأما اليوم فقد حلَّت — أو كان ينبغي أن تَحُل — محلَّ الصياغة اللفظية المحكَمة، صياغةٌ رياضية محكَمة لقانون عِلمي يمكن استخدامُه في تسيير مَرْكبة أو استِنْبات زرع أو تحلية ماء من البحر الأُجاج.

وحذارِ أن نَخلط هنا أمرًا بأمر، إننا لا نقول إنَّ عليًّا — رضي الله عنه — كان يَنبغي له يوم بُويِع أن يُقدِّم للناس بَرنامجًا قوامه تخطيطٌ عِلمي بُنِي على صيغ رياضية دقيقة، بل نقول: إن فكر المفكِّر هنا قد اعتمَد على بداهة الفِطرة، ولا بد أن يكون مِعيارُ النبوغ عندئذٍ بين الناس هو حظَّ الرجل من تلك البداهة الفطرية، ولما كانت عبقريَّة العرب الأصيلة في لسانها، كان نبوغُ النابغ مَشروطًا عندهم بالقدرة على الصياغة اللفظية، أمَّا وقد تبدل العصرُ غيرَ العصر، وتغيَّر المعيار حتى أصبح النابغُ يُقاس بالقدرة على الصياغة الرِّياضية للقوانين العِلمية، فلم يَعُد ذلك الجانبُ من تراثنا مطلوبًا لحياتنا، دون أن يَحُد ذلك مقدارَ شعرة من قيمته الفنية الأثرية، أئذا أعجبَتْني عمارةُ الهياكل في معابد المصريين القدماء، وراعَتْني فخامةُ بنائها وشموخُ عُمُدِها وجَبَت عليَّ عبادتُهم وصلاتهم؟!

٨

على أن بلاغة «النهج» وحكمته، لم يَكونا إلا خيطَين من رُقْعة مُتشابِكة الخيوط هي التي أرَدْنا تصويرها؛ لنصوِّر بها رؤيتنا للمرحلة الأولى من مراحل العقل على طريق تراثنا الفكري، وأما ما قصَدتُ إليه من هذه الرقعة المتشابكة الخيوط فهو أول صراع دار حول الخلافة، بين عليٍّ ومعاوية، لنرى بأعيُنِنا مشهدًا تجسَّد فيه تراثنا من نواحٍ كثيرة، فهو مشهد اجتمعَت فيه فصاحةُ العرب إلى شجاعتهم، كما ظهرَت فيه أساليب الدهاة من ساستهم، وثبتَت فيه بُذورٌ أُولى لأفكار سياسية ومذهبية، كان لها بَعد ذلك أقوى الأثر في توجيه التيارات الفكرية، وكل خيط في هذه الرقعة التي تشابكَت خيوطها هو «تراث»، فإذا أحسَسْنا نحن المشاهدين استِحْسانًا هنا ونفورًا هناك، إذا أيَّدنا رجلًا ضد رجل، وفكرةً على حساب فكرة، كان ذلك دليلًا أقوى الدليل على أن بعض التراث صالحٌ لنا دون بعض، وأن طلاسم السحر التي أحَطْنا بها كلمة «التراث» حتى أوشكَت على التقديس، يجب أن تُفَك لتبصر عيونُنا أين ما يَصلح من التراث لنُحيِيَه وأين ما لا يصلح لحياتنا فنوكل أمره إلى رجال التاريخ.

ونبدأ القصة مِن بدايتها فنقول: إنه بعد أن بُويِع عليٌّ في المدينة بعد مقتل عثمان، رفض العثمانيةُ (أتباع عثمان) تأييدَ البيعة، وما هو إلا أن أخَذ رجل منهم أصابعَ نائلة (امرأة عثمان) التي قُطِعَت وقميصَ عثمان الذي قُتِل فيه، وقصد إلى الشام، حيث كانت ولايةُ البلاد لمعاوية، فكان معاوية يُعلِّق قميص عثمان وفيه الأصابع، فإذا رأى ذلك أهلُ الشام ازدادوا غيظًا، وأرادوا الثأر لعثمان. وكان كلما رفَع معاويةُ القميص والأصابع، وفتَر الناسُ عن طلب الثأر، حرَّضه عمرُو بن العاص أن يُعيد القميص والأصابع إلى الأنظار، قائلًا له: حَرِّك لها حُوارها تحنَّ، فيُعلِّقها.

وهكذا بقي أهل الشام، بولاية معاوية، على قلقٍ استبَدَّ بهم، يرفضون أن يُبايَع للمؤمنين أميرٌ بعد عثمان، إلا إذا أُخِذ القصاص من قتَلتِه، وقد حدث أن بُويِع عليٌّ في المدينة، فبعَث بمن يتولى إمارة الشام، لكن هذا المبعوث لم يكَدْ يدخل أرض الشام حتى اعترضَتْه جماعةٌ من الفرسان من أتباع معاوية.

قالوا: مَن أنت؟

قال: أمير.

قالوا: على أيِّ شيء؟

قال: على الشام.

قالوا: إن كان بعثَك عثمان فأهلًا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع.

قال: أوَما سمعتم بالذي كان؟

قالوا: بلى.

رفض أهلُ الشام تحت إمرة معاوية بيعةَ عليٍّ، وعاد مبعوثُه إليه يُنبئه بما حدث، فرأي عليٌّ كأنما فتنة كالنار على وشك أن تلتهب، لكنه أمسَك إلى حين، وأرسل رسولًا إلى معاوية يَطلب منه الطاعة، فاستخفَّ معاويةُ أمر الرسول، وتمهَّل، ثم أرسل بدَوْره رسولًا إلى عليٍّ، ودفَع إليه طومارًا مختومًا عُنوانه: من معاوية إلى عليٍّ، وأعاد رسولَ عليٍّ معه، وقد أوصى معاويةُ رسولَه أنه إذا دخل المدينة رفَع الطومار لِيَراه الناس، وقد فعل، فتبعه الناس ينظرون إليه، وعلموا أن معاوية مُعترِض على بيعة علي، ودخل الرسول على عليٍّ فدفَع إليه الطومار، ففضَّ خَتْمه فلم يجد فيه كتابًا.

قال علي: ما وراءك؟

أجاب: آمِنٌ أنا؟

قال علي: نعم، إن الرسول لا يُقتَل.

قال: ورائي أني تركتُ قومًا لا يرضَوْن إلا بالثأر.

قال علي: ممن؟

قال: مِن خيط رقبتك، لقد ترَكتُ ستِّين ألف شيخ تَبكي تحت قميص عثمان، وهو منصوب لهم، قد ألبَسوه مِنبَر دِمَشق.

قال علي: أمِنِّي يطلبون دم عثمان؟ ألستُ موتورًا كتِرَة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان! نجا والله قتَلةُ عثمان إلا أن يشاء الله؛ فإنه إذا أراد أمرًا أصابه، اخرُج!

قال: وأنا آمن؟

قال علي: وأنت آمِن (راجع الكامل لابن الأثير، ج٣).

ورأى عليٌّ أن لا مفر مِن القتال مع معاوية، فما إن فرَغ من حربه مع عائشة وطلحة والزبير في وقعة الجمل عند البصرة، وقد كان هؤلاء خرَجوا على بيعته، حتى انصرف إلى الكوفة لِيَنظر في أمر معاوية، يرسل إليه الرسل أولًا؛ ليرى ماذا يكون مِن أمره قبل أن يُغامِر في قتاله، فلما قدم رسولُ عليٍّ على معاوية، ماطَلَه هذا واستنظرَه، ثم قرر أن يتأهَّب للقتال، ملزِمًا عليًّا دمَ عثمان؛ بدعوى أن عليًّا قد آوى القاتلين.

كان الرجل الذي يشير على معاوية ماذا يفعل وماذا يقول وكيف يَكيد، هو عمرو بن العاص، هذا السياسي الداهية، الذي كان فيما يَفعل ساعيًا لدنياه دون آخرته، ولقد قالها صراحةً مرتَين؛ قالها مرةً لولدَيه إذ هُم في طريقهم إلى دمشق بعد بيعة عليٍّ، وقالها مرة أخرى لمعاوية حين لقِيَه في دمشق فأعرَض عنه معاوية، فواجهه عمرٌو بالعتاب: «والله لعجب لك! إنني أَرفِدك بما أرفدك وأنت مُعرِض عني، أما والله إنْ قاتَلْنا معك نطلب بدم الخليفة، إنَّ في النفس من ذلك ما فيها، حيث تُقاتل مَن تعلم سابِقتَه وفضله وقَرابته، ولكنا إنما أرادنا هذه الدنيا»، وإني لحريص على أن يَلتفت القارئ إلى عمرٍو في هذا الموقف بكل ما اكتنَفه من مَكيدة وتدبير، وأن يَذكر منذ الآن أن عَمرًا هذا، في موقفه هذا، هو جزء من تراثنا، كما أن عليًّا جزءٌ آخر، ومعاوية جزءٌ ثالث، فلئن كان أحدُ الثلاثة تُسيِّره خشيةُ الله بما تَستلزِمه هذه الخشية مِن مُثل عُليا في النوايا والسُّلوك، فاثنان تُسيِّرهما الرغبة في الدنيا وما فيها من جاهٍ وسلطان.

ولن نُضيع وقت القارئ في ذكر تفصيلات وقعة صِفِّين بين الفريقَين؛ فذِكْرها تمتلئ به كتب التاريخ، وما إلى كتابة التاريخ قصَدْنا، ولسنا مِن رجاله، وإنما نَذكر ما نذكره هنا لنضعَ العناصر الأساسية لصورة كانت هي الإطارَ الذي تجسَّد فيه الطابَعُ الذي يُميِّز الفكر العربي في أُولى مراحله، وأعني الركون إلى حُكم الفطرة بغير تدليلٍ ولا تحليل ولا برهان، وهي صورة — كما أسلَفْنا القول — امتزَج فيها الأدبُ بالحكمة، ثم امتزج هذان معًا بفُروسية وسياسة.

بحَث عليٌّ لعسكره عن موضع يَنزل فيه بحيث يتمكَّنون من ماء الفُرات، لكن معاوية كان قد سبَق فنزل منزلًا اختاره بسيطًا واسعًا أفيَح، وأخذ شريعةَ الفُرات، وليس في ذلك الصُّقع شريعةٌ غيرها، وجعَلها في حيِّزه، فطلب أصحابُ عليٍّ شريعةً غيرها فلم يجدوا، فأتَوْا عليًّا فأخبروه بعطشِ جنوده، ولا ماء إلا ما كان في حوزة معاوية ورجاله، وأشار المشيرون على معاوية ألا يُخلِّي بين عسكر عليٍّ وبين الماء حتى يَموتوا عطشًا: «امنَعْهم الماء كما منَعوه ابن عفان، اقتُلهم عطشًا قتَلَهم الله!»

لم يكن عندئذٍ بدٌّ أمام رجال عليٍّ من القتال في سبيل الماء أولًا، وألقى عليٌّ في ذلك خُطبة يُقوِّي بها عزيمةَ رجاله، جاء فيها:

«رَوُّوا السيوف من الدماء، تَرْوَوْا من الماء؛ فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهِرين، ألا وإن معاوية قاد لُمَّةً من الغُواة، وعمَّس عليهم الخبر، حتى جعَلوا نحورهم أغراضَ المنيَّة.»

بدأ القتال بين الفريقَين؛ أهل العراق تحت راية عليٍّ في ناحية، وأهل الشام بإمْرة معاوية في ناحية أخرى، وإنهم ليَقتتلون آنًا، ثم يتَبادلون الرسُل آنًا، في مُبارَزات ومحاورات شهدَت ضروبًا أسطورية من الفروسية، ونماذجَ رائعة من الأدب، ولا بأس هنا مِن الوقوف بالقارئ لحظةً لِنَعرض عليه أمثلةً من حوارهم البليغ، الذي كانت عبارته تَنطوي على سياسة بارعة ودَهاء (راجع ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، ج١).

فلما حلَّ شهر المحرم من سنة سبع وثلاثين للهجرة، جرَت مُوادَعةٌ بين عليٍّ ومعاوية؛ توادَعَا على ترك الحرب بينهما حتى يَنقضيَ المحرَّم؛ طمعًا في الصلح، واختلفَت بينهما إبَّان تلك الفترة الرسلُ؛ من هؤلاء كان عَدِيُّ بن حاتم مبعوثًا من عليٍّ فجرى بينه وبين معاوية حوارٌ هذا بعضه:

عدي : إنا أتيناك نَدْعوك إلى أمر يَجمع الله به كلمتَنا وأمتنا ونحقن به الدماء، ونُصلِح ذات البَين؛ إن ابن عمِّك سيدُ المسلِمين، أفضَلُها سابقةً وأحسنُها في الإسلام أثرًا، وقد استجمَع له الناس، ولم يبقَ أحدٌ غيرك وغير مَن معك، فاحذر يا معاويةُ لا يُصِبك وأصحابَك مثلُ يوم الجمل!
معاوية : كأنك إنما جئت متهددًا، لم تأتِ مصلِحًا … لقد دعَوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتُم إليها فمعَنا هي، وأما لطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها؛ لأن صاحبكم قتَل خليفتنا وفرَّق جماعتنا وآوى ثأرنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يَقتله، فنحن لا نردُّ عليه ذلك، فلْيدفَع إلينا قتَلة عثمان لنقلتهم، ونحن نُجيبكم إلى الطاعة والجماعة.

وبعث معاويةُ بدَوره إلى عليٍّ حبيبَ بن مَسْلَمة:

حبيب : إن عثمان كان خليفةً مَهديًّا، يعمل بكتاب الله ويُنيب إلى أمره، فاستثقَلتُم حياته، واستبطَأتم وفاته، فعدَوْتم عليه فقتَلتموه، فادفع إلينا قتَلة عثمان إن زعَمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يُولُّونه مَن أجمَعوا عليه.
عليٌّ : ما أنتَ وهذا الأمر؟ اسكت؛ فإنك لست هناك، ولا بأهلٍ له.
حبيب : والله لتَرَينِّي بحيث تَكره!
علي : وما أنت؟! لا أبقى الله عليك إن أبقيتَ علينا! اذهب فصَوِّب وصعِّدْ ما بدا لك!

فلما انسلخ شهرُ المحرَّم، خرج معاويةُ وعمرُو بن العاص، يُكتِّبان الكتائب ويُعبئان الناس، وكذلك فعَل عليٌّ أمير المؤمنين، وقد أوصى جنودَه بهذه الوصية الآتية التي اجتمَع فيها خلق الإسلام في أرفع مداركه:

«لا تُقاتِلوهم حتى يُقاتلوكم؛ فأنتم بحمد الله على حُجَّة، وتركُكم قتالَهم حُجة أخرى، فإذا هزَمتموهم فلا تَقتلوا مُدبِرًا، ولا تُجهِزوا على جريح، ولا تَكشفوا عورة، ولا تُمثِّلوا بقتيل، وإذا وصَلتم إلى رحال القوم، فلا تَهتِكوا سترًا، ولا تَدخلوا دارًا، ولا تأخذوا شيئًا من أموالهم …»

وبعد قتالٍ فيه المبارزةُ بين قِرْن وقِرنه، وفيه اللقاء بين جماعة وجماعة، لاحَت لمعاويةَ وعمرٍو الدلائلُ القاطعة بأن الهزيمة لاحقةٌ بهما، فعدَلا عن القِراع إلى الخِداع، ولا عجَب، فهنالك كان الرأيُ لعمرِو بن العاص، الذي ورَد في نهج البلاغة قول ابن أبي طالب فيه:

«… إنه ليقول فيَكذب، ويَعِد فيُخلِف، ويُسأَل فيَبخل، ويَسأل فيُلحِف، ويخون العهد، ويقطع الإلَّ (الإلُّ: القرابة، وقطعُ الإلِّ هو قطع الرَّحِم)، فإذا كان عند الحرب، فأيُّ زاجرٍ وآمرٍ هو، ما لم تأخذ السيوف مآخِذَها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يَمنح القِرْمَ سُبَّته (يولِّي الأدبار)، أمَا والله إني ليَمنعُني من اللعب ذكرُ الموت، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيانُ الآخرة، إنه لم يُبايِع معاويةَ حتى شرَط أن يُؤتيَه أتِيَّة (الأتيَّة: العَطيَّة).»

نقول: إنه لما لاحَت علامة الهزيمة لمعاوية وعمرٍو، وأشار عمرٌو على سيده باللجوء إلى الخديعة، خرَج رجلٌ من أهل الشام فنادى: يا أبا الحسن، يا عليُّ، ابرز إليَّ! فخرج إليه عليٌّ.

الرجل : إن لك يا عليُّ لقَدمًا في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أَعرِضه عليك، يكون فيه حقنُ هذه الدماء؟
علي : وما هو؟
الرجل : تَرجع إلى عِراقك، فنُخلِّي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا، فتُخلِّي بيننا وبين الشام.
علي : … إن الله — تعالى ذِكرُه — لم يرضَ من أوليائه أن يُعصى في الأرض وهم سكوتٌ مُذعِنون، لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، فوجدتُ القتالَ أهونَ عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنم.

أيقن معاويةُ أن قد سُدَّت أمامه المسالك، فسأل عمرَو بن العاص ماذا يرى ولم يَعُد مِن الهزيمة مهرب؟ فأجابه السياسيُّ الداهية، الذي لم يتورَّع — كما قال عنه عليٌّ في عبارته التي أسلفناها — أن يُقيم سياستَه على خداع:

عمرٌو : إن رجالَك لا يَقومون لرجاله، ولستَ مثله؛ هو يُقاتلك على أمر، وأنت تقاتله على غيره، أنت تُريد البقاء، وهو يريد الفناء، وأهل العراق يَخافون منك إن ظَفِرت بهم، وأهل الشام لا يَخافون عليًّا إن ظفر بهم، ولكن ألْقِ إلى القوم أمرًا: إن قَبِلوه اختلَفوا، وإن ردُّوه اختلفوا؛ ادْعُهم إلى كتاب الله حكَمًا فيما بينك وبينهم؛ فإنك بالِغٌ به حاجتَك في القوم.
معاوية : صدقت.

فما هو حتى أصبح الصباح، فإذا الناس يرَوْن المصاحف قد رُبِطَت في أطراف الرماح، وقد استقبَلوا عليًّا بمائة مصحف، ومَيمَنة جيشه بمائتَيْ مصحف، وميسرته بمائتَين فكان عدد المصاحف المرفوعة على أسِنَّة الرماح خَمسمائة، ثم قام المنادون ينادون في عليٍّ وجيشه: يا معشر العرب! اللهَ الله في النِّساء والبنات والأبناء، من الروم والأتراك وأهل فارس غدًا إذا فَنِيتم! اللهَ الله في دينكم! هذا كتابُ الله بيننا وبينكم!

فحدَث ما توقَّعه عمرُو بن العاص، وهو أنْ دبَّ بين جماعةِ عليٍّ دبيبُ الخلاف، فأما عليٌّ نفسه، فابتهل إلى ربه قائلًا: «اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتابَ يريدون، فاحكم بيننا وبينهم، إنك أنت الحكَم الحقُّ المبين»، وأما أصحاب عليٍّ فطائفةٌ منهم قالت: القتال، وطائفة أخرى قالت: المُحاكَمةَ إلى الكتاب، ولا يَحِل لنا الحربُ وقد دُعينا إلى حُكم الكتاب — وعند ذلك بطلَت الحرب ووضَعَت أوزارها.

٩

وفي خليط شديد من الحركة والصوت، أخذَت صيحات الرجال تَعلو من كل جانب، تدعو إلى الموادَعة، فخطب عليٌّ في الناس لِيَردهم إلى صواب:

«أيها الناس! إني أحَقُّ مَن أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرَو بن العاص ومَن معهما ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني أعرَفُ بهم منكم، صَحِبتُهم صغارًا ورجالًا، فكانوا شرَّ صغار، وشرَّ رجال، ويحَكم! إنها كلمةُ حق يُراد بها باطل! إنهم ما رفَعوها لأنهم يَعرِفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعِدَكم وجَماجمكم ساعةً واحدة؛ فقد بلَغ الحق مقطَعه، ولم يبق إلا أن يُقطَع دابرُ الذين ظلموا.»

فجاءه مِن أصحابه زُهاء عشرين ألفًا، مُقنَّعين في الحديد، شاكي سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودَّت جِباهُهم من السجود — وبعضُ هؤلاء هم الذين صاروا خوارجَ فيما بعد — فنادَوْا عليًّا باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا عليُّ! أجِب القوم إلى كتاب الله إذ دُعيتَ إليه، وإلا قتلناك كما قتَلْنا ابن عفان، فوالله لنفعَلنَّها إن لم تُجِبهم!

فقال لهم: ويحكم! أنا أول مَن دعا إلى كتاب الله، وأول مَن أجاب إليه، وليس يَحِل لي، ولا يسَعُني في ديني أن أُدْعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إني إنما قاتلتهم لِيَدينوا بحُكم القرآن، فإنهم قد عصَوُا الله فيما أمرهم، ونقَضوا عهده، ونبَذوا كتابه، ولكني قد أعلَمتُكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العملَ بالقرآن يُريدون.

وكان قائدٌ من قواد عليٍّ ساعتَئذ في قلب معركة مع جند معاوية، وهو الأشْتَر، وقد أوشك على نصرٍ حاسم، فأصرَّ هذا الفريق الداعي إلى التحكيم، أن يَبعث عليٌّ في طلب الأشترِ من موقعه مِن ميدان القتال، فأرسل عليٌّ رسولًا ليأتيَه بالأشتر فقال الأشترُ للرسول: قل له ليس هذه بالساعة التي ينبَغي لك أن تُزيلَني عن موقفي، إني قد رجَوتُ الفتح فلا تُعجِلْني.

ولم يكَدِ الرسولُ يبلغ مكان عليٍّ لِيُبلغه إجابة الأشتر، حتى علَت أصوات المعركة، وبدا الأمر كأنما الشتر بجيشه قد ظفر بالنصر، فأحاط المعارضون بأمير المؤمنين:

قالوا: والله ما نراك أمرته إلا بالقتال.

قال: أرأيتُموني سارَرتُ رسولي إليه؟ أليس إنما كلَّمته على رءوسكم علانيةً وأنتم تَسمعون؟!

قالوا: فابعث إليه فلْيأتِك، وإلا فوالله اعتزَلْناك، فبعث عليٌّ مرةً أخرى برسول يحمل الأشترَ على ترك المعركة والحضور إليه، وعلى مضَض استجاب الأشتر، ولم يكَد يبلغ مكان أمير المؤمنين ومَن الْتفُّوا به يُعارضون المضيَّ في القتال، حتى صاح في غضب: يا أهل الذل والوهن! أحين علَوتُم القوم، وظنُّوا أنكم لهم قاهرون، رفَعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها! وقد والله ترَكوا ما أمر الله به فيها، وترَكوا مَن أنزلت عليه، فلا تُجيبوهم! … أمهِلوني عدوة الفرَس، فإني قد طَمِعت في النصر.

قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك.

قال: فحَدِّثوني عنكم، وقد قُتِل أماثِلُكم، وبَقِي أراذلكم، متى كنتم مُحِقِّين؟ أحين كنتم تقتلون أهل الشام؟! فأنتم الآن حين أمستكم عن قِتالهم مُبطِلون! أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال مُحقُّون؟! فقَتْلاكم إذن الذين لا تُنكِرون فضلهم، وأنهم خيرٌ منكم، في النار.

قالوا: دعنا منك يا أشتر! قاتلناهم في الله، وندَع قتالهم في الله، إنا لسنا نُطيعك فاجتَنِبْنا.

قال: خُدِعتم واللهِ فانْخدَعتم، ودُعيتم إلى وضع الحرب فأجَبتم، يا أصحاب الجِباه السود! كنا نظن صلاتكم زهادةً في الدنيا، وشوقًا إلى لقاء الله! فلا أرى فِراركم إلا إلى الدنيا من الموت …

فسبُّوه وسبَّهم، وضرَبوا بسِياطهم وجْهَ دابته وضرب بسوطه وجوهَ دوابِّهم، ثم كَفُّوا جميعًا لما أمَرهم عليٌّ أن يَكُفوا، وأطرَق هو لحظةً إلى الأرض، ثم قال في الناس معاتبًا: أيها الناس! إن أمري لم يزَل معكم على ما أحب، إلى أن أخذَت منكم الحرب، وقد والله أخذَت منكم وترَكَت، وأخذَت من عدوكم فلم تَترُك، وإنها فيهم أنْكى وأنهك، ألا إني كنتُ أمسِ أميرَ المؤمنين فأصبحتُ اليوم مأمورًا، وكنتُ ناهيًا فأصبحتُ منهيًّا، وقد أحبَبتُم البقاء، وليس لي أن أَحمِلَكم على ما تَكرهون.

وبعد أخذٍ وردٍّ بين أنصار عليٍّ، ثم بعد تبادُل الرسائل بين عليٍّ ومعاوية، اتفق الجميع على مبدأ تحكيم القرآن فيما هم فيه، فبعث عليٌّ قُراء من أهل العراق، وبعث معاويةُ قراء من أهل الشام، فاجتمَعوا بين الصفَّين ومعهم المصحف، فنظَروا فيه وتدارَسوا واجتمَعوا على أن يُحْيوا ما أحيا القرآنُ، ويُميتوا ما أمات القرآن، ورجع كل فريق إلى صاحبه، فقال أهل الشام: إنا قد رضينا واختَرْنا عمرَو بن العاص، وأما أهل العراق، ومنهم كان جيش عليٍّ (وهم الذين كانت منهم الفئة التي صارت خوارجَ فيما بعد) فقالوا: لقد رَضينا واخترنا أبا موسى الأشعري.

وها هنا حاول عليٌّ أن يحمل رجاله الذين اختاروا أبا موسى الأشعريَّ ليتكلَّم عنهم، على أن يَعدِلوا عن اختيارهم هذا، وأخذ يَعرض عليهم اسمًا بعد اسم؛ لعلهم يوافقون، لكنهم أصرُّوا على اختيارهم.

واجتمع الموفَدان، وأخذا في كتابة الوثيقة التي يكون عليها الموادَعة بين الفريقَين، فاقترح أن تبدأ هكذا:

«هذا ما تقاضى عليه عليٌّ أمير المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان …»

فقال معاوية: بئس الرجلُ أنا إن أقررتُ أنه أمير المؤمنين ثم قاتلتُه!

وقال عمرو بن العاص: بل نكتب اسمه واسم أبيه، إنما هو أميركم، فأما أميرنا فلا.

ثم انتهَت المجادلة بتنازُل عليٍّ عن ذكر إمرته في الوثيقة، فجاءت آخِرَ الأمر هكذا:

«هذا ما تقاضى عليه عليُّ بن أبي طالب ومعاويةُ بن أبي سفيان …»

فلما تم الكتاب، وشَهِدت فيه الشهود، قُرِئ على صفوفٍ من أهل الشام فرَضُوا به، لكنه لما قُرئ على صفوفٍ من جماعة عليٍّ، صاح منهم فتَيان قائِلَين: «لا حُكمَ إلا لله» … وما لبِثَت هذه العبارة أنْ سرَت في سائر الصفوف، فلم يَعُد يخلو صفٌّ منها من قائلٍ أو أكثر، يَصيحون: لا حُكم إلا لله، فنحن لا نُحكِّم الرجال في دين الله، لا حُكم إلا لله ولو كره المشركون، لا حكم إلا لله، يَقضي بالحق وهو خير الفاصلين.

وظن عليٌّ أولَ الأمر أن المعارِضين لوثيقة الموادعة، القائلين «لا حكم إلا لله»، قليلون لا يُعبَأ بهم، فما هو إلا أن سمع النداء يأتيه من كل ناحية: لا حكم إلا لله، الحكم لله يا عليُّ لا لك! لا نَرضى بأن يحكم الرجال في دين الله، إن الله قد أمضى حُكمه في معاوية وأصحابِه، أن يُقتَلوا أو يَدخلوا تحت حكمنا عليهم، وقد كنا زَللْنا وأخطأنا حين رَضينا بالحكَمَين، وقد بان لنا زلَلُنا وخطؤنا، فرجَعْنا إلى الله وتُبنا، فارجع أنت يا عليُّ كما رجعنا، وتب إلى الله كما تُبنا، وإلا بَرِئنا منك!

فقال عليٌّ: ويحَكم! أبَعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟!

كان هؤلاء هم مَن أُطلِق عليهم بعد ذلك اسمُ «الخوارج»؛ على أن فئة الخوارج هذه لم تكَد تُعلِن خروجها على التحكيم، حتى انقلبَت فيما بعدُ تيارًا سياسيًّا عميقًا، أخذ يتفرَّع فروعًا.

ونعود إلى عملية التحكيم كيف سارت، وإلامَ انتهت؛ فقد أخذ الحكَمان يتقارَعان الرأي بالرأي على مَسمع من الناس، وشاء دهاء عمرِو بن العاص أن يُقدِّم أبا موسى على نفسه في الكلام؛ تمهيدًا لمكيدة يُدبِّرها، فيقول له مثلًا: إنك صَحِبت رسول الله صلى الله عليه قبلي، وأنت أكبر مني سنًّا، فتكلمْ أنت، وكان مرمى الخديعة هو أنه إذا ما جاءت لحظة الخَلع، فيُعلن كلٌّ منهما خَلع صاحبه، تكون البدايةُ لأبي موسى، فيَخلع صاحبَه عليًّا، ثم يجيء دَور الكلام لعمرٍو، فيأبى … وذلك هو ما حدث.

عمرو : أخبرني ما رأيك يا أبا موسى؟
أبو موسى : أرى أن نَخلع هذَين الرجلَين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، يختارون مَن شاءوا.
عمرو : الرأي واللهِ ما رأيت.

وهنا يُعلن أبو موسى في الناس، قائلا: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يُصلِح الله به شأن هذه الأمة.

فقال عمرٌو: صدق! تقدم يا أبا موسى فتكلم.

وقام ليتكلم، فاعترضه ابنُ عباس قائلًا: ويحك! والله إني لأظنه قد خدَعك! إن كنتُما قد اتفقتُما على أمر، فقَدِّمه قبلك ليتكلَّم به، ثم تكلمْ أنت بعده؛ فإنه رجل غدار!

لكن أبا موسى لم يأبَهْ لتحذير ابن عباس، ومضى لِيُعلن في الناس: أيها الناس، إنا قد نظَرْنا في أمر هذه الأمة، فلم نرَ شيئًا هو أصلحُ لأمرها، ولا ألمَّ لشعثها من ألَّا تتباين أمورها، وقد أجمعَ رأيي ورأيُ صاحبي على خلع عليٍّ ومعاوية وأن يُستقبَل هذا الأمر، فيكون شورى بين المسلمين يُولُّون أمورهم مَن أحبوا، وإني قد خلعتُ عليًّا ومعاوية، فاستقبِلوا أموركم، ووَلُّوا مَن رأيتموه لهذا الأمر أهلًا.

فقام عمرو بن العاص ليُعلِن: إن هذا قد قال ما سمعتم، وخلَع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلَعه، وأُثبِت صاحبي معاويةَ في الخلافة؛ فإنه وليُّ عثمان، والطالبُ بدمه وأحقُّ الناس بمقامه.

١٠

مِن خدعة التحكيم انبثقَت دولة؛ هي الدولة الأموية، ومنها كذلك تفجرَت فلسفة للسياسة، بدَت بوادرُها في جماعة الخوارج ومَن عارَضوهم، أما الأولى فلا نقف عندها لأنها مِن شأن مَن رصَد نفسه لكتابة التاريخ، وأما الثانية فهي التي تَعنينا؛ لأنها مسألة فكرية تَعرض للعقل الإنساني في كل زمان أو مكان؛ إذ ما زال الناس إلى يومهم هذا مِن أواخر القرن العشرين، يسألون: لِمَن يكون الحكم؟ فلا يجد السؤالُ جوابًا يتفق عليه الجميع، وكان الخوارجُ في تاريخ المسلمين هم أولَ مَن طرحوا علينا هذا السؤال.

إن كاتب هذه الصفحات ليَأخُذه بهؤلاء الخوارجِ العجبُ آنًا والإعجابُ آنًا.

فأما العجب مِن الخوارج فمَصدره تَناقض في موقفهم عَجيب، وأما الإعجاب بهم فهو فيما انتهَوْا إليه من مبادئَ في سياسة الحكم، لو كان المسلِمون قد أخَذوا بها مُخلِصين، لكان لهم — في رأي هذا الكاتب — شأنٌ آخر، ومِن أهم تلك المبادئ أن الحُكم يكون لصاحب القدرة عليه لا للوارِثين ولا للأقوياء أو الأغنياء، وأنه لا يجوز أن يكون بين العقيدة والعمل بها فجوةٌ تَفصِلهما، فإذا آمَن إنسانٌ بفكرة على أنها الأصلح، وجب أن يَفْنى في سبيل تحقيقها.

ولنبدأ بما نراه في موقفهم مِن تناقض؛ فيمَ كان حثُّهم عليًّا أن يَقبل التحكيم حين رفَع معاويةُ ورجاله المصاحفَ على أطراف رِماحهم، حتى إذا ما قُبل التحكيم على نحوِ ما بيَّنَّا وانتهى إلى ما انتهى إليه، صاحوا: «لا حكم إلا لله» وتنكَّروا لِما أسفرَت عنه عملية التحكيم؟! ثم ما الفرق بين أن يَحتكم المحكَّمون للقرآن، وبين أن يكون الحكم لله؟!

ولقد كنتُ لِأرتابَ في قدرتي على فَهْم الموقف على حقيقته، لولا أني أقرأ لعليٍّ نفسِه في «نهج البلاغة» ما يدل على أنه هو الآخر كان في عجبٍ مِن تناقضهم، فلتقرأ له — مثلًا — هذه الخطبة، قالها بعد التحكيم:

«الحمد لله، وإن أتى الدهر بالخَطْب الفادِح، والحدَث الجليل … أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق العالِم المجرِّب، تورِث الحسرة، وتُعقِب الندامة، وقد كنتُ أمرتُكم في هذه الحكومة أمري، ونخَلتُ لكم مخزونَ رأيي، لو كان يُطاع لِقَصيرِ أمر! فأبَيتم عليَّ إباءَ المخالِفين الجُفاة، والمنابِذين العُصاة، حتى ارتاب الناصحُ بنُصحه، وضَنَّ الزَّنْد بقَدْحه، فكنتُ أنا وإياكم كما قال أخو هوازِن:

أمرتُكمُ أمري بمُنعرِج اللِّوى
فلم تَستبينوا النُّصح إلا ضُحى الغدِ.»

ثم لنقرأ هذه الخطبة لعليٍّ أيضًا:

«… قد كنتُ نهَيتُكم عن هذه الحكومة، فأبيتم عليَّ إباء المخالِفين المنابِذين، حتى صرَفتُ رأيي إلى هواكم، وأنتم مَعاشرُ أخِفَّاء الهام، سُفهاء الأحلام.»

وقيل: إن عليًّا أرسَل إليهم عبد الله بن عباس لِيُناظِرَهم في شأن موقفهم، فجرى بينه وبينهم هذا الحوار:

ابن عباس : ما الذي نقَمْتم على أمير المؤمنين؟
الخوارج : قد كان للمؤمنين أميرًا، فلما حكَّم في دين الله خرَج مِن الإيمان! فليَتُب بعد إقراره بالكفر نَعُد إليه.
ابن عباس : ما ينبغي لمؤمن لم يَشُب إيمانَه بشكٍّ أن يُقِر على نفسه بالكفر.
الخوارج : إنه حكَّم.
ابن عباس : إن الله أمر بالتحكيم في قتلِ صيدٍ، إذ قال تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فكيف في إمامةٍ قد أشكَلَت على المسلمين؟!
الخوارج : إنه حُكِم عليه فلم يَرْض.
ابن عباس : إن الحكومة كالإمامة، ومتى فسَق الإمام وجبَت معصيتُه، وكذلك الحكَمان لما خالفا نُبِذَت أقاويلهما.

ولم يكتفِ أمير المؤمنين ببعثة عبد الله بن عباس إليهم ليُحاجَّهم، بل لَقِيهم هو بنفسه لِيُواصل معهم الحِجَاج:

عليٌّ : ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفَعوا المصاحف قلتُ لكم: إن هذه مَكيدة ووهن، وأنهم لو قصَدوا إلى حُكم المصاحف لأتَوني، وسأَلوني التحكيم؟ أفتَعلمون أن أحدًا كان أكرهَ للتحكيم مني؟
الخوارج : صدَقْت.
عليٌّ : فهل تعلمون أنكم استَكْرهتُموني على ذلك حتى أُجِبْتم إليه، فاشترطتُ أن حُكمَهما نافذٌ ما حَكَما بحُكم الله، فمتى خالَفاه فأنا وأنتم من ذلك بُرآء، وأنتم تعلمون أن حُكم الله لا يَعْدوني!
الخوارج : اللهم نعَم … حُكِّمتَ في دين الله برأينا، ونحن مُقِرون بأنا كنا كفَرْنا، ولكنا الآن تائبون، فأقِرَّ بمثل ما أقررنا به، وتُب، ننهَضْ معك إلى الشام.
عليٌّ : أمَا تعلمون أن الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شِقاقٍ بين الرجل وامرأته، فقال سبحانه: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، وفي صيدٍ أُصيب كأرنب يُساوي نصف درهم، فقال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ؟
الخوارج : إن عَمرًا لما أبى عليك أن تقول في كتابك: «هذا ما كتَبه عبد الله عليٌّ أمير المؤمنين» … محَوتَ اسمك من الخلافة، وكتبت: «عليُّ بن أبي طالب» فقد خلَعتَ نفسك.

هكذا رَكِب الخوارجُ رءوسهم في مُناهضتهم لعليٍّ؛ يُحاجُّونه، لكنه حِجَاج مَن لا يريد الإذعان، فالعجب كلُّ العجب لهذه الفئة التي أعلنَت مبدأها السياسي في أن يكون الحكم للأصلح، بغضِّ النظر عن أي صفة أخرى فيه، فكان مبدأً قَمينًا أن يُقيم للحكم العادل بين الناس أقوى الأسس، ومع ذلك فقد كانت هذه الفئةُ نفسُها هي التي أظهرَت من العنَت وضيق النظر والاستبداد بالرأي ما لا يُقِره عقلٌ سليم.

فانظر إلى هؤلاء الناس وهم يَفتِكون فتكًا بمن خالفَهم في الرأي، كأنما كان الرأيُ السديد حَكْرًا لهم، فهذا هو رجلٌ مِن أتقى المسلمين عندئذ، وكان مِن أصحاب الرسول عليه السلام، هو عبد الله بن خَبَّاب، سمع بقُدوم طائفة من الخوارج إلى حيث كان يقيم، يتهدَّدون الناس بالقتل إذا لم يُساندوهم في الرأي، فخرج الرجلُ مع امرأته — وكانت حُبلى — خرَج مذعورًا، يُعلِّق مصحفًا حول عنقه، فبادَروه بالقول:

الخوارج : إن هذا الذي في عنقك ليأمُرنا بقتلِك.
ابن خباب : ما أحياه القرآن فأحْيوه، وما أماته فأميتوه!
الخوارج : … ما تقول في عليٍّ بعد التحكيم والحكومة؟
ابن خباب : إن عليًّا أعلمُ بالله، وأشدُّ توَقِّيًا على دينه، وأنفذُ بصيرة.
الخوارج : إنك لستَ تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم.

ثم قرَّبوه إلى شاطئ النهر، فأضجَعوه، فذبحوه، ثم دعَوْا بامرأته الحُبلى فبقَروا عما في بطنها!

فمَن ذا يُصدِّق أن هؤلاء أنفسَهم، ودماءُ قَتْلاهم لم تزَلْ على أبدانهم شاهدًا عليهم، رأَوْا نصرانيًّا ساعتَئذٍ يملك نخلة أرادوا شِراء ثَمرِها، فقال: هي لكم، فأجابوه في شموخ: ما كنا لنأخذها إلا بثمن! فقال النَّصراني: واعجَباه! أتقتلون مِثل عبد الله بن خبَّاب، ولا تَقبلون جَنى نخلةٍ إلا بثمن!

ألا إنه لتَناقُض يوشِك أن يَبلُغ في هؤلاء الناس حدَّ الفِصام، فكأنَّ جلودهم يَسكُنها روحان مُتبايِنان، تَظهر إحداهما لحظةً لِتَظهر الأخرى في اللحظة التي تَليها، فلا تدري في أي اللحظتَين يمكن أن تَراهم على حقيقتهم! ومن طريف أخبارهم التي تُبرِز ما فيهم من تناقض شديد، أنهم قد أصابوا في بعض طريقهم مُسلِمًا على خلاف مُعتقَدهم، ونصرانيًّا، فقتَلوا المسلم؛ لأنه عندهم كافر، وخلَّوْا سبيلَ النصراني؛ لأنه من أهل الذمة.

ومن هذا القبيل ما رُوي من أنَّ واصِلَ بن عطاء كان يَسير مع جماعة مِن رفاقه، فأحسُّوا بالخوارج، فقال واصلٌ لرُفقائه: دَعوني وإياهم.

الخوارج : ما أنت وأصحابك؟
واصل : قوم مُشركون مستجيرون بكم؛ لِيَسمعوا كلام الله ويَفهموا حدوده.
الخوارج : قد أجَرْناكم …
واصل : بل تُبْلِغوننا مأمنَنا؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ.
الخوارج : ذاك لكم.

فساروا معهم حتى أبلَغوهم المأمن.

إن هذه المجافاة لِمَنطق العقل التي نراها قد بلَغَت عند هؤلاء القوم ذروتَها، لَتَستدعي إلى أذهاننا ما يُوازن الصورةَ قبل أن نتسرَّع فنحكم بالخلل الفكري على العصر كلِّه، إذ يَستدعي إلى أذهاننا موقفًا من عليٍّ وقَفه في تلك الأيام نفسِها، وأظهر فيه من الاعتصام بأحكام العقل ما يجعله الرائدَ الذي نأتمُّ به ونُحيي تراثه في حياتنا الراهنة إذ رُوي عنه أنه لما همَّ بالخروج لمقاتلة الخوارج، اعترضه منجِّم، فدار بينهما هذا الحديث:

المنجِّم : يا أمير المؤمنين، لا تَسِر في هذه الساعة، وسِرْ على ثلاث ساعات مضَين من النهار؛ فإنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصحابك أذًى وضُرٌّ شديد، وإن سرتَ في الساعة التي أمَرتُك بها ظفرتَ وظهرت، وأصبتَ ما طلبت.
عليٌّ : أتدري ما في بطن فرسي هذه؟ أذكَرٌ هو أم أنثى؟
المنجم : إن حسَبتُ عَلِمت.
علي : مَن صدَّقَك بهذا فقد كذَّب بالقرآن؛ قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ … إن محمدًا صلى الله عليه ما كان يدَّعي عِلم ما ادَّعيتَ عِلمَه، أتَزعم أنك تَهدي إلى الساعة التي يُصيب النفعَ مَن سار فيها، وتَصرِف عن الساعة التي يَحيق السوءُ بمن سار فيها؟! فمَن صدَّقَك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جل ذكره في صَرْف المكروه عنه، وينبغي للموقن بأمرك أن يولِيَك الحمد دون الله جل جلاله … نُخالف ونَسير في الساعة التي نهَيتَنا عنها [ثم خاطب الناسَ قائلًا]: أيها الناس، إياكم والتعلُّمَ للنجوم إلا ما يُهتدَى به في ظلمات البر والبحر … [وعاد إلى مخاطبة المنجِّم] أمَا والله لئن بلَغَني أنك تعمل بالنجوم لأُخلِّدنك السجنَ أبدًا ما بَقيتُ، ولأَحرِمنَّك العطاءَ ما كان لي من سلطان.

ثم سار في الساعة التي نهاه عنها المنجِّم، فانتصر على مَن قاتلهم مِن الخوارج، فقال: لو سِرْنا في الساعة التي أمرَنا بها المنجِّم لقال الناس: سار في الساعة التي أمَر بها المنجِّم فظفَر وظهر، أما إنه ما كان لمحمدٍ صلى الله عليه منجِّم، ولا لنا مِن بعده، حتى فتح الله علينا بلادَ كِسرى وقَيصر، أيها الناس، توكَّلوا على الله، وثِقوا به؛ فإنه يَكْفي ممَّن سواه.

١١

لقد بسَطْنا كلَّ هذا الذي بسَطْناه عما دار في صِفِّين بين عليٍّ ومعاوية ومَن أحاط بهما من رءوس وأعلام، لنقف نحن مِن الصراع مُشاهِدين، نشاهد هؤلاء الرجال ومعنا نظرة القرن العشرين، لعلنا نستطيع أن نَزِن الموقف من ناحيته الفكرية، فإلى أي حد يَدخل منطقُ العقل في أفعال الرجال وردود أفعالهم؟ أم هل كانت الغلَبة في سلوكهم لدفعة الوجدان؟ وأحسبُنا فيما قد عرَضْناه من تفصيلات القتال وفيما تبادَله الجانبان من مُحاورة ومُداوَرة قد أحسَسْنا بكثير مِن الغرابة في مواقفَ لا نألفها بل لا نُسيغها في حياتنا الحاضرة، كما أحسسنا في الوقت نفسِه بحقيقة الإنسان التي ما زِلْنا نألَفُها في مُعاصِرينا قد تجلَّت فيما شهدناه، كأنما الإنسانُ هو الإنسان في تفكيره وتدبيره، وحيلته ودَهائه، لا فرق في ذلك بين أن يكون هذا الإنسانُ ممن عاشوا قبل المسيح أو بعد المسيح، أو عاشوا في صدر الإسلام، أو ما بعد الصدر إلى الظهور والأعجاز، حتى لقد عنَّ لي وأنا أكتب الصفحات السالفةَ أن أبدل أسماء بأسماء، فإذا الموقفُ في إطاره العام هو نفسُه الموقف الذي يتكرر في تاريخ البشر كلما اختصم رجلان على الحكم، فجنَّد كلٌّ من الرجلين أتباعًا وأشياعًا، ثم تلاقَيا في ساحة القتال أو لجَآ إلى وسائل المكر والدهاء والخديعة، مما يُسمَّى في قاموس السلوك البشري بكلمة «السياسة».

فأما وجه الغرابة التي لا نألَفُها في حياتنا المعاصرة، فهو هذا الجمع العجيب — والجميل — في رجلٍ واحد بين أن يكون هو الفارسَ الذي يُجيد القتال بسيفه وجَواده، وهو السياسيَّ الذي يُجادل ويقاول، وهو الأديبَ الذي يُحسِن صياغة اللفظ في أروعِ ما تكون الصياغة الأدبية. إن السياسي في يومِنا هذا قد تكون له موهبة الكلام خطابةً وكتابة، لكنه لا يُضيف إلى ذلك مهارة القتال وشجاعةَ المحارِبين، ثم لا يُضيف إلى هذا وهذا وذاك حِكمةَ الفلاسفة التي تَنزِع بصاحبها نحو ضمِّ الكون كله في أحكام موجزة مركَّزة، نافذةٍ إلى صميم الحق.

لكنِ اجمَعْ هذه الأطراف كلَّها في رجل، يَكُن لك عليَّ بن أبي طالب، فلئن كان الموقف في واقعة صفين — الذي اخترناه ليكون أولَ المواقف التي نُعايش فيها الأسلاف لننظر إليهم ثم نَحكم لهم أو عليهم — أقول: إنه إن كان ذلك الموقفُ قد دارت رَحاه حول عدة أقطاب لا حول قطب واحد؛ فهنالك عليٌّ في ناحية، ومعاويةُ في ناحية، وهنالك عمرُو بن العاص يُعاون معاويةَ بدهائه، وهنالك أوائل الخوارج يُعارضون عليًّا بتَناقُضهم في الفكر وبتزمُّتِهم في العقيدة، إلا أنني إذا اخترتُ واحدًا ليكون هو المرآةَ التي نُركِّز عليها أنظارَنا لنفهم تلك الحقبة الزمنية من حيث طرائقُ إدراكها لقلتُ: إنه عليٌّ وليس هو معاويةَ ولا عَمرًا ولا الخوارج، لماذا؟ لسببٍ بسيط يتصل بموضوعي وهدَفي، وهو أنَّ له كتابًا يُنسَب إليه، أعني «نهج البلاغة»، ولا شأن لي بعد هذا بتقويم الرجال لأرى مَن يكون منهم أعلى ومَن يكون أدنى، أو من يكون منهم على صواب ومن يكون على خطأ؛ لأن ذلك ليس هو ما أكتب فيه هذه الصفحات، وإنما شأني كلُّ شأني هو المرحلة الفكرية التي عاشوها، وطريقتهم في الإدراك والحُكم. ومِن ثَم يكون المعبِّر منهم عن فكرته في عبارة أجدها بين يديَّ، أصلَحُ لتركيز النظر ممن لم يهَبْه الله قدرة الإعراب عن نفسه إعرابًا يُمكننا نحن الخلَف من رؤية عقله في عبارته.

ولقد زعَمتُ في الفصل السابق أن المرحلة الإدراكية الأولى من مراحل تُراثنا الفكري، كان يَغلِب عليها طابَعُ الفطرة السليمة، التي تَحْدس الحقيقة حَدسًا نافذًا، يصل إلى الحكم العام بغير تحليلٍ لعناصره أو إقامة البرهان على صوابه، ولستُ أدري هل أحَسَّ القارئ ما أحسَستُه، ونحن نستعرض معًا ما تفاعل به المحاربون في واقعة صفين، من أن الرجل منهم كان يُمسِك بالفكرة المعينة وكأنه يُمسك بسيفه أو يَمتطي جَوَاده، أعني أن «الفكرة» عندئذٍ لم تكن نظريةً مجرَّدة، بل كانت أقربَ إلى أداةٍ من أدوات الحرب؛ ولذلك فقد تشابكَت الأفكار مع السيوف والجياد في نسيجٍ واحد، لا نُفرِّق فيه بين خيط وخيط.

وبعد ذلك فقلِّب معي صفحات الرائعة الأدبية التي تُسمَّى «نهج البلاغة» وقل لي: أين يَنتهي الأديبُ ليبدأ الفيلسوف؟ وأين ينتهي الفيلسوف الأديب ليبدأ الفارس؟ ثم أين ينتهي هذا ليبدأ السياسي؟ إنه لا فواصلَ ولا فوارق؛ ففي هذه المختارات خُطب ورسائلُ وأحكامٌ وحِجَاج وشواهدُ امتزج فيها الأدبُ بالحكمة، والحكمة بالأرْيَحيَّة، وهاتان بما نسميه اليوم سياسةً يَسوس بها الحاكمُ شعبه، أو يُداوِر بها المفاوِضُ خصمه ويُحاوره.

فلنقرأ للإمام عليٍّ هذه العباراتِ لنرى كيف صِيغَت الأحكام الفلسفية العامة في لفظ أخَّاذ:

– مَن ضاق عليه العدلُ فالجَور عليه أضيق.

– قلَّما أدبر شيءٌ فأقبل.

– كفى بالمرء جهلًا ألا يَعرف قدره.

– لسان الصدق خيرٌ من المال الموروث.

– ما غُزي قوم قط في عُقر دارهم إلا ذلُّوا.

– لا رأيَ لمن لا يُطاع.

– الوفاء توءم الصدق.

– ليس مَن طلب الحقَّ فأخطأَه كمن طلب الباطلَ فأدركه.

– المنجِّم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار.

– إنَّ أنصح الناس لنفسه أطوَعُهم لربه، وإنَّ أغشَّهم لنفسه أعصاهم لربه.

– ما كلُّ ذي قلبٍ بلبيب، ولا كل ذي سمعٍ بسميع، ولا كلُّ ناظرٍ ببصير.

– مَن عشق شيئًا أعشى بصرَه، وأمرض قلبَه.

– كم من منقوصٍ رابح، ومَزيدٍ خاسر!

– إنَّ يدَ الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشاذَّ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب.

– الحِكمة حياةٌ للقلب الميت، وبَصرٌ للعين العمياء.

– العامل بغير علم كالسائر على غير طريق.

وهاك أمثلة من طريقته في المناظرة والجدل؛ لترى كيف اجتمع عنده حِسُّ الأديب بذِهْن المفكِّر.

[لما نقَل إليه جماعةٌ من الناس أنباءَ السقيفة من مبايعة أبي بكر للخلافة.]

قال: ما قالت الأنصار؟

قالوا: قالت: منا أميرٌ ومنكم أمير.

قال: فهلا احتجَجْتم عليهم بأن رسول الله وصى بأن يُحسَن إلى مُحسِنهم، ويُتجاوَز عن مُسيئهم؟

قالوا: وما في هذا من الحُجَّة عليهم؟

قال: لو كانت الإمامة فيهم، لم تكن الوصية بهم … فماذا قالت قريش؟

قالوا: احتجَّت بأنها شجرة الرسول .

قال: احتجُّوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة.

وإن النصوص ليَطول بنا نقلُها إلى القارئ ما طال «نهج البلاغة»، فخيرٌ للقارئ أن يرجع إليه ليُطالِع نفسًا قد اجتمع فيها ما يُصوِّر عصرها من حيث الركونُ في إدراك حقائق الأمور، إلى سلامة السليقة، وحضور البديهة، وصدق البصيرة، بغير حاجة إلى تحليلات العقل وتعليلاته، ولا إلى طريقة المَناطقة في جمْع الشواهد وترتيب النتائج على المقدمات؛ فهذه كلها أمورٌ موعدُ ظهورها — في الأفراد وفي الجماعات وفي الثقافات والحضارات — إنما يكون في المرحلة الثانية من مراحل النمو، كما أشَرنا في الفصل السابق.

إذن فلننتقل إلى هذه المرحلة الثانية من مراحل النموِّ الثقافي كما نراه في تُراثنا الفكري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤