الفصل الثامن

أوفيت بالتزامي تجاه هذا البند، فعطَّلت كلَّ شيء من أجله واتصلت بمساعد العمدة للإعلام. تركني برودي أتحدث أقل من عشر ثوانٍ قبل أن يقاطعني بشراسة.

– أيها المفتش، لا تعنيني بطاقات الشكر الأربعمائة. إنها مجرد تفاصيل. اعتقدنا أننا قبضنا عليهم منذ اكتشاف لوح الأوفست — في مطبعة البلدية — حسنًا. لا. يبدو أن الذي يُدير آلة الأوفست أعطانا قائمة أسماء اختارها صدفة؛ فها هو عملهم التخريبي ينطلق من جديد فيُعلنون — في كل مكان — عن توزيع خطاب من المعهد القومي للإحصاء والدراسات الاقتصادية «إنسي»،١ عن إلغاء إحصاء السكان العام في تولوز بقرارٍ من وزير الداخلية. وها هو الخطاب.

سمعت صوت فرد الورقة المميز.

– «نظرًا لسرقة الكثير من الملفات السريَّة بواسطة مجموعة تُدعى «إنسي»٢ (التدخل القومي إزاء المعدَّات الإلكترونية). ونظرًا لظروف العقوبة المشددة، وحيث إنَّ نظام الاختبار المعمول به — من جانب البلدية — للموظَّفين القائمين بعمليات الإحصاء، قد سمح بتسللٍ فرديٍّ، فلم يكتفوا بما يشعرون به من ضيق شرعي ضد الكمبيوتر، بل وأخذوا يبحثون عن الإساءة إلى نظام الترتيب المنهجي لبطاقات الأفراد، وتخطيط العلاقات الاجتماعية، لذا تم إلغاء الإحصاء في المنطقة التولوزية.»

ويطلبون من الناس — بعد ذلك — التوجه إلى البلدية لسحب ملفاتهم! إنهم ليسوا مجرد ٤٠٠ شخصٍ علينا تحمُّل مسئوليتهم، بل ما لا يقلُّ عن عشرة آلاف فرد، طبقًا للتحقيقات الأوليَّة.

أنهيت المكالمة التليفونيَّة بسرعة، وتركت برودي في هذيانه الذهني. استدعيت بوراسول، كان قد توصَّل — بعناية — إلى فرضية مفادها أنَّ قتل برنار مجرد غلطة بسيطة، وأنَّ الضحية لم تكن هدف القاتل الحقيقي. وبعد عملٍ دقيق، نجح بوراسول في التوصُّل إلى قائمة بأغلب الأفراد الذين تواجدوا في مكاتب المديرية يوم الجريمة، بين الساعة الرابعة والسادسة مساءً.

– أتعرف أيها المفتش؟ بدلًا من وضع الأفراد في مخابئ الأحياء الخَطِرة، الأفضل تشغيلهم مُضيفي استقبال في قاعة المديرية الكبرى. خذ مثلًا جويه كورتانزيه. صدرت ضده — إن لم أكن مُخطئًا — مذكرة بالقبض عليه في جريمة سرقة مسلحة بالإكراه.

– نعم. هذا صحيح.

– لكن هذا لا يمنع مساعد السكرتير العام ومدير المكتب، من استقباله بشكلٍ رسميٍّ جدًّا.

– هيا أيها الرقيب. إنك تعمل منذ فترة طويلة نسبيًّا لتعرف أن نجاحنا يرتكز — في ٩٥٪ منه — على الأسرار التي يُفشي بها المخبرون. لقد اكتشفت — لتوك — الموضوع السهل الذي كان يجب التفكير فيه. ألديك — حقًّا — بعض المناوبات حول مدارس الليسيه لتتبع مرور هذه القاذورات، أليس كذلك؟

– نعم، ولكن ليس من هذا المقام!

– وعدا هذا.

– عثرت على أحد معارفي القُدامى، الرقيب السابق بورتيز، وهو يشبه — بشكلٍ غريبٍ — برنار تيرو، نفس القوام والهيئة، هو أكبر منه بخمسة أعوام، ولكن مَن يعمل استنادًا إلى الصورة، يظل الالتباس واردًا.

– لا أذكر هذا الاسم … بورتيز.

– كان بطلًا في التصويب بالمسدس، نجم الفرقة الأرضية الثانية، إلى أن جاء اليوم الذي أطلق فيه الرصاص — دون سابق إنذار — على سائق موتوسيكل. فقد حدث وأن اختبأ لضبط عِصابة لصوص سيارات في حالة تلبُّس، عِصابة اﻟ «بي. إم. دبليو». وفزع رجل يقود موتوسيكلًا في الحي عندما رأى شخصًا يرتدي الملابس المدنيَّة، يتنزه وفي يده زجاجة خمر كبيرة، فلاذ بالفرار. أخرج الطبيب الشرعي خمس رصاصات استقرت في مساحة لا تزيد على حجم يدي. طردوا بورتيز من الشرطة، وهو يعمل الآن في ملهى مُلاك الأراضي. أذكر أن أصدقاء الكونستابل قد أقسموا أنْ يثأروا له. غالبًا تحت تأثير الغضب، وبعد ذلك يتكلَّس الموضوع.

– نعم، أو يتحقق، تطلَّب الأمر عدَّة أعوام، لكن تراموني قُتل بسبب جريمة بيير أوفري. حتى لو كان هناك احتمال واحد في الألف — لأن يقودنا هذا إلى القاتل — فسنقطع الشوط إلى آخره، سنرى إن كان يعض!

•••

قررت العودة مبكرًا هذا المساء، استلقيت في السرير مع ختام نشرة أخبار الثامنة مساءً. يمكنني اختيار تسجيل معادٍ عن المواجهة بين بيكون لابرويار وكنوك لي زوت في برنامج «ألعاب بلا حدود»، وهي مجلة متخصصة في نهضة فن الدراما الغنائية في منطقة فوج، أو المناقشات الخاصة بتوزيع أيَّام العُطلات، لكن لا سبيل لذلك؛ فشريط الفيديو في بواتيه. عدت إلى جوتنبرج، أخذت أفتش في أرفف المكتبة بحثًا عن كتابٍ منسي. وقعت على دراسة روجيه تيرو غير المكتملة، والتي أعطتها لي كلودين. تأملت الغلاف، وقررت فتْحها، لم يكن كتابًا بالمعنى الحرفي للكلمة، مجرد مخطوط تمهيدي فقط، لكنه معَّدٌّ للنشر كما هو. ازدانت صفحة ما قبل العنوان بشعار مدينة درانسي، وفوقه إهداء منسوخ: «إلى ماكس جاكوب.»٣ كُتب العنوان بحروف اللتراسيت:

درانسي منذ نشأتها حتى يومنا هذا.

بقلم روجيه تيرو
المدرس بليسيه لا مارتين

قلَّبت صفحات المخطوط بسرعة. احتوت عدَّة صفحات على مساحات بيضاء يحيطها إطار مرسوم بالقلم الرَّصاص وتحته تعليق. حدد روجيه تيرو المكان الملائم للرسومات، والصور، والرسوم البيانية، والخرائط. وفي بضع فقرات، تناول الفصل الأول من الدراسة تاريخ الأرض في العهد الجيولوجي الثاني. لم يكن المأمور قد وصل إلى هذه المرحلة التاريخية؛ فقد توقَّف عند فترة آليزيا. قرأت بشكل متناثر وأنا ألتقط معنى النص العام: «غطَّى البحرُ المنطقة الباريسية، ركدت رواسب طينية وجيرية في الموقع الذي ستولد فيه — بعد بضعة آلاف من الأعوام — مدينة درانسي.»

قفزت عدَّة آلاف من السنين، متنقلًا إلى الفصل الثالث، علمت أنَّ اسم المدينة يرجع إلى مستوطن روماني «تيرانتياكوم» تحوَّل إلى «ديراينتياكوم»، «ديرينتي»، ثم «درانسي».

تسلَّيت بتصريف لقب أسلافي في الاتجاه العكسي، نجحت في الوصول إلى «كارادينا تيكوم» مُرضية.

وفي عام ٨٠٠م، لم يكن للضيعة مدرسة، وانحصر عدد سكانها في مِائتَي شخصٍ. قفزت ثمانية قرونٍ مخصصة لبَذر الحبوب والحصاد، لأتعرَّف على أوَّل شخصيَّة محليَّة شهيرة «كريت دي بالوييل، رائد الميكنة الزراعية»؛ كما جاء في عنوان هذا الفصل الفاتن. قرر روجيه تيرو الاحتفاظ بصفحةٍ كاملةٍ لصورة نصفيَّة لهذا العالم النابغة، كتب: «ملحوظة: صورة مُنفَّذة من مكتب الإكليشيهات.» غرقت في بيليوجرافيا كريت دي بالوييل الموجزة. وُلد في درانسي عام ١٧٤٠م، اخترع الأسطوانة المُسنَّنة، وقطَّاعة الجذور، وقطَّاعة القش، ومحراث البطاطس الدائريَّ. شارك — مناصفةً — مع صديقه الحميم بارمنتييه في تنمية مبيعات ثمرة البطاطس.

حاول روجيه تيرو — في فقراتٍ غنائية قديمة، وإن تكن مؤثرة وفعَّالة — وضْعَ حدٍّ لانعدام العدالة هذا، وثابر على تدعيم رجله العظيم.

لم تترك الثورة آثارًا عميقة في الأخاديد الدرانسينية، لكن سقوط وانفجار منطاد موجَّه، ومنفوخ بالغاز — في ١٦ أكتوبر ١٩٧٠م في لافيلات — شغل مساحة كبيرة من الكراسة.

احتلت الحقبة المعاصرة الجزء الثاني من الكتاب، الذي استهله باستشهاد من «البؤساء»:

«قلب باريس، الضاحية الدائرية. ها هي — بالنسبة للأطفال — كل الأرض. هم لا يغامرون بأنفسهم إلى أبعد منها أبدًا؛ فلا وجود — بالنسبة لهم — لأيِّ شيء أبعد من خطوتين: إيفري، جانتي، أوبرفيلييه، درانسي. هنا ينتهي العالم.»

أغلقت عيني لحظة وجيزة، ذكرتني هذه الكلمات بالساعات القليلة التي أمضيتها مع كلودين نتحدث عن آثار الحصون.

تنقَّل روجيه تيرو — بسرعةٍ فائقةٍ — عبر الأحداث السياسية القومية، إذ كانت بلا أثر على مسقط رأسه. وبالمقابل، تزايد إلحاحه على الاختلافات الحزبية للمنتخبين في المجالس البلدية، وعلى تشييد أول التجهيزات الحديثة. شدَّد — في فصوله الأخيرة — على المواهب الريادية لعمد ما قبل الحرب، ومشروعهم الحضري الذي أثار اهتمام المدينة، والذي استهدف بناء مدينة/حديقة شاسعة، تضمُّ عِدَّة آلاف من المساكن الفردية والجماعية، نوع من العاصمة النموذجية، مجمَّع إنتاجي للقرن العشرين، يُمكن لكُلِّ ساكن فيه التمتُّعُ بمُجمل الخدمات والتجهيزات الجماعية: المدرسة، الاستاد، المستشفى، الحضانة، والتجارة.

بدأت أعمال المدينة «الفسطاطيَّة» عام ١٩٣٢م، وتضاعف عدد السكان ليصل إلى حوالي أربعين ألف نسمة.

وفي عام ١٩٣٤م، طُرح برنامج أكثر جرأة: ستُئوي درانسي أولى ناطحات السحب الفرنسية! خمسة أبراج، يضمُّ كلٌّ منها أربعة عشر طابقًا، وسلسلة أخرى من المباني الأفقية. مدينة ضخمة — على شكل حدوة حصان — من أربعة طوابق تضمُّ عدَّة مئات من المنازل المُوزَّعة على ثلاثين طابقًا عمدوها باسم «لاموات»، على اسم مكان يُقال إنَّه يقع بالقرب من المدينة.

لكن الأمل في حياة مشتركة — والذي حرَّك عقول المعماريين الطليعيين — واجه للأسف مصيرًا غريبًا.

كشفت التقنيات المستخدمة وقتئذٍ في البناء عن حدودها؛ فظهرت عيوب عديدة حتى قبل تأجير الشُّقق. وإذا كانت البيوت الصغيرة قد وجدت مستأجرين لها، فأوائل الناطحات لم تلقَ النجاح الذي توقَّعه لها مُؤسِّسوها لدى الجمهور. ظلت أدوارها فارغة، رغم ضآلة الإيجار.

لزم الرضوخ للأمر الواقع، لم يكن الرجال المَهرة قد نضجوا بعد ليأووا إلى حيطان بيوتهم! باعوا المدينة — بأكملها، وبأرخص الأسعار — إلى وزارة الدفاع، التي آوت فيها وحدة من الحرس المُتنقِّل.

نهضت لحظة لأحتسي البيرة وأستريح. عُدت إلى مغامرات المدينة/الحديقة في درانسي. امتلأ روجيه تيرو حماسًا لموضوعه، فأفاض في التفاصيل.

حدد — بالنسبة لعام ١٩٤٠م — الرقم الدقيق للعساكر الألمان الذين أُسروا على الجبهة، واعتُقلوا في مدينة «لاموات». التقطت هذه التفصيلة الكاشفة: نجح الجيش الفرنسي في أن يصنع أسرى له خلال الحرب العجيبة.

لكن سرعان ما حلَّ الألمان في درانسي؛ فتحولوا من مأسورين إلى آسرين. ومنذ صيف عام أربعين، اعتقلوا بقايا الجيش الفرنسي، والإنجليزي، إضافة إلى مدنيين يوغوسلاف ويونانيين، أُلقيَ القبض عليهم في باريس، وتحولت مدينة «لاموت» — رسميًّا — في ٢٠ أغسطس ١٩٤٠م، إلى معسكرٍ للاعتقال، مخصصٍ لتجمعات اليهود الفرنسيين قبل ترحيلهم إلى ألمانيا وبولونيا المحتلة.

ذكر روجيه تيرو رقم ٧٦٠٠٠ شخص، نساءً وأطفالًا وعجائز، تم تجميعهم خلال ثلاثة أعوام على بُعد بضعة كيلومتراتٍ من ميدان الكونكورد، تم ترحيلهم إلى آوشفيتز، وقدَّر عدد الناجين بما لا يقل عن ألفين.

كان ثلاثة آلاف شخص يعبرون درانسي أسبوعيًّا، يحرسهم أربعة جنود ألمان، ويساعدهم — في مهمَّتهم — عشرات من الجنود الفرنسيين الإضافيين. أكد روجيه تيرو على الرقم أربعة.

استخدم تيرو مقتطفات من الصحف، وأحاديث مع الناجين من الموت، ليُعيد تمثيل حياة المعسكر، أرغمت نفسي على قراءة بعض الفقرات: «عند حديثنا عن درانسي أمام أطفال، اخترنا اسمًا يكاد يكون مرحًا «بيتشيبوي»؛ حتى لا نخيفهم. درانسي كانت «بيتشيبوي».»

شُطبت الصفحة التالية بالقلم الرصاص، وأُضيف إليها شرح تفسيري: «نسخة مصورة — طبق الأصل — من خطاب قائد درانسي — يُطلع فيها «استمان» على موعد قيام أوَّل قافلة تضم أطفالًا يقلُّ عمرهم عن عامَين» (القافلة/د ٩٠١٠/ ١٤ﻟ «٨٠١٤–١٩٤٤»).

جُمعت بعض الوثائق في مظروف من ورق كرافت. أخرجتُ منه مذكرة من مكتب التموين بتاريخ ١٥ أبريل ١٩٤٣م: «ردًّا على مذكرتكم بتاريخ التاسع من الشهر الجاري، يشرفنا أن نبلغكم بالمعلومات التالية:

(١) أطفال أقل من تسعة أشهر ٣٤٧
(٢) أطفال من ٩ أشهر حتى ٣ أعوام ٨٨٢
(٣) أطفال من ٣ سنوات حتى ٦ أعوام ١٢٤٥
(٤) أطفال من ٦ أعوام حتى ١٣ عامًا ٤١٣٤
(٥) كميات الألبان الواجب تحصيلها — حاليًّا — (شهريًّا): ٣٢٢٣٫٥٠ لترًا.»

«واستنادًا إلى تقلُّبات القيمة الفعليَّة المفاجئة والمتكررة، فإن المعلومات الواردة أعلاه لا تعطي إلا فكرة تقريبية، ويمكن لعدد الأطفال أن يختلف ﺑ + أو − ٥٠ وحدة من يوم لآخر.»

كتب روجيه تيرو بخطِّه — على رزمة أخرى من الأوراق — العنوان التالي: «عناصر مرقَّمة يجب تصنيفها.» تدرَّجت أعمدة طويلة من الأرقام تحت عناوين وأبواب، ضاعف أسلوبها الخشن من مأساويَّتها: «تاريخ الترحيل لمعسكرات الاعتقال»، «قافلة»، «رقم الأمر»، «معسكر الوصول»، «منتخب ﻫ»، «منتخب إف»، «الباقون على قيد الحياة حتى ٤٥».

وفي الجداول الأخيرة، ذكر المنشأ الجغرافي للمعتقلين في درانسي، منطقة منطقة، بالإضافة إلى نوعٍ من الترتيب المرتبط بالفئات العمريَّة.

احتلت المنطقة الباريسيَّة رأس القائمة، تلتها منطقة ميدي-برينيه. وبعيدًا، بمسافة كبيرة، الشمال أو الوسط، حيث استطاع الرعايا اليهود — فيما يبدو — النجاة من كمَّاشة الجستابو. استولت المنطقة الباريسيَّة على كافة الأماكن الأولى في عرض السباق المشئوم هذا، عدا ما يخصُّ الفئة العمرية الأولى، الخاصة بالأطفال أقل من ثلاثة أعوام. وبينما أعلنت الغالبية العظمى من الأقسام عن نسبة مئوية تراوحت بين خمسة وثمانية في المِائة، بلغت باريس أحد عشر في المِائة، وتخطَّت ميدي-برينيه حاجز الاثني عشر في المِائة.

أغلقت كتاب روجيه تيرو الذي لم يكتمل وأنا فريسةُ ضيقٍ نفسيٍّ عميق. تردَّدت طويلًا قبل أن أجرؤ على إطفاء النور. تأخر النوم في المجيء. نهضت لمتابعة آخر نشرة أخبار مصوَّرة. نمت حتى الصباح، حين بدأ الشارع يمتلئ بأصوات العمل الأولى.

دخل المأمور ماتبيو المشهد أولًا، مرتديًا ملابس غريبة: دثار بقبَّعة سوداء واسعة، و«كاجول»٤ يغطِّي رأسه. عرفته حتى قبل رؤية وجهه. أخذ يسير ببطء، مجتازًا ممرًّا تتلاشى بدايته في اللانهائيِّ. ظهرت على قناعه انعكاسات النيون المخبأ في الأرض والمائل للزرقة. تقدم، ورأسه مائلٌ على كتفه اليُسرى، وهو يوزِّع، على عدد غفير من الكائنات الهزليَّة، مربعات صغيرة من الكرتون الأخضر، تزينها صورة برودي. وجدت نفسي في طريقه عاريًا. لفت انتباهي إلى هيئتي غير اللائقة، وسلَّمني ورقة. تحت صورة المساعد للإعلام، تعرفت على ختم القسم الرسمي، وما إن حاولت فك طلاسم المتن، حتى اختلطت سطوره.

استدرت — بعدئذٍ — نحو المشاركين الآخرين في هذه الاحتفاليَّة المحيِّرة! وتحققت — دون جهدٍ — من هوية ما لا يقلُّ عن نصف المحيطين بي.

اختلطت العائلات التي ترتدي ملابس الحداد، بالمضربين السابقين في قسم خدمة المقابر، بينما حرصت وحدة من الحرس المنتقل على إخراج كميات هائلة من التِّبْر من أحشاء فرس النهر الضحَّاك المصفرَّة. وفجأة، جمَّد الحاضرين صوتٌ أصم يتألف من صريرٍ شديد الحدة، مختلط بانفجارات، وتبخَّر ماتبيو في بريق البلاط.

اتسع الممرُّ، وأخذت الحوائط، وقد لانت، تتحرك في إيقاع قلب غافل. عندئذٍ، أظلم الأفق، وبرزت سيارة رينو سوداء مترامية الأطراف، وهي تندفع نحونا مباشرة. بدت إطاراتها — المنصوبة على خطوط سكك حديد لامعة — وكأنها تتوالد من حركتها.

وخلف المِقوَد، كان ثمة وجه قبيح مقطَّب، شوَّهته عيوب واقية المطر. ميَّزت — من الوهلة الأولى — ملامح بيير كازاس. أصابني شلل؛ فأغلقت عيني حتى لا أرى موتي، عبثًا، ظلت نظرتي تخترق غشاء جفني. أصيب رجل قوات الأمن الجمهورية بنوع من الجنون، فأخذ يقفز من على مقعده وهو يصيح. امتلأ فمه، وحاجباه، ومقلتاه، وأنفه بآلاف النمل الأسود، بقوائم فسفورية. أخذ ينتزعها بالآلاف ويُلقي بها نحو زجاج السيارة، والسيارة تسحب في جولتها المجنونة صفًّا لا ينتهي من عربات القطار. عربات قطار بضائع من خشب قديم بُنيِّ اللون، أخذت دعاماتها تنطوي من عنف صدمات السَّحب. تألفت نهاية القطار من أوعية بلا غطاء راحت تتقافز في الهواء وتسقط — بفظاظة — على القضبان، فتُحدِث حزمات من جزيئات كهربائية لها رائحة الغبار. وفي كل قفزة، تنبثق من الأوعية آلاف الجماجم الجيريَّة البيضاء، التي أخذت تنفجر على حجر الممرِّ.

ظهرت كلودين شينيه في طرف غابة تقع على يساري، وبصحبتها موظف الأرشيف — ذو القدم الخشبية — من مديرية تولوز. نجحا في إيقاف مسيرة العربات العملاقة الجامحة، وفتحا الأبواب الرصاصيَّة اللون واحدًا تلو الآخر. خرج منها مئات من الجزائريين الملوثين بالدماء. شكَّلوا طوابير هائلة محزنة حجبت الأفق. فصل السيارة موظفٌ من هيئة الأتوبيسات الباريسية، وحرَّر امرأة عجوزًا من الصندوق المسجونة فيه. اعتقدت أنني أرى أول ابتسامة لمدام تيرو عندما انهار القطار. أصدرت كل العجلات صريرًا شكَّل نواحًا لا يُحتمل. حطت يدان عملاقتان قبيحتان على جانبَي غطاء الرينو المعدني، وغطَّى الإبهامان مصباحَي السيارة. شعرت بنفسي وقد سُحبت بعيدًا جدًّا في آخر سريري. اختلط المشهد كله في سرعة باعثة على الدوار، وتحوَّل إلى نقطة صغيرة حمراء، لحقت باللانهائي. تمكنت من رؤية خيال ذكَّرتني حدودُه الخارجية بلاردان. كان منحنيًا على شاشة لعبة فيديو جيب صغير يشبه السيارة. غطَّت موسيقى أليمة على قرقعات القطار، وأخذت طابعًا متأرجحًا، وكانت آلاف من الأصوات الطفوليَّة تصنع إيقاعًا لاختفاء العربات: «بيتشيبوي، بيتشيبوي، بيتشيبوي.»

استيقظت مذعورًا وقد غمرني العرق البارد. ظللت دقائق طويلة تائهًا، أحاول خداع الخوف ونسيان مشاهد الموت. حاولت فرض صور أخرى على ذهني: هذه النزهة بين الحصون، والعشاء عند دالبوا، بلا جدوى. كان وجه كلودين يتلاشى ويحل محلَّه — خفيةً — وجه برنار تيرو. تشابهت ملامح دالبوا بملامح بيير كازاس. نجحت في الاحتيال على هلعي بأن أخذت كتاب روجيه تيرو بين يدي.

وفي أقلَّ من صفحة، ختم سرده بقصة عن مدينة «لاموات». تحرر المعسكر في أغسطس ١٩٤٢م. واعتبارًا من شهر سبتمبر، صدرت التُّهم ضد عدَّة آلاف من الفرنسيين المتعاونين مع العدو. ذكر روجيه تيرو أشهر الأسماء من تينوروس إلى ساشا جيتري، اللذَين قاما بزيارة قصيرة لدرانسي في ظل هذه الظروف. باشروا العمل — عام ١٩٤٨م — في استعادة المباني التي أعيدت إلى غاياتها الأولى. أشار الكاتب — في الملحق — إلى فيلم «جحيم الملائكة»، الذي صُوِّر في المدينة عام ١٩٣٦م، وكان نجمه «مولوجي». انحصرت مساهمة الابن، برنار تيرو، في وضع خطة غامضة تغطي الفترة من ١٩٤٨ إلى ١٩٨٢م.

غمرت الشمس الغرفة. اقتربت من النافذة. توالدت سحب سوداء مثقلة في الأفق، منذرة بالعاصفة. تمددت فوق غطاء سريري، ويداي تحت ذقني. ظللت هنا، فارغ الذهن، حتى الساعة الثامنة. ابتلعت الذوبان، وقررت الذهاب إلى القسم.

عندما وصلت، فوجئت بالرقيب لاردان يتسلق أثاثًا معدنيًّا يهتز تحت نعلَيه، كان ينزع خريطة شبكة طرق فرنسا الهائلة، طبعة ١٩٧١م، التي تغطي أغلب حائط المدخل.

– ماذا تفعل يا لاردان؟ ستحطم وجهك!

التفت نحوي، وغمغم برد ما. يستحيل التقاط أيَّة كلمة.

– كلمني بوضوح. لا أفهم شيئًا.

رفع يدًا إلى فمه، ولفظ نصف دستة من الدبابيس.

– أعطتنا إدارة التجهيزات الإقليمية خريطة هذا العام، فيها كل الطرق الجديدة، بل وعلامات الطرق السريعة، والمبرمجة حتى عام ١٩٨٥م. سأتخلص من هذه الآثار القديمة.

توقفت لحظة قصيرة معجبًا بمواهب الرقيب الحرفيَّة. فردَّ الخريطة الجديدة، وضبطها على الحائط وهو يغرس مسمارًا دقيقًا كل عشرين سنتيمترًا. وعندما فرغ من مهمَّته، نزل عن خزانة الملفات، وأتى ليقف بجواري ليحكم على عمله من المسافة الضرورية.

– لا مجال للمقارنة أيها المفتش؛ فهي تُعطي بعض الألوان لهذا المكتب. أليس كذلك؟

لم أستطع نزع بصري عن علامات الطرق التي تشقُّ فرنسا. لم يبخل الخطاط بالألوان؛ فقد أكَّد على أهم الطرق بخط أصفر يحيطه خطان متوازيان من البرتقاليِّ الناصع.

– لاردان، تأمَّلْ قليلًا هذه الخريطة. ألا تلاحظ شيئًا بخصوص الطرق السريعة؟

تفرَّس فيَّ وحيرته واضحة.

– لا، ثمة عدد لا بأس به، أتعتقد أنهم ارتكبوا غلطةً ما؟

– انظر باهتمام، إنه شيء واضح رغم هذا. الآن، سنعيد التحقيق كله من البداية.

– أي تحقيق أيها المفتش؟

– لا يوجد ألف تحقيق يا لاردان، التحقيق الخاص بمقتل برنار تيرو. ستعيد استجواب كل نقط الشرطة الموجودة على الطريق السريع بين باريس وتولوز، ومحطات البنزين، ومطاعم الطرق، في الاتجاهين. لديك ما تقوم به.

– لكن، أيها المفتش، سيجيبونني بنفس إجابات الأسبوعين الماضيَين، دون ذكر مَن لن تسعفهم ذاكرتهم، أو مَن سيطردونني بخشونة.

وقفت أسفل الخريطة. وبالمسطرة، تتبعت علامات برتقالية.

– مَن يُحدِّثك عن استجواب نفس الأشخاص. لقد أخطأنا في الاتجاه المرة السابقة، ربما لم يأت عبر الطريق السريع أ-١٠، لكن عبر أ-٦.

– هذا جنون مطبق، يجب قطع ثلاثمائة علامة كيلومتريَّة إضافيَّة!

– ذلك ما تستطيع أن تؤدِّيه يا لاردان. أريد تقريرًا هذا المساء — بالتليفون — عبر الطريق حتى باريس. لا تنسَ شيئًا. تمشيط كامل! لا تترددْ في الاتصال بي في أي وقت، هنا في المنزل. دع بوراسول يوقع أمر المهمَّة؟ وحظًّا طيبًا.

حياني لاردان. اندفعت نحو مديرية تولوز. ذكرت اسم ليكوسان إلى المضيفة التي تحظر الوصول إلى الأدوار العليا؛ فتركتني أمرُّ. لوَّح لي مدير الأرشيف بإشارات الصداقة ما إن رآني. قرر المجيء لمقابلتي وهو يعرج بعناء. أخذ يبذل — مع كل خطوة — جهدًا لرفع قدمه المشوهة، في حين أن انزلاقة بسيطة من جهازه التعويضي — على الأرض الخشبية — تجنبه مزيدًا من التعب، وتضع حدًّا لهذا الانطباع المؤلم الذي يثيره تأرجح العجزة عند من يراقبهم.

– سيدي المفتش، أنا سعيد برؤيتك مرة أخرى، أشياؤنا القديمة فاتنة، أليس كذلك؟

تركت له الوقت للوصول إليَّ قبل أن أجيبه.

– نعم، لم أكن لأصدق ذلك أبدًا، أحب أن ألقي نظرة جديدة على وثائق اليوم السابق، تلك التي اطَّلع عليها هذا الفتى المسكين.

– أتتقدَّم في عملك؟ إن لم يكن هذا تطفلًا.

– آه، مراجعة بسيطة، وأعتقد — أيضًا — أنه لديك — يوميًّا — بطاقة طلب من الأشخاص الذين يرغبون في الاطلاع على أعمالكم؟

– بالتأكيد. إنها قاعدة كل مكتبات فرنسا الإدارية. لِمَ هذا السؤال أيها المفتش؟

– إنها فكرة المأمور ماتبيو؛ فنحن نتتبع رجلًا محالًا على المعاش، سبق وعرف برنار تيرو. أريد التأكد من وجود اسمه — بالصدفة — في إحدى بطاقات الطلب.

أبدى ليكوسان كثيرًا من اللطف.

– يمكنني القيام بهذا الطلب؛ فهو عمل روتيني بالنسبة لي، لتتفرغ — بذلك — للملفات الأخرى.

– لا، لا فائدة. أشكرك. دلَّني على المكان الموجودة فيه هذه البطاقات.

– خلفك، في مكتب موظف الأرشيف المساعد. على أيَّة حال، هذا عمل آليٌّ، كل بطاقة قراءة مرقَّمة ومصنفة حسب الترتيب الزَّمني.

– لا يوجد أيُّ ترتيب أبجدي؟

– لا، هذا ليس له أيَّة فائدة لنا. على أيَّة حال، هذه البطاقات لا تفيد أبدًا في شيء، لكن القانون يجبرنا عليها.

أعطتني مساعد الأرشيف — وهي امرأة شابَّة يختفي وجهها خلف نظارات صدفية كبيرة — مجموعة العام الحالي. وبلا صعوبة، وجدت الورقة التي سجَّل فيها برنار تيرو اسمه، وهدف البحث، ومراجع الملفات التي يرغب في الاطلاع عليها: «كافة ملفات العلامة DE

ظللت فترة لا بأس بها أتصفح البطاقات، دون أن أجد اسمًا يشبه بيير كازاس.

أعدت الملفات إلى موظفة الأرشيف. وتحت تأثير إلهام مفاجئ، طلبت منها إعطائي مجموعة ملفات عام ١٩٦١م. فتحت المجلد — مضطربًا — على شهر أكتوبر. شعرت بصدمة عنيفة أوقفت أنفاسي وأنا أقع على بطاقة ١٣ أكتوبر ١٩٦١م، ملأها اسم روجيه تيرو.

أغلقت عيني. أعدت القراءة — مرة ثانية — في هدوء؛ حتى أثق من عدم وقوعي في الخطأ:

مديرية تولوز
المكتبة الإدارية
التاريخ: ١٣–١٠–١٩٦١م
اسم السائل روجيه تيرو
الإقامة باريس، الدائرة الثانية
موضوع البحث شخصي
طبيعة الوثائق المطلوب الاطلاع عليها كل العلامة DE

أعدت الوثيقة إلى المرأة الشابَّة.

– وجدت حضرتك ما تبحث عنه؟

– نعم، أعتقد ذلك. شكرًا.

وجدت رئيس القسم في انتظاري — عند ضلع القبة — وعلبة الوثائق تحت ذراعه.

– ها هي العلامة DE، هي — بالضبط — نفس أوراق زيارتك السابقة. ربما يكون حظك أفضل هذه المرة. ورجل الشرطة السابق هذا، هل وجدت أثرًا له؟

– لا، أعتقد أن المأمور ماتبيو ضلَّ الطريق.

فرشت محتويات العلبة فوق مائدة الاطلاع، وسحبت الملفات المختلفة. استبعدت تقليم الأشجار، والتعويضات، والدفاع المدني، والتطهير، وأشياء أخرى؛ لأركز انتباهي على عشرات الأجزاء المصنَّفة تحت «ترحيل».

اصطدمت — متقززًا — بمظاهر القبح الماكرة لإخطارات الأقسام هذه، والتي تبادلها الموظفون ليحسِّنوا من فاعلية آلة سحق الأجساد. أوضحت سلسلة من المراسلات مختلف مراحل ترحيل اليهود من منطقة ميدي-برينيه. أولًا: خطاب من سكرتير «الشئون اليهودية» بمديرية تولوز، وموقَّعة بالأحرف الأولى فقط أ. ف. يسأل فيها جان بوسجاني — وزير الداخلية — ما إذا كان يجب تنفيذ الأوامر الألمانية؛ فهؤلاء يتأهبون لإرسال أطفال، تم ترحيل عائلاتهم إلى درانسي.

أجاب الوزير بنعم؛ فأصدر سكرتير الشئون اليهودية بتولوز تعليماته بتنفيذ البرنامج النازي.

أتاح سير الإدارة المحليَّة الممتاز — لهذه المنطقة — أن تحصل على المكانة الأولى في باريس في بطولة الرعب، وتتقدم باقي مقاطعات البلاد!

لم تذكر أية وثيقة اسم بيير كازاس، ولم أشعر بالاستعداد لفحص جديد. أعدت كل الملفات في العلبة. طرقت باب ليكوسان بلا أي رد. قمت بجولة بين الأرفف فلم أجده أو أسمع صوت تحركه الصداميَّ المميز. انتهى بي الأمر بالتوجُّه إلى معاونته.

– مدير الأرشيف لم يعد هنا؟

– لا، الأستاذ ليكوسان خرج منذ عشر دقائق، تريد منه شيئًا ما؟

– لا حاجة لذلك، فقط اشكريه — باسمي — على كل مساعداته.

فاجأتني بدايات المطر على درجات مدخل المديرية، تزايد عنف هبَّات الريح كل دقيقة، وأخذت تثير التراب الجاف المتراكم على الأرصفة ومجاري المياه. أسرعت بالعودة إلى القسم لأتجنب تجرُّع العاصفة الضخمة على ظهري.

أظلمت الدنيا رغم أن الساعة السادسة لم تكن قد حلَّت بعد: كدَّرت السماء سجادة من السحب الضخمة. كانوا قد أضاءوا مصابيح سقف قاعة الدوام؛ فغطَّت أضواؤها الشاحبة الغرفة، وأحاطتها بأجواء كئيبة. فاجأني اتصال لاردان الهاتفي في مكتب ماتبيو وأنا أبحث عن دليل تليفونات تولوز.

– أيها المفتش، ربما تكون محقًّا. أعتقد أننا توصَّلنا إلى شيء.

– من أين تتصل بي؟

– من سان رمبير دالبوا، على الطريق السريع أ–٦، بين ليون وفالانس. قطعت أكثر من خمسمائة وخمسين علامة كيلومتريَّة من تولوز! مكان جميل. تستطيع رؤية نهر الرون في الأسفل، وهو ليس بعيدًا عن مون بيلا.

– ستقرأ لي نشرة نقابة السياحة في سهرة لجنة المشروعات القادمة يا لاردان، ماذا حدث؟

– سأعرف ذلك غدًا بالتأكيد. قابلت — لتوي — فريقًا من الكونستابلات يجوب الطريق السريع بين ليون وآفينيون طوال اليوم. تولَّى واحد منهم نوبتجيته خلال الليلة التي تلت مقتل برنار تيرو، وقد عمل مع حارس آخر؛ لذا يجب الانتظار غدًا.

– وضِّح كلامك، إنه أسوأ مما لو كان في فمك حفنة من الدبابيس!

– باختصار، فرانسوا لاكونت، الكونستابل الذي تتحدث عنه، كان مشغولًا بمراجعة أوراق سائق شاحنة على مرتفع لوريزل، فوق مونتليمار، في الساعة الحادية عشرة وسبع وخمسين دقيقة بالضبط.

– ذاكرته حديدية!

– لا، لقد أظهر له بطاقات نائب الرئيس vip، والساعة مُدوَّنة في الدفتر. في هذه الفترة، أوقف زميل له سيارة رينو ٣٠ «تي إكس» سوداء، تجاوزت سرعتها المائة وخمسين في الساعة.

– مسجَّلة في باريس؟

– هذا ما استُعلِم عنه. على أية حال، يدَّعي السائق أنه يبدو من رجال السلطة المهمِّين؛ وأظهر بطاقة ثلاثية الألوان، على الأقل هذا ما يتذكره فرانسوا لاكونت، فقد كان يُحرر مخالفة لزبونه.

– اسأل زميله، وبذلك نعجِّل بالأمور.

– هذه هي — بالضبط — المشكلة؛ فهو في إجازة منذ بداية الأسبوع، وأنا أسعَى للاتصال به، يبدو أنه يلعب دور الدون جوان في بريتاني، في مقطورة.

– نحن محظوظان! شاهدنا الوحيد في قلب الطبيعة، بلا تليفون.

– تريد أن أقوم بجولة في اتجاه برستْ أيها المفتش؟

– لا، استمر في استجواب الكونستابل، وحاول اختلاس عنوان صديقه منه. يبدو أننا استندنا على شيء حقيقي. وقعت الجريمة في الساعة السادسة، وقطع خمسمائة كيلو متر منتصف الليل، أشعر بذلك. ما إن تنتهي من سان ألبير-دامبو …

– سان رامبير دالبون!

– كما تشاء. إذن، عندما ينتهي هذا، أسرعْ إلى باريس، وانتظرني في فندق، لن أتأخر في اللحاق بك.

– خذ الطريق السريع أ-١٠ أيها المفتش، فهو أكثر استقامة! ما زلت لا أفهم — لو كان هو رجلنا حقًّا — لماذا قطع طريق باريس-تولوز، جيئةً ذهابًا، متخذًا طريق الجنوب السريع، بدلًا من السير — بكل بساطة — عبر بوردو! لقد حسبتها: باريس–بوردو–تولوز — ذهابًا وعودة — تسجل ١٦٠٠ كيلو مترٍ، بينما طريق باريس–بوردو–تولوز–مونبلييه–تولوز يتخطَّى الألفين ومائتي كيلو مترٍ! لم يقطع ستمائة كيلو متر إضافية حبًّا في جمال المناظر الطبيعية؟

– ليس لمون بيلا أيَّة علاقة بهذه المسألة يا لاردان. على الأقل هذا ما أنا واثق منه!

– لماذا إذَن؟

– لأنه — حتى الآن — هو الذي يضع قواعد اللعبة.

•••

اضطررت إلى إنهاء ملفات عاجلة متنوعة مطروحة على بساط البحث، قررت مغادرة مبنى القسم مع وصول نوبتجية الليل، ازدادت الحرارة ثقلًا، وحلت محل البرودة التي أتت بها عاصفة بعد الظهيرة، أخذت المياه — من شدة السخونة — تتبخر خلال ملامستها للطريق المرصوف بالزلط، ركد نوع من الطين المنفر على الأرض، اخترت السير حتى منزلي، دُرت حول كنيسة سان سيرنان لأغوص في اتجاه الجارون عبر شارع لوتمان، هدأ سيل السيارات والمشاة الذين يستخدمون جسر سان-بيير، ساعات الذهاب والخروج من المكاتب. حاذيت النهر لأصل إلى حي القطالينيين حتى أتجنب الدوران حول ممرِّ بريين.

وعلى ارتفاع شارع سيجورنيه، شعرت — لأول مرة — بحضور ما، مثل صدى متغير الإيقاع لحركتي الخاصة. سرت عشرة أمتارٍ إضافية لأقنع نفسي بطبيعة مَن يقتفي أثري. التفتُّ خلفي فجأة، فاحصًا الأرصفة بشكلٍ متلاحق. ابتعد خيال عن ضوء المصباح، فلم أتمكَّن من تحديد ملامح مُطاردي، التي أخفاها الضوء المعاكس. كان الرجل قصير القامة ويعتمد — بشكلٍ واضح — على قدمه اليُمنى. صوَّب نحوي مسدسًا داكن اللون. التقطت ماسورته بضعة أجزاء من الضوء. أدركت أن مصباحًا آخر موجود خلفي على بعد مترين، وأن عدوِّي يتبيَّنني بنفس هذا الظل الخفيف. وببطء، وضعت ذراعي اليُمنى على بطني وفككت أزرار سترتي بحرص مُتناهٍ. لم تُثر محاولتي أيَّ رد فعل ممَّن يصوِّب نحوي. لم يعد صعبًا إدراك أنه يستخدم سلاحًا للمرة الأولى في حياته. تصلَّبت أعضاؤه، وتيبَّس عموده الفقري، بينما ظل محافظًا على سلاحه وذراعه ممدودة وموجهة نحوي.

من هذه المسافة، فرصته لا تزيد على واحد من عشرة في إصابتي. فعليه ثني ركبتيه، ولوي الكليتين، وثني ذراعه اليُمنى، ثُم التسديد نحو صدري مع تأمين ثبات وضعه بمساعدة يده الطليقة.

سألته حتى أحرفه عني أكثر.

– ماذا تريد؟ لو هي النقود، فأنا على استعداد لأنْ أُلقي لك بمحفظتي.

– هذا لا يُهمُّني أيها المفتش كادان، ليست بحاجة للنقود، لم يكن ضروريًّا النبش في كل مكان، لا أريد …

كانت نبرات صوته مألوفة لي؛ إلا أنني لم أستطع تحديدها بدقة. تكفَّل الرجل بإنعاش ذاكرتي عندما أرجَحَ قدمه المشوهة إلى الأمام.

– أنت مجنون يا ليكوسان، لن تخرج من هذا المأزق حيًّا. أبعد سلاحك، طالما لا زالت هناك فرصة.

راح مدير الأرشيف يتقدم — دائمًا — بخطواته المترنِّحة، ومسدسه مرفوع إلى الأمام.

أتيح لي تحرير مكبس طرف الخرطوشة، تركت نفسي أقع على الجانب الأيسر، ملتقطًا — أثناء سقوطي — أخمص «الهليكير». انزلقت سبَّابتي — لا شعوريًّا — على المِغلاق، ونزعت رتاج السلاح قبل أن تستقر على الزناد.

أفرغت رصاصة مشط مسدسي الأولى وأنا مُمدَّد على بلاط الرصيف الرطب؛ بينما خرجت دفقة من الرصاص من قبضة ليكوسان. ضغطت عدَّة مرات على الزناد بلا تفكير وأنا ألهث، فقط الخوف من الموت هو الذي أمرني بإطلاق الرصاص. تهاوى ليكوسان بعد رصاصته الأولى وانزلق سلاحه في بركة ماء، نهضت لألتقطه، وبينما أوجِّهه نحو الضوء لطرد الانعكاسات، تبيَّنت الكتابة المحفورة على الماسورة.

«ليما. جابيلوندو. ي. فيتوريا.» نفس الموديل الذي استخدمه قاتل برنار.

كان ليكوسان قد كفَّ عن الحياة، وقد حطمت رصاصتان من رصاصاتي جمجمته، وانغرزت الثالثة في قدمه المشوهة، بالضبط فوق عَقِبه، أصدرت تعليمات مشدَّدة — لرئيس الموقع — بالمحافظة على سريَّة المعلومات طوال أربع وعشرين ساعة.

بدأ المارَّة — الذين أثار فضولهم صوت الفرقعات — في التَّجمع، لكن ما من واحدٍ منهم جرؤ على الاقتراب منِّي. وإنني لأتساءلُ عمَّا إذا كانت لديه الشجاعة الكافية.

وبينما كنت أبتعد، سمعت صَفَّارة سيارة الإسعاف وقد امتزج صوتها بصوت سيارة شرطة النجدة. وفي الساعة الثانية عشرة والنصف مساءً، كان قطار الإكسبريس المتجه إلى باريس يغادر محطة ليون الرئيسية، وقد حصلت على مكان في عربات النوم، رحت في النوم قبل أن نعبر مونتوبان، وقد هدهدني شخير الرضا لمندوبين تجاريين.

١  INSEE.
٢  INSEE يلعب المؤلف بالمطابقة بين الحروف الأولى.
٣  ماكس جاكوب: شاعر فرنسي وُلد عام ١٨٧٠م، ومات في معسكرات الاعتقال في درانسي ١٩٤٤م، و«جام النرد» ١٩١٧م cornet á dées من أشهر دواوينه من الشعر المنثور. (المترجم)
٤  كاجول: غطاء للرأس لا يبرز منه إلا العينان ويرتديه الرُّهبان. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤