هذه التكنولوجيا الجديدة … إلى أين؟

المعالج الدقيق (أو الميكرو معالج) هو المصطلح الذي نستخدمه هنا مقابل الكلمة الإنجليزية microprocessor للتعبير عن هذا الاكتشاف التكنولوجي الجديد الذي تم التوصل إليه خلال السبعينيات في العالم الرأسمالي في ميدان الإلكترونيات الحديثة، والذي يعتبره الكثيرون ثورةً تكنولوجية بلا نظير في تاريخ التكنولوجيا.

ويتفق غالبية العلماء والتكنولوجيين على أن العصر الحالي يشهد ثلاثة تطورات جذرية في ميدان العلم والتكنولوجيا سوف تترك بصماتها الدائمة على مستقبل هذا العالم الذي نعيش فيه؛ التطور الأول يتعلق بتكنولوجيا الفضاء، والثاني يتعلق بالهندسة البيولوجية، والثالث وهو موضوع حديثنا يتعلق بهندسة الإلكترونيات.

فبعد أن استطاع الإنسان أن يكتشف الصمام الإلكتروني ويطوِّره، حدث تقدُّم هام في علم فيزياء الجوامد، وهذا أدَّى بدوره إلى اكتشاف الترانزستور أولًا ثم تطوير رقيقة السيلكون Silicon Clip التي هي أساس المعالج الدقيق.

ولقد كُتبت باللغة العربية مقالات عديدة عن الجوانب العلمية البحتة للمعالجات الدقيقة، وبعضها نُشر في مجلة «العربي»؛ ولذا لا ننوي الدخول في هذا الجانب في مقالنا، وإنما يهمنا أساسًا محاولة استكشاف بعض النتائج الاجتماعية الضخمة المترتبة على اتساع استخدام هذه الثورة التكنولوجية في العالم الرأسمالي، بأمل إثارة اهتمام الباحثين الاجتماعيين والمسئولين والسياسيين في العالم الثالث حول نتائج التوسع المنتَظر في هذه التكنولوجيات الجديدة — اجتماعيًّا — في الدول النامية.

إن من المسلَّم به اليوم أن التطبيقات الممكنة (وبعضها قد بدأ بالفعل) لرقيقة السيلكون سوف تؤثر عمليًّا على كل أماكن العمل من مصانع ومكاتب ومراكز خدمات. ليس هذا فحسب، بل إنها سوف تؤثِّر بالقطع على كافة ألوان النشاط الترويحي للإنسان في وقت الفراغ؛ فهناك معالجات الكلمة (آلات الطباعة أو النسخ الحديثة) في المكاتب، وأجهزة خزن واستعادة المعلومات إلكترونيًّا في البنوك وشركات التأمين، وهناك سيارات المستقبل التي سوف تُزوَّد بالأجهزة القادرة — بلمسة واحدة على زر في الداخل — على أن تُشخص الخلل في السيارة وحالة استهلاك البنزين، وحالة المكثِّف والعجلات وأي معلومات أخرى مفيدة.

وهناك أجهزة اللحام «الروبوت»، والأجهزة التي تقوم بالتجميع والتغليف في المصانع بدلًا من الإنسان، والأجهزة التي توزِّع البنزين في محطات الوقود، وأجهزة ضبط الحساب عند مخارج السوبرماركت، والأجهزة الموجودة في المنازل ولها القدرة على أن تتعرَّف على صاحب المنزل فلا تفتح الباب إلا له!

ولكي نفهم مغزى هذه التكنولوجيا الجديدة ونتائجها الاجتماعية نحتاج إلى منظور فكري يختلف جوهريًّا عن المنظور الفكري التقليدي الذي يرى أن العلم والتكنولوجيا مُحايدان من الناحية الاجتماعية. وحتى نرى فساد هذا المنظور يكفي أن نسأل أنفسنا عن أثر هذه الثورة التكنولوجية الجديدة على البطالة في العالم الرأسمالي، وإلى أي حد سوف تتعمَّق هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة بفعل الثورة الجديدة. إن هذا التساؤل يلمس في الحقيقة وترًا حساسًا في العالم الغربي اليوم؛ أعني قضية التناقض الحاد بين تطوُّر قوى الإنتاج وأشكال علاقات الإنتاج، هذا التناقض الذي تزداد حدته عامًا بعد عام بفعل التقدم التكنولوجي.

وربما كان من المفيد أن نلقي نظرةً سريعة على تاريخ العالم القريب (القرن التاسع عشر) لنرى العقدة الأساسية في هذا الموضوع. لقد وصلت أول موجة في التغير التكنولوجي الحديث في العقود الوسطى للقرن التاسع عشر، وظهر تشخيص واحد لها من مُنطلقين مختلفين؛ أحدهما على يد أندرو أور في كتابه «فلسفة الصناعيين»، والآخر على يد ماركس في كتابه «رأس المال».

إن أندرو أور يقول صراحةً في هذا الكتاب: «إن صاحب المصنع عندما تقهره صلابة العمال، وإذ هو عاجز عن السيطرة على العِمالة بتخفيض الأجور، مضطر إلى استخدام التقدم التكنولوجي للسيطرة على قوة العمل؛ فمن خلال الوحدة بين رأس المال والعلم يمكن اختزال مهمة قوة العمل إلى ممارسة الرقابة على الآلة، وهو عمل يمكن أن يقوم به أي طفل.» ومع أن أندرو أور يقول هذا في مجال الدفاع عن سياسة الرأسماليين الصناعيين، فإن ماركس يكاد يقول في «رأس المال» نفس الشيء في مجال الدفاع عن الطرف الآخر. «إن الآلة تُستخدم كأقوى سلاح في ترسانة الرأسماليين باعتبارها أفضل وسيلة للتغلب على تمرد قوة العمل على رأس المال.»

ومنذ القرن التاسع عشر حتى اليوم مرَّ العالم الرأسمالي بفترات ازدهار وانكسار مختلفة، لكنه اليوم يمر بأزمة اقتصادية عنيفة يعتقد الكثيرون أنها لا تقل في خطورتها عن أزمة عام ١٩٣٠م. ومن علامات هذه الأزمة الجديدة التكاسل في الاستثمارات والتضخم الحاد والبطالة الواسعة والارتفاع الجنوني في أسعار الأرض. لكن جوهر الأزمة — من وجهة نظر أصحاب الصناعات — يتمثَّل في عجزهم عن المحافظة على معدلات الأرباح أو زيادتها. وحتى الآن يبدو أن الإجراءات التي لجأ إليها عديد من الحكومات الغربية لتخفيض الأجور الحقيقية للطبقات العاملة — إمَّا مباشرةً عن طريق وضع حدود لزيادات الأجور أقل كثيرًا من معدلات التضخم، أو بشكل غير مباشر عن طريق السياسة الضرائبية وغيرها من الإجراءات المالية — قد فشلت في تحقيق الهدف المنشود؛ فإضرابات النقابات تتسع يومًا بعد يوم كما نرى في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، ومقاومة السُّود تزداد حدةً كما هو واضح في أحداث بريكستون في لندن، والنبض النقابي والسياسي للحركة النسائية يزداد صوته عُلوًّا، وحركات التحرر الوطني في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا تلجأ إلى أساليب أشد فعاليةً في مواجهة الإمبريالية، وكل هذا يُشكل مظاهر التمرد الجاد والتهديد الحقيقي لسيطرة رأس المال الغربي.

•••

إن هذا هو السياق الدولي العام الذي دخلت فيه ثورة المعالجات الدقيقة ميدانَ التكنولوجيا الصناعية وتكنولوجيا الخدمات، وفي هذا السياق العام ينبغي أن نفهم ردود الأفعال المتباينة لهذه التطورات التكنولوجية الجديدة.

هناك أولًا رد فعل رجال الصناعة والشركات المتعددة الجنسية ومنتجي المعالجات الدقيقة أنفسهم، وهؤلاء جميعًا أصدروا أكوامًا فوق أكوام من التقارير والبحوث والمقالات تَدَّعي أن التكنولوجيا الجديدة سوف تؤدِّي إلى زيادة في ثروة الناس، وإلى سلع أرخص وأكثر وفرة، وإلى وقت فراغ أطول لعامة الناس، وإلى عمل أنظف وأكثر أمانًا. أمَّا الأزمة الاقتصادية فسوف تُحَل لصالح الجميع، وكل هذا بفضل رقيقة السيلكون، هذه الرقيقة الصغيرة الرخيصة ذات العشرات الألوف من الدوائر.

وهناك ثانيًا رد فعل آخر مشابه للأول، وإن كان يعترف بأن بعض المشاكل الاجتماعية — تتمثَّل أساسًا في البطالة — سوف تنشأ بسبب التكنولوجيا الجديدة، لكنها بطالة مؤقتة في رأيهم؛ فهؤلاء الذين سوف يفقدون عملهم نتيجة إدخال التكنولوجيا الجديدة في المصانع يمكن إعادة تدريبهم في أعمال شديدة المهارة تتطلَّبها هذه التكنولوجيا، أو تشغيلهم في قطاعات الخدمات من تعليم وصحة … إلخ، تلك القطاعات التي سوف تتسع نتيجة الثروة المترتبة على استخدام رقيقة السيلكون. وهؤلاء يستشهدون — في الدفاع عن وجهة نظرهم — بما حدث إثر الموجة التكنولوجية الأولى في القرن التاسع عشر عندما انخفضت احتياجات المصانع من العمالة آنذاك وتحوُّل مئات الألوف من المصانع إلى المكاتب وقطاعات الخدمات وأعمال السكرتارية.

أمَّا رد الفعل الثالث فيأتي أساسًا من مفكري الطبقات العاملة، وهؤلاء يتوقَّعون شيئًا مختلفًا تمامًا من تطبيق هذه التكنولوجية الحديثة في ظل علاقات الإنتاج الاجتماعية القائمة اليوم في دول الغرب الصناعية؛ فهم يُرجِّحون أنه سوف يترتب على اتساع انتشار المعالجات الدقيقة في قطاعات الإنتاج والخدمات؛ بطالةٌ واسعة بنيوية، وزيادة سيطرة رأس المال على عمليات الإنتاج، وفقدان مهارات عديدة قائمة اليوم بين العاملين، ومخاطر أمنية صناعية جديدة ليس من السهل التنبؤ بتفاصيلها من الآن.

وهم يقولون إن حجة انتقال العمالة من قطاعات الإنتاج إلى الخدمات هي حجة فاسدة؛ لأن التكنولوجيا الحديثة سوف تؤدِّي إلى توفير العمالة في قطاعات الخدمات بالذات تمامًا كما سيحدث في قطاعات الإنتاج.

في بريطانيا مثلًا تتفاوت التقديرات الموجودة حاليًّا عن عدد الوظائف المهدَّدة نتيجة الاتساع في استخدام المعالجات الدقيقة في قطاعات الإنتاج والخدمات، فبينما يقدِّر المتفائلون بأنها تتراوح بين مليون ومليونَي وظيفة، تشير التقديرات الشديدة التشاؤم إلى أن عددها ١٢ مليون وظيفة! لكن بعض الدراسات الحديثة والجادة تتوقع زيادةً في البطالة في بريطانيا من وضعها الحالي (أكثر من مليونين ونصف مليون عاطل) وإلى خمسة أو ستة ملايين عام ١٩٩٠م! ولكي نفهم حقيقة الوضع تفصيلًا لا بد لنا من أن نلقي نظرةً على بعض الميادين المحدَّدة التي تُطبَّق فيها هذه التكنولوجيا.

نأخذ مثلًا ما يحدث في أعمال المكاتب والسكرتارية في الغرب بإدخال آلات النسخ الحديثة المسماة «معالجات الكلمة». إن «معالجة الكلمة» هو آلة نسخ ذات لوحة (شاشة) أمام الكاتب وذات ذاكرة وتسهيلات طباعة غير عادية. ويقدِّر منتجو هذه الآلات أنه يمكن الاستغناء في كل مكتب عن نسبة من قوة العمل تتراوح بين الثلث والثلثين نتيجة إدخال هذه الآلات الحديثة. ومن الناحية العملية هبط عدد الناسخات في مجلس بلدية مدينة برادفورد من ٤٤ إلى ٢٢؛ أي إلى النصف بعد إدخال الآلات الحديثة، وزادت كمية الأوراق المطبوعة بمقدار ١٩٪، وفي المجموعة المالية بروفدنشال هبط عدد العاملين في السكرتارية والنسخ من ٢٧ إلى ١٧، وهناك أمثلة عديدة من هذا النوع في ألمانيا الغربية والولايات المتحدة. إن هذه الحقائق توضِّح أن التكنولوجيا الحديثة سوف تُصيب على وجه الخصوص أوضاع النساء العاملات، وأنها سوف تدفع الكثيرات منهن إلى المنازل مرةً أخرى.

فإذا تركنا قطاع الخدمات وانتقلنا إلى أحد قطاعات الإنتاج كصناعة السيارات مثلًا، فسوف نجد توقعات ليست بالأفضل كثيرًا. إن كثيرًا من مصانع السيارات المتقدمة اليوم تعمل على إنتاج سيارات ذات معالجات دقيقة تقوم بوظائف عديدة؛ ففي «سيارة المستقبل» كما يسمونها، سوف يتصل معالج دقيق فيها بكابل واحد يدور في كل أجزاء السيارة ويقوم بإضاءة السيارة وتشغيل المحرك ومسح الزجاج … إلخ، وسوف يختفي الموزع التقليدي في السيارة، ونحو ٤٠٪ من الأجزاء الكهربائية الأخرى. وبلمسة واحدة لأحد الأزرار سوف تظهر على لوحة أمام السائق سرعة السيارة واستهلاك الوقود وحالة المكثِّف والعجلات، وأي معلومات أخرى يرى مصممو «سيارة المستقبل» فائدةً في ظهورها. والأكثر من هذا سوف يقوم المعالج الدقيق بالسيارة بتشخيص أي عيوب فيها أوتوماتيكيًّا، ويوضح أي أجزاء السيارة في حاجة إلى تغيير.

إن نتائج هذا الوضع على العمالة في قطاع إنتاج السيارات ليست بسيطة؛ فالاحتياج إلى قطع الغيار سوف يقل ولا بد أن يؤدِّي هذا إلى توفير في العمالة في مصانع قطع الغيار، ومخازن قطع الغيار سوف يصغر حجمها في المستقبل، وهذا سوف يؤدي إلى طوب أقل، وعمال بناء أقل … وهكذا. والأكثر من هذا أن التشخيص الأوتوماتي لعيوب السيارة سوف يؤدي إلى تقليص عدد عمال إصلاح السيارة وعمال الصيانة.

إن هذا النمط في تقليص العمالة ليس قاصرًا على السيارات؛ ففي اليابان نجد أن التلفزيونات المنتجة حديثًا لا تحتوي إلا على ٦٠٪ من الأجزاء التي كانت موجودةً في التلفزيونات اليابانية منذ خمس سنوات. وسوف ينطبق هذا على الثلاجات (المبردات) الجديدة وأنظمة الهواتف الجديدة وأي إنتاج به دوائر كهربائية أو إلكترونية.

•••

إذا تركنا قضية العمالة وانتقلنا إلى قضية ثانية وهي قضية المهارة في العمل، نجد أيضًا وجهتَي النظر المتعارضتين؛ فهناك من يقولون إن التكنولوجيا الجديدة سوف تؤدي إلى إحلال الأعمال الشديدة المهارة محل العمل الممل غير الماهر. لكن الوقائع التاريخية لا تدعم هذه الدعوى؛ لأننا لو أخذنا صناعةً كصناعة الأثاث أو صناعة البسكوت مثلًا، فإننا نلاحظ أن العمالة الماهرة القديمة في أعمال النجارة أو في عمليات خلط وعجين البسكوت قد حلَّت محلها الآلة الحديثة، بينما بقيت العمالة الأقل مهارةً ذات الطابع التكراري كما هي.

ويمكن أن نضرب مثلًا آخر عن قضية المهارة بآلات النسخ الحديثة (معالجات الكلمة). قبل هذا التطور الجديد كانت مهارة الكاتب على آلات النسخ تتمثل في قدرته على تقليل أخطاء الكتابة وعلى تنظيم الصفحة … إلخ، وكان الملل في عملية النسخ يقل ولو بقدر بسيط؛ بقيام الناسخ بمراعاة الهوامش وتغيير الصفحة ووضع الأوراق المكتوبة في دوسيهات خاصة … إلخ. أمَّا الآلات الناسخة الجديدة فهي مُبرمَجة لأنواع الخطابات والمذكرات المختلفة ولكل العمليات الهامشية التي كان يقوم بها الناسخ، وهي ذات ذاكرة قوية وقدرة على تصحيح الأخطاء بنفسها؛ أي إن الآلة الحديثة تقوم بأعمال عديدة كان الناسخ يقوم بها، وكل مهمة الكاتب على هذه الآلة هو أن يكون سريعًا في الكتابة لا أكثر ولا أقل. وكما تقول بعض إعلانات هذه الآلات الجديدة: «إذا لم يقع الكاتب على هذه الآلة في أخطاء، فمعنى هذا أنه لا ينسخ بالسرعة الواجبة!» فالهدف هو زيادة الإنتاجية حتى لو أدَّى هذا إلى فقدان المهارات.

إن ممَّا يلفت النظر في هذا المجال أن أحد جراحي المخ المشهورين قام ببرمجة مهارته وعلمه في آلة واحدة بحيث يستطيع أي طبيب حديث بلا خبرة أو تخصُّص أن يقوم بعملية تشخيص للجهاز العصبي، وتتجه فروع من الطب اليوم إلى تطوير وحدات تقوم ذاتيًّا بتشخيص المرض، ومثال ذلك أمراض الغدد. بل لعل الأغرب من ذلك أن شركة I.B.M قد ابتكرت آلات حاسبةً (كمبيوترز) تقوم هي بنفسها بتصميم الجيل التالي من الآلات الحاسبة!

فإذا تركنا قضية المهارة وانتقلنا إلى قضية السيطرة على الإنتاج بين العمال ورأس المال، فسوف نجد مثالًا ذا مغزًى في معركة جريدة التيمس الشهيرة بين أصحابها القدامى وبين نقابات المطابع. إن النظام الذي كان مقترحًا من جانب عائلة طومسون للطباعة كان من شأنه طرد مئات من العمال، وهذا ما قاومته النقابة ليس دفاعًا عن هؤلاء العمال فحسب، وإنما لأنها كانت تدرك أن قَبول عمليات الطرد بالجملة سيؤدِّي إلى إضعاف مركزها التفاوضي أيضًا. وعندما فشلت عائلة طومسون في صراعها مع النقابات لجأت إلى عرض الصحيفة للبيع، وهكذا جاء مالك جديد ومعه التكنولوجيا الحديثة، ولم يكن أمام النقابات إلا القَبول؛ لأن البديل الآخر هو إغلاق الصحيفة وتسريح الجميع!

•••

تبقى قضية الأمن الصناعي على ضوء التكنولوجيا الحديثة، وفي هذا يقول المتحمِّسون: «على أي حال فإن التكنولوجيا الجديدة أكثر نظافةً وأمنًا من الوسائل التقليدية.» فهل هذا صحيح؟

لقد بدأت التقارير ومشروعات المسح الأكاديمي تُشير إلى أخطار التكنولوجيا الجديدة؛ فإجهاد العمليات التكرارية السريعة جدًّا والمملة جدًّا قد زاد من حالات الانهيار العصبي عند العاملين، وهناك زيادة في حالات إجهاد العين والعقل وحالات البواسير نتيجة التكنولوجيا. والذين ينادون بالتحفُّظ فيما يقوله المتحمِّسون يشيرون إلى أن العالم احتاج إلى ثمانين عامًا للوصول إلى تدابير فعالة إزاء أخطار التكنولوجيا التقليدية، كأخطار الأسبستوس وأشعة إكس ولحام القوس الكهربائي … إلخ، وأنه من السابق لأوانه أن نقول إن التكنولوجيا الجديدة أكثر نظافةً وأمنًا.

هل يعني هذا كله أن نُعادي التقدم التكنولوجي؟ قطعًا لا وإنما استهدفنا من هذا العرض أن نوضِّح أن التكنولوجيا ليست «محايدة»، وأن قضية إدخال تكنولوجيا جديدة إلى مجالات الإنتاج والخدمات لا ينبغي أن تبحث معزولةً عن نتائجها وإفرازاتها الاجتماعية.

إن التكنولوجيا ليست بذاتها عدوةً للإنسان، لكن المشكلة هي أن التناقض بين علاقات الإنتاج وبين قوى الإنتاج يزداد حدةً كلما حقَّقت البشرية تقدمًا تكنولوجيًّا جديدًا، وأن هذا التناقض هو الذي يحتاج إلى حل إنساني يقوم على احترام مصالح الغالبية الساحقة من العاملين وإنسانيتهم. تلك هي المشكلة في حقيقة الأمر؛ فالاختيار ليس بين تكنولوجيا أو لا تكنولوجيا، ليس بين تقدُّم أو محافظة، وإنما الاختيار الحقيقي هو بين مجتمع يقوم التقدُّم فيه على أساس المصالح الحقيقية للإنسان وبين مجتمع يعني التقدُّم فيه مصالح رأس المال في المحل الأول.

مجلة «العربي»، يوليو ١٩٨١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤