فضيحة العصر

نحن نعيش في عصر وصول الإنسان إلى القمر، في عصر استعداده لغزو كواكب أخرى، في عصر الطاقة الذرية بتطبيقاتها السلمية المذهلة واستخداماتها الحربية المرعبة، في عصر الهندسة البيولوجية التي سمحت بتدخُّل إرادة الإنسان الواعية لاختراع أشكال حياة جديدة كاستخراج البروتين من منتجات البترول باستخدام كائنات دقيقة في عملية التحويل، إلى درجة أن المحكمة العليا الفيدرالية في الولايات المتحدة أصدرت في يونيو ١٩٨٠م أغرب حكم سمع به إنسان … وهو أن من الممكن أن يسجِّل المواطن في إدارة البراءات اختراعًا، لا لآلة جديدة، وإنما لشكل حياة جديد!

نحن نعيش أيضًا في عصر الميكرو معالج، هذا الاختراع المذهل في عبقريته ورخصه، والذي أدَّى — وسوف يؤدي — إلى أخطر النتائج الاجتماعية وأعمقها في مجالات الإنتاج والخدمات والتريُّح على نحو ما فصَّلنا في مقال سابق.

نعم … نحن نعيش في عصر الاكتشافات العلمية والتكنولوجية المذهلة الذي حقَّقت فيه معرفةُ الإنسان وإرادته خلال سبعين عامًا من البحث العلمي والانفجار التكنولوجي ما لم تحقِّقه خلال ألوف السنين من قبل.

ومع ذلك فنحن نعيش في عصر السرطان — فضيحة القرن العشرين — حيث عجزت إرادة الإنسان وبحوثه حتى اليوم عن حصار هذا المرض الفتاك، وعن الوصول إلى علاج حاسم لأنواعه المختلفة.

إنه المرض الذي يموت به كل عام مئات الألوف من البشر، ومن كل الأعمار «الصغار والكبار»، بل وتزيد نسبة الذين يُصابون به والذين يموتون به كل عام!

حتى اليوم أُنفقت مئات فوق مئات من ملايين الدولارات في بحوثه دون نجاح حقيقي في محاصرته. ولم يكن العجز العلمي هو مصدر هذا الفشل بقدر ما كانت عقبات المصالح؛ فالشركات الصناعية العملاقة تُحقِّق أرقامًا فلكية من الأرباح في ظل الأوضاع الحالية من التلوُّث البيئي الذي هو المصدر الأول لمعظم أنواع السرطان. ولقد حاولت هذه الشركات بكل الأساليب — وستظل تحاول على الأرجح — أمام جهود الإنسان لمحاصرة تلوث بيئته.

ولقد قيل في الماضي إن السرطان هو مرض المجتمعات الصناعية، وهو قول غير دقيق؛ فالسرطان ليس نتاج المجتمع الصناعي في حد ذاته، وإنما هو نتاج التلوث الصناعي بأوسع معانيه. وإذا استطاع الإنسان أن يسيطر على هذا التلوث فقد استطاع أن يحاصر مرض السرطان. وليس هذا تحليلًا جديدًا وإنما هو ما ورد في تقرير معهد السرطان القومي في الولايات المتحدة منذ عام ١٩٧٥م، وما وصلت إليه هيئات طبية وطنية عديدة في أوروبا، وما أكَّدت عليه الوكالة الدولية لبحوث السرطان.

•••

نبدأ أولًا بالصورة الإحصائية لانتشار المرض في المجتمعات الصناعية المتقدمة؛ حتى نُبرِّر قولنا بأنه فضيحة العصر. إن الإحصاءات الرسمية تُشير إلى أنه في هذه المجتمعات بين كل عشرين من البشر يصاب اليوم خمسة بالسرطان، ويموت من هؤلاء الخمسة أربعة بسببه.

أليس هذا بشعًا في حد ذاته؟ لكن الأبشع من ذلك أن السرطان هو المرض الرئيسي في العالم الذي تتصاعد معدلات الإصابة به.

في بريطانيا مثلًا تزداد معدلات الوَفَيَات بسبب السرطان بنسبة ١٪ سنويًّا للذكور، وبينما هبطت معدلات الوَفَيَات بالسرطان بين الإناث هبوطًا بطيئًا خلال الفترة ١٩٤٣–١٩٦٣م إلا أنها عادت للتصاعد من جديد بعد عام ١٩٦٣م.

ووفقًا لإحصاءات عام ١٩٧٨م في بريطانيا، فإن السرطان هو السبب الأول للوفاة لمن تقع أعمارهم بين الخامسة والثلاثين وأقل من الخامسة والخمسين. أمَّا هؤلاء الذين تقع أعمارهم بين الخامسة والخمسين وأقل من الخامسة والسبعين فإنه يلي مرض القلب في الأهمية كسبب للوفاة.

نتساءل بعد ذلك ما هو وضع هذا المرض لمن تقع أعمارهم بين الخامسة وأقل من الخامسة والثلاثين؟ والإجابة الإحصائية هي أنه السبب الثاني للموت بعد الحوادث لهؤلاء الذين تقع أعمارهم في هذه الفترة، لكنه المرض القاتل الذي يأتي في المقدمة لهذه المجموعة.

وهذه الإحصاءات لا تختلف كثيرًا في بريطانيا عنها في الدول الأوروبية الأخرى أو في الولايات المتحدة، ومع أننا لا نملك إحصاءات عن دول العالم الثالث، إلا أن هناك شواهد عديدة على تزايد نسبة الإصابة بالمرض خصوصًا في دول العالم الثالث التي قطعت شوطًا في اتجاه التصنيع، أو التي اتسعت فيها أنماط الاستهلاك الغربية.

وكما هو معروف فإن السرطان يتميَّز بنمو غير مسيطَر عليه في الأنسجة، وهذا النمو يؤدي عادةً إلى ظهور ورم في الجزء المصاب، لكن سرطان الدم (لوكيميا) ليست له أية مظاهر واضحة.

وليس صحيحًا أن هناك «علاج» معروف للسرطان على الرغم من مئات الملايين من الدولارات التي أُنفقت بحثًا عن هذا العلاج. وهناك شبه اتفاق الآن على أنه إذا كان المقصود من العلاج هو إجراء عكس لعملية النمو السرطاني في الجزء المصاب، فإن هذا ليس إلا وهمًا؛ فأقصى ما يطمح إليه مريض السرطان هو القضاء على هذا الورم عن طريق الأشعة أو إزالته عن طريق الجراحة. أمَّا إلى أي حد يكون هذا الإجراء ناجحًا وشافيًا، فيتوقف على ما إذا كان المرض قد اكتُشف في مراحله المبكرة أم لا.

ففي حالة سرطان الثدي (أو الجلد) يكون التدخل في الوقت المناسب فعَّالًا في التغلُّب على المرض، وأكثر من نصف النساء اللاتي يُصَبن بسرطان الثدي يعشن في حالة جيدة بعد الجراحة ما دُمن يواظبن على العلاج ومراجعة الأخصائي.

أمَّا في معظم حالات السرطان الأخرى فإن نمو المرض يكون في أجزاء غير ظاهرة من جسم الإنسان، والآلام المصاحبة له في البدء لا تكون شديدة، وهكذا فإن كثيرًا من الناس يعيشون سنوات عديدةً وفي أجسامهم نمو سرطاني دون أن يُدرك أطباؤهم ذلك. وعندما تشتد الآلام وتظهر الأعراض الحاسمة تكون فرصة الشفاء قد فاتت في غالب الأحيان. ينطبق هذا بشكل خاص على سرطان المعدة وسرطان الرئة، وفي الحقيقة فإن فرصة الشفاء من سرطان الرئة لم تتحسَّن عمَّا كانت عليه منذ أربعين عامًا؛ فمن بين كل مائة يصابون بسرطان الرئة يعيش خمسة فقط لمدة خمس سنوات منذ تشخيص حالتهم!

السرطان والسياسة

سيقول القارئ: وهل هناك علاقة بين السرطان والسياسة؟ وما دخل السياسة في موضوع كهذا؟ والإجابة هي أنه إذا كان المقصود بالسياسة الجهد الجماعي للإنسان لرفع مستواه المعيشي وإعلاء إنسانيته في مواجهة كافة العقبات التي تحُول دون ذلك؛ فإن للسرطان — أكثر من أي مرض آخر — صلةً وثيقة بالسياسة.

ثمة شِبه اتفاق الآن على أن السرطان هو في المحل الأول مرض التلوث الصناعي بأوسع معانيه (التلوث في أماكن العمل، في هواء المدينة، في الغذاء، السجاير … إلخ)، وأنه على هذا الأساس يمكن أن يمنع انتشاره وازدياد خطره، لكن الشركات العملاقة الدولية المتعددة الجنسية تقف موضوعيًّا خصمًا عنيدًا، ضد هذا؛ لأن محاصرة التلوث البيئي سوف يؤدِّي إلى خفض أرباح هذه الشركات أو ضياعها. ويكفي أن نُشير إلى المعركة الدائرة اليوم بين هيئات الصحة الدولية وشركات الألبان الصناعية، وخصوصًا شركة نستله، كمثال حي على حقيقة الموقف الذي تواجهه اليوم.

ولهذه المعارك على الشركات الدولية العملاقة تاريخ طويل أذكر بعض أمثلته هنا فيما يتعلق بالسرطان بالذات.

  • والمثال الأول: يأتي ضمن خبرة شخصية غريبة وقعت لي عام ١٩٥١م عندما كنت أدرس بالكلية الإمبراطورية بجامعة لندن. كنت آنذاك أحضر كل أسبوعين «حلقة بحثية» في علم الإحصاء الرياضي تنعقد بالكلية، وكان المعتاد — بطبيعة تخصُّصنا — أن يُدعى للمحاضرة في هذه الحلقة أساتذة من الجامعات ومعاهد البحوث البريطانية، كانوا يملئون السبورة في القاعة بالمعادلات والرموز الرياضية. وفي أحد الأيام قال لنا أستاذنا إن محاضر اليوم طبيب وإنه سيتحدث عن العلاقة بين سرطان الرئة والتدخين!

    إنه الطبيب البريطاني ريتشارد دولز (الآن سير ريتشارد دولز)، وحتى اليوم ما زلت أذكر ابتسامته الوديعة وصوته الهادئ وفانوسه السحري الذي أتى به معه. أمَّا سبب وجوده في هذا المكان الغريب فيرجع إلى أن «براهينه» على العلاقة بين سرطان الرئة والإفراط في التدخين كانت إحصائيةً في المحل الأول وليست إكلينيكية؛ فقد تتبَّع لسنوات طويلة حالةَ مجموعتين من البشر، إحداهما لا تُدخِّن، والأخرى يُدخِّن كل فرد من أفرادها أكثر من ثلاثين سيجارةً يوميًّا، وقارنَ نسبة الإصابة بالمرض في المجموعتين، ووصلَ بالاختبارات الإحصائية إلى أن نسبة الإصابة بسرطان الرئة في مجموعة المدخِّنين تختلف اختلافًا نوعيًّا عن نسبة الإصابة به في مجموعة غير المدخنين. وقال إنه منذ وصوله إلى هذه النتيجة وهو يدور على النقابات العمالية بفانوسه السحري محاضرًا ومحذرًا، وإن شركات الدخان تشن على نتائجه حملةً ضارية وتشكِّك فيها من الناحية العلمية، حتى وصل الأمر إلى أن دُفعت مبالغ كبيرة لأبي الإحصائيين فيشير الأستاذ بجامعة كمبردج ليكتب كُتيبًا يسجِّل فيه اعتراضاته الإحصائية على نتائج ريتشارد دولز. ولقد حاولت شركات الدخان إغراء ريتشارد دولز لإخفاء نتائج بحوثه أو على الأقل تأجيل إذاعتها، لكنها فشلت في ذلك.

    ثم أُعيدت هذه التجارب الإحصائية في بلدان أخرى — بعد تلافي مآخذ فيشر — وأصبحت العلاقة بين سرطان الرئة والإفراط في التدخين فوق كل ريبة وشك.

    لكن شركات الدخان العالمية لم تيأس تمامًا حتى اليوم؛ فمنذ أشهر فقط أعلن أحد العلماء البريطانيين — وسط استهجان نقابة الأطباء البريطانيين — أنه يشكِّك — بناءً على بحوث أجراها — في العلاقة بين سرطان الرئة والتدخين، لكنه اعترف في نفس الوقت أن شركات الدخان هي التي تُموِّل بحوثه.

  • والمثال الثاني: يتعلَّق بحادثة معروفة دوليًّا اليوم وهي تثبت كيف أخفت الشركات الكيماوية الأوروبية أبحاثًا هامة عن موضوع السرطان حتى أجبرتها الظروف بعد سنوات على إذاعتها. والقصة تبدأ في أواخر الستينيات حيث لوحظت أعراض مرض جلدي على عمال الشركات الكيماوية الذين يتعرَّضون لغاز V.C.M. إن بدء إنتاج هذا الغاز في الصناعة على نطاق واسع يعود في الحقيقة إلى الثلاثينات، ولقد زاد إنتاجه بمعدلات عالية بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ إنه مادة خام أساسية في صناعة البلاستيك.
    ولقد حاول العالم الإيطالي فيولا أن يُوَلِّد نفس هذا المرض الجلدي بتعريض حيوانات معملية لنفس هذا الغاز، إلا أنه لاحظ عام ١٩٧٠م أن بعض هذه الحيوانات ظهرت بها أورام سرطانية بعد تعرُّضها لجرعة عالية من غاز V.C.M.

    ولقد دفعت هذه النتائج عددًا من الشركات الكيماوية إلى أن تتبنَّى دراسةً واسعة عن وسائط السرطان في الحيوان تحت إشراف العالِم الإيطالي مالتوني. وفي أواخر ١٩٧٢م أكَّد مالتوني نتائج زميله فيولا وعمَّمها.

    وبدلًا من أن تُعلن الشركات الكيماوية نتائج مالتوني اختارت أن تظل في طي الكتمان، بل وصل الأمر إلى أنه عندما سأل المعهد القومي الأميركي للأمن المهني والصحة هذه الشركات عن أي بيانات عن غاز V.C.M في يناير ١٩٧٣م، قرَّرت الشركات الأوروبية أن تغلق فمها فلا تقول شيئًا عن بحوث مالتوني!

    لقد كان من الممكن أن يظل الوضع على حالة الكتمان دون حدود لولا حادثة وقعت بعد ذلك بنحو عامين في شركة جودريتش التي تتعامل مع هذا الغاز بكثرة؛ إذ مات ثلاثة من عُمالها بنوع نادر من السرطان يُصيب الأوعية الدموية للكبد؛ عندئذ، وعندئذٍ فقط، فقط نبَّهت الشركات الكيماوية التي تستخدم هذا الغاز إلى مخاطره، وهذه بدَورها اتخذت إجراءات سريعةً لخفض مستويات تعرُّض العمال للغاز، بل اضطُرت بعض الشركات إلى إغلاق بعض مصانعها لحين إعادة تنظيم هذا الإنتاج بما يتكافأ مع الخطر المكتشف حديثًا. وتحرَّكت الحكومات لوضع قواعد وقوانين جديدة لضمان خفض مستويات تعرُّض العاملين لهذا الغاز.

    عندئذ، وعندئذٍ فقط، نُشرت نتائج مالتوني وأصبح دور غاز «V.C.M» كوسيط للسرطان أمرًا مُعترفًا به دوليًّا.
  • أمَّا المثال الثالث: فيتعلَّق بمادة بنزدين، وهي مادة خام تدخل كعنصر هام في صناعة الأصباغ. لقد أصبح معروفًا اليوم في الأوساط العلمية والصناعية أن شركات الصناعات الكيماوية كانت لديها منذ الثلاثينيات أدلة حاسمة على أن هذه المادة وسيط لسرطان المثانة. ولقد تمثَّلت هذه الأدلة الحاسمة في جُثث العمال الذين ماتوا من هذا السرطان بالإضافة إلى تجارب معملية على الكلاب. ومع ذلك ظلت هذه المادة تنتج في بريطانيا حتى منتصف الستينيات، بل ما تزال أصباغ معتمدة على هذه المادة تُستخدم في الصناعة حتى اليوم!

هل يمكن عمل شيء؟

إذا كان ثمة أمل في محاصرة السرطان في المستقبل، فلا بد أن تبدأ من المنبع الأول لهذا المرض؛ أعني التلوث الصناعي بأوسع معانيه. وهذا يقتضي من الحكومات إجراءات صارمةً من الأمن الصناعي في مواجهة الشركات والمصانع على النطاق الوطني، كما يقتضي توفُّر مُناخ تعاون دَولي واسع النطاق لتبادل الخبرات والمعلومات والدخول في مشروعات بحثية دولية مشتركة.

والخطوة الأولى لهذا التعاون الدولي ينبغي أن تتجه للتعرف على المواد الكيميائية التي هي وسائط للسرطان. إن هناك ستين ألف مادة كيميائية مستخدمة صناعيًّا وتجاريًّا لم يُختبر — من زاوية السرطان — إلا مائة وثلاثين منها فقط!

حول هذه النقطة بالذات تتباين في أوروبا وجهة نظر أصحاب المصانع والشركات مع وجهة نظر النقابات؛ فبينما يقول أصحاب الصناعات إنه لكي نُحدد أن مادةً ما هي وسيط للسرطان، لا يكفي أن تُثبت التجارب المعملية على الحيوانات ذلك؛ لأن المادة الكيميائية قد تكون وسيطًا للسرطان في الحيوان ولا تكون كذلك في الإنسان (وهذا صحيح نظريًّا). يقوم موقف نقابات العمال على أساس أن كل مادة كيميائية يثبت أنها وسيط للسرطان في الحيوان ينبغي كإجراء وقائي اعتبارها كذلك بالنسبة للإنسان إلا إذا كان هناك دليل حاسم على عكس ذلك. وهذا الموقف للنقابات تدعمه هيئات دولية عديدة كالوكالة الدولية لبحوث السرطان. والحقيقة أن كل المواد الكيميائية التي ثبت أنها وسيط للسرطان في الإنسان ثبت أيضًا أن لها نفس التأثير على الحيوان؛ ولذلك فالقاعدة العكسية ينبغي أن تكون مقبولة، حتى لو أدَّت إلى خطأ ما فإنه سيكون خطأً في هامش الأمان وليس العكس.

والخطوة الثانية التي تلي التعرُّف على وسائط السرطان في كل المواد الكيميائية المستخدمة صناعيًّا أو تجاريًّا هي وضع استراتيجية عامة إزاء التعامل مع هذه المواد.

هنا أيضًا تتفاوت الآراء؛ فبينما يقول البعض إن الإجراء الصحيح الوحيد إزاء هذه المواد هو منع إنتاجها تمامًا، يدرك آخرون أن مثل هذا الإجراء العنيف قد يؤدي إلى إغلاق مصانع بأكملها وبالتالي زيادة البطالة، وهم لذلك يقولون إن الحل الواقعي هو خفض مستوى التعرض لهذه المواد في المصانع بما يضمن أمن العمال واستمرار الإنتاج. والمشكلة هنا أن هذه المستويات الملائمة التي لا تُصيب الإنسان بالسرطان غير معروفة بشكل علمي دقيق بالنسبة لعدد من المواد التي ثبت أنها وسيط للسرطان، وأي تجارب على الحيوانات في هذا المجال لن تكون بالضرورة صالحةً للإنسان.

والخطوة الثالثة بعد ذلك ينبغي أن تستهدف منع ظهور أنواع جديدة من السرطان باشتراط أن أي مادة كيميائية جديدة ينبغي قبل استخدامها في الصناعة أن تحصل على ترخيص من الدولة بإنتاجها صناعيًّا واستخدامها. وقد استحدثت عدة دول اليوم هذا النظام؛ حيث تشترط اليوم على الشركات اختبار الأدوية الجديدة والمواد الكيميائية الجديدة والمواد التي تدخل في الصناعات الغذائية من زاوية وساطتها للسرطان، وأن تُقدِّم الشركات نتائج هذه الاختبارات إلى الدولة قبل أن تقوم هذه الشركات بتسويق سلعها الجديدة.

أمَّا الخطوة الرابعة فتتعلَّق بضرورة اتخاذ إجراءات أمن صناعي دقيق في كل مصنع، وأن تشترك النقابات بشكل حاسم في الرقابة على هذه الإجراءات باعتبار أن أعضاءها هم المصابون أولًا وأخيرًا.

لكن هذا كله ينبغي أن تُصاحبه حملات إعلامية واسعة النطاق ذات طابع علمي ضد وسائط السرطان المعروفة، ومن أجل إنقاذ الأجيال الجديدة على وجه الخصوص من عادة التدخين. إن هناك دلائل عديدة على أن شركات الدخان تُركِّز في حملات تسويقها على الدول النامية بعد أن اشتد الحصار من حولها في الدول الغربية المتقدمة.

إن من المهم أن يدرك الرأي العام أن مكافحة السرطان ليست مشكلةً طبية فحسب، وإنما هي أيضًا مشكلة تمس صميم موقف الرأي العام من الشركات الصناعية الكبرى التي تُرك لها الحبل على الغارب في الماضي لإنتاج ما تريد صناعيًّا دون اعتبار كافٍ لمقتضيات أمن العاملين فيها أو المستهلكين لإنتاجها. وكل نضال جاد ضد السرطان لا بد بالضرورة أن يُصيب بعض مصالح هذه الشركات ماليًّا وتجاريًّا.

إن هذه النظرة هي النظرة الوحيدة السليمة للقضية اليوم، أمَّا الجري وراء الأوهام التي تُروِّج لها شركات الأدوية الكبرى حول اكتشاف دواء حاسم في الشفاء من كل أنواع السرطان فليس إلا سرابًا؛ فالأدوية الكيميائية التي كثُر الحديث عنها في السنين الأخيرة لم تثبت فعاليتها إلا في حالات قليلة جدًّا من السرطان، فضلًا عن آثارها الجانبية السيئة.

إن علينا في دول العالم النامي أن ننتبه إلى خطورة زحف هذا المرض على شعوبنا مع تزايد اتجاهنا إلى التنمية الصناعية، واستيرادنا لتكنولوجيا الغرب، وتزايد تبنينا لأنماط الاستهلاك الغربي، واتساع استيراد منتجات الغرب الاستهلاكية. وعلى كل حكومة جادة أن تبدأ كخطوة أولى بتشكيل لجنة وطنية على أعلى المستويات يشترك فيها الأطباء وعلماء الاجتماع والسياسيون ورجال الصناعة لدراسة الموقف الحالي لمشكلة السرطان ولرسم استراتيجية جادة تستهدف محاصرته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤