الفصل الرابع

انهمك بواب فندق «ماركور» في ترتيب الأمتعة في حقيبة السيارة «الكوكسينيل»، وكلودين شينيه تسدد الفاتورة في «الاستقبال». اعترضت طريقها في الممر.

– صباح الخير. حرصت على تحيتك قبل السفر.

– لم أتوقع كل هذه المجاملة من البوليس التولوزي. حضرتك تبذل كل ما في وسعك، لكن ذلك لن يجعل هذه المدينة جذابة لي.

– آسف، أتيت لأؤكد لك أن جثمان برنار تيرو سيتم ترحيله يوم الإثنين. لم يفدنا التشريح كثيرًا.

عند ذكر الطبيب الشرعي، أغلقت عينيها طويلًا.

– اعذرني، لا أستطيع اعتياد الأمر. هل هناك جديد في الأمر؟

– لا. ليس تمامًا. لدينا أوصاف محددة جدًّا عن قاتلٍ مفترض. وحاليًّا، يقوم الرقيب أول بوراسول بوضع قائمة بالأشخاص الذين تواجدوا في مديرية الأمن ليلة الكارثة. بعد ذلك، سنراجع أنشطتهم، ووضعهم المالي، ومشاكلهم العاطفية.

– بأي هدف؟ ما علاقة هذا بموت برنار؟

– اسمعيني. إنها ليست إلا فرضيَّة عبثيَّة يجب التحقُّق منها: فلنفترضْ أن القاتل لا يملك إلا وصفًا تقريبيًّا عن هدفه، وصديقك يتطابق — بالضبط — مع هذا الوصف.

– لا، مستحيل! هذا يعني أن برنار مات عبثًا، خطأ من نوع جديد، ولا أكثر من هذا.

– أكرر لك، ليست إلا فرضية عمل لا أستطيع استبعادها. في هذه الحالة، لاحظ القاتل وشركاؤه خطأهم. ولن يكون هناك شيء أكثر إلحاحًا من تنفيذ اتفاقهم. وعملي يتمثل في منعهم من تحقيقه. من ناحيتي، يحدث أحيانًا، أن أجري خلف أشباح أكثر مما أحتمل. لكن، اطمئني فأنا لا أهمل الموضوع الرئيسي. فمن المحتمل جدًّا أنها كانت مهمة القاتل الحقيقية، وهذا يعني أنه التقطكما في باريس، أو أنه — ما إن علم بسفركما وبمكان الوصول — حتى أسرع إلى هنا.

– تبدو واثقًا من نفسك أيها المفتش.

– وإلا فلا أفهم لماذا يأتي قاتل إلى تولوز ليغتال رجلًا في متناول يده في باريس. وبعد ذلك، ينجح في العثور على فندقكما، ويقتفي أثر برنار صباح اليوم الذي توجَّه فيه إلى مديرية الأمن. ترصَّده طوال النهار، ثم تتبعه عند خروجه. واستغل عبوره طريقًا مهجورًا ليرتكب جريمته.

– لكن، كيف استطاع تحديد موضعنا بهذه السرعة؟

– للوهلة الأولى، يبدو الأمر معقدًا. ولكن عندما نبحث عن شخص ونصمم على القضاء عليه، ندرك أن المسألة في بساطة تحية الصباح. فأهلكما وأصدقاؤكما على اطلاع بمشاريعكما. اتصل القاتل تليفونيًّا مدعيًا قرابته لكما. كيف تعتقدين أننا نتصرف؟ بنفس الطريقة! وبالنسبة للاتصال بالفندق هذا شيء طفولي. فكل عام تنشر نقابة السياحة دليلًا عن الفنادق في تولوز: اكتفى الرجل بتسجيل الأرقام وطلبها بالترتيب. وصل إلى حرف الميم في «ماركور سان-جورج» وبناءً على طلبه، رحب موظف الاستقبال بتأكيد إقامة السيد ومدام تيرو فيه. في الفندق ١٧٠ غرفة، ويتعامل السويتش مع ١٢٠٠ مكالمة يوميًّا في المتوسط، حصلت على الأرقام من الإدارة. وللأسف، لا يذكر أحد مكالمة لا قيمة لها كهذه. لا معجزة!

فرغ بواب «ماركور» من ترتيب الحقائب، واقترب منا. لم تنتبه كلودين إليه. أخرجت عشرين فرنكًا من جيبي ودسستهم في تجويف يد الرجل كبقشيش، فشكرني بابتسامة ملحاحة وانحناءة تملق من الدرجة الأولى. أدركت كلودين الموقف وحاولت تسديد المبلغ.

– لا. احتفظي بهذه النقود. وعلى أية حال، لديَّ اقتراح أعرضه عليك. يجب أن أقضي بضعة أيام في باريس للتحقيق. وإذا وافقت أن أصحبك، فسألازمك في الرحلة.

وافقت دون تفكير. لحقت بلاردان الذي وقف بسيارته في باحة سيارات الفندق؛ وقطعت معركته مع مكعبات «روبيك».

– أعطني حقيبتي. لن أركب القطار. اقترحت عليَّ الآنسة شينيه قطع الطريق معها. لا شيء تغيَّر بالنسبة للعودة، ستأخذني السبت القادم، من قطار الساعة الحادية عشرة.

– حسنًا يا ريس، إلا إذا وجدت سائقًا آخر من الآن فصاعدًا.

وعندما فكرت في كلامه، لاحظت أنها المرة الأولى — حقًّا — التي يدعوني فيها «ريِّسًا».

•••

كنا قد تركنا مطار «بلانياك» على يسارنا، وعداد الفولكس فاجن لم يتحرك عن المائة والثلاثين في الساعة. وبهذا الإيقاع، تأكدنا من وصولنا إلى باريس في منتصف بعد الظهيرة. لكنها عندما رأت مطعمًا على طريق سان أندريه دي كوباز، قررت التوقف. لم يضايقني هذا. ولم تقطع شهيتي الإعلانات الزجاجية — المائلة إلى الخضرة — التي تتغنى بالمذاق الذي لا يقارن للأطباق المقدمة في البار. أفرغ أتوبيس — يمتلئ بسياح إسبان — حمولته أمام الأبواب عندما شرعنا في الجلوس. طلبت مايونيز وشواءً بالبطاطس المقلية. اكتفت كلودين بطبق خضراوات وفنجان شاي. وإذا استبعدنا جانبًا الحديث في المسائل العامة (الدخان لا يضايقك؟ أليس الهواء شديدًا عليك؟) فلم تتفوه بكلمة منذ رحيلنا من تولوز. حاولت استئناف الحوار: أيُّ نوع من الدراسة تقومين بها؟

فاجأتني الإجابة بإيجازها: تاريخ.

فكرت تفكيرًا عميقًا قبل أن أجازف بسؤالٍ جديد: أية فترة؟

كوفئت على جهودي، وخرجت من كآبتها.

– المنطقة الباريسية في بداية القرن. وبوجه خاص، السكان الذين أقاموا في مواقع حصون باريس بعد تدميرها عام ١٩٢٠م. وحتى تكون في الصورة، هي — على وجه التقريب — أطراف ضواحي باريس الحالية.

أنعشها الحديث عن أبحاثها. قررت البقاء في نفس الاختصاص.

– هذا موضوع غير مألوف لامرأة شابَّة مثلك. قرأت بعض الكتب من تأليف أوجست لي بريتون، يتوقع المرء رؤية رجل عسكري على المعاش، أو شرطي على أقصى تقدير، يهتم بهذا النوع من الدراسة. برنار أيضًا كان مؤرخًا، متخصصًا في الحرب العالمية الثانية كما أعتقد؟

وضعت شوكتها وأمعنت النظر فيَّ وهي تمط شفتيها.

– لا. إطلاقًا. كان يُعد أطروحةً حول «الطفل في العصور الوسطى». معلوماتك غير دقيقة.

– هذا مجرد افتراض! لقد راجع صديقك — في الكابيتول ومديرية الأمن — ملفات وثائق الفترة من ١٩٤٢–١٩٤٣م ، فاستنتجت أنه استفاد من زيارتكما العابرة لتولوز للاطلاع — رسميًّا — على وثائق ليست تحت تصرفه في باريس.

طلبت فنجاني قهوة من الجرسون، وأسندت رأسها على راحة كفيها وهي تضغط على وجنتيها. صوبت أظافر طويلة — رهيفة ومطلية — تحت عينيها. شرعت أنظر إليها بالتفصيل لأول مرة. بالطبع حاولت — لا شعوريًّا — الاحتيال عليها، لكنها فرضت نفسها عليَّ. وهذه اللحظات من الألفة قرَّبت المسافات بيننا. ليست كلودين مجرد زبون. علمت أنها ستغادر المدينة هذا الصباح؛ فقد أبلغني قاضي التحقيقات بذلك، ولم يعد لديَّ شيء أكثر إلحاحًا من الحصول على تصريح بالمهمة إلى باريس. خلال فترة عملي القصيرة وقعت مرتين في غرام شهود أو ضحايا. ويقولون إن البعض يجد الشرطة بلا قلب. الأولى في الألزاس، عندما قابلت ميشيل شيلتون، صديقة مناضل شاب، عالم بيئة، تم اغتياله. ثم في كورفيلييه، مجرد مدينة سكنية للضاحية الباريسية. هناك — أيضًا — لم أصرح بسهولة بسبب اهتمامي بمونيك وربيل، فقد كان لديَّ ما يستوجب ذلك: عندما تعرفت عليها كانت طريحة الفراش، وقد اخترق صدرها — توًّا — رصاصة عيار تسعة ملِّيمترات. ولا شك أن أقل المحللين النفسيين كفاءة سينجح في اختلاس جلسات نصف أسبوعية — لمدة عشر سنوات — من مريض يحدثه عن مغامرات من نوع: «إيروس»١ و«تاناتوس»،٢ الزوجين الملعونين!

أصبحت نظرتي مُلحة.

– لماذا تنظر إليَّ بهذه الطريقة أيها المفتش؟ أنت تضايقني.

– تريدين أن أكون صريحًا؟

– إنه دورك فيما أعتقد. وإلا فسيعني هذا فقدان الأمل في كل شيء!

– أنا مصاب بمرضٍ شديد الانتشار بين رجال البوليس الشباب، وخاصة مع شاهدة في جمالك. تركت يداها وجهها، ووقفت في سرعة البرق.

– ولا كلمة أيها المفتش. أنا لم أصحبك إلى باريس لأسمع هذا النوع من الكلام، وإنما لتسهيل التحقيق، ليس لديَّ قلب للعب دور الأرملة الجريحة. وإذا كنت سأدفن برنار هذا الأسبوع، فاعلم أنني لست مستعدة لخوض مذبحة جديدة.

وتحت نفق سان-كلو، بعد خمسمائة وخمسين كيلومترًا فيما بعد، نطقت بالجملة التالية: «أين أُنزلك؟»

– في تقاطع شارع فرساي، هناك محطة تاكسيات.

لم تحاول مصالحتي، وجعلت السيارة تصدر صرير السرعة الأولى، وهي تغادر حافة الرصيف.

•••

صباح اليوم التالي أفضت بي أولى زياراتي إلى جزيرة «لا سيتيه». أظهرت تصريح المهمة خمس أو ست مرات قبل أن أتمكن من الوصول إلى مكان البطاقات المركزية. وبعد إرضاء رغبات آخر حارس، دخلت قاعة الدور الرابع. كل شيء فيها رمادي: الأرض، الحيطان، الأرفف؛ حتى الموظفون اكتسبت قمصانهم ووجناتهم وشعورهم اللون السائد. طغت رائحة تراب ساخن في الحجرة الضخمة، رائحة تراب قديم ترسَّبت منذ سنوات، أسيرة الستائر العريضة التي تكسو النوافذ وسلسلة الأبواب المزدوجة المؤدية إلى السلالم.

علمت من يافطة معلَّقة في المدخل أن نظام التصنيف يرتكز على معلومتين محددتين: اسم عائلة الشخص المطلوب، والعنوان المفترض إقامته فيه. مددت يدي باستمارة أسئلتي إلى الموظف المختص. أومأ إلى مقعد شاغرٍ بحركة من رأسه. جلست بجوار موظف هدَّته قسوة عمله. تطلب البحث ساعة، ثم نادوا عليَّ في الشباك، قبل أن يسلموني بطاقة سمراء.

(أ) بطاقة «الترتيب الأبجدي»: برنار تيرو، مجهول.

(ب) بطاقة دائرة «محل الإقامة»: ٥ ش نوتردام دي بون نوفيل، باريس، الدائرة الثانية. الأشخاص ذوو البطاقات (١) ألفريد دروبيه (٢) جان فاليت (٣) روجيه تيرو (٤) فرانسوا تيسو.

ملأت استمارة أسئلة أخرى باسم روجيه تيرو وأعطيتها للموظف. اكتفى بذهاب وعودة سريعين، ثم كتب المعلومات أمامي مباشرة.

(أ) بطاقة «الترتيب الأبجدي»: روجيه تيرو، مدرس تاريخ في ليسيه لا مارتين، مولود في ١٧ يوليو ١٩٢٩م في درانسي (سين). توفي في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م، خلال مظاهرات جبهة التحرير الشعبية في باريس. عنصر أوروبي مرتبط — على الأرجح — بالحركة الجزائرية الإرهابية.

تأكدت من مصلحة الأحوال المدنية ببلدية باريس أنه فعلًا والد برنار تيرو. أسرعت إلى المباحث العامة، حيث تولى زميل عرفته خلال دراستي في كلية ستراسبورج، إدارة قسم تحقيق الشخصية. ضربة حظ. وجدته في مكتبه غارقًا في الأشكال المستديرة المطبوعة على ورق «جلاسيه»٣ لمجلة للرجال العصريين.

– أهلًا دالبوا! الناس لا تشعر بالملل في «م. ع»! أهو صاحب العمل الذي يدفع لك الاشتراك؟

انتفض واضعًا المطبوع مفتوحًا — على آخره — على صورة فتاة الغلاف.

– كادان. يا لها من مفاجأة! كنت أظن أنك في تولوز. أية مكيدة أتيت لترتكبها في الحي؟

– لا شيء يثير الشبهات؟ اطمئن، أتولى جريمة قتل باريسي جاء ليُقتل على بُعد خطوتين من قسم البوليس عندي. كلفني هذا ثمانية أيام في باريس على نفقة الدولة. وأنت، الأمور على ما يرام؟

حرَّك يديه وكأنه يُقلد ترنحات المركب.

– متوسطة، نُصفِّي البطاقات. يجب نقل كل ما يتعلق بالإرهاب — من بعيد أو قريبٍ — إلى القسم الجديد الذي أنشَئوه في الوزارة. منذ شهرين لا أفعل إلا هذا. انتهى زمن التحقيقات في موقع الجريمة؛ وحولوني إلى موظفٍ مكتبي!

نهض وبسط قامته الطويلة. بدت قلة التدريبات واضحة على هيئته الجانبية. أحاط شريط من الدهن بوسطه وشدَّ قميصه الصيفي. ما زالت سحنة وجهه بهذا الاصفرار الذي يميز من لا يحتملون الخمر ولا يستطيعون الاستغناء عنها. فقد — خلال خمسة أعوام — الجزء الأكبر من شعره. واستند الصلع على شريط نحيل فوق كل أُذن، ليتسع فوق القفا. احتفظ بذوقه في الملابس المهندمة؛ رغم أن تواضع مرتبه دفعه إلى الإخلاص — في مشترياته — ﻟ «تروا سويس» بدلًا من «كادان».

– إن لم تكن زيارة عمل، أفيعني هذا أنك أتيت لزيارتي — هكذا — لاستعادة ذكرى الوقت الجميل الذي مضى؟ ومع ذلك، أذكر أننا غالبًا لم نتفق في رأي!

تقدمت نحوه وربَّت على كتفه في حركة ودِّية.

– لكننا لم نتعارك معًا أبدًا. والواقع أنني بحاجة لأن تخبرني عن تاريخ يرجع إلى أكثر من عشرين عامًا، في أكتوبر ١٩٦١م على وجه التحديد.

– وما علاقة هذا بتحقيقك؟

قررت التزام الصراحة معه، فهو لا يدير قسم المباحث ليدلي بمعلوماتٍ مجانية، فلو أنه وجد أي شيء غامض، فسيرفض الكلام.

– والد الشاب المقتول في تولوز مات خلال المظاهرات الجزائرية، في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م. عرفت هذا من الملفات. ربما يكون هذا خيطًا ذا قيمة. سبق وسمعت عن «حاملي الحقائب»، هؤلاء الأوروبيين الذين يجمعون النقود لحساب جبهة التحرير الشعبية ويعبرون بها إلى سويسرا.

هز رأسه وأخذ يتأرجح في المقعد.

– نعم. بالتأكيد، شبكة جيسون وكل ما حولها. لا زال هناك، في العمل، اثنان أو ثلاثة من القدامى الذين تتبعوا المسألة من أولها إلى آخرها. وقد توقفت هذه السلسلة عن العمل في يوليو ٦٢، عند الاستقلال. أُغلقت الملفات ودُفنت. وأعتقد أنه حتى الفرنسيون الذين أدينوا بمساعدة جبهة التحرير الشعبية حصلوا على عفو شامل. لا أرى ما تأمل العثور عليه في هذا المجال؛ إلا العقبات المزعجة.

أدت المحاولات التي بذلها لإقناعي إلى العكس تمامًا، فالموضوع شديد الحساسية. وصديق الطفولة تبدَّل فأصبح «كاتمًا للسر».

– لنفترض تورط والد تيرو في عمليات حقائب أموال جبهة التحرير الشعبية، فإن تصفيته — في أكتوبر ١٩٦١م — تصبح من عمل المخبرين السريين المكلفين بتنقية المشهد السياسي. في هذه الفترة، لم يعجبهم كثيرًا الفرنسيون الذين انتقلوا إلى الجهة الأخرى.

– لعلك تبالغ بعض الشيء يا كادان. أتدرك ما تحكي عنه؟

– نعم؛ تمامًا. في البدء أثيرت بعض القضايا، لكن النتيجة تحوَّلت إلى النقيض. أصبحت دعاية رخيصة الثمن وحولتهم إلى شهداء. لا تقُل لي — وأنت تعمل في هذا القسم — إنك تجهل هذه التفاصيل الصغيرة. فقد مارسوا دائمًا هذه الطريقة، ولتصفية منظمة الجيش السري كذلك. وكان مدير شرطة سابق — من «سين-سان دني» — هو الذي قاد الفدائيين الديجوليين. وأخيرًا، فليست فرضية المخبرين السريين وحدها هي المطروحة. فأنا لا أستبعد فكرة قيام جبهة التحرير الشعبية بهذا العمل، كرد فعلٍ انتقامي — على سبيل المثال — على اختفاء أحد الطرود، أو لمعاقبة حارس ثرثار. بل إن هذه الفكرة تبدو لي مرضية أكثر، ففيها ميزة خلق الرابط مع مقتل الابن. ولك أن تتخيله يدس أنفه في شئون والده فيكتشف جزءًا من كنز جبهة التحرير الشعبية.

– منذ قليل — أثناء دخولك — سخرت مني لأنني أتفرج على كتاب إباحيٍّ! وأنت، أنت تفضل الروايات المسلسلة! أين يختبئ كنزك الحربي؟ في قاعة سرية في الكابيتول؟

– ربما في تولوز، فهي واحدة من المُدن التي تضم أكبر عدد من الجزائريين الذين تم ترحيلهم إلى وطنهم، وآخرين قادرين على الحياة مع الماضي. إنها تستحق المراجعة! لكنني لا أطلب منك إلا شيئًا واحدًا، ملف روجيه تيرو للاطلاع عليه.

أمسك بتليفون أسود — موجود على طرف مكتبه — وأدار رقمًا داخليًّا من ثلاثة أعداد.

– سأرى ما أستطيع عمله من أجلك.

واضح أن من يتصل به يُشغل الخط؛ فقد اضطر إلى الاتصال به مرتين قبل الحصول عليه.

– آلو جربيه، دالبوا من تحقيق الشخصية. أحتاج إلى تكوين فكرة عن حاملي الحقائب، يحتمل عودة بعضهم إلى الشبكات الإرهابية. لا بد وأن أمامك تحليلًا ما حول الموضوع. إذن، أضف الآن ملف روجيه تيرو. وهو شخص أوروبي من جبهة التحرير الشعبية، توفي خلال مظاهرات أكتوبر ٦١ الجزائرية.

أنهى المكالمة سعيدًا بنفسه. بدا مسرورًا — بشكلٍ خاصٍّ — من إظهار سلطاته أمام مفتش صغير من الأقاليم.

– سنحصل على كل شيء خلال ربع ساعة. وفيما عدا هذا، أأنت متزوج؟

– لا. ما إن أبدأ في الاعتياد على مكانٍ حتى أنقل! سأرى في تولوز. وأنت؟

ربَّت على بطنه ورفع رأسه.

– أليس واضحًا؟ هل لديك وقت للتعرف على جيزيل، إنها طباخة ماهرة، مساء غد مثلًا؟ سأدبر أموري بحيث تعتني حماتي بالصغيرين.

وافقت حرصًا على مصالحي؛ فلن أضطر — على الأقل — إلى تسلية الطفلين. دخل الغرفة زميل لدالبوا، بالتأكيد جربيه، ووضع ملفًّا على المكتب.

– ها هو، هذا كل ما لدينا عن شبكات مساعدة الفلاقة، ربما تكون مُطلعًا على أشياء خطيرٍ. هناك أسماء عديدة محاطة بالأحمر في قائمة الإرهاب. نحن ننبش مرة أو مرتين سنويًّا! خاصة كل من دار حول بوردييل. لكنني أحذرك، فهم حيتان كبيرة، ولم ننجح — أبدًا — في إثبات أي شيء ضدهم، فنكتفي بتحقيقات الحوادث والمصادفات. لا أحد يعرف شيئًا. بعد ذلك، وحتى عندما اغتالت بوردييل مجموعةُ «الشرف والشرطة»، لم نجد أي شيء.

لم يكُفَّ الشابُّ عن إلقاء نظرات سريعة في اتجاهي وهو يتحدث. قرر دالبوا طمأنته.

– المفتش كادان. صديق. وهو يحقق في قصة قتل غامضة في تولوز، وانتهز فرصة وجوده في باريس ليتصل بأصدقائه القدامى! يمكنك أن تكمل يا جربيه. لا غريب بيننا.

صافحني جربيه وواصل حديثه مع دالبوا.

– إذا دسست أنفك، فكن حذرًا. قتلوا بوردييل إثر عملية إفساد في أقسامنا. كان قد تخلى — منذ نهاية حرب الجزائر — عن الخدمة النشطة، وأخذ يناضل من أجل المصالحة السياسية بين الفلسطينيين واليسار الإسرائيلي. خدعونا وأوهمونا أنه على اتصال بعناصر مسلحةٍ تعمل على أرضنا، وأن شقته تُستخدم كمخبأ. وحدث تسرب لبعض المعلومات من وثائق التحقيق، ونشرت الصحف القصة. وبعد ذلك بأسبوع، استعد بوردييل لمواجهة مجموعة «الشرف والشرطة».

– «أوكي». سأسير بحذر. وملف تيرو؟

وضع جربيه ملفًّا أصفر أمام دالبوا وفتحه. احتوى الملف على ثلاث ورقات أو أربع، منسوخة على الآلة الكاتبة.

– أتساءل ما الذي تبغيه من هذا الرجل. يمكننا تلخيص حياته في سطرين.

أمسك دالبوا بالورق وهو يصيح: لا تهمني حياته. ما يستهويني — بالضبط — في هذا الموضوع، هو موته! اترك لي هذه الوثيقة التافهة، سأعيدها لك قبل هذا المساء.

حيَّاني جربيه وغادر الغرفة.

– لطيف حقًّا زميلك. تخيلت علاقات أكثر توترًا في إدارة المباحث. ما عليك إلا أن تطلب — بأدب — أسرار الدولة في المنزل، فيبعثون لك بها.

– لا. لا تفكر هكذا؛ فبعضهم يستحق التوبيخ. لكن، ليس جربيه؛ فهو لا يستطيع أن يرفض لي طلبًا.

– لكن، لماذا؟

– اسمح لي بالاحتفاظ بالأمر سرًّا؛ فعملي يرتكز على معرفة الحد الأقصى من الأشياء عن الحد الأقصى من الناس. وبالأساس، تلك الحقائق التي يخفي أصحابها الأصليون وجودها. افترض أنك موظف في مديرية الأمن، وأن شائعات قوية تضع استقامة زوجتك الأخلاقية موضع الشك، على سبيل المثال إنها لا تأنف من مرافقة فتيات صغيرات السن.

– ليس هناك أي احتمال لذلك. سبق وقلت لك إنني لست متزوجًا!

ابتسم دالبوا.

– ليست حالة جربيه. فلنكُفَّ عن الحديث عن هذه الحماقات. إذا ما أكملت، فسأعتبر نفسي دنيئًا. لنرَ جذور رجلك.

أخرج بطاقة من الدوسيه.

– روجيه تيرو، ولد في ١٧ يوليو ١٩٢٩م، في درانسي (سين)، وتوفي في ١٧ أكتوبر ١٩٦١م في باريس. متزوج من مورييل لابور. جاء الطفل بعد وفاة الأب (برنار تيرو، في ٢٠ ديسمبر ١٩٦١م، في باريس). يقيم في ٥ شارع نوتردام دي بون نوفيل. باريس، الدائرة الثانية لا وجود لأي نشاط سياسي أو نقابي. عضو في جمعية المؤرخين. يظهر اسمه — عام ١٩٥٤م — في قائمة الموقِّعين على «نداء ستوكهولم».

– وما هو مضمون هذا النداء؟

وضع دالبوا الورقة ونظر إليَّ.

– عريضة دولية لحظر الأسلحة الذرية.

– مصدرها الشيوعيون؟

– شاركوا في الأمر. لكن النداء وقَّعه أكثر من مليون فرنسي. وإذا بدأنا في التدقيق، فسنقضي على نصف نواب المجلس الحالي؛ الأغلبية والمعارضة معًا؛ فمن الصعب إضفاء أهمية كبرى على دليلٍ كهذا. هناك أيضًا تقرير معهد الطب الشرعي: «عُثر عليه ميتًا إثر رصاصة في رأسه بالصدغ الأيمن، عقب الاضطرابات الجزائرية في السابع عشر من أكتوبر ١٩٦١م. ساعة الوفاة المرجحة: بين السابعة والثانية عشرة مساءً. تشريح الجثة: لا شيء. ملابس وأشياء مختلفة عُثر عليها مع الجثة: بدلة صوف من ثلاث قطع، ماركة «هادسون» مقاس ٤٢، لونها رمادي بخطوط بيضاء. القميص المشهور بالأمريكي، أزرق فاتح مقاس ٣٨، فانلة و«سليب»، ساعة «ديفور» غير معطَّلة. محفظة تحتوي على البطاقة الشخصية والبطاقة المهنية الصادرة عن التعليم القومي باسم روجيه تيرو، فاتورة بمبلغ ١٤٩٨م فرنكًا جديدًا لشراء جهاز تليفزيوني «ربيت-دي جاردان» المزود بالقناة الثانية، مائة وثلاثة وعشرون فرنكًا جديدًا، تذكرة سينما من «ميدى-مينوي».» هذا كل شيء. ليس ثرثارًا عميلك هذا!

– لا. لا يهمني إطلاقًا معرفة أنه كان يرتدي سليب «بتي باتوه» أو سليب «إمينانس». وعلى العموم، فالأكثر إثارة للاهتمام أن أعرف أنه دخل سينما اسمها «ميدي-مينوي». تعرفها؟

– اسمًا. حاليًّا عادوا إلى وضعهم السابق، إلى الأفلام الإباحية. في ذلك الوقت، كانت مكان لقاء هواة الأفلام الخيالية، وعرض أفلام عن مصاصي الدماء، والسحر، والشعوذة. وقتئذٍ، لم يكن مقبولًا دخول هذه السينما، تمامًا مثل قضاء السهرة في «بيجال».

– لو اسمي هرقل بوارو، لكان عليَّ أن أسجل رقم التذكرة، وأهرع إلى المركز القومي للسينما لأتبين تاريخ تسليم هذا الكوبون بالضبط. وبمعلومة من هذا النوع، سأعرف آخر فيلم شاهده روجيه تيرو. وبالتالي، عمر عاملة السينما! ما الذي آمله أفضل من ذلك؟ لا شيء. هذا ملف ناقص. أو، الأسوأ، إنه خدعة. يجب العثور على أدلة دامغة أكثر في مكان ما. هذه المظاهرة — مثلًا — استعلمت عنها بشكل واضح. ذكرت المديرية أربعة قتلى أو خمسة؛ هذا حسب البيان. و«ن. ش. إ»، نقابة الشرطة الإقليمية، أفادت — في بيانها الختامي — أن ٦٠ شخصًا لقوا مصرعهم؛ وتم فحصهم. لكن رابطة حقوق الإنسان …

عندما سمع دالبوا هذا الاسم، ضم القبضة اليمنى، وتظاهر بغرس إصبعه الوسطى المدببة في مؤخرة وهمية.

– نعم أعرف ما تعتقده في هذا النمط من المنظمات. لكن في مسألة كهذه يصبح رأيهم في نفس أهمية رأي الآخرين. يتحدثون عن مائتي قتيل ليلة الاضطرابات، وعن رقم مثله خلال الأسبوع الذي تلاه. ما أحاول أن ألفت نظرك إليه هو أنها قصة خطيرة. مذبحة في قلب باريس؛ ولا أحد يعرف شيئًا! حتمًا هناك آثار لمذبحة كهذه.

حَكَّ دالبوا وجنته، واتكأ على مقعده: سأرى ما يمكن عمله.

أخذ التليفون مرَّة أخرى واتصل بجربيه: ألقيت — توًّا — نظرة على أوراقك. هذا قليل. تعال لتأخذها ما إن تنته من عملك. وعلى أية حال، سؤال أو اثنان.

ثم موجهًا حديثه إليَّ: سيعود فورًا. دعني أمهد الأمر، وحافظ أنت على دور ابن العم الريفي؛ فذلك قابل للتصديق!

دقيقتان، وبعدها كان جربيه جالسًا على يميني يستمع إلى دالبوا، أخذ يحرك الملف الأصفر أمام عينيه: هذا غريب فعلًا. يلتقطون مدرس تاريخ من على الرصيف الباريسي، ورأسه محشوة بالرصاص، ولا يراعون تشريحه. لا شيء. ولا تحقيق أيضًا. لا يبحثون عن أسباب الوفاة ولا عن القاتل! يعتقد المرء أنه يحلم. وطبقًا لهذه الأوراق، لم يستطع أحد إثبات أن روجيه تيرو ارتبط بجبهة التحرير الشعبية. إنه يبدو مثل مدرس صغير وديع غير عدواني. ما الذي يتخفى وراء ذلك؟ هناك — بالتأكيد — عناصر أخرى. أأنت على علم بها؟

تململ جربيه في مقعده، وهو يشعر بالضيق، وأخذ يُصقل صوته: اسمع يا دالبوا. اترك كل هذا على حاله، فأنت أول من يُحرك هذه المسائل منذ عشرين عامًا. ولن يفيد شيئًا، ولا أحدًا، إثباتُ أن مدرسًا للتاريخ كان يخدم منظمة هدامة، وأن الدولة الفرنسية اختارت اغتياله. واليوم، هذه المعلومات تخص البلدين، فرنسا والجزائر. وليس من صالح الحكومات أن ترى عودة بعض الأشباح. واكتشاف مدفن عظام «كنشيلا» قدَّم الدليل على ذلك. فقد اكتشف الحفارون أكثر من تسعمائة هيكل عظمي خلال عمليات إنشاء استاد لكرة القدم شرق الأوراس. وطبقًا لكل الاحتمالات، فهو أمر يتعلق بجنود جيش بومدين الذين أعدمتهم «الفرقة» صاحبة المعسكر في هذا الموقع. تكتمت السلطات الجزائرية هذا الموضوع تمامًا؛ واستخدمت هذا الاكتشاف على الصعيد الداخلي فقط، دون أن تشن حملة معادية للفرنسيين بهذه المناسبة. وكان من الضروري انتظار «مُنقِّب القاذورات» من صحيفة «ليبراسيون» ليتكفل بهذا العمل.

– تعني أنه يجب انتظار صدور «ليبراسيون» لنعرف أسباب موت روجيه تيرو؟

– لا. ليس هذا إطلاقًا! لنكن واضحين؛ فالشخصيات المتواجدة حاليًّا في السلطة — في فرنسا — أدانت عمل الشرطة في هذا العهد، في غالبيتها العظمى. فعندما تنبش في الماضي، لن تنجح الحكومة الجزائرية إلا في إثارة الهجوم ضدهم، وإنعاش المعارضة والضغينة. إنها ساعة النسيان، بل الغفران.

– لا أفهمك يا جربيه. فطالما أن القادة الحاليِّين انتقدوا الشرطة، والدور الذي جعلوها تلعبه، تصبح مناورة جيدة — بالنسبة لهم — أن يظهروا الملف ويمدحوا أنفسهم باسم الإخلاص لمبادئهم.

واضح أن جربيه لا تعجبه الصيغة التي أخذتها المحادثة. تزايد تململه في مقعده وبدأ يُلقي عليَّ بنظرات يائسة.

– كي أعترف لك بكل شيء، حقَّقت الرقابة الإدارية في الموضوع — في أكتوبر ١٩٦١م — تحت ضغط أعضاء المعارضة في مجلس النواب والشيوخ. تقريبًا مثلما فعل بيجين إزاء مذابح صابرا وشايتلا. وتم انتداب سبعة قضاة تحت سلطة وزير الداخلية وقتئذٍ. وأنت لا تجهل أنه — اليوم — رئيس المجلس الدستوري؛ مما يبرر إجراءات الحيطة والحذر التي يجب اتخاذها قبل لمس هذا الملف. لقد اضطر القضاة — ضمن أشياء أخرى — إلى إبداء رأيهم في أسباب وفاة ستين شخصًا، ذهب جثمانهم إلى معهد الطب الشرعي صباح اليوم التالي للمظاهرات. لا بد وأن جثمان روجيه تيرو كان ضمن الحصة. والمصادفة أن هذه اللجنة قد تشكَّلت بإلحاح من وزير الداخلية الحالي.

– والنتيجة؟

– ﻟ «الحفظ». أثبت في ختام التقرير أن الشرطة الباريسية قامت بواجبها في حماية العاصمة من تمرد شنته منظمة إرهابية. أشياء قليلة جدًّا أُعلن عنها. وهناك مجلدان عن أعمال هذه اللجنة ونتائج تحركات مجموعات التدخل المختلفة خلال هذه الليلة. واحد في الوزارة، والآخر هنا، في أرشيف الشرطة القومية.

نهض دالبوا وهو يبتسم.

– حسنًا. هذا ما أريد الاطلاع عليه.

اصفر وجه جربيه تمامًا؛ وأخذ يعرق بغزارة. تكوَّم في المقعد وكتفاه منحنيتان.

– هذا مستحيل. فلا أحد يستطيع الوصول إليه. وللوزير وحده الحق في إخراجه من الخزانة؛ والإعلان عن مضمونه. تعرف المرسوم الخاص بنشر وثائق الدولة. خمسون عامًا من السرية المطلقة. وليس في سلطاتي خرقه. وستتعفن بعض الملفات الخطرة، خلال قرون بأكملها قبل أن ترى النور. أنت تعلم — مثلي — أن الحكومات بحاجة إلى شرطة قوية وموحَّدة. وطرْح مسألة أكتوبر ١٩٦١م على الساحة العامة سينتج أثرًا عكسيًّا. فسرعان ما سيبدءون في تقييم قرارات وزير الداخلية، أو ممارسات مدير المديرية. وإثارة اضطرابات كهذه في إدارة البيت ستزعزع استقرار نصف قادة قوات الأمن الجمهورية، فهي لا تزال تحت سلطة نفس الضباط. من يتمنى اضطرابات كهذه؟ قطعًا ليست السلطة السياسية. وسيكون المكسب تافهًا بالقياس إلى فقدان الثقة الذي سيتعرض له جهاز حفظ النظام والجيش كله.

قرر دالبوا وضع حدٍّ لعملية تعذيبه.

– ما نقدره في المحترفين من «م. ع»، هو معرفتهم العميقة بكل الملفات. اطمئن يا جربيه، لن أطلب منك كشف أسرار الدولة؛ خاصة وأن عملنا ينحصر في خلقها! إذا كنت أفهمك تمامًا، فالطريق كله مملوء بالألغام. وصراحتك تستحق التقدير. أليس هناك — حقًّا — مصدر متاح؟

– المسألة ليست سهلة. أنا آسف. لا يبقى سوى الخطوات الكلاسيكية الأولى للمهنة: فحص صُحف ١٩٦١م، والمنشورات، وتصريحات المخبرين. لدينا مجموعة جميلة في الميكروفيلم، بالإضافة إلى عدة آلاف من النسخ المصورة بإدارة السجلات الجنائية. لكن، لا شيء محدد. فقد حدثت مشاكل مع مصور القسم الذي يُدعى مارك روسنير. كان عليه تغطية تدخل القوات الخاصة، لكنه لم يُسلم أبدًا الأفلام. على الأقل هذا هو الكلام الرسمي. وفي بداية الستينيات، لم يصل هواة التصوير والسينما إلى مستوى التطور الحالي فليس لدينا إلا عشر أو خمس عشرة نسخة سلبية صورها بعض المارة. عدا هذا، فقد ثبت، وبشكل قطعي، أن فريقًا من التليفزيون البلجيكي — ر. ت. ب. ف — وخلال وجوده في باريس لتسجيل رحلة شاه إيران وفرح ديبا الرسمية للبلاد، قد صور فيلمًا طوله حوالي ساعة، عن المتظاهرين وهم مختبئون في سياراتهم، ثم في أحد المقاهي. لم يذع التليفزيون البلجيكي أي شيء، وهذا هو التنازل الوحيد الذي قدَّمه لنا. حاولنا شراء الأفلام فلم ننجح. أستطيع إعطاءك تليفونات المخرجين البلجيكيين وتليفونات روسنير.

قاطعته: بالنسبة لمارك روسنير لا داعي للتعب، فقد التقيت به خلال تحقيق سابق.

أرعبتني نظرة دالبوا وقد فغر فمه بينما انْغَرس جربيه أمامه: ما معنى هذا؟ ألست مَن يهتم بهذه المسألة؟ بأي صفة يجب أن أساعد هذا الأستاذ؟

شرح له دالبوا طبيعة استجواباتي حول جريمة قتل برنار تيرو وولده. نجح بصعوبة في تهدئة زميله، ووعده بإطلاعه على أبحاثنا. وما إن أغلق الباب، حتى أخذ يوبخني.

– أتصرف بحيث أستخلص — بلطف — أقصى حد من المعلومات من واحد من المباحث، وأنت ترد لي الجميل بهذا المقلب. يمكن الاعتقاد بأنك تتعمد ذلك. أفهم الآن لماذا لا تمكث طويلًا في نفس الموقع؛ فالتخلص من أخرق مثلك لهو إجراء أمني! قل لي — على الأقل — بأية طريقة تعرَّفت على هذا المدعو روسنير. ذلك مهم لي.

– حدث ذلك العام الماضي، في كورفيليه؛ خلال قصة كئيبة عن عمليات مونتاج فوتوغرافي تستهدف توريط بعض الشخصيات المحلية. وبالصدفة، وقعت على مارك روسنير، الذي تولى الجانب التقني من المسألة. يبدو أن تجارته الرسمية لم تكن تدر عليه عائدًا مرضيًا.

– لماذا؟ ألم يعد يعمل لحسابنا؟

– لا؛ منذ ١٩٦١م. حكى لي شخص من إدارة السجلات الجنائية عن مشاكله مع رؤسائه. فقد سارت أموره بشكل سيئ، وذلك لهوايته العبث بالجثث بعد رحيل رجال المعمل.

– تقول إنه …

بدا دالبوا مرعوبًا حقًّا.

– لا. فقط يستمتع بتعديل الأوضاع، وبتكوين نوع من «الطبيعة الصامتة». ليس هذا شيئًا شريرًا حقًّا. ولم تكن له عاقبة سيئة على عمله. تغاضَى الكل عنه، عدا مدير المديرية، الذي قرر أن ينال منه. في سبتمبر، تلقى روسنير إنذارين، وتم استدعاء مدير الهوية الشخصية. وليلة المظاهرة، كانت نوبتجية روسنير. يبدو أنه صوَّر أكثر الاشتباكات خطورة. حكوا لي عن جزائريين خوزقوهم فوق حواجز المترو الهوائي، وعن عمليات اغتصاب في أقسام البوليس. واعتقد روسنير — بما معه من هذه المواد — أنه يمتلك ورقة رابحة، وتصوَّر أن مدير المكتب سيبدي مرونة أكبر، فأخذ يتفاخر بالموضوع أمام بعض الزملاء. بعد ذلك ببضعة أيام، قام فريق من عمال «السباكة» بعملية في معمل تصوير المديرية وفي منزل روسنير. واستولوا على كل ملفاته وكل أرشيفه. ووجد روسنير نفسه بلا وظيفة، مطرودًا لخطأ جسيم. بعدئذٍ، فتح استديو للريبورتاج، وحفلات الزفاف، وتناول القربان في كورفيلييه.

– هذا ما ينتظرك إذا واصلت دس أنفك في الموضوع.

– أنا لا أعرف أي شيء عن التصوير!

•••

وفي المصعد، بدأت أبحث عن وسيلة للهروب من دعوته. ليس لديَّ أي احتياج لمقابلة جيزيل دالبوا. القرية الصغيرة «على الطريقة الفرنسية» في الضواحي القريبة، حيث المنزل الصغير ذو الحائط الأسمنتي بالجراج الملتصق به وسقفاهما اللذان يحتاجان إلى ترميم. فقد تبدَّت عبقرية دالبوا في الإيماءة خلال حديثه عن زواجي المحتمل، عندما جسَّد واقعه لي خلال تربيته على بطنه. تلخصت شخصية مدام دالبوا في الآتي: مائدة حافلة بالطعام. ولا أرى كيف ستنجح ليلة مملة كهذه في تغيير قراري. سرت حتى محطة سان-ميشيل، وجلست في كنبة التاكسي — الخلفية — المحطَّمة. رقد كلب ألماني في المقعد الذي واجهني. أخذ جفناه يرتفعان في أوقات متقطعة، وجسده يضطرب بحركة عصبية. نقبت في جيبي. ولكن ما إن أخرجت علبة السجائر، حتى شرع الحيوان في الدمدمة، وعوى سيده.

– لا يحب كثيرًا التدخين في السيارة؛ وأنا كذلك. إلى أين؟

– كورفيلييه، شارع دي لا جار، بعد أولني-سو-بوا.

– حسنًا. يا لها من رحلة غريبة.

أدار العداد ذا البيانات الرقمية. استغرقت في تأمل عميق لتحويلات الأرقام الحمراء، بحنين خاص، بسبب سلاسة الانتقال بواسطة جزء من الرقم، من ٥ إلى ٦ ومن ٨ إلى ٩. أخذ السائق يحاول — على فترات منتظمة — المبادرة بالحديث عن مساوئ القيادة المقارنة بين العرب والأفارقة. وعندما أصابه اليأس من صمتي، حاول عقد اتصال مُعادٍ للسامية، بلا نجاح كذلك؛ فلجأ — في ختام عرض حججه — إلى التأويل النغمي لنجاحات «سيرج لاما» الأخيرة.

وقف الكلب فوق مقعده عند الاقتراب من أرض المعارض؛ وأخذ ينفض جسده. امتلأ «البيت» بالشعر الرمادي والأصهب. ربَّت السائق على ظهر الحيوان بمحبة، ونجح في الإبقاء عليه بلا حركة. تركت السيارة الطريق السريع لتطوف بورش مصنع «هوتش» الهائلة، ثم انطلقت في اتجاه المحطة.

– هاك. لقد وصلت. المطلوب ٦٢ فرنكًا، بالإضافة إلى ٢٠ فرنكًا للعودة.

فتشت جيوبي وأعطيته الحساب بالضبط.

– حسنًا. لست كريمًا حقًّا. والبقشيش؟ لمن؟

انحنيت نحو نافذته وأنا أنفض سترتي وبنطلوني: إنه للكيِّ بالبخار! سأحتاج إليه لأدفع ثمن التنظيف.

انطلق التاكسي وإطاراته تصر صريرًا عاليًا. دار نحو مفترق الطريق السريع. لكنني ظللت أسمع صياح السائق ونباح كلب الرعي.

١  EROS، غريزة الحب.
٢  THANATOS كلمة يونانية ترمز للموت.
٣  Glace بمعنى مثلَّج ومصقول. يلعب المؤلف بالكلمات للإشارة إلى دور «المجلة» في شعور «دالبوا» بالراحة في هذا الجو الحار. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤