الفصل الثاني

انطلقت — في هذه اللحظة بالضبط — صَفَّارة ثاقبة، غطت على ضوضاء المرور والأصوات المبهمة التي ارتفعت من الجماهير المحتشدة على الأرصفة.

استجاب للإشارة مئاتُ المسلمين المتناثرين في المقاهي وأمام واجهات المحلات وفي الشوارع المجاورة للبولفار، فاكتسحوا قارعة الطريق، وتشكَّلت المظاهرة في دقائق. ومن تحت المعاطف، خرجت لافتاتٌ صُنعت على عجل. وبعيدًا، أخذ بعضهم يفرد لافتة «لا لحظر التجول». احتلت مجموعة من النساء الجزائريات — بزيِّهنَّ التقليدي — مقدمةَ المظاهرة، وهنَّ يطلقن أصواتًا حادة يسميها الفرنسيون «يو-يو».١ ودون أن يتوقفن عن الصياح، أخذن يحركن أوشحتهن — الذهبية الخطوط — فوق شعورهن. انضم إليهن متظاهرون آخرون كانوا ينتظرون في ممرات المترو. أصبحوا الآن أكثر من ألف جزائري يسدون مُلتقى طُرق بون نوفيل.

كان صاحب مقهى/مطعم «مادلين-باستيل» خبيرًا بأمسيات القلاقل؛ فلقد تحطمت واجهة مطعمه الزجاجية في مناسبتين: الأولى عام ١٩٥٦م، خلال حملة صحيفة «لومانيتيه» احتجاجًا على التدخل السوفيتي في المجر، والثانية في مايو ١٩٥٨م، أثناء مظاهرة قوى ديجولية أو مُعادية لهم، لم يعد يذكر بالضبط. وبمساعدة عمال البار وعشرات من رواد المكان، أدخل المقاعد، والموائد، ثم بدأ يضع شرائط عريضة من الورق اللاصق على الزجاج من الداخل. تقنية استخدمت خلال القصف وأثبتت كفاءتها. وأمامهم، أسدلت الجريدة — المجهزة على نحو أفضل — ستارة من الحديد على واجهتها.

هبط روجيه تيرو سلالم الشارع وقد شدت الهتافات انتباهه. شاهد مرور عديد من المسلمين، وميَّز — بوضوح — شعارًا أخذ يتردد — بصوت رنان — على بعد ثلاثة أمتار منه: «الجزائر جزائرية.»

هكذا إذن. لقد تجاسروا! وها هي الحرب — التي تمثلت حقيقتها الوحيدة — في نظر الغالبية العظمى من الفرنسيين، في سلسلة متناوبة من البيانات المصطنعة أو الخالية من المعنى؛ ها هي وقد تجسَّدت في قلب باريس. تقدَّم نحوه بواب العمارة وقد توقف عن تناول وجبته، والفوطة في يده: هذا لا يُطاق! يظنون أنفسهم في الجزائر. آمل أن يعود الجيش، ويطرد كل هؤلاء «الفلاقة».٢

– لا يبدون أشرارًا إلى هذا الحد، بل وهناك نساء وأطفال بينهم.

أسلوبهم هو السلب والنهب والذبح. وهم يستخدمون مومساتهم وأطفالهم في وضع القنابل. أتريد رأيي؟ يجب قتلهم جميعًا.

ابتعد روجيه تيرو وهو يشعر بالضيق. كان سعيد وأصدقاؤه أمام سينما «ركس»، وقد تفتت طابور انتظار «مدافع نافارون»، في حين انهمك عونة في فتح قفل الموتوسيكل المضاد للسرقة. وتحت، على بعد خمسمائة متر — في منتصف الطريق إلى الأوبرا — صدرت الأوامر إلى النقيب إرنو — من الفرقة الثالثة التابعة لقوات الأمن الجمهورية — بتفريق مظاهرة «بون نوفيل». كان على الفرقتين — الثانية والثالثة — تدعيم وحدة الحرس المنتقل المنتشرة بجوار الجسر، حيث أعلن عن وجود تجمعات كبيرة من «الفرنسيين المسلمين». اتجهت وحدات أخرى من الشرطة نحو ستالينجراد، وجار دي لاست، وسان ميشيل، وجهاز استقبال سيارة الاتصال لا يكف عن ترديد التعليمات: «حطموا الحركة. لا تترددوا في استخدام أسلحتكم عند الضرورة. كل رجل مفوَّض — في حالة الاشتباك الجسدي — في استخدام وسيلة الهجوم المضاد الملائمة.»

أخذ النقيب يحث رجاله على ركوب ناقلات «البرلييه» الزرقاء الليلية: لا تنسوا إحكام نظاراتكم. سنبدأ بالقنابل اليدوية. لكن الفرص مواتية — في هذه الريح — لأن نتلقى منها الكثير.

كانت الناقلات العكسرية فارغة. وقد نصت اللائحة على حصول ربع رجال الفرقة — فقط — على أسلحتهم في بداية الاشتباك؛ لكن هذا البند تأجل مؤقتًا؛ بل ووُزِّعت أربع بنادق قاذفات قنابل يدوية، وثماني بنادق آلية.

أطلق النقيب إرنو إشارة البدء. صعد طابور الناقلات — ومصابيحه مضاءة وصفارات الإنذار موقوفة عن العمل — بولفار مونمارتر وبولفار بواسونيير؛ دون مراعاة الاتجاهات الممنوعة. توقفت الناقلات في شارع سانتيي، وتجمعت قوات الأمن الجمهورية تحت لافتة شركة تأمين زيورخ. قام عشرات منهم بإخلاء السيارات التي تفصل بينهم وبين المتظاهرين. وعندما انتهوا من الأمر، شكَّلت ناقلات البرلييه حاجزًا يسد الطريق المرتفع تمامًا. تجمع آخرون خلف السيارات الواقفة. ومن هذا المخبأ المرتجل، ألقوا بأول قنابل مُسيلة للدموع، فبعثرتها هبة ريح فجائية دفعتها إلى الارتداد بالواجهات. أمر النقيب بوقف إطلاق القنابل، وجمع فرقته أمام مصابيح الناقلات. استقبل المتظاهرون إخفاق الهجوم البوليسي بالضحك. لكن بعضهم شعر بالقلق من رؤية حشد العساكر المُغطى — حتى الركبتين — بالجلد الأسود اللامع، وبالخوذات القاتمة التي يشقها خط معدني مصقول، ومن غياب الوجوه خلف كوة نظارات سائقي الموتوسيكلات. لم يسمح ضوء المصابيح الباهر بتمييز أسلحتهم. طبعًا كانت معهم المطارق الخشبية الطويلة — ضخمة مثل قبضة المِعوَل، وطويلة مثل المكانس — والعصي وأسلحة اللكم والركل القصيرة الوامضة.

فجأة، أخذ الظل الهائل يتحرك تصحبه صرخة طويلة، بطيئًا — في بادئ الأمر — ثم مسرعًا مع كل خطوة. بدا وكأن لا شيء سيوقفه خلال وثبته. ضاعف طرق الأحذية العسكرية — على الشارع المبلط — من هذا الإحساس باللعنة. بدت فرقة الأمن الجمهورية — التي انتظمت في الصف الأول — كعملاق هائل ينتفخ بالصدرية الواقية من الرصاص، والمدسوسة تحت المعطف الجلدي. لم يقاوم الجزائريون، وكأن الذهول سمَّرهم في مكانهم. كان ثمة إحساس بتردد حقيقي بين صفوفهم، وقد فات — الآن — أوان تنظيم أي دفاع. وكالبرق، فرضت الفكرة نفسها على الجميع؛ فتراجع الحشد — دفعةً واحدةً — نحو سينما «ركس»؛ حيث جرى الصدام. سقطت العصي على رءوسٍ عارية لم تنجح الأذرع والأيدي في حمايتها. طرح شرطي امرأة أرضًا وأخذ يوسعها ضربًا بكعب حذائه. كال لها سيلًا من الصفعات ثم ابتعد. أخذ آخر يضرب بعصاه صبيًّا — بكل قواه — في بطنه. أخذ يضرب بعنف إلى أن تحطم المقبض الخشبي. استمر في الضرب مستخدمًا الجزء الحاد منه، بينما ضحيته يمد يده ليحمي نفسه، ويحاول الإمساك باليد الخشبية. وسرعان ما أصبح عاجزًا عن التحكم في أصابعه المُهشَّمة.

دَوَّت انفجارات أمام حوض السباحة «نبتونا»، حيث توقفت سيارة بداخلها ثلاثة مخبرين يصوبون الرصاص — بعناية — على الهاربين، دون أن يخطئوا هدفًا واحدًا. وعلى بعد حوالي عشرين مترًا، احتمى عديد من المسلمين بسيارة «آريان» — لونها أحمر وأبيض — وقد امتلأت بآثار القذائف. شرع الناس يركضون في كل الاتجاهات وهم يصرخون، ويتعثرون — من شدة رعبهم — بالأجساد الملقاة على أرصفة المقاهي، وبين الموائد المقلوبة والأكواب المحطمة والملابس الملطخة بالدماء.

هنا حاصر الرصاص خيِّرة وسعيد، بينما رقد عونة طريحًا على الرصيف المقابل بالقرب من دراجته البخارية، ميتًا أو جريحًا. وتباعدت رشقات الرصاص، ساد الآن صمت تعكِّره حشرجات المحتضرين. مجرد هدنة. فقد أعادت قوات الأمن الجمهورية تنظيم صفوفها واستأنفت الهجوم. دفعت حركة الجموع المضطربة بخيِّرة نحو الصفوف الأمامية لتواجه إنسانًا آليًّا هائجًا يرفع مطرقته. جمَّدها خوف شرس تام قطع أنفاسها. شعرت بدمائها تنسحب — مرَّة واحدة — من وجهها. ورغم البرد، غمر العرق جلدها المرتجف. لم يعد باستطاعتها إبعاد عينيها عن هذا الكائن الذي أوشك على الإجهاز عليها. سقطت اليد بعنف، لكن سعيد — وبجهد هائل — وضع نفسه أمامها وحماها بجسده. أسقطتهما شراسة الصدام هما الاثنين معًا. واصل الشرطي ضرب سعيد، ثم شعر بالسأم. خافت خيِّرة من إظهار أيَّة حركة تجعله يعتقد أنها ما زالت حيَّة. وسعيد فوقها، يتصرف بنفس الطريقة — كما اعتقدت — إلى اللحظة التي شعرت فيها بالسائل اللزج الفظ وهو ينتشر فوق معطفها. أصبح خوفها وديعًا قياسًا إلى الألم الشديد الذي عصف بأدق ذرة في كيانها. حملت جثة صديقها وصرخت: «قتلة! سفاحون!»

هجم عليها شرطيان واقتاداها إلى إحدى عربات هيئة المواصلات الباريسية، التي استولوا عليها لتأمين نقل المعتقلين من المتظاهرين إلى قصر الرياضة وأرض المعارض في ناحية بوابة فرساي.

الوناس وحده ظل سليمًا. أخذ يحاول توزيع الجماهير عبر الأزقة والحارات المتفرعة من البولفار، بينما كثير من المارة يساعدون قوات الأمن الجمهورية ويدلونهم على دهاليز وزوايا المخابئ التي توارى فيها رجال ونساء شلَّهم الرعب.

اقتربت الساعة من الثامنة. وعلى الأرصفة الواقعة تحت جسر نويي، تحرك صفان هائلان من سكان صفيح ناننتير، وأرجونتي، وييزون، وكوربفوا. أحاط بهم مسئولو جبهة التحرير الشعبية وهم يوجهون المجاميع التي أخذت تنضم إليهم. كانوا ستةَ آلافِ شخصٍ على الأقل. بدت طرق الجسر الأربعة غير كافية لتأمين سير الموكب. تجاوزوا جزيرة بيتو سيرًا على الأقدام، ودخلوا نويي. لا أحد منهم كان يحمل سلاحًا، أو سكينًا، أو حجرًا في جيبه. استمر كمال ورجاله في مراقبة الأشخاص المشتبه فيهم. سبق وأن أبعدوا نصف دستة من صبية يأملون في تغيير اتجاه المسيرة؛ فهدف المظاهرة واضح: رفع حظر التجول المفروض — منذ أسبوع — على الفرنسيين-المسلمين فقط؛ وفي نفس الوقت، إثبات تمثيل جبهة التحرير الشعبية في الدولة المستعمرة.

بدا الطريق خاليًا. ميَّزوا — من بعيد — قوس النصر وقد أضيء بمناسبة زيارة شاه إيران وفرح ديبا الرسمية للبلاد. وكعادتهم، احتلت النساء مقدمة المظاهرة؛ بل وأمكن رؤية أولاد صغار يحيطون بعربات الأطفال. فمَن منهم كان يشك في أن زمرة الحرس المنتقل تقبع في انتظارهم، تحت جنح الليل، على بعد ثلاثمائة متر خلف مئات من المتاريس المؤلفة من رجال «الحركي».٣ وعلى بعد خمسين مترًا، ودون سابق إنذار، أطلقت الرشاشات وابلًا من الرصاص. كان عُمر (١٥ سنة) أول من سقط. واستمر الإعدام بالرصاص ثلاثة أرباع الساعة.

•••

تملك الذهول والغضب — معًا — روجيه تيرو من هول ما يحدث أمامه. شدَّت أجساد المتظاهرين الهامدة انتباهه، ولا سيما جثة مخيفة انفجرت رأسها وشقتها فتحة من ظلٍّ قاتلٍ تتسرب منها خيوط دم تتلوى كثعابين سائلة. وعلى الجانب الآخر، أخذ أوائل المدعوين إلى مسرح «الجيمناز» يتدافعون نحو الأبواب الزجاجية التي يحرسها خمسة عشر من العاملين به. راح مدير القاعة يلعن الدهر الذي أفسد ليلة افتتاح «وداعًا للحكمة» لليزلى ستيفنس، من اقتباس بارييه وجريدي. وقد أمكن — حتى الآن — إخفاء وقائع الشارع الدامية عن صوفي ديماريه مراعاةً لأعصابها. لكن «الأصدقاء» — الذين يلتمسون مقصورة الممثلة الهزلية — لن يدخروا جهدًا لتحويل هذه الجهود إلى حد العدم.

– هذا ما سعوا إليه. قال له واحد من المارة.

حدَّق فيه روجيه تيرو: لكنهم بحاجة إلى علاج. يجب نقلهم إلى المستشفى، سيموتون كلهم!

– أتعتقد أنهم يشفقون على أهلنا هناك. وأولًا، هم أول من بدأ في إطلاق الرصاص.

– لا. لا تقل هذا. أنا هنا منذ البداية. كنت عائدًا إلى منزلي وهم يركضون كالأرانب — وأيديهم عزلاء — بحثًا عن مخبأ، عن حماية؛ عندما أطلق البوليس الرصاص.

ابتعد الرجل وهو يشتمه.

هبط مدير المسرح درجات المدخل، ونادى على أحد الضباط.

– تعالَ بسرعة. هناك ما لا يقل عن خمسين شخصًا دخلوا القسم الفني والكواليس. سيبدأ العرض خلال عشر دقائق. وعليكم بالتدخل.

كوَّن الضابط فرقة صفها في حالة استعداد أمام باب عمال المسرح، وأمرها — وسلاحه في يده — بفتح مصراعَي الباب. خرج عشرون رجلًا خائفين، أيديهم خلف أعناقهم، إثر تسليط أضواء المصابيح عليهم. وخلفهم — في الممر — أخذوا يعدون الكئوس احتفالًا بالنجاح المنتظر لمسرحية «وداعًا للحكمة». أوشك روجيه تيرو على التدخل، لكن شجاعته خانته. فقد سبق وأن شاهد — بلا قدرة على التصرف — الضرب المبرح الذي تلقاه سائق سيارة تعطلت في شارع فوبور بواسونيير، لأنه حاول إنقاذ جريح بإخفائه في حقيبة السيارة.

وفي الجهة الأخرى، في اتجاه مبنى هيئة البريد ذي القباب، عند تقاطع شارع مازجران، راحوا يجمعون المعتقلين. وصلت عدة أتوبيسات لشحن مئات من الجزائريين التائهين الذين حاولوا — دون جدوى — تحاشي ضربات المطارق التي توزعها قوات الأمن الجمهورية المصطفة أمام موقف الأتوبيسات. واكتفت هيئة المواصلات الباريسية بعشر دقائق انقطاعًا عن العمل، وخصصت سياراتها لجمع المتظاهرين. راح سائق يقرأ «الباريسي» في انتظار الأمر بالقيام. وبشكل عفوي، أحصى روجيه تيرو عدد الأتوبيسات المزدحمة، وهي تمر أمام عينيه. اثنتا عشرة سيارة. وقَدَّرهم بأكثر من ألف من الرجال المضغوطين — الواحد في الآخر — واقفين وجرحى.

لازم مصور رجال الشرطة في أشد أعمالهم قسوة، ووميض الفلاش يكشف — على فترات منتظمة — كثيرًا من اللوحات الدامية.

رجل آخر كان يراقب المشهد منذ بداية المظاهرة. لم يتحرك من ركنه في مقهى «الجيمناز». ورغم ارتدائه ملابس قوات الأمن الجمهورية، فلم يبدُ عليه الاهتمام بنشاط زملائه، واكتفى — ببساطة — بالتحديق في مكان روجيه تيرو المحدد. وحين اعتقد أن الوقت قد حان، خرج من الظلام. اجتاز البولفار، واقترب بخطوات — متزنة — من شارع نوتردام دي بون نوفيل، غير مُبالٍ بالبرد والمطر. خلع معطفه الجلدي السميك ووضعه على ذراعه الأيسر. وبنفس الحركة، أعاد خوذته إلى جبهته، وتأكد من إحكام وضع نظارته. توقف في أول شارع توريل. أخرج «البروني» من جرابه. لم يفضل هذا السلاح عبثًا؛ فالطراز ١٩٣٥م هو المسدس الميري والأكثر انتشارًا في العالم، ولا يزال — حتى اليوم — سبب شهرة ونجاح مصنع «هرستال» القومي.

قذف بمشط المسدس المزود بثلاث عشرة طلقة، وأعاد تعشيقه بضربةٍ خاطفةٍ من راحة يده. سلاح مألوف له، وهو يستطيع — على بعد عشرين مترًا — أن يُفرغ محتوى خزنته في لوحة تصويب طول ضلعيها عشرة سنتيمترات. استأنف سيره بعد أن وضع «البروني» في يده اليسرى تحت المعطف الجلدي. ليست المرة الأولى، لكنه لم يستطع منع نفسه من الارتجاف والكز على أسنانه. عليه — قبل كل شيء — قمع هذه الرغبة في القرار، وفي ترك الأشياء دون أن ينهيها؛ السير، الاستمرار في التقدم، والتوقف عن التفكير.

تبين الآن ملامح روجيه تيرو، واستعاد — في ذاكرته — لعبة الصور التي عهدوا بها له. نفس الجبهة العريضة، والنظارات الصدفية، وهذا القميص العجيب بحافَّتَي ياقته المُزرَّرة.

وكما في المهام السابقة، حدث كل شيء في لحظة وبسرعة فائقة إلى حد أنه لم يفهم كيف أصبح على يسار المدرس. تطابقت أصغر حركة من حركاته مع كل ما يجب عمله لإنجاز مهمته. لا شيء سيوقفه، وكأنه أنجز ما لا يمكن استرجاعه. اختفت يده اليمنى — في جزءٍ من الثانية — تحت المعطف الجلدي، ثم ظهرت وقد قبضت على كعب المسدس. لم يُعِره روجيه تيرو أي انتباه. انتهز الرجل الفرصة ليقف خلفه. فجأة، أمسك رأس روجيه تيرو بذراعه اليمنى، التصق المعطف بفوهة المسدس، فأسقط المدرس باقة الورد وعلبة الجاتوه. أمسك — يائسًا — بيد مهاجمه ليفلتها. لكن الرجل، وحسب نظامٍ دقيقٍ، ألصق فوهة سلاحه بصدغ روجيه تيرو الأيمن. أدخل إصبعه الوسطى في قنطرة الزناد وضغط عليه. دفع بالجسم إلى الأمام وتراجع. انهار المدرس على الرصيف وقد انفجرت جمجمته.

أعاد الرجل سلاحه في هدوء. ارتدى معطفه، واختفى عبر سلالم شارع نوتردام دي بون نوفيل.

•••

ومع بدايات الصباح، لم يعد في شوارع البولفار إلا آلاف الأحذية، والأشياء، وبقايا شتى، تشهد على عنف الاشتباكات. كان الصمت قد استقر أخيرًا. أخذت فرقة إسعاف — أرسلتها مديرية الأمن — تفحص الجرحى والجثث. ما من أحد أربكته إشارات الحياة، ولا مشاكل الضمير؛ وقد تكدَّست الأجساد بلا نظام ولا أي تمييز.

– هيه. من هنا. ها هو القتيل الخامس عشر في هذا التقاطع. ليس وسيمًا، فقد تلقى رصاصةً في رأسه بالضبط! حسنًا. ألا تأتون لمساعدتي؟

قلبوا الجثة.

– أوه. اللعنة، ليس جَديًا!٤ يبدو فرنسيًّا.

ارتبك قائد الفرقة حقًّا من اكتشافه، فقرر حماية نفسه بإطلاع رئيسه على الأمر.

وفي اليوم التالي، الأربعاء ١٨ أكتوبر ١٩٦١م، تناولت الصحف — في عناوينها — إضراب هيئة السكك الحديدية وهيئة المواصلات الباريسية من أجل زيادة الأجور. صحيفة «باري جور» وحدها هي التي خصصت صفحتها الأولى لأحداث الليلة الماضية.

«الجزائريون يستولون على باريس لمدة ثلاث ساعات.»

وعند الظهيرة، أعلن قسم الشرطة — في بيانه الختامي — عن مصرع ثلاثة أشخاصٍ — منهم واحد أوروبي — وإصابة ٦٤، واعتقال ١١٥٣٨ شخصًا.

١  أي الزغرودة.
٢  Fellouz، كلمة عامية جزائرية تعني قطاع الطرق.
٣  Harkil متطوع في الجيش الفرنسي في شمال أفريقيا قديمًا. (المترجم)
٤  شتيمة مقصود بها الجزائريون. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤