الفصل الثالث

أطفأ برنار التليفزيون بطلبٍ من والدته. تحوَّل مُقدِّم نشرة أخبار الساعة الواحدة ظهرًا إلى نقطةٍ مُضيئةٍ واختفى.

– يمكنك استخدام الريموت كنترول يا أمي. اشتريناه خصوصًا حتى لا تحتاجي للقيام. يكفيك الضغط على مفاتيحه.

اكتفت مورييل تيرو بهز رأسها، وواصلت التحديق في التليفزيون الذي أخذ يعكس ظلام وجهها والغرفة عليها.

عمليًّا، لم تغادر هذا المقعد أبدًا منذ عشرين عامًا، حين علمت بموت زوجها. كان الطفل الذي ينفخ بطنها هو الذي منعها — حينئذٍ — من ترك نفسها للموت. وما إن وُلد برنار حتى تملكتها اللامبالاة تجاهه، وعاشت في عزلة، في غُرَف شارع نوتردام دي بون نوفيل الثلاث. لم تقترب أبدًا من النافذة حتى لا تلمح — أسفل ثلاثة طوابق — السلالم التي التقطوا منها جثة زوجها ذات صباح من أكتوبر ١٩٦١م.

تولى الجَدَّان تربية برنار تيرو، وعندما أصبح مُراهقًا، تخصص — بطبيعة الحال — في دراسة التاريخ، وخلال محاضرة عن «مخاوف الغرب»، التقى بكلودين شينيه، وأصبحت رسالتها الجامعية عن «منطقة باريس عام ١٩٣٠م» ذريعة لجولاتٍ عديدة معًا.

– برنار، أنت تعلم أنها لن تعتاد هذه اللعبة، وقد حان وقت الرحيل. إذا انتظرنا ساعةً أخرى فسيزدحم الطريق السريع، وأنا لا أحتمل القيادة ببطء عدة كيلومتراتٍ.

اقترب برنار من والدته، واحتضنها: سنعود خلال شهر بالكثير، على أبعد تقدير في بدايات سبتمبر. تركت عنواننا ورقم تليفوننا في المغرب عند البواب. إذا حدثت مشكلة، فلا تترددي في الاتصال بنا. على العموم ليس قبل أسبوع؛ فنحن سنتوقف يومًا أو اثنين في تولوز، ثم نعبر إسبانيا بعد ذلك.

صافحت كلودين حماتها المُقبلة. خرجا من الشقة دون أن تبدي مورييل أية حركة. وعلى السلالم، لم تستطع كلودين أن تمنع نفسها من القول: لن أعتاد هذا أبدًا! لديَّ الإحساس بمخاطبة شبح.

وكجواب وحيد، أحاط برنار خصرها بذراعه. كانت السيارة الفولكس فاجن — ذات اللون الأزرق الفاتح — تقف بعيدًا، عند شارع سان-دني. جلست كلودين أمام مقود السيارة. اجتازت باريس نحو بوابة سان-كلو. انسلت بين سيل سيارات أصحاب الإجازات الصيفية. وبعد عبور النفق، أزاحت سقف السيارة وأدارت الراديو.

حدث بعض التباطؤ حتى منفذ مونتليوي، سببه الرئيسي المقطورات أو اللوريات الآلية الضخمة. قادت كلودين بسرعة كبيرة في الجهة اليسرى من الطريق. توقفا في بونز «مدينة البسكويت»، حوالي الساعة السابعة مساءً، ثم أخذا طريق بوردو. قضيا الليل في فندق «دي لا برس» ببوابة ديجو، ليس بعيدًا عن الجارون.

وفي اليوم التالي، اضطر إلى التوقف بين دامازان ولا فارداك على الطريق أ-٦١، ومع كل فرملة، كانت «الخنفساء» تنحرف يمينًا، نحو الجهة الواطئة. حاول برنار المزاح: طبيعي. السيارات الألمانية تجنح دائمًا!

احتاجت السيارة بعض الإصلاحات. أصبحا على مرأى من تولوز ساعة الغداء؛ فتناولاه في «فانيل»: مشهيات الحلزون بالبندق، ويَخْنة الديك بنبيذ «كاهور».

– هذه الوجبة تذكارٌ لنا، وستساعدنا على تحمل الطبيخ المغربي.

– برنار، لا داعي للإمبريالية المطبخية، أنت لا تعرف ما تتحدث عنه، أعدك بمفاجآت ممتعة في هذا الموضوع.

– أتعجَّل الذهاب إلى هناك. لا أعتقد أنني سأحتاج إلى أكثر من يومين هنا. سأراجع بعض الملفات — بعد ظهر اليوم — في الكابيتول.١ وغدًا، سأقضي النهار كله في مديرية الشرطة.

– أما زلت لا تريد أن تخبرني عما تبحث عنه؟

أخرج سيجارة «جيتان» من علبتها. أشعلها ثم أجاب متظاهرًا بالسخرية: لا، أنا أهتم بحكايةٍ خطرة، ثمة منظمةٌ غامضةٌ تعمل في الظلام. اتركيني أحميك بالجهل.

غادرا المطعم. ركبت كلودين السيارة واتجهت نحو ميدان أوكستيان، على بعد خطوتين من كنيسة سان جيروم، ودخلت الفندق. وصل برنار إلى البلدية مخترقًا المدينة القديمة. بلغ الكابيتول عن طريق الحدائق. كانت أرصفة المقاهي مكتظة؛ فتخلى عن تناول المرطبات. دخل دار البلدية. وفي البهو، أرشدته المضيفة إلى قاعة الوثائق. وفي الساعة الخامسة والنصف، اضطروا إلى تنبيهه إلى إغلاق الأبواب.

– حسنًا. هذه التحريات ذات التشعبات الدولية؟ سألته كلودين وهو يأخذ حمامًا.

– أتعقب الأثر. ربما أتأكد غدًا في مديرية الشرطة. لكنني توصلت إلى حكاية شيقة. تصوري، منذ اثنين وأربعين عامًا، هنا في تولوز، أعلن «المجلس الحربي» — التابع للمنطقة العسكرية السابعة عشرة — عن سقوط وإعدام شارل دي جول في ١٧ يوليو ١٩٤٠م.

– ابعث بالحكاية إلى لوسيان جوناس، في لعبة الألف فرنك.

– يا سلام! وأنتِ، ماذا فعلتِ؟

– انتظرتك.

ودفعت به فوق السرير وهي تضحك.

استيقظ برنار مبكرًا. وصل إلى مديرية الشرطة قبل أكثر الموظفين انضباطًا. انتظر في مقهى/بقالة بشارع متز، وخرج لحظة مجيء الحارس.

ظل وحيدًا في المكتبة الإدارية. ومن حين لآخر، يدخل موظف وذراعاه محملتان بعلب الكارتون، والسجلات السوداء، أو بأكداس المجلات. ظلت القاعة مفتوحة بلا توقف. استأذن في الاتصال — تليفونيًّا — عندما سمع أجراس الكاتدرائية القريبة وهي تدق الثانية عشرة ظهرًا. رفع موظف استقبال فندق «ماركور» السماعة ونادى على الغرفة رقم ١٢.

– كلودين، هذه المرة أنا جاد للغاية، وعلى وشك النجاح. لا تنتظريني على الغداء. قاعة القراءة تغلق في الساعة السادسة، أعتقد أنني سأعمل فيها حتى هذا الوقت.

– أنا سعيدة لك. لكن لا تتأخر كثيرًا.

كانت هذه آخر كلمات تبادلاها معًا. وفي الساعة السادسة وعشر دقائق مساءً، هبط برنار تيرو درجات مديرية الشرطة وصعد شارع متز، في اتجاه ميدان الاسكيرول. ترك رجل مقود سيارته — رينو ٣٠ — وسار وراءه. أخذ برنار يحث الخطى متعجلًا رواية اكتشافه إلى كلودين. سار في شارع لا نجيدك، وعلى بعد مائة مترٍ إلى اليمين، دار حول كنيسة سان-جيروم. وبعد تألق الشوارع التجارية الواسعة، تعاقبت شوارع هادئة تحيط بها فنادق خاصة، غالبًا متهالكة؛ وجدران حدائق عالية. بعدها، لم يعد هناك أية محلات عدا واجهات تمتلئ بأشياء دينية وأثرية، وفجأةً، لا أحد، ولا حتى سيارة. شعر برنار برجل يتعقبه. التفت للوراء وشاهده — على بعد مترين منه — وهو يفتش في جيبه ويخرج مسدسًا. لم يشعر برنار — الذي أثاره الفضول — بالخوف من هذا الرجل العجوز اللاهث ذي الستين عامًا. بحث حوله عن سببٍ يدفعه لإخراج سلاحه. وقبل أن يدرك الأمر، انغرست أول طلقة في كتفه فجعلته يترنح. اقترب رامي الرصاص أكثر إلى أن كاد يلمسه. شعر برنار بأنفاسه، لكنه لم يجد القوة على المقاومة. اخترقت الرصاصة الثانية رقبته فانهار، وقاتله يفرغ — في ظهره — ذخيرة مسدسه الست الأخيرة.

لاذ الرجل بالفرار في متاهات الشوارع الصغيرة للمدينة القديمة، ولم يجد المارة — الذين أرعبتهم طلقات الرصاص — إلا جُثَّة برنار تيرو طريحة على الرصيف.

•••

بعد ستةِ أشهرٍ قضيتها في لوزير بقسم شرطة مارﺟيفول، وعلى إثر الاضطرابات التي أثارتها قضية «وربيل»، نقلت إلى تولوز في قسم شرطة الحي، بشارع كارنو، وعادةً ما كنت أدير عمل الفريق مع المأمور ماتبيو. لكن هذا الأخير، ولأولويته في اختيار توقيت الإجازات، كان يقضي أيامًا هادئةً على أحد شواطئ كورسيكا، وفي هذه اللحظة — بالذات — استغل موظفو الجنازات الفرصة ليخوضوا تجربة اختبار قوتهم مع مستخدميهم. إضراب الحانوتية في أوج الموجة الحارة! والحوادث لا يمكن تجنبها، ووجدت نفسي بين نارين؛ العائلات المكلومة من ناحية، ومن الأخرى المضربون المتشددون. لم تورط بلدية تولوز نفسها في الأمر، وأخذت تلعب بورقة الفساد، وفي الكابيتول، كانوا يأملون في الحصول على تأييد الرأي العام ولا يعبئون برؤية الشرطة وهي تلعب دور صمام الأمان.

وفي صباح يوم من أيام يوليو، اندلعت المعارك بين أقارب المتوفين وحفاري القبور في مقابر «راباس» بالقرب من حجرات الموتى، حيث اصطفت عشرات التوابيت في المواراة بإحدى المقابر.

صففت رجالي أمام بوابة غرفة ثلاجات المشرحة بدار العزاء، حيث لجأ موظفون فاقهم — في العدد والقوة والهستيرية — مهاجموهم الذين يرتدون ملابس الحداد، وفي الساعة السادسة والنصف، كنا لا نزال في قلب المقابر. ربَّت أحد المضربين على كتفي: سأحاول الحديث معهم. سأشرح لهم أسباب سلوكنا. أيها المفتش، إذا نجحت في تهدئتهم فلن يتعرض موتاهم لأي أذًى. نحن نضمن الحد الأدنى من الخدمة.

بدا الصبي مُقتنعًا بخطابه، ولاعتياده نقل الجثث، لم يفهم أن المتظاهرين أمامه — رغم شدة حزنهم — ما زالوا على قيد الحياة.

– اطمئن. وإذا ما كان معك مفتاح المبنى، فأغلقه مرَّتَين. ماذا تريدون بالضبط؟ يمكنني أن أحاول إعادتهم إلى رشدهم.

– أيُصبح الشرطيُّ متحدثًا باسمنا؟! أتمزح؟

لم يسبق له سماع جملة مدهشة كهذه.

– هذا ليس طبعي، لكنني لا أعتقد أن المقبرة هي المكان المثالي لتصفية الحسابات. لا هُم، ولا بالأحرى الشرطة، سيدبرون لكم أعمالكم؛ فاستمرار هذه التمثيلية — إذن — لن يفيد في شيء.

– نحن نطالب — فقط — بعلاوة ظروفٍ غير صحية، مثل منظفي المجاري. زمان، عندما كان القدامى يخرجون بقايا القبور، لم تكن ثمة مشكلة؛ فكانوا يعثرون على عشرة كيلوجرامات من العظام المسحوقة. الآن، وعندما نخرج أبطال الستينيات، ولأنه العهد الذهبي للبلاستيك، لا أضحك عليك، أقسم لك إننا لم نعد نرى العظام في كثير من الأحيان. أشياء كهذه تصد النفس؛ فأغلب الصبية الذين نستأجرهم ينسحبون بعد يومين أو ثلاثة، ويفضلون الموت جوعًا على كسب ٥ آلاف فرنك في هذه الظروف. ٣٠٠ ورقة علاوة ليست نهاية العالم!

قطع حديثنا شرطي بزيه الرسمي: أيها المفتش كادان، الرقيب لاردان يطلب حضرتك من سيارة اللاسلكي. تلقى بلاغًا من القسم عن جريمة قتل في حي سان-جيروم.

أصيب حفار القبور بالوجوم فعلًا: أسرة إضافية علينا تحَمُّل مسئوليتها.

عبرت المقابر. وقفت سيارة بالقرب من باب الفقراء المربَّع. فراغ تحتله الأشواك، نُصبت فيه ستة أو سبعة صلبان مترنحة من الحديد، وفوق تل من أرض نُبشت حديثًا؛ وضعت آنية من الخزف الأبيض وبضعة زهور. دفعت بمصراعي الباب. كان الرقيب لاردان مقعيًّا في مقعد السائق بالسيارة رينو ١٦، مستغرقًا في اكتشاف اﻟ «… ٨٥٦ ٤٨٩ ٢٧٤ ٥٠٢ ٤٣» احتمالًا ممكنًا لمكعبات «روبيك».

– نجحت، إذن؟

نهض واقفًا، ودس اللعبة في جيبه.

– ناحية ونصف من المكعب. ابني ينجح وهو مغمض العينين. إنهم يقيمون مسابقات في فصله بالصف السادس.

– هذا شيق جدًّا. وعدا ذلك.

احمرَّ وجهه مثل سطح المكعب المكتمل.

– نعم. حسنًا. لا. اكتشف بعض المارة شابًّا مقتولًا بطبنجة أو بمسدس. فريق بوراسول في الموقع على بُعد خطوتين من شارع لانجودوك.

– قُد السيارة. سنذهب إلى هناك. شغِّل صَفَّارة الإنذار، وإلا فلن نصل — وسط كل الذين ينعمون بالإجازة الصيفية — قبل هبوط الليل.

كان الرقيب أول بوراسول ضليعًا في مهنته؛ فقد وُجدت كل الأقسام المعنية بالمسائل الجنائية في أوج نشاطها.

– تسعدني رؤيتك أيها المفتش كادان. تركت الجثمان في وضعه الأصلي. لم نلمس شيئًا في غيابك.

– جميل جدًّا يا بوراسول. وتحرياتك الأولية؟

– ضعيفة جدًّا. ولا أي شاهد عيان. سمع عشرات من السكان الفرقعات. واحد منهم رأى خيالًا يبتعد في اتجاه شارع ميتز. هذا كل ما في الأمر. الواقع أننا ما زلنا نواصل عمليات التمشيط. لقد تلقى حوالي عشر طلقاتٍ في الظهر، أعتقد أنه من مسدس آلي (بارابلوم) مقاس ٦ملِّي. لديَّ أوراقه. مؤكد أنه سائح عابر.

وتأكيدًا لاستنتاجاته، أعطاني جواز سفر فرنسيًّا ومحفظة من الجلد البني. كانت الأوراق الشخصية باسم برنار تيرو — المولود في ٢٠ ديسمبر ١٩٦١م بباريس — يقيم في ٥ شارع نوتردام دي بون نوفيل بالدائرة الثانية. بطاقة طالب صادرة من جامعة «جيسو» وعدة صور لامرأة شابة دست في الجيوب الشفافة للمحفظة؛ وفي وسطها ثمانية آلاف فرنك وشيكات سفر، وفاتورة طعام — لشخصين — من «فانيل»، بتاريخ الليلة الماضية.

– على الأقل، لم يندم على وجبته الأخيرة. ٤٣٠ فرنكًا لاثنين! بوراسول، ابحث عمن كان يمسك بالشوكة الأخرى. اتصل بمصلحة المجاري واطلب منهم فحص فتحات الصرف على مسافة مائة وخمسين مترًا. مَن يعلم؟! ربما تخلَّص القاتل من سلاحه في إحدى الزوايا.

– المسألة ليست بهذه السهولة أيها المفتش، فهم يرفضون — كل مرة — مساعدتنا في «المجاري».

– يعتقدون أنهم فوق القانون؟ إضافة إلى أنهم يحصلون على علاوة وليسوا مثل حفاري القبور!

– ماذا تقول أيها المفتش كادان؟

– أنا أفهم ما أقول. اترك منظفي المجاري. سأتكفل بهم.

•••

في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، دخل مكتبي مدير مرفق الصرف الصحي بالمدينة، وسلمني حقيبة بلاستيك بها سلاح: ها هي النتيجة. لك أن تطلب — فحسب — أيها المفتش. انتشله موظف من البلدية في مجمَّع شارع كروا بارانيون، فالتيار ليس قويًّا في هذا المكان.

– إذن يمكن أن نفترض أن مكان الاكتشاف هو — بشكل عام — المكان الذي اختاره القاتل ليلقي فيه المسدس.

– أهو مسدس؟ لم أعرف أبدًا الفرق بين الطبنجة والمسدس.

– هذا شيء أوليٌّ؛ فهو يعمل بشكل مزدوج. المسدس له مشط، والطبنجة لها حجرة خراطيش. ألم يلمسه صبيك؟ لقد شرحوا لهم كيف يتصرفون.

أخذت السلاح من ماسورته — دون إخراجه من كيس المعمل الجنائي — وشرعت أفحصه.

– إننا نواجه محترفًا.

لم يُخفِ محاوري دهشته. يبدو أنه يتغذى على روايات كونان دويل وريتشارد فريمان.

– كيف عرفت هذا؟

شرحت له وأنا أخاطر بتبديد إعجابه المتنامي بي: إنه «لاما سبشيال» طراز ٠١١ مسدس منتشر مثل مسدسنا «يونيك ل». وعلى العموم، لا يهم إذا كان هناك خمسون واحدًا في المتر المربع، فلكل سلاح صفاته، والمعامل مجهَّزة بحيث تجعله ينطق. المشكلة في المسدس «لاما سبشيال» أنه من صنع «جابيلوندو» في «فيتوريا». وإذا عرفت — بالإضافة إلى هذا — أن المصنع موجود في مقاطعة جيبوزكوا، في قلب بلاد الباسك، فستبدأ في تكوين فكرة.

– ولا أدنى فكرة.

– عام ١٩٧٢م، أغار فدائيون من منظمة «إيتا»٢ على ناقلة تمتلئ بهذا النوع من الأسلحة. اختفَى ثلاثمائة مسدس. لا نعرف المصدر، لكن الأوساط الفرنسية تستخدم — من حين لآخر — سلاحًا مصدره هذا الهجوم المسلح. وبشكل منتظم، نحصل على السلاح المزود بأرقام التسجيل، نراجعها على القائمة التي وضعها الحرس المدني فيتطابقان. لا نحتاج للذهاب بعيدًا، فنحن على خط مباشر مع مصنع «فيتوريا»! يمكن للمعمل أن ينتقل — فورًا — بحثًا عن البصمات، لكن لا أحد يحصل على مسدسٍ جديدٍ ليضع عليه بصماته. شكرًا على أية حال أيها المدير الفني، هذا يساعدنا على التقدم.

مدَّ يده إليَّ باحترام، وانحنى برشاقة. وعلى عتبة الباب، لم أستطع مقاومة الرغبة في زيادة اضطرابه وتشويش أفكاره قليلًا.

– شكرًا مرةً أخرى. وبالمقابل، إذا حدثت جريمة عندكم أو في الأقسام التابعة لكم، فلا تترددوا في اللجوء إليَّ.

بعده جاء الرقيب أول بوراسول إلى المكتب. أبدًا لم أره فاقدًا هدوءه أو ابتسامته. يبدو أنه لم يكن كذلك خلال عمله في قسم شرطة ميراي، المدينة الجديدة المشيَّدة في ضواحي تولوز؛ حيث آخذوه على ضربه لشابَّين جانحين ضربًا مبرحًا في مقهى المركز التجاري «نارفال».

– لَمْ نجهد أنفسنا لمطاردة طفل. عندما تناولا الطعام في «فانيل» — أمس الأول — سألا صاحب المطعم عن عنوان فندق، فأرسلهما إلى «ماركور سان-جورج»، على بُعد مائة متر من مكان الجريمة. لم نقل لها أي شيء. إنها تنتظرك. أم نأتي بها إلى هنا؟

– لا. هيا بنا. قل للاردان أن يهتم ﺑ «المحل»، واترك له أرقام تليفوناتنا.

كان باستطاعة إدارة الفندق الاستغناء عن زيارتنا. طلبوا منا أن نركن السيارة — الملونة بالأبيض والأسود — في أعماق موقف السيارات؛ ولم يترددوا في وضع صالون خاص تحت تصرفنا؛ حرصًا على كتمان الأمر.

بدا واضحًا أن كلودين شينيه لم تنم كفايتها؛ فقد حددت عينيها هالتان سوداوان. نهضت عندما رأتنا: ماذا حدث لبرنار؟ أريد أن أعرف.

أخذتُ نفسًا عميقًا.

– مات مقتولًا. حدث هذا ليلة أمس، بعد الساعة الثامنة بقليل، بالقرب من الفندق.

ارتسم إعياء هائل على ملامحها. اضطررت إلى الاقتراب بأذني لأفهم ما تهمس به.

– ولكن لماذا؟ لماذا؟

– أنا هنا لأكتشف هذا يا آنسة. متى غادر المكان؟

– مبكرًا جدًّا، في الصباح وأنا نائمة. غالبًا قبل الساعة الثامنة. اسألوا الاستقبال. كان يقوم بأبحاثٍ في قسم الشرطة، واتصل بي الساعة الثانية عشرة ظهرًا ليخبرني أنه لن يعود للغداء.

– أيُّ نوعٍ من الأبحاث؟

– لم يقل لي. اكتفى بالمزاح ليجعلني أعتقد أنه يطارد منظمة دولية.

– لسوء الحظ ربما لم تكن مجرد دعاية. هل قابلتما معارف لكما في تولوز منذ أمس الأول؟

– لا أيها المفتش. لا أحد. كنا ذاهبين إلى المغرب لقضاء الإجازة الصيفية، فخرجنا إلى تولوز، إنها أول مرة أضع فيها قدمي هنا، وبرنار أيضًا، الأولى والأخيرة.

– هل خرجتِ خلال فترة بعد الظهيرة أو ليلة أمس؟

رسمت ابتسامة تقزز: توقعت أن تسألني عن ذلك. الجواب لا. تناولت الغداء في مطعم الفندق؛ خضراوات نيِّئة، فيليه بقري، وفراولة بالكريمة، ثم قرأت في الشرفة في الشمس.

– ولم يقلقك اختفاؤه! تتوقعين عودة صديقك في السادسة مساءً، وصباح اليوم التالي، في الثامنة والنصف، يجدك رجالي تأكلين الكرواسون، ولونك شاحب بالكاد. كل شيء يثير دهشتي. آنسة شينيه، هذه جريمة.

وضعت يديها على جبينها وانفجرت في البكاء.

– يحدث أحيانًا ألا يعود مساءً في باريس.

– كنتما تعيشان معًا؟

– نعم، كنا نعيش. إنه التعبير الملائم. منذ ستة أشهر وبرنار يعيش معي. وفي بعضِ أمسيات الاكتئاب، يختفي ويعود في الصباح الباكر، ودون أي إيضاح. والدته مسئولة عن هذا. حسنًا؛ أريد أن أقول إنها مسئولة عن قلة ثقته. وُلد برنار وقد مات والده قتيلًا في ظروف درامية. لا أعرف أكثر من ذلك، غير أن اختفاءه قد أثَّر — بشكل خطير — على والدة برنار؛ فهي لا تخرج أبدًا من منزلها، ولم أسمعها تقول سوى ثلاث جمل فقط خلال عشر زيارات.

– حسنًا. سنحضر متعلقات صديقك الشخصية، وسيطلب منك الرقيب أول بوراسول التوقيع على إيصال. بالطبع عليك البقاء في تولوز بضعة أيام لضرورات التحقيق. تبقى المهمة الأصعب، الذهاب إلى المشرحة للتعرف على الجثمان قبل التشريح.

•••

أثناء غيابي، أتى أحد الشهود. جعله لاردان ينتظر في الممر، أمام باب مكتبي الزجاجي. تراوح عمره بين الخامسة والثلاثين والأربعين؛ يرتدي بنطلونًا من الجلد، وسترة مربعات متعددة الألوان، وينتعل حذاء «بوت» مكسيكيًّا رائعًا. «كاو بوي» نموذجي!

نظرت إلى لاردان متوعدًا؛ وأنا أكز على أسناني.

– برافو. إنها مسخرة. وآمل — لصالحك — ألا يضيِّع وقتي.

وقبل أن أدفع الباب، راقبت مغني الروك الهرِم: سحب مشطًا من جيبه وأخذ يدخله في شعره وهو يمسده، وبراحته، فتل خصلة على جبينه. طلبت منه الجلوس.

– حسنًا. لديك ما تود التصريح به عن مقتل الشاب الباريسي؟

رفع ذراعيه ولوى عنقه، ونجح في الكلام بصوت هزيل.

– على مهلك. لاحظت هذا الصبي الليلة الماضية، أثناء خروجه من المديرية، فمقري العام يقع في الواجهة، في بار «شي فيردي»، وهو الركن الوحيد الذي يمكن فيه لعب الباشينكو.

لا يعرف لاردان ما ينتظره ما إن أفرغ من هذا المهرج.

– لا علم لي به. وما هو هذا الباشينكو؟

– آلة أصلها ياباني وتعمل بالعملة؛ تشبه الفليبير قليلًا. نشتري كرات من الفولاذ من خزنة البار، ونلقمها في فتحة علبة معلقة على الحائط. وبالقبضة، نوجه الكرات عبر الحواجز. وإذا بلغنا الهدف، نربح كرات أخرى.

– نعم. وبعد ذلك؟

نظر إليَّ عاجزًا عن الفهم.

– حسنًا. وبعد ذلك، نبدأ من جديد!

– عظيم. طيب. ارجع والعب بالكرات. لدي أشياء أخرى غير الاستماع إلى قصصك.

– لكن، سيدي المفتش؛ لقد رأيته حقًّا، هذا الفتى لم يكن وحده.

انتفضت.

– لم يكن وحده! أوضح.

– حسنًا. أنهيت شوطي وتأهبت للخروج عندما غادر الباريسي المديرية. أحب جدًّا الفرجة على الشباب الوسيم. والحق أن الرجل ليس بغيضًا. عزمت على ملاحقته عندما لاحظت وجود رجل آخر يقتفي أثره، رجل لديه نقود كثيرة؛ يقود رينو «٣٠ت. إكس»، سيارة سوداء.

– رأيت سيارته. أتذكر رقمها؟

– لا. فقط الإقليم، ٥٧. إنه باريسي هو الآخر. عندئذٍ، كففت عن الاهتمام به، ودفعت لنفسي ثمن شوط آخر من الباشينكو.

– أتستطيع وصف غريمك؟ قامته، ملابسه …

– نعم، رجل متوسط القامة، حوالي متر وخمسة وستين، شعره أبيض رمادي. رأيته من ظهره أغلب الوقت. غير أنني أقدر عمره بما لا يقل عن ستين عامًا. أما ملابسه فهي مثل ملابس الموظفين: بدلة رمادية وحذاء أسود.

ناديت على لاردان.

– شكرًا على هذا الزبون؛ فهو أول من شاهد القاتل، الذي يتنزه في «رينو ٣٠ت. إكس» سوداء، مسجَّلة في باريس. اتصلوا بالحرس، وشرطة الطرق، وكل مواقع رسوم المرور الواقعة بين بوابة سان كلو، وست دونيي. اتركوا كل الأشياء الأخرى جانبًا؛ فلم يسلك طريق باريس-تولوز، خلال اليومين الماضيين، أكثر من عشر سيارات. افحصوا كل المحاضر. ومن ناحيتي، سأراجع ما يخص المدينة. فمن يعلم!

أصبحت الساعة الحادية عشرة بالكاد وقد حصلت على استجواب، وزيارة للمشرحة، ومحادثة مع مُغرَم بالباشينكو! لا ينقصني إلا فنجان من القهوة الجيدة لأهضم كل هذا. توجهت — ببطء — نحو ماكينة القهوة الآلية. دفعت بقطعتَي نقود بضربةٍ خاطفة لأسعفها في عملها. سقط قدح أبيض بلاستيكي فوق الشبكة. راح خيط من السائل البني — يحرف مساره بعض الفقاعات — يملؤه في صمت. انغرس عود شفاف في الشراب لينبهني إلى نهاية العملية. وعلى حين غِرة، قطع استمتاعي صيحات انبعث من صالة الاستقبال. تخطى اللغط مستوى توبيخ الجمهور العادي. مررت خلف الشباك، فأوقفني رئيس القسم.

– لا نفهم شيئًا. كل هؤلاء الناس استدعاهم المأمور ماتبيو؛ ولا نجد أي أثر لملفاتهم.

– أنت مسئول عن كم شخص؟

– حوالي ثلاثين حتى الآن أيها المفتش؛ وهم يأتون بلا انقطاع.

– سأحاول حل المسألة. أعطني أحد هذه الاستدعاءات.

سلمني ورقة زرقاء؛ استمارة عادية صادرة من قسم البوليس، وتُلزم المُرسل إليه بالحضور دون إبطاء، وتم ذكر السبب بطبيعة الحال: «إعادة تنظيم البطاقات الجديدة في الكمبيوتر، وذلك بهدف مكافحه الإرهاب.» وتفسر الفقرة الأخيرة سبب سرعة استجابة كل هؤلاء الناس: «الأشخاص الذين تم استدعاؤهم مطالبون بالمثول والحضور، وكل مخالف سيتعرض لعقوبة قد تصل إلى ١٠ أيام حبس و٣٦٠ فرنكًا غرامة» (المادة رقم ٦١ و٦٢ وما يليها من قانون المرافعات الجنائية).

أخفى ختم «قسم شرطة كارنو-تولوز» نصف تاريخ الإرسال: ٢٨ يوليو ١٩٨٢م.

– سجِّل اسم كل من يحضر، ومعه استدعاء كهذا، واطلب منه العودة إلى منزله بلا قلق، وسنعاود الاتصال به خلال بضعة أيام. أعتقد أن المسألة مجرد مزاح.

– كيف عرفت هذا يا حضرة المفتش؟

– أحسنت صنعًا باختيار وظيفة مكتبية، لقد سافر ماتبيو للإجازة قبل عطلة ١٤ يوليو. ولا أعرف كيف استطاع توقيع هذه الأوراق أمس الأول. هناك شخص ماكر يتسلى بأعصابنا؛ لكن ليس من الصعب كشفه. وكخطوة أولى، أكتب قائمة بالموظفين الذين يمكنهم الحصول على الاستمارات الخالية والأختام. وسيقوم الرقيب أول بوراسول بالفرز الأول، ويرسل لي المنتخَبين سعداء الحظ.

•••

بعد ثلاثة أيام حُلَّت مشكلة واحدة: منحت بلدية تولوز مائتين وخمسين فرنكًا علاوة للحانوتية. وتم التصويب بالموافقة — بالإجماع — على استئناف العمل، مما أتاح لي رفع الحاجز الأمني الموجود في مقابر «راباس» واسترداد أربعة رجال.

احتل حوالي مائتي تولوزي شبابيك قسم البوليس، مستنكرين ارتياب البوليس فيهم باعتبارهم إرهابيين. فلم نكن قد نجحنا في كشف مصدر الأوراق المزورة، لانشغالنا — أكثر من أي شيء آخر — بالتحقيق في مصرع برنار تيرو. وعلى طرف المكتب، رقد تحليل المعمل عن الطلقات والذي يتضمن المقارنة بين إحدى الرصاصات، برصاص السلاح الذي وجدته مرافق البلدية. كانت نتيجة اختبار بئر المياه شكلية؛ فالقاتل استخدم المسدس فعلًا، وأظرف الطلقات متطابقة — تمامًا — مع الرصاص. التزم المعمل بأقصى حدود الدقة فأرفق — مع التحليل — الصورة السلبية وقد تم تكبيرها ثلاثين مرة، ومعها جزء مرفوع من الرصاصات. أظهرت مسارات الرصاصات أن تيرو تلقى رصاصتين من الأمام وستًّا أُخَر في الظهر، وهو طريح على الأرض. بدت نقط الاختراق الأمامية عادية. قدَّر المعمل مسافة إطلاق الرصاصة بين مترين وأربعة أمتار، بينما تركت الطلقات التالية — على النقيض — آثار احتراق هامة. والمرجح أن القاتل لم يبعد أكثر من خمسين سنتميترًا عن الضحية.

لم يلق تقرير الرقيب لاردان أي ضوء إضافي. ربما استطعنا الاعتقاد — بسهولة — بعدم وجود الرينو ٣٠ أبدًا، لولا أن سائقها راودته الفكرة السيئة بإثبات وجودها من خلال الجثة التي تركها.

– وعمال محطات البنزين يا لاردان، هل استجوبتهم؟

رفع ذراعيه نحو السماء، وتركهما تسقطان لتصفعا فخذيه.

– طبعًا أيها المفتش، واحدًا واحدًا. المسألة ليست معقدة. سيارة كهذه مزودة بخزان سعته سبعون لترًا. ويُقدَّر استهلاكها — على الطريق السريع — بأحد عشر لترًا في المتوسط. فإذا افترضنا أنه ملأ خزانه قبل الانطلاق، فسيقع في ورطة؛ إذ سيتوقف محركه — بلا شك — عند مارماند أو آجان. على أية حال، لقد توقف مضطرًّا ليتزود بالبنزين. ورغم هذا، لم تستقبل أية محطة خدمة هذه السيارة؛ ذهابًا وعودة.

– ولماذا تعتقد أنه غادر تولوز؟

– يبدو لي منطقيًّا، كأنه تنفيذ لاتفاق ما. فمهمة الرجل تصفية تيرو. وبما أنه أنجز عمله، فالطبيعي أن يعود بهدوء إلى منزله، كل شيء يشير إلى أنه شخص محترف؛ مثل المسدس «لاما سبشيال»؛ فمصدره المباشر المجموعة المسروقة في إسبانيا.

– أوافق على المسدس. لكنْ هناك شيء لا يتماشى مع الموضوع أبدًا.

– أي شيء أيها المفتش؟

– الاغتيال؛ بكل بساطة. اقرأ ورقة المعمل. ومن السهل إعادة المشهد: تيرو يسير للقاء قاتله، بديهي أنه لا يعرفه. وعلى بعد ثلاثة أمتار أو أربعة، يخرج القاتل المسدس من جرابه، ويصيبه بطلقتين: واحدة في الكتف، والأخرى في الرقبة. وعندما ينطرح تيرو أرضًا، يجهز عليه — عن قُرب — بست رصاصات في الظهر. أتعرف كثيرًا من المحترفين يعملون بهذه الطريقة؟ لا، إنه رجل في المهنة، منفذ إعدام، ينتظر أن يصبح الهدف على بعد متر، وبينما يمد ذراعه، يقحم الفوهة في القلب أو في الصُّدغ حسب المدارس! رصاصة أو اثنتان بحد أقصى. بدلًا من هذا، يفرغ رجلنا الطيب مشط مسدسه، مجازفًا بإثارة الحي كله بالقبض عليه. اقرأ هذه الفقرة: الرصاصة الثانية فقط هي التي سببت جروحًا مميتة عندما اخترقت العنق، ولا واحدة من الطلقات الأخرى أصابت عضوًا حيويًّا، وهذه الرصاصات الست الزائدة هي التي تدفعني إلى الاعتقاد بأن القاتل متورط في الموضوع بشكل مباشر، وهو ما يكشف أنه ليس محترفًا. لكنه هاوٍ واعٍ، وأكثرهم قسوة. وللقبض عليه، سننفق مزيدًا من الطاقة والذكاء، تفوقان ما يتطلبه ترتيب مكعبات «روبيك». ألا تعتقد ذلك يا لاردان؟

لم أترك له وقتًا للإجابة.

– هيا اتبعني، سنقوم بجولة في الكابيتول. قبل وفاته، اطلع برنار تيرو على أرشيف البلدية ومديرية الأمن. كان يتهيأ لتدريس التاريخ؛ ويحتمل وجود علاقة بين ما أراد الاطِّلاع عليه ودراساته. على العموم، لا يجب إهمال شيء.

كان موقف ميدان السوق مزدحمًا. وجد لاردان مكانًا في شارع تور أمام لافتة الكباريه العمومي «كاف». لازمنا سوء الحظ. كان برودي، مساعد العمدة للإعلام، يخطب في قاعة الاستقبال الكبرى بالكابيتول. عند مفاجأتنا له، تخلَّى عن محادثيه وجاء للقائنا: حضرة المفتش كادان! حضرة الرقيب! يا لها من مصادفة، كنت أفكر في الاتصال بكما. أخذني من ذراعي، وقادني خلف كتلة من الزهور تشكل حاجزًا.

– لا يمكن أن يتكرر هذا أيها المفتش. يجب أن نوقفهم فورًا؛ وإلا فسيُمرِّغوننا في الوحل، وأنتم أيضًا! الصحافة لا تعرف شيئًا حتى الآن، لكنني لا أنخدع! فما إن يشمُّوا رائحة الجيفة حتى يتصارعوا لانتزاع القطعة كلها.

أخذ يعرق في قطرات غليظة. وصلت آثار العرق إلى أنفي في دفقات حارة. رحت أتنفس بشكل متقطع لأخفف من عدوان الرائحة.

– لكن، ألقي القبض على مَن؟ قل لي وأنا أعدك ببذل كل ما في وسعي.

– «الموقفيين».٣

– مَن؟

– الموقفيين. إنهم جماعة منظمة تبعث بطلبات استدعاء مزورة خاصة بمكافحة الإرهاب. نحن نتلقى مئات من الاحتجاجات التليفونية؛ ومكتب العمدة امتلأ بطلبات الحضور. لا تنس أنه عضو بمجلس النواب أيضًا، ويلعب دورًا هامًّا فيه. سبق وأن لعبوا نفس الدور عام ١٩٧٧م، قبل انتخابات مجلس البلدية. طبعًا تتذكر هذا.

– في هذه الفترة كنت أعمل بمنطقة ستراسبورج؛ ولا أهتم كثيرًا بمطبخ الانتخابات التولوزي.

– آسف. لم أكن أعرف. إنها حكاية أذهلت الناس كلهم. وفي الكواليس لم يتحدثوا إلا عنها. عام ١٩٧٧م، تعرضنا لهجوم نموذجي: بيان مزيف من البلدية؛ وزعت منه عشرة آلاف نسخة. ثم مؤتمر صحفي حاشد، تأليب للنفوس ضدنا من جانب صحف البلاد، وصولًا إلى مظاهرة العاطلين. فقد أعلن الموقفيون — بكل بساطة — أن «أسيديك»٤ ستوقف إعانة البطالة عن ألف وخمسمائة عاطل، وطلبوا منهم الحضور لتسلم مساعدة عاجلة من العمدة. وفي الساعة الحادية عشرة صباحًا، ازدحم المكان بالناس، وأراهنك أنك لن تعرف ما اخترعوه؛ ثلاث عربات — نصف نقل — من «بيجول» — أشهر مطعم في المدينة، الذي طلبوا منه — باسم العمدة — غداءً فاخرًا لمائتي شخص: بتي فور، توست بالسمون، بالكفيار، بالفواجرا. ولك أن تتخيَّل رد فعل العاطلين — الذين تصوروا أنهم فقدوا كل شيء — وخاصة عندما أراد جرسونات «بيجول» اختراق صفوفهم، بصوانيهم المترعة بالمشهِّيات.

– ماكرون حقًّا. هل قبضتم على هؤلاء الموقفيين؟ فلا أحد يحصل على بطاقات ١٥٠٠ شخص دون أن يترك أثرًا.

هز رأسه يمينًا ويسارًا. تناثرت بعض قطرات من العرق — بردتها المسافة — على خدي؛ فأثارت فيَّ رعدة تقزز.

– لا. أبدًا. كلفتنا هذه الحملة غاليًا جدًّا، ورغم هذا اختفوا دون أن يجنوا فائدةً واضحة من ذلك. لقد استهدفوا العالم كله. «بوديس» مثله مثل «سافاري»، ثم لا شيء طوال ستة أعوام، ومنذ بضعة أشهر، اعتقدنا أننا نواجههم مع مجموعة «ل. ت. ت. ك».

اعتقدت دائمًا أنه من الأفضل تجنب مخالطة صفوة المسئولين المحليين، لكن مواهب برودي الحكائية ستجعلني أتراجع بسهولة عن قراري. قطع كلامه — بعد ذكر هذه المنظمة الغامضة — واستبق سؤالي: نعم. «لجنة تحرير وتنظيم الكمبيوتر». مجموعة من «المجاذيب»، أشعلت النار في مركز إقليمي للكمبيوتر، وأجبرتنا على إعادة استمارة رسوم الإسكان! كل ما عملناه تحوَّل إلى دخان. إنهم الآن في السجن، واتضح أن حركتهم لا علاقة لها بحركة الموقفيين.

– إننا نستخدم كل الوسائل للعثور على هؤلاء المزورين. لن يستمروا في الهروب طويلًا. لكنني مسئول — حاليًّا — عن جريمة قتل، وتتفهم ضرورة تخصيص الأولوية لها. والأفضل ترك أصحاب الدعابات أحرارًا على ترك قاتل طليق.

– حضرة المفتش، لا أتفق معك في هذا الرأي. دع قاتلك يصبر، فهو لا يطلب ما هو أفضل من ذلك. لكن، امنعهم من إلحاق الضرر بنا، فهم يحاولون زعزعة استقرارنا. الأمر يتعلق بالديمقراطية.

– أكرر لك، نحن نهتم بهذه المشكلة، ولتعلم — بهذه المناسبة — أنني من يحدد أولويات عملي. وإذا لم توافقني، فلتذهب في جولة إلى المشرحة، واطلب — باسمي — رؤية تيرو!

تركته مسمَّرًا في مكانه، ولحقت بالرقيب لاردان بإدارة الأرشيف. وطبقًا لمدير القسم، اهتم برنار تيرو بالوثائق الإدارية الخاصة بعامَي ١٩٤٢–١٩٤٣م. خصص لنا منضدةً وأتى لنا بكل الوثائق التي اطلع عليها الضحية. استعرضت محتويات إحدى العلب: عقود، توقيع العقود، مداولات. خليط من الأوراق المغطاة بالأختام والتواريخ والأرقام. لا شيء يثير القلق. آه لو كان لدينا محور للبحث! بدا النهار صعبًا وظلَّ على هذا الحال. لم أجد شيئًا ذا مغزى، إن لم يكن الجدول السنوي للرسوم على الكلاب بمقاطعة تولوز عام ١٩٤٢م.

نبش لاردان ووجد كومة وثائق صادرة عن المجلس الحزبي، تحكم على العريف دي جول بالمثول أمام فصيلة الإعدام بتهمة الخيانة العظمى. غادرنا الكابيتول محبطين، وسط موظفي البلدية. قادني لاردان في اتجاه بار «فلوريدا» بالميدان.

– منذ سنوات لم أضع قدمي فيه. كان مكان لقائنا خلال سنوات الكُلِّية. أتذكر؟ أشاعوا — في كل مكان — أنه يجب توخِّي الحذر عند الكلام فيه.

– آه. نعم. لماذا؟

– لأنه أكثر المقاهي الصغيرة — في تولوز — ازدحامًا بالمخبرين.

– هيا بنا فلْنَره — مرة — لنمنحه مُبرِّرًا لسمعته.

•••

صباح اليوم التالي، استقبلنا الأستاذ ليكوسان، مدير المحفوظات الإدارية، في مديرية الأمن. موظف عجوز، متغضن، مصاب بعلَّة في قدمه. سبقنا إلى متاهة الأرفف. أخذ جسده يتمايل يسارًا. لكن، ما إن يوشك على الاصطدام بدعامات الحديد، حتى يقرع جهازه التعويضي الأرض الخشبية، ويعود تأرجحه إلى الوضع العمودي. صاحب اهتزازاته تذمر غير مسموع.

– بعد اتصالكم التليفوني، أيها المفتش، راجعت الملفات التي طلب الضحية فحصها. كل المصنفين تحت العلامة DE. أوراق قديمة، مثل كثير منها هنا. وضعت كل الوثائق في مكتبي. ستشعر براحة أكبر بالعمل فيه. وأنا تحت تصرفكما تمامًا.

أغلق الباب بهدوء؛ ثم ابتعد في الممرات بإيقاعه الثنائي.

– هذا شيء عَملِي؛ فنحن واثقان أنه لن يتصنت من وراء الباب.

أمسك لاردان، وقد أسعدته دعابته، بأول مجموعة أوراق وهو يمتلئ بالحيوية.

تقليم الأشجار، تعويض الخسائر، دفاع مدني.٥

اختلفت الأوراق الإداريَّة، التي تتالت بين أيدينا هذا اليوم، عن سابقيها قليلًا. كانت تختص — هذه المرة — بأقاليم جارون العليا كلها؛ وليس مدينة تولوز فقط. وسرعان ما أصبحنا على معرفة عميقة بمشاكل الاغتيالات في موريه، وفي سان جودنز، أو بشكاوَى البلديات في مونتاستوك أو في ليجوقان، والخاصة بالإصلاحات — المتبادلة — للطريقين القوميين، رقم ٨٨ ورقم ١٢٤. وبفعل المصادفة في الترتيب، تلاقى الهزلي والمأساوي، مثل مذكرة — من مدير المديرية — يطالب فيها بإلغاء مداولات وفد «لانتا» الخاص، بحجة اجتماع أعضاء المجلس البلدي في قاعة الفندق الخلفية. ولم تؤد إلى شيء المراسلات التالية، التي برروا فيها موقفهم بأن تذرعوا بانهيار سقف مبنى البلدية. وتمسك مدير المديرية بموقفه. وعلى حافظة الأوراق — التي تلت ملف المداولات — نُسخت — بعناية وحرص على كل حرف — كلمة «ترحيل».

عاملوا ملف الترحيل للاعتقال بنفس أسلوب الإدارات الأخرى. حرص الموظفون على ملء البطاقات بنفس الاهتمام الذي أولوه لطلبات الحطب، أو العودة إلى المدارس. حلَّ التعامل مع الموت محل التعامل مع الأمل، وبدون أن يثير ذلك أي تساؤل لديهم. وفوق ورق مقوى، شُبك تلغراف مصفَّر، عليه توقيع يبير لا فال بتاريخ ٢٩ سبتمبر ١٩٤٤م، يوصي فيه سلطات البلدية بألا تشتت العائلات اليهودية المقرر ترحيلها إلى معسكرات الاعتقال. موضحًا أنه «إزاء التوتر الذي يثيره هذا الإجراء الوحشي، حصلت من الجيش الألماني على الموافقة بألا ينفصل الأطفال عن ذويهم. وبذلك يستطيعون البقاء على قيد الحياة».

ضد البربرية نحو بوجنفالد وآوشفيتز!

عهدت بملف «القضاء على الفئران» إلى الرقيب لاردان، واستغرقت — مرة أخرى — في الساحات البيروقراطية لملف «التطهير».

١  مقر السلطة. (المترجم)
٢  E. T. A منظمة تطالب بانفصال إقليم الباسك عن فرنسا. (المترجم)
٣  أصحاب المواقف أو الموقفيون Situationnistes، من Situationnisme، حركة طليعية سياسية أدبية وفنية، ظهرت في نهاية الخمسينيات، وريثة السريالية، وتبدَّت في مواقف راديكالية خلال أحداث ١٩٦٨م.
٤  ASSEDIC نظام للتأمينات وإعانة البطالة.
٥  الكلمات الثلاثة بالإضافة إلى «مداولات»، «وفد»، «ترحيل»، «القضاء على الفئران»، و«تطهير»، تبدأ كلها — في اللغة الفرنسية — بحرفَي DE، التي — في كثير منها — بالنسبة للأفعال — تعني عكس الفعل. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤