الفصل السادس

وافقت مدام تيرو على استقبالي فيما بعد ظهيرة اليوم التالي. استفدت من الساعات القليلة التي تسبق الموعد لأتنزه في باريس. وصلت البولفار قبل الأوان، وكررت — لا شعوريًّا تقريبًا — الجولة التي قام بها رجل قوات الأمن الجمهورية منذ عشرين عامًا مضت، في الوقت الذي صوَّره السينمائيون البلجيكيون. أشياء قليلة تغيَّرت منذ ذلك الحين، عدا إعلان «ركس» عن فيلم كارتون لوالت ديزني؛ وكافتيريا «لومانيتيه»، التي تحولت إلى «بيرجير كينج».

عبرت البولفار أمام مقهى «مادلين-باستيل» الذي شغل الجزء الأكبر من الرصيف. هبطت مجموعة من السياح اليابانيين — يرتدون قمصانًا خفيفة وصدريات بيضاء — من أتوبيس «باري فيزيون» — ذي الطابقين — وهم يشيرون — بأصابعهم — إلى مسرح «الجيمناز»؛ حيث احتل قوصرةً١ مدخله عنوانُ عرض مسرحي لجي بيدوس. ولدهشتي الكبرى، دلفت المجموعة كلها إلى البهو خلف المرشد. سرت في اتجاه بوابة سان-دني، وتجاوزت شارع فيل-نوف، ثم شارع توريل. فشارع نوتردام دي بون نوفيل لا يفضي إلى البولفار؛ فهو يقع على ارتفاع بسيط، ويستند — في هذا الجانب — على نوعين من السلالم: الأولى واسعة ومقوَّسة قليلًا، والثانية ضيقة ووعرة. وعند عبورنا لأيٍّ من سلالمه القليلة، نصل إلى حي آخر، يختلف تمامًا عن أي بولفار كبير. وبدلًا من بريق اللافتات ونيون المقاهي، يسود الاضطراب الفوضوي لصناعات الاستهلاك. من شارع بوريجار، تبدأ مملكة الملابس. عالم ماهر وبارع من الحائكات، والمطرزات، والخياطات، والمرتقات، اللاتي يبدون في مظهر كبار المستهترات أغلب الأحيان، والقادمات من سهول الأناضول والنيل أو من المناطق الآسيوية الصغيرة، والناجيات من منفى الهند الصينية. عمال مخازن باكستانيون أو بنجاليون، بعمامة ناصعة البياض فوق رءوسهم، ينقلون أتواب الأقمشة الضخمة، وعرباتهم تمر من الرصيف إلى الشارع متجنبةً الكلاب والسيارات والمارة.

أما شارع نوتردام دي بون نوفيل — المحاصر بين الشوارع الرئيسية وشارع بوريجار — فقد شكَّل — على حدة — جزيرة صغيرة من السكينة؛ فحضور الكنيسة الهائل — والذي أخذ منها اسمه — له دلالة كبيرة. جلست في مقهى «دي كانز مارش»، وطلبت كوبًا كبيرًا من البيرة قدمه لي صبي أكتع. ظللت أتابعه ببصري دقائق طوالًا، مذهولًا بمهارته في عصر الليمون، وإعداد «الهوتْ دوج»، ووضع الزبد في سندوتشات لحم الخنزير المفروم، وجمع الكئوس وأرغفة الفينو بيده المعوَّقة. أسند صاحب المقهى مرفقه أمامي. تنقلت نظرته بسرعة — ذهابًا وإيابًا — بيني وبين البارمان.

– يُدهشك، هه! أول مرة تأتي هنا؟

أجبته بنعم.

– إنه يبهر الزبائن بغرابته، ثم يعتادون عليه؛ مثل كل شيء.

أشار إلى البارمان بحركة من ذقنه.

– إنه مثلي من قدامى العاملين بترسانة الأسلحة. عملنا معًا في متفجرات النيتروجلسرين. لقد خرجت منها سليمًا معافًى! لكن حظه كان أقل مني. أنا نفذت بيدي، أما هو فتركها. المزاج ضروري!

– كيف وقع هذا؟ حادث؟

– نعم، في البدء لم نفهم. كان ينقل النيتروجليكول طوال النهار — منذ أعوام — مثلي؛ دون أي حادث. ثم في أحد الأيام، وفي أولى ساعات العودة إلى العمل بعد الإجازات، إذ به يُسقط قارورة. وبدلًا من أن يختبئ ويحمي نفسه، حاول الإمساك بها. وها هي النتيجة.

– نعم. إنها مخاطر المهنة.

– نعم يا أستاذ. هذا أيضًا ما قيل. ولكنَّ أشخاصًا من البحث العلمي لاحظوا — من إحصائياتهم — أن هذا النوع من الحوادث أكثر تكرارًا يوم الإثنين أو عند العودة من الإجازات. وعندما تمعنوا في الأمر، أدركوا أن النيتروجليكول يؤثر على القلب. إلى حد ما مثل المخدرات! وهذا حقيقي، فأثناء عملنا كنا نشعر أننا في أحسن حال، والنقيض خلال عطلات نهاية الأسبوع والإجازات. يبدو أن بخار النيترو كان ينقصنا. ومنذ ذلك الحين، ابتكروا دواءً قاعدته من النيتروجلسرين لمرضى القلب، وهو يوسِّع الشريان التاجي.

– الخلاصة أن رجلك ليس ضحية إصابة عمل. يده ارتعشت نتيجة مرض مهني!

– حسنًا! لم تخطر في بالي هذه الفكرة.

غادرت مقهى «ديكانزمارش» بعد أن دفعت ثمن مشروبي. وفوق منصة الحداد، المتكئة على منفذ السلالم، تعهدت لافتة بصنع «المفاتيح في دقيقة»، بينما ذكرت ورقة ملصقة على الزجاج أن «الحداد يعود خلال ربع ساعة».

شغل الرقم خمسة من شارع نوتردام دي بون نوفيل مبنى باريسيًّا قديمًا مُعتَنى به، تكتسي نوافذه بالشيش المفرَّغ. وعلى الحائط، على يسار باب الدخول، لوحة من الرخام الأبيض مكتوب عليها — بأحرف من ذهب — «المقر الاجتماعي للنقابة القومية لمستخدمي الرافعات». اجتزت الباب بعد عبور حديقة صغيرة أفضت بي إلى ردهة بهو العمارة. كان مثلث المدخل مزينًا بنقش بارز مضحك، مستلهم من اليونان، يمثل عازف شبَّابة وعازف فلوت. ألصقت قائمة المستأجرين — بشكل ظاهر — على زجاج حجرة البواب، ومعها البيانات اللازمة عن طابق كل منهم ورقم الشقة. صرَّت السلالم الخشبية المصقولة تحت خطواتي. ازدان الطابق الأول بمرآة واسعة يحيطها إطار ذهبي، ولوحة ريفية يسودها اللون البني. وصلت إلى الطابق الثالث وأنا ألهث قليلًا. طرقت الباب عدة مرات بقوة قبل أن تقرر مدام تيرو الرَّد عليَّ. تعاقبت أصوات لثلاثة أقفال، ثم انفتح الباب — بضعة سنتيمترات — وقد حجزته سلسلة الأمان.

– مدام. أنا المفتش كادان. حدثتك هذا الصباح.

انغلق الباب فجأة، إنه الوقت اللازم لرفع السلسلة. أخيرًا نجحت في الدخول إلى الشقة.

لم تتخط أرملة روجيه تيرو الخامسة والأربعين من عمرها. لكن حياة العزلة الإرادية حولتها إلى امرأة عجوز. سارت أمامي في الممشى وظهرها محني، وركبتاها أيضًا، دون أن ترفع قدميها. زحلقت قدميها في صمت على الباركيه، وكأن أقل حركة تكلفها جهدًا لا يطاق. انهارت وهي تتنهد فوق مقعد يكسوه غطاء من الكروشيه الصوف المشغول. تأملتني بنظرةٍ فارغة.

غرقت الغرفة في الظلام، ونوافذها كلها مغلقة، عدا نافذة واحدة، تركتها مفتوحة لتسمح بمرور الهواء. تسللت أشعة شمس عبر المسافات الواضحة. سحبتُ كرسيًّا وجلستُ بجوار المائدة.

– كما سبق وقلت لحضرتك، أحقق في ظروف مصرع ابنك برنار، وحاليًّا، لا يزال القاتل مجهولًا فعلًا. ونحن لا نملك — إطلاقًا — أي دليلٍ ذي بال لتوجيه تحرياتنا، ولا نعرف له أي أعداء، وحياته العاطفية تبدو شديدة البساطة. وبصراحة تامة، هناك — رغم هذا — واقعة تسترعي انتباهنا؛ اليوم الذي لم يعايشه ابنك، يوم وفاة والده.

راقبت رد فعل محاورتي. لكن الحديث عن نهاية زوجها لم يغيِّر أي شيء في تصرفاتها.

– علمت — صدفة — بظروف اختفاء زوجك المأساوية. لا شيء مؤكد مطلقًا؛ لكن يُحتمل جدًّا أن ابنك قُتل لنفس أسباب قتل والده. ألا تعتقدين ذلك؟

أحسست أن حديثي إنما يتوجه إلى جدار، إلى ميت/حي.

حافظت مدام تيرو على عينيها مصوبتين نحوي، لكن نظرتها لم تنجح في التشبث بشيء، وكأنها تعبرني وتتجه بعيدًا، ورائي. واصلت:

– أعلم أيضًا أنه لم يتم أي تحقيق عام ١٩٦١م، وأن اسم زوجك قد ورد بين ضحايا المظاهرات الرسميين. ضحايا من؟ الشك — هنا — مسموح به. لم يفت الأوان بعد لإصلاح هذه الغلطة. أريد أن أساعدك.

اضطربت لأول مرة. نهضت وجاءت لتستند على خشبة خزانة الأطباق.

– أيها المفتش؛ كل هذا ملك الماضي. لا يفيد شيئًا العودة إلى هذه الأحداث كلها وتشريح المسئوليات.

كانت تقوم بوقفات طويلة بعد كل كلمة، وتحدد علامات التوقف في جملتها بزفرات طويلة.

– لقد مات زوجي، ومات ابني. لن تعيدهما مرَّةً أخرى. سلَّمت بأن تصبح حياتي هكذا، وآمل أن ألحق بهما بأسرع ما يمكن.

– لماذا؟ ما الذي تريدين إخفاءه؟ تلقى روجيه تيرو رصاصة وهو يشارك في مظاهرة. هل علمتِ أنه كان مهتمًّا بشبكة مساعدة جبهة التحرير الشعبية؟

– أنت مخطئ. لم يكن لزوجي أيَّةُ ميول سياسية. اهتمَّ بعمله، بالتاريخ. كرَّس له وقته، في الليسيه وفي البيت أيضًا. وليلة موته، كان عائدًا بعد حصته الأخيرة كالمعتاد.

أخذت تتنقل في الحجرة، على طريقة العجائز، متجنبة — بعناية — الجزء الواقع بالقرب من النوافذ المطلة على الشارع. وبكل بساطة، اقتربت من النوافذ بدافع الفضول، لكن سلوكي سبَّب لها ذعرًا حقيقيًّا. التصقت بالحائط المقابل وهي تلهث.

شكلت المساحة المحيطة بالنافذة أرضًا منفصلة ومستقلة حقًّا، حيث تراكمت الأتربة. ما من أحد اقترب أبدًا من هذا المكان. فجأةً، أمسكت بالستائر ودفعتها لتنزلق على الماسورة. وجدت صعوبة في فتح الرتاج. اضطررت إلى بذل جهد حقيقي لفتح طرفَي النافذة؛ ثم رفعت سقاطة الشيش، اجتاح ضوء النهار المنزل، اندلع شعاع شمس على الحائط الذي استندت عليه مدام تيرو. انحنيت. وأسفل — بعشرة أمتار — أحاط ناس بمنصة دكان الحداد، الذي لم أميز منه إلا السقف المتموج، بينما مجموعة من الصبية تصعد سلالم شارع نوتردام دي بون نوفيل.

كانت مدام تيرو قد بحثت عن ملجأ في المطبخ، فريسة لأزمة هستيرية حقيقية؛ وهي تبكي بينما جسدها ينتفض من الرجفة ومن الحركات العصبية. وضعت ذراعي على كتفيها.

– لا أريد لك أي سوء يا سيدتي. أنا هنا لمساعدتك. تعالي ولا تخافي.

أمسكت بها من رسغيها وقدتها — رويدًا رويدًا — نحو المكان الذي طالما خافت منه. لم أكف عن الحديث معها وتشجيعها. وكلما اقتربت من النافذة، اشتدت استغاثتها وصرخاتها. لكنها استسلمت أخيرًا، وتخلت عن أية مقاومة. نجحت في إبقائها بجواري، ووضع ذراعيها على متكأ النافذة.

– افتحي عينيك، أتوسل إليكِ. مضت عشرون سنة. لم يعد هناك ما يخيفك.

استرخت وكفت عن البكاء والأنين. ارتفع جفناها خفية أولًا ثم انسدلا. تحركت أهدابها من جديد، وعزمت — فجأة — على التطلع إلى الشارع.

– كنتِ هنا، أليس كذلك، كنتِ هنا تنتظرينه عندما قُتل؟ قولي لي، ألم يطلب منك أحد أبدًا الإدلاء بالشهادة؟

ابتعدت بهدوء عن النافذة، وعادت لتجلس على المقعد. غيَّرتها التجربة فبدت أكثر قوَّة وشبابًا، وكأنها عادت إلى عمرها الحقيقي. أدارت رأسها نحوي.

– نعم. كنت متكئة على النافذة، فروجيه ينتهي من حصته الأخيرة الساعة الخامسة مساءً، ويُفترض أن يكون قد عاد إلى المنزل منذ ساعتين، كما في الأوقات العادية. في هذه الفترة، سيطر عليَّ القلق الشديد، فحملي في برنار منعني من الخروج بسبب صعوبته. اضطررت — تطبيقًا للتعليمات — إلى البقاء في المنزل لتلافي الولادة المبكِّرة، لم يبلغني روجيه باحتمال تأخره. ثم، فجأة، بدأت المظاهرة. الصرخات، والهرج، والتدافع، انفجارات القنابل اليدوية وطلقات الرصاص. أصبحتُ كالمجنونة. وفي كل لحظة كنت أندفع نحو الشباك، أترقب زوجي، أو إلى الباب، ما إن أسمع وقع خطوات على السلالم. وفي لحظة ما، لمحته في الشارع، يقترب من بيتنا. أذكر هذا وكأنه يحدث الآن. أراه يسير ومعه باقة ميموزا وعلبة جاتوه. صعد بعض الدرجات وتوقف بالقرب من السور ليراقب الأحداث والضرب بالهراوات. صرخت فيه أن يصعد، وألا يطيل الوقوف، لكن أصوات المظاهرة طغت على صوتي.

– كان وحده؟

– في البداية نعم. ولكن، بعد قليل، جاء رجل يرتدي زي الشرطة الرسمي؛ رجل من قوات الأمن الجمهورية حسبما أعتقد؛ واستقر بجواره. بدت هيئته غير طبيعية؛ فقد كان يحمل معطفًا مطويًّا على ذراعه رغم المطر ورغم البرد. انزلق خلف زوجي، وثبت رأسه بساعده، والمسدس في يده الأخرى. صرخت بأعلى صوتي، بلا أية نتيجة، أردت الهبوط، لكنني — بالكاد — نجحت في مغادرة هذه الحجرة بسبب برنار؛ المهم، بسبب بطني. مسكين برنار!

– اغفري لي اضطراري إلى قلقلة ذكريات كهذه، فليس هناك أية وسيلة أخرى. هناك سينمائي بلجيكي صوَّر جزءًا من هذا المشهد، لوجوده في الناحية المقابلة من البولفار، بالقرب من مسرح «الجيمناز». معي صورة مأخوذة من هذا الفيلم التسجيلي. الأمر يتعلق بلحظات زوجك الأخيرة. وجه قاتله نصف مختفٍ، غير أنه يظل معبرًا. أتريدين رؤيته؟

وافقت. أخرجت النسخة المطبوعة ليلة أمس في استديوهات راديو وتليفزيون بلجيكا الفرانكفوني.

– تعرفينه؟

هزَّت رأسها.

– لا أيها المفتش. لم أقابل أبدًا هذا الرجل. أبدًا لم أشاهد زوجي في صحبة الشرطة، ولا أفهم لماذا قتلوه.

– آخر شيء — سيدتي — وينتهي الموضوع. منذ لحظة قلت إن زوجك كان ينتهي من حصصه الساعة الخامسة بعد الظهر. ما تفسيرك لوصوله إلى منزلكما متأخرًا ساعتين؟ فأقل من دقيقتين يكفي لاجتياز المسافة الفاصلة بين الليسيه والبولفار.

– لا أفسره لنفسي أيها المفتش. هكذا الأمور.

– وهل كان تأخره متكررًا؟

– مرة في الأسبوع، أحيانًا مرتين. اسمعني أيها المفتش، حملي منع علاقتنا الخاصة. ليس ممتعًا الاعتراف بذلك، لكنه واقع. وقد ارتضيت احتياج روجيه إلى لقاء امرأة طبيعية. ما السيئ في هذا؟

– ليس هذا سيئًا على الإطلاق. أنا آسف. لكن مهنتي تقوم على التطفل. وقد سألتك هذا السؤال لأن جرد جيوب روجيه تيرو أسفر عن وجود تذكرة سينما «ميدي-مينوي». أعتقد — للدقة — أن الحقيقة تكمن هنا! منذ عشرين عامًا، كان مدرس تاريخ محترمًا يبدي بعض التحفظات إزاء الاعتراف بحبه للسينما الخيالية، حتى لزوجته. لديَّ رقم التذكرة، سأكلف مساعدًا لي بمراجعة تاريخ التسليم المضبوط من المركز القومي للسينما.

بعثت إليَّ بابتسامة. فشلت في ألا أفكر — وقد اجتاحني شعور جارف بضيق نفسٍ حاد — بأنها أول ابتسامة منذ اثنين وعشرين عامًا.

– زوجك لم يُقتل صدفة. واضح أن قاتله ينفذ خطَّة محكمة، فهو يملك أوصاف ضحيته. الفيلم البلجيكي ذو دلالة في هذا الصدد. فرجل قوات الأمن الجمهورية، أو المتنكر في زيهم، غادر مخبأه وتوجه — بلا تردد — نحو شارع نوتردام دي بون نوفيل. وطريقته تثبت أنه شخص محترف، مثلما حدث مع مصرع ابنك في تولوز. أو أن زوجك — وهي فرضية مستبعدة — يشبه تمامًا هدفًا آخر. لا. أعتقد حقًّا أنه هدف القاتل. فلا بد أن زوجك أزعج شخصًا ما إلى حد أن يصبح ضحية إعدام حقيقي. أأنت واثقة أنه لم يمارس أي نشاط سياسي من أي نوع؛ نقابي أو حتى إنساني؟

– لا. سبق وقلت لك. فعدا هذا التأخير — ذهابه إلى السينما، لو وثقت في كلامك — لا أرى أي شيء خفي في حياة زوجي. لم يتناول روجيه — أبدًا — هذه الموضوعات في المنزل. كنا نتحدث عن التاريخ، أو عن الأدب. كانت تستهويه العصور الوسطى كثيرًا؛ وكان يستجم بكتابة نوع من الدراسة عن موضوع واحد، عن مسقط رأسه درانسي؛ فقد أحب أهله بشدة. ما زالوا يعيشون هناك، في سين-سان-دني، ويقيمون في شارع دي بوا دي لامور. وما أزال أتساءل أهو المنزل الذي منحه حب التاريخ.

– كيف هذا؟

– في الأصل، كان المبنى جزءًا من مزرعة تحولت إلى مطعم في البدايات الأولى من القرن. يحكون أنه استُخدم — لعدة أعوام — وبشكل خاص، كدار للقاء العابر. وبعد قانون مارت-ريشار، هدموا ثلاثة أرباعه وبنوا عيادة للولادة، حيث وُلد زوجي. قضى كل شبابه على بعد خطوتين من هنا، في بيت صغير نجا خلال تجديدات هذا الحي. هذا لا يعنيك كثيرًا. أتفهم ذلك. المهم، هذه الدراسة موجودة مع ابني على الأقل مع خطيبته كلودين. تعرفها؟

– نعم. التقيت بها في تولوز. أحب أن ألقي نظرة على هذا العمل. سأتحدث معها قبل سفري مساء غد. أكانا متفاهمين؟

– بصدق شديد، لا أعرف أي شيء. بذلت الصغيرة جهودًا مضنية لتأتي هنا، ويبدو أن برنار هو الذي أجبرها على ذلك. أعرف أنها لم تشعر بالراحة في وجودي. لكن ذلك يتخطى قدراتي؛ لست لينة العريكة. بدا أنهما سعيدان معًا، ولا أتذكر أي شيء آخر بخصوصهما.

سرعان ما تركتها بعد قليل وهبطت — بحذر — السلالم الممسوحة بالورنيش؛ دون أن أترك الدرابزين. استدرت يسارًا في اتجاه البولفار. وعندما وصلت منتصف درجات شارع نوتردام دي بون نوفيل، التفتُّ إلى الوراء ورفعت رأسي في اتجاه شقة مدام تيرو. وجدتها تتكئ على النافذة. أومأت لي بإشارة الصداقة. راقبتها لحظةً قبل أن أبادلها التحية، وأغوص في فتحة المترو في محطة أوبير لآخذ قطار الضواحي، فقد نصحني دالبوا بالنزول آخر خط مارن لا فالييه.

امتد ممر المشاة — تحميه قبة من الزجاج الرمادي — من محطة القطار حتى الساحة؛ حيث تتجمع خطوط الأتوبيسات المختلفة لخدمة المدينة. مجرد نظرة برهنت على أن الخطوط ليست وحدها في خدمة المنظر.

كان الميدان يندمج بمركز حوض منخفض تشرف عليه التلال. ويعترض الموقع واجهة مصطنعة لمركز تجاري عملاق؛ بينما تمثلت شارة الخيال المبدع الوحيدة في مبنى وردي اللون من عشرين طابقًا، مشيَّد فوق قمة أحد التلال. وعبَر الأتوبيس — الذي جلست فيه — بالقرب من المبنى تمامًا. استطعت فحص الواجهة الخارجية على مهل، التي حاكت — بإحكام إلى حد ما — الشكل الخارجي للحلبة الإسبانية. اتخذ المبنى شكل حائط دائري طويل تخترقه التجاويف. وكل عشرين مترًا، يتسلق البناء — بطوله — عمودٌ نصف دائري. كشفت فتحات الأبراج الصغيرة مجرى حجرات المصاعد، وسمح قوسها الواسع برؤية ساحة رحبة، مزروعة بالأشجار والزهور. ذكرت لافتة المشروع أسماء وعناوين متعهدي البناء، وأضافت: «المسرح الكبير ٦٣٠ شقة ساحرة شاغرة تُطل على المارن، ٢ أو ٣ حجرات. قروض متاحة من «ب. ي. ك»٢ و«ب. أ. ك»٣ و«ب. أ. ب».»٤

أعلن السائق عن محطة بيراميد. أشار عليَّ دالبوا بالدوران حول مبنى إداري، ثم الاتجاه يسارًا نحو خزان الماء. كان يقيم في قلب مدينة «تجريدية»؛ في منتصف المسافة بين المساكن ذات الإيجار المتوسط والبيوت الخاصة. ارتفعت الوحدة السكنية في شكل مكعبات مجمَّعة طبقًا لنسق فوضوي ظاهريًّا. وشكَّل سقف الوحدة السفلي، الساحة الصغيرة للوحدة العلوية. ضغطت على جرس باب ٧٣. أتى دالبوا ليفتح لي.

– مساء الخير يا كادان. تساءلت عما إذا كنت ستلوذ بالفرار.

تراجعت إلى الوراء، لأثبت له أن الفكرة لم ترد لي على بال.

– هيا. تلبية دعوتك بهجة حقيقية.

قدَّمني إلى جيزيل المنهمكة في إعداد العشاء. أغلقت الفُرن الحراري المبرمج، والتفتت نحوي وهي تشير بيديها المفتوحتين: اعذرني. لم يكن لديَّ متسع من الوقت لأغير ملابسي.

جعلني دالبوا أتفقد الشقة حتى أصغر بلاكار فيها، ثم قادني إلى الصالون. أضاء التليفزيون، وحرص على إغلاق الصوت.

– حسنًا. هل هناك تقدم؟

رويت له رحلتي البروكسيلية، ولقائي بوالدة برنار تيرو. انتبه عندما ذكرت له الصورة التي طبعها فنيو التليفزيون البلجيكي من شريط الفيديو.

– معك هذه الصورة؟

وضعتها على المائدة الواطئة، بين فواتح الشهية وزجاجات الخمر.

– مؤكد أن حكايتك لا تُصدق.

قرَّب النجاتيف من عينيه: رجلك من قوات الأمن الجمهورية يبدو حقيقًا؛ عدا غياب العلامات المميزة. ومنطقيًّا، عليه ارتداء أرقام فرقة منطقته. ألا تعتقد ذلك؟

– في الأوقات العادية، نعم. لكن ليس هذه الليلة. استعلمت عن ذلك. تم تجميد اللوائح. وجميع الوحدات استخدمت أسلحة الاحتياطي، بما فيها الأسلحة الهجومية. يُحتمل جدًّا أن الرجال تلقَّوا الأوامر بإخفاء رمز هويتهم.

– لقد أبحرت في مغامرة عجيبة. سبق وقلت لك هذه النصيحة. لكنني أفضل ترديدها لك: كُف عن الاهتمام بهذا. قُم بالتحريات في تولوز وأنت قرير العين، فهم لا يطلبون منك أكثر من ذلك، وسينتهي الأمر بملف ﻟ «لحفظ» ما الذي ستخسره؟ لا شيء! ستجد جريمة قتل أقل حقارة لتعويضك. تشرب «ريكار»؟

– لا. شكرًا. لا أحتمل الخمر مع هذه الحرارة.

– إذن، لننتقل إلى المائدة. أنا الذي انتقيت قائمة الطعام في ذكرى سنوات الأشغال الشاقة بستراسبورج.

أتت جيزيل دالبوا وهي تتدلل بطبق فخاري، تزينه كرنبة ضخمة، مملحة ومخللة، يزينها سجق الدجاج، ووضعته بين زجاجتَي «جور سترامينير».

– اهجم يا كادان. لا تخجل. سترى أنها بارعة — إلى حد ما — في طهوها. إنها كرنبة ستراسبورية بزينة الأعياد. جيزيل تطهوها حسب طريقة «كولمار»، وتضيف إليها كوبًا من «الكيرش»، قبل تقديمها بساعة. ما رأيك؟

– وجبة فاخرة. أهنئك يا سيدتي.

التهمنا الطعام ونحن نستعين — بسخاء — بنبيذ «الزاس». أجلستنا جيزيل في الشرفة، في الهواء الطلق، لنحتسي القهوة. انحنى دالبوا وعلى وجهه رصانة من سيبوح بسر ما:

– أتعرف يا كادان؟ نحن ننتمي للأقلية.

ثم تخلى عن سمت المتآمر: في الصباح، ثمانية فرنسيين — من عشرة — يحتسون القهوة. لا يثابر سوى أربعةٍ ساعة الغداء، ولا يتبقى إلا اثنان في منتصف اليوم، وواحد — فقط — بعد العشاء! حسنًا. نحن الثلاثة هذا الواحد.

نظر إلى ساعته متظاهرًا بالمفاجأة.

– علينا أن نسرع. قطارك الأخير يتحرك خلال عشرين دقيقة. كنت سأقترح عليك المبيت في المنزل، لكن أسِرَّة الأطفال قصيرة.

حرصت على ألا ألح عليه؛ فالحياة العائلية، حتى تلك التي تخص الآخرين، لا تتوافق معي. رافقاني حتى محطة القطار. وفي الطريق، أعطيت دالبوا الصورة المأخوذة عن الفيلم.

– قدم لي آخر خدمة. حاول الاستعلام عن هذا الشخص. ليس من السهل كشفه، خاصة أنه — بالتأكيد — قد نُحِّي جانبًا منذ ذلك الحين. إذا لم تجد شيئًا، فسأفكر في نصيحتك.

وضع المستند في جيب السترة الداخلي. دخل القطار المحطة. جلست بجوار النافذة، وأنزلت زجاجها رغم كل تحذيرات العالم القيِّمة. وعلى رصيف المحطة، وقف دالبوا على أطراف أصابعه، حتى لا يضطر إلى الحديث بصوتٍ عالٍ.

– لا أعدك بشيء يا كادان. اترك لي ثلاثة أو أربعة أيام. أنا لا أحتاج إلى أكثر من ذلك لاقتفاء أثره. وبصراحة تامة، فإن فتى قوات الأمن الجمهورية هذا أكثر خطورة من إصبع الديناميت، وليس لديَّ إلا رغبة واحدة، التخلص من وجهه القذر بأسرع ما يمكن. سأطلبك في تولوز حين يجدُّ جديد. باي.

كانت العربة خاوية. ظللت وحدي حتى محطة فنسان. عندها، سيطرت عصابة من السفاحين على المكان. اقترب مني شخص ضخم يمتلئ وجهه بالبثور. جلس بتثاقل على المقعد الذي يواجهني. بسط ساقيه واضعًا حذاءه بعيدًا عن فخذي بسنتيمترٍ واحد. اكتفيت بإزاحة الجانب الأيمن من سترتي لأُظهر جراب مسدسي والعصا السوداء. وفي الحال، لحقت القدمان الأرض. نهض الرجل وقد توتر قليلًا. سمعت أجزاءً من الحديث: «إنه شرطي، معه سلاح.» وقرروا النزول في المحطة التالية، ناسيون. واستعدت هدوئي.

•••

ليست مفاجأة كبرى. لا، لكنها دقة قلب صغيرة رغم كل شيء؛ عندما تعرفت — صباح اليوم التالي — على صوت كلودين شينيه في التليفون. رُحت أتهيأ للاتصال بها؛ دون أن أنجح كثيرًا في حسم الموضوع. ظللت أصوغ جملة أولى، وأغيِّر فيها، ووضعت مكالمتها حدًّا لترددي.

– أيها المفتش؛ أريد — ببساطة — أن أشكرك. اتصلت بي والدة برنار مساء أمس لتحكي لي عن مغامرتها معك. لا أعرف هل أسرع هذا اللقاء من تحرياتك؛ كما آمل. لكن تحرياتك حول أسباب مقتل برنار ساعدتنا كثيرًا.

غمغمت بشكل يدعو للرثاء؛ وتركتها تستأنف المبادرة.

– سترجع إلى تولوز هذا المساء؟ مضبوط؟

شعرت بإحباط ما في نبرتها، شبه أسف.

– نعم. سآخذ قطار الرابعة بعد الظهر. هل يمكننا أن نلتقي قبل هذه الفترة؟ هذا ضروري، بأية طريقة، لا زالت لدي بعض الأسئلة لأوجهها لك. ماذا تفعلين الساعة الثانية عشرة؟

– أعمل في رسالتي الجامعية.

– وأنا الذي أعتقد أن الطلبة في إجازة!

تسرعت قليلًا في الكلام. لكنها أجابتني بلا غضب.

– في هذه الحالة، هي إجازة حزينة حقًّا .. أفضل العمل، فهذا يشغل تفكيري، زد على ذلك أن موضوعي شيق. أقوم بجمع البيانات الميدانية فيما بين بوابة «إيتالي» وبوابة «جانيتي». هناك مطعم صغير في بولفار كيلرمان، بالضبط بعد باب دخول استاد شارليتي. هل نلتقي فيه الساعة الواحدة بعد الظهر؟ اسمه «لي استاديوم».

وافقت على مكان وساعة الموعد، ثم وضعت السماعة. خصصت بضع دقائق من وقتي لترتيب الملابس في حقيبتي. نزلت إلى صالون الفندق حيث جلس زبونان يشاهدان نشرة أخبار القناة الأولى؛ كان يان-ماروس يعلن عن الوفاة — التي حدثت في ظروف تراجيدية — لأحد كبار مؤسسي الفيديو. ختم رحلته التقريظية بشهادة.

– «وهكذا، بمناسبة وفاة الرائد الشهير في مهنتنا، يسعدنا أن نقدم لكم الحديث الذي دار منذ أقل من أسبوع.»

اضطر فنِّيو الاستديو إلى إبلاغه — بالإشارات — بعدم ملاءمة هذه السعادة مع طبيعة الحدث؛ فقد غيَّر ماروس من عبارته واستأنف: «ها هو — إذن — الحوار الذي تملك هيئة تحريرنا الامتياز الحزين، فتهديه لذكرى رائد التقنيات الجديدة.»

رفضت احتمال المزيد، دفعت حسابي ورتبت بحرص وبعناية فاتورة النفقات، وتوجهت نحو أقرب محطة مترو. نزلت محطة ميزون بلانش، مما مكنني من الوصول إلى بولفار كيلرمان بالدوران حول ثكنة الحرس الجمهوري.

وجدت كلودين في انتظاري، متوارية في نهاية المقهى الصغير الذي اقتحمه مشجعو فريق «ريجبى» وهم يحتفلون — مقدمًا — بانتصار أبطالهم في مباراة بعد الظهيرة. ولأنني التهمت غداءً دسمًا، فقد اكتفيت بكوب من المياه المعدنية.

– إذن. هذا الاستجواب أيها المفتش؟ أنا مستعدة.

قالت جملتها بصوتٍ منفعل قليلًا، وكأن هذا الحديث قد أصبح — بالنسبة لها — شيئًا ضروريًّا. أما أنا، فقد توقفت عند رحلتنا الصامتة، وإسقاطي أمام محطة التاكسيات، وهو إيقاع سريع جدًّا بالنسبة لذوقي، حتى لو كان في الاتجاه السليم.

وبسرعة، صنعت لنفسي وجه المنطوي المحترف: أأبدو إنسانًا فظًّا؟ أطلب منك — فقط — بعض الإيضاحات. لا نملك أي عنصر جديد يسمح بتفسير مقتل خطيبك. لا شيء عدا قصة والده. ولأكون واضحًا، فهي لا تفيد إلا في تشويش كل شيء.

قاطعتني: لكنك تتعقب شيئًا ما. حماتي حدثتني في التليفون عن صورة …

– نعم. آمل أن أمسك برجل قوات الأمن الجمهورية. أكيد هو الذي أطلق الرصاص على روجيه تيرو عام ١٩٦١م. أنا لا أخدع نفسي كثيرًا، ففرصتي في العثور عليه واحد في المائة. والفرضية الوحيدة الجديرة بالاهتمام تكمن في وجود رابط بين جريمتَي القتل. إلا أنها — رغم هذا — لا تتوافق مع الجزء الخاص بتولوز. فلماذا خاطر القاتل كل هذه المخاطرة؟

أخذتُ يد كلودين، عندما وضعتها على المائدة لتتناول فنجانها. لم ترفض الملامسة، بل بالعكس، أدارت راحتها نحو كفي وتقابلت أصابعنا. أجبرت نفسي على الحديث، لكننا لم نعد بحاجة لا إلى الأسئلة، ولا إلى الإجابات؛ ليترك الاستجواب مكانه للبوح.

– هل فكرت في كل هذه الجوانب منذ عودتك؟ عليك ببعض الجهد، هل ألمح برنار إلى أحداث حرب الجزائر، وبشكل خاص في الأيام الأخيرة؟

– لا. سبق وقلت لك إنه لم يتحدث معي — أبدًا — عن مشاكله. كنَّا نتناقش — بشكلٍ خاص — في دراساتنا، عما سنفعله فيما بعد. وبالنسبة للباقي، كنا متوافقين. الأمر ليس سهلًا. والدته — وقد رأيتها — تجمدت تمامًا. وعمليًّا، لم تدس أنفها في الخارج. لحسن الحظ أنه احتفظ بعلاقات وثيقة جدًّا مع أجداده. وقضاء يوم عندهم شيء مشجِّع؛ فهم يقيمون في الضواحي، في دُني درانسي، ببيت صغير، قديم، في سين-سان-دني. ورغم هذا، ستعتقد أنك على بُعد مائتي كيلو متر من باريس. ريف حقيقي. لديهم أشجار فاكهة. وحسب ما فهمته، أصيبت والدة برنار بصدمة شديدة جدًّا من موت زوجها إلى حد امتناعها عن رعاية ابنها. فتعهد جداه بهذه المهمة. يجب أن تقابلهم. هم ناس شديدو الحفاوة والود. هذا لا يمنع أنهم اعتقدوا أنهم يرون ابنهم في برنار؛ بعد ثلاثين عامًا. لقد تولوا تربية برنار بنفس طريقة تربيتهم لابنهم. لم يحاولوا، في أية لحظة، إعادة الروابط مع زوجة ابنهم، خوفًا من الافتراق عن برنار. أنا أفهمهم، بمعنى من المعاني.

أخذت تتحدث بسرعة بالغة، وقد أطرقت برأسها لتتجنب نظرتي. حاولت تفسير سلوكها دون تجديد أحزان كثيرة؛ فجأة، وقفتْ واستردتْ هيئتها المرحة: هذه المرة أنا مصرَّة على دفع حساب مشروباتنا. أنا مدينة لك. لا تَدَّعِ السذاجة. أتذكر البقشيش لصبي الفندق؟ لم أسدده لك!

وفي الخارج، أخذتني من ذراعي لتقودني عبر مواقع المساكن ذات الإيجار المتوسط، في شارعَي تومير وكافييري الرئيسيين. وصلنا صامتين إلى بوتيرن دي بوبلييه. وأسفل الجسر الحجري لسكك حديد الخط الدائري، هجم حشد من الكلاب — في موجات متتالية — على ما تحتويه صناديق القمامة التي وضعتها البلدية لتمكِّن الباريسيين من التخلص من فضلاتهم الضخمة. استولى كلب رعي كثيف الشعر على نصيب الأسد وقبع أعلى الأكمة. وعند اقترابنا، كشف عن صفين من الأنياب المتوعدة، أجبرتنا على تغيير الرصيف.

دلفت كلودين إلى شارع ماكس جاكوب، الذي يتداخل — في انحدارٍ خفيف — مع الحي اللاتيني. ظهرت أبراج الزجاج والصلب خلف مباني القرميد الحمراء. وفي منتصف زاوية تسد الطريق؛ انحرفت يمينًا ودفعت بابًا صغيرًا معدنيًّا مطليًّا باللون الأخضر. اكتشفت حديقة عامة شاسعة، مزروعة بأشجار تتدرج مع سلالم هائلة من الحجر، أشارت كلودين بإصبعها إلى معاقل اخترقتها قوات الرمي.

– نحن فوق بقايا حصون باريس! لم يعد هناك شيء يذكر؛ تحطم كل شيء منذ عام ١٩٢٠م. نُسفت المعاقل الأخيرة مع بناء خطوط قطار الضواحي. وجدت هذا الأثر سليمًا وأنا أتجول. وفي منتصف محول بوابة شارونتون، يوجد حصن صغير تحوَّل إلى مستودع لمصلحة الطُّرق، شيَّده تيير عام ١٨٤٢م، ثلاثون كيلو مترًا من المنشآت الدفاعية التي كُلِّف — يا للغرابة — بالهجوم عليها أثناء كوميونة باريس عام ١٨٧١م!

اقتربنا من حافة الحُصون، وقد سيطرنا على فراغ رحب تحتله حديقة من العشب الأخضر، مزودة بلعب الأطفال: أبواب دوارة، حلبة زلَّاقة … استندت الحديقة، يمينًا على كُتل البولفار الصاخبة ذات الطنين، ويسارًا على المساكن ذات الإيجار المتوسط. وبعيدًا، في الأفق، عدة بنايات صغيرة تدل على خطوط الضاحية الأولى: آركوي، كرملين-بيساتر. وعند انحدار التل، انحصرت مقابر جانتيى بين الطريق السريع والمدن الكبرى. أشارت كلودين إلى كل هذا الامتداد بحركة من ذراعها.

– انظر كم هو هادئ. ومع ذلك، فبعد بناء القلاع، أقام عدَّة آلاف من الأشخاص في هذه المنطقة.

– هل لهم الحق في هذا؟

– لا. هذا محظور منطقيًّا. لكن القوانين تستسلم — أحيانًا — للواقع. أزمة الإسكان، أسعار الإيجارات على سبيل المثال. ومثل ملاك الأراضي بوضع اليد اليوم. منذ فترة ليست طويلة، أقام أجدادهم في مدن الصفيح! هنا واحد من أكثر الأحياء قذارة، وحول بوابة سان-أوين؛ مملكة الزبالين. لا ماء، ولا غاز، ولا كهرباء. كل القاذورات تُلقى في مجارٍ حقيقية لها سماء مفتوحة، ولكن، أأزعجك؟

– غلطانة. أفكر — فقط — في فرصتك في الحصول على وظيفة من نقابة السياحة بمدينة باريس! أكملي. عندما أسمعك، أشعر أنك تأسفين على تلك الفترة. أنا لا. لا بد أن هذا المكان المنزوي كان مخبأً للصوص والقتلة. ساحة العجائب …

– حدث هذا بالطبع، إلا أنه ليس إلا جزءًا من الحقيقة. نحن نحتفظ — بسهولة أكثر — بصور «ذات الشعر الذهبي»٥ وأجواء كتب لي بريتون. في أيام الآحاد، كانت منحدرات الحصون تشبه حديقة «سنلي»؛ حيث تتنزه العائلات في الهواء الطلق، وحيث يصطادون في المستنقعات.

– وحيث عدد لا بأس به أيضًا من المقاهي!

– بالضرورة! وأخيرًا، أفضِّل الحانات الريفية على عربات البطاطس المقلية والمقانق! جرت مشاجرات وتصفية حسابات طبعًا، لكن أجواء الحفلات الراقصة نادرًا ما تميزت بالهدوء. أليس كذلك؟ فالناس كانت تذهب إليها لتنسى تعب أسبوع من العمل. في ذلك الحين، كانوا يكدُّون ستين ساعة في ظل ظروف مضنية للغاية. محت الأسطورة والأدب مظهر هذه الأشياء، آثروا الحديث عن حواجز الأدغال الكثيفة والمتشابكة.

– صدقيني؛ لم يتضايق المجرمون من المجيء للاختباء في أحراش البيوت المتهدمة.

– ربما. لكنهم — منذ عشرات السنين — اعتادوا إحالة الجرائم كلها إلى قائمة سكان الضواحي. خذ أية جريدة وافتحها على صفحة الأحداث المتنوِّعة، فستلاحظ أن لا شيء تغيَّر حقًّا. النعاج الخطرة هي — الآن — تلك التي تقيم في التجمعات السكنية الكبيرة، في الضواحي البعيدة؛ «لي منجات» و«٤٠٠٠»، وحلَّ المهاجرون محل جامعي الخِرق.

– تريدين إقناعي بأن الإجرام انعدم تمامًا! ثمة أرقام …

– لا، لم ينعدم؛ بل توافق — في واقع الأمر — مع باريس ومقاطعة السين؛ لا أكثر ولا أقل. فللبعض مصلحة في إضفاء صورة سلبية على شعب المنطقة. وقد استغلوا ظاهرة الرفض، لطردهم من الضواحي المجاورة للمدينة. ولا زال الأمر مستمرًّا مع الاستخدام الحالي لموضوع اختلال الأمن. هم يحاولون الكشف عن أوجه التشابه بين أكثر الفئات الاجتماعية تضررًا بالأمة والمجموعات التي تمثل خطرًا على باقي المجتمع. دورة حقيقة من المراوغة! يحوِّلون الضحايا إلى خيال مآتة. وتسير الأمور! وألطف الجدات تضم حقيبة يدها إلى بطنها ما إن تقابل صبيًّا شعره مجعَّدٌ قليلًا. لا شيء أكثر من هذا الخوف يبيح الموافقة — مسبقًا — على الإجراءات المتخذة ضد هؤلاء الناس.

– تنسين أنك تتحدثين مع شرطي.

– لا. ولا دقيقة. اذهب واطلع على سجلات البوليس زمن الحصون. إنه عمل أجدادكم، إذا صح القول! كانت الجرائم الدموية نادرة تمامًا. أما أكثر الجنح انتشارًا فهي الخاصة بالنصب والاحتيال وسرقة الطعام، والخناقات الزوجية. ورغم هذا، فإن الغالبية العظمى من عناوين الأحداث المتنوعة تسيل دمًا. وسيلة نجاح جيدة لبيع الورق! يمكننا المرور على كشك وشراء بعض الجرائد، وسنحصل على نفس القرائن: قتلة، ساديون، مغتصبون. كل الأدوار القذرة يرتكبها عمال ومعدمون، لا علية القوم. وعندما يتحدثون عن أطباء، ومحامين، ورؤساء شركات، فتحت عنوان «اجتماعيات». ويظهرون الرصانة، في حين أن المبالغ المستخدمة في النصب والاحتيال، والفواتير المزيفة، واختلاس الاعتمادات، تزيد عشرة أضعاف — في مجملها — عن كل عمليات السرقة بالإكراه في فرنسا كلها.

– الخلاصة. ترين أننا لا نطارد الأرانب الحقيقية.

– تطاردون — فقط — أصغر الأرانب، وتتركون السمينة ترعى وتتغذى في هدوء.

– لا تعرفينني جيدًا؛ فتحقيقاتي السابقة تثبت العكس.

راودتني الرغبة في الاستفاضة، كي لا أصبح — في نظرها — شرطي الخدمة القذر هذا؛ دون أن يبدو عليَّ محاولة تبرئة نفسي. حاولت صياغة جملة في ذهني، لكن الرغبة في الجدل تخلت عني؛ فلذت بالصمت. لاحظت كلودين حيرتي، فاستفادت منها لتشن هجومًا جديدًا.

– النظام يحمي نفسه بطريقة فعَّالة. والشرطة واحدة من عناصر الجهاز الكبرى، ومن حين لآخر، يجب الحصول على كفارة لإثبات إمكانية إصابة الفئات العليا بالعدوى؛ ولإظهار أن قوتهم تكمن في واقع لفظهم للعناصر الشريرة خارجهم بلا مجاملة. لاندرو، بيتيو، يتهمونهم بأقصى التهم، ويستخدمون هذه الوحوش الحقيقية لإثبات الجانب الشاذ في معاملاتهم. بديهي أنها خارجة على نسق الأشياء. فيُدرج العاطل — الذي يسطو على محل بقالة — في حياة كل يوم، ويتم تقديمه باعتباره ممثلًا لطبقته، وبيئته.

– إذا تتبعنا منطقك، فسيصبح كل العاطلين لصوصًا. لحسن الحظ إنها ليست القاعدة.

أخذت نفسًا عميقًا فانتفخ صدرها رافعًا القميص الصغير. التقطت عيناي لمعة السوتيان الأسود المزين بالدانتيلا. تخلى قلبي عن إيقاع الرحلة الاستجمامية، واندفع لاقتحام المآثر القياسية.

– ترفض الإنصات لي. أنا مستعدة للتسليم بأنه يوجد نوع من المساواة بين رئيس مجلس الإدارة والرجل الفقير: للاثنين نفس الفرصة، الواحد والآخر، في أن يصبحا مهووسين جنسيًّا. لكنك لن تغيِّر فكرتي بأن للعاطل فرصًا أكثر في الوقوع تحت إغراء سرقة البضائع لأسباب حياتية بسيطة.

اشتعل حماس كلودين. لوَّنت حدة الانفعال وجنتيها بنفس اللون الذي احترق به خداي عند رؤيتي العابرة لثديها الخفي. استسلمت.

– لن نصل إلى اتفاق، لكن لدينا — الآن — أرضية للتفاهم، لا يجب أن ننساها. سأبذل قصارى جهدي للقبض على القاتل برنار، سواء كان ضعيفًا أو قويًّا، متشردًا أم ملياديرًا. وبهذه المناسبة، حدثتني مدام تيرو عن كُتيب عن مدينة درانسي، ألفه زوجها في أوقات فراغه. هل اطلعتِ عليه؟

ردت بالإيجاب: نعم، هو في المنزل. كان برنار يرغب في استكماله في ذكرى والده. أستطيع إرساله لك غدًا في تولوز إذا رأيت أنه مفيد لتحقيقاتك.

– أفضِّل إنهاء هذه التفصيلة بأسرع ما يمكن. أستطيع المرور على منزلك قبل الذهاب إلى محطة القطار. سأطلب من التاكسي أن يتحول عن طريقه المباشر ويقوم بالدوران.

كتبت عنوانها على ورقة من مفكرتها قبل أن تعطيها لي.

بعد نهاية هذه المناقشة بسبع ساعات، كنت أهبط في محطة تولوز الرئيسية. وجدت الرقيب لاردان في انتظاري على رصيف وصول كوراي؛ رغم إنهائه نوبتجيته منذ نهاية بعد الظهيرة. أنزلني أمام منزلي. استغل المشوار ليبلغني بتطوراته في استخدام الألعاب الإلكترونية، بل وبنجاحه في الفوز على ابنه في «معركة سكان سان-مالو»: أربعة اثنين! نتيجة لاستئناف فيها. وإذا ما صدقناه، فلا شيء أكثر أهمية من ذلك قد حدث أثناء غيابي.

١  القوصرة: مثلث في أعلى واجهة المبنى. (المترجم)
٢  PIC قروض عقارية من الضمان الاجتماعي.
٣  PAC القطاع العام للإعداد والبناء.
٤  PAP قروض للحصول على الأولويات.
٥  «ذات الشعر الذهبي» فيلم من إخراج جاك بيكر (١٩٥٢م) ولعبت بطولته سيمون سينوريه. وقد حوَّل المخرج القصة — المأخوذة عن وقائع حقيقية — من مجرد حكاية عشق وجريمة بين لصوص وقُطَّاع طرق، إلى «تصوير مؤثِّر وأخاذ لمدينة بلفيل» عام ١٩٠٠م. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤