بعيدًا عن أرض الوطن

ها أنا ذا أعود للكتابة من جديد، بعد عام قضيته في محراب العلم بعيدًا عن أرض الوطن … اتخذت فيه من كتبي زادي ومن قاعة الدرس محرابي، ولكن قِبلتي ظلت على طول العام هي أرض وطني، كأنني عابد موزَّع الفؤاد يُثقله الشك أحيانًا في جدوى العلم وقيمة بحوثه!

منذ صعدتُ إلى الطائرة في مثل هذه الأيام من العام الماضي، وصعدتْ بي الطائرة إلى لندن وأنا أحس بانقباض ثقيل الوطأة على القلب، كأنني ذاهب ولا أعود، مع أنني أعرف أنني أعود بعد عام. وليس من سبب عقلي واحد يدعو إلى هذا الإحساس؛ فأنا أعلم أنني ذاهب لأُجدد حيويتي العلمية ولأتصل بآخر كلمة للعلم في ميدان تخصُّصي بالجامعة، وبريطانيا ليست بالبلد الغريب عليَّ؛ فقد تعلمت فيها سنوات وقمت بالتدريس بها سنوات، ولي فيها أصدقاء أعزاء من بين هذه القلة من الرأي العام البريطاني التي تعرف قَدر الشعوب المناضلة ضد الاستعمار.

ومع ذلك فقد ظل هذا الإحساس البغيض يملأ جوانحي زمنًا طويلًا ويفيض على نفسي فترات متصلة. ساعةً بعد ساعة، يومًا بعد يوم، أحاول أن أصرفه في رفق بالانصراف إلى بحوثي من ناحية وزيارة معالم هذه المقاطعة البريطانية التي أزورها لأول مرة «لانكاستر»، وما أكثر ما فيها من أماكن تستحق الزيارة ومن مناظر طبيعية تخلب الأبصار في منطقة البحيرات، ومن حياة ريفية وديعة تُريح الأعصاب من ضجة العواصم الكبرى! ثم ما إن أظن أنني برئت من هذا الشعور حتى يعاودني في صورة أخرى غريبة، كأن صنبورًا من الألم ينسكب في قلبي وضميري قطرة قطرة ولا أدري كيف أصده.

حول هذا تحدَّثت إلى صديق عربي في لندن فضحك وقال: «أنتم معشر المصريين فلاحون بالطبيعة مرتبطون عضويًّا بالأرض من المهد إلى اللحد ولا تُطيقون فراقها. لستم تصلحون للهجرة ولن تصلحوا لها أبدًا!» ولكني تردَّدت في قَبول هذا الرأي الضاحك … فما نشأتُ يومًا في قرية، ولم أرتبط يومًا بزراعة أو أراضٍ، ولم أعرف أن لجدودي صلةً ما بالأرض. وفي صميم فؤادي أعرف أنني ابن القاهرة المُعزية … فيها وُلدتُ ونشأت وارتبطت بها ارتباطًا صميمًا، وإلى أزقتها وجوامعها ومقاهيها ما زلت أحن حتى اليوم. وأحسب أن هموم الوطن بعد نكسة عام ١٩٦٧م كان لها أكبر الأثر في هذا الإحساس القاني بالغربة والضياع.

مضى عام إذن منذ ودَّعت أصدقائي وأهلي وسافرت، ووعدت رئيس التحرير وعدًا لم أفِ به، وهو أن أكتب للمصور بانتظام، وأرسلت له من هناك بطاقةً بريدية أعتذر فيها عن كسلي بمشاغل العلم وقاعة الدرس. ولكني أدركت بعد ذلك أنني أخدع نفسي قبل أن أخدع رئيس التحرير بهذا الاعتذار؛ فكم من أيام ضاعت بلا عمل! وكم من مرة هممت فيها وأمسكت القلم ثم أضعه مع الورق جانبًا وأقول لنفسي: لا أكتب حتى أعود!

وبقدر ما أحسست أن حيويتي قد تجدَّدت بالانقطاع للبحث العلمي عامًا في جامعة لانكاستر، أحسست أيضًا أن حيويتي النفسية والشعورية قد تجدَّدت بعودتي إلى أرض الوطن.

وأحسب أن مشاعر، كمشاعر الأطفال وهم يستقبلون أمهاتهم بعد غيبة، قد اجتاحتني والباخرة تقترب من شاطئ الإسكندرية في الصباح الباكر من يوم ١٣ آب/ أغسطس وطيور البحر تحوم حول السفينة كأنها تشارك في حفاوة الاستقبال، وأنا أتعجَّل النزول كأنني على موعد مع أحد مع أنه لا أحد هناك.

ها قد عُدت إذن وأمسكت القلم من جديد لا ينفر مني كما كان ينفر هناك ولا يثقل على يدي كما كان يثقل هناك، أحاول أن أصل ما انقطع من حديث لي مع القارئ منذ عام!

وهل أذكر ما كنت أكتب منذ عام؟

إذا لم تخُني الذاكرة فقد كان آخر مقال كتبته في المصور منذ عام هو بعنوان «العرب وإسرائيل … بين استراتيجية الإعياء واستراتيجية الخرشوفة»، وكان المقال يدور حول كتاب «مدخل إلى الاستراتيجية» للقائد العسكري الفرنسي المعروف أندريه بوفر … ولعل هذا مدخل مناسب إلى حديث الكتب وثمرات المطابع البريطانية والأميركية. وأعترف أنه ما من مرة سافرت فيها إلى الخارج، إلا وعدتُ مبهورًا من هذا الإنتاج الفذ الذي يصدر عن دُور النشر في كافة ميادين المعرفة الجادة. وفي هذه السفرة بالذات شعرت أنني عاجز عن اقتناء وقراءة كل الكتب الممتازة التي تصدر في بريطانيا أو تصل دكاكين الكتب من الطرف الآخر من الأطلنطي … في السياسة والأدب والفن والفكر والفلسفة والعلوم الاجتماعية والطبيعية. ورغم أنني كنت أملك وقتي كله إلا أنني لم أستطع قراءة غير جزء يسير ممَّا اشتريته. ولكني كنت دائم الإحساس بالحسرة عندما أقارن بين إنتاج مطابعهم وإنتاج مطابعنا، بين احترام مؤلفهم للقارئ واحترام مؤلفنا لقُرائه.

ولعل أشد ما أعجبني في هذا المجال هو قدرة حركة النشر على الاستجابة الجادة السريعة لاحتياجات القارئ، ثم قدرة دُور النشر على أن تقدم الكتاب الجاد في طبعة شعبية زهيدة.

من أمثلة هذا أنني عاصرت في بريطانيا الضجة العارمة التي قامت في الصحافة حول جامعة واريك في نهاية الشتاء الماضي، وكان أصل هذه الضجة أن مجلس إدارة هذه الجامعة يضم عددًا من كبار رجال الصناعة والمال، «وأنها تعتمد في جزء كبير من أموالها عليهم» باعتبار أن مدينة واريك هي في قلب الصناعة البريطانية بمنطقة الميدلاند، وأن مدير هذه الجامعة قد تورَّط في رفض عدد من الطلاب لأنهم كانوا معروفين بنشاطهم اليساري وهم بالمدرسة الثانوية، وأنه تصرَّف على هذا الأساس بناءً على خطاب سري من ناظر المدرسة الثانوية إليه. ولقد اكتشف طلاب الجامعة هذه المراسلات السرية إبَّان احتلالهم لمبنى الإدارة في إحدى مناسبات صدامهم معها.

وكان أن قامت القيامة في الصحافة البريطانية حول هذا الموضوع، ولم يمضِ على هذه الضجة أسبوعان أو ثلاثة، حتى صدر كتاب من سلسلة بنجوين بعنوان «جامعة واريك ليمتد» للدكتور أ. ب. طومسون، وهو كتاب هام على صغر حجمه … مُدعَّم بكل الوثائق الرئيسية للقضية، وهو يُعتبر ردًّا ممتازًا من أساتذة الجامعة اليساريين على الإدارة وموقفها، وقِس على ذلك أمثلةً أخرى عديدة لا يتسع المجال لتفصيلها.

أكتب هذه الكلمة وقد طويت الصفحات الأخيرة من كتابين هامين … أحدهما للكاتب الأميركي دافيد هوروفتز بعنوان «من يالتا إلى فيتنام»، وهو دراسة جادة لاتجاهات السياسية الأميركية منذ وفاة روزفلت حتى اليوم، والثاني كتاب علمي مبسَّط عنوانه «علم الحاسب الإلكتروني» قام بإعداده عدد من العلماء المتخصصين بمناسبة الذكرى المئوية لإحدى كليات جامعة كمبردج. ورغم تباعد الموضوعين — في الظاهر على الأقل — فإن دار النشر واحدة، والقارئ الجاد غير المتخصِّص قادر على متابعتهما والاستفادة منهما أوفر الفائدة، وثمن الطبعات الشعبية من هذه الكتب لا يُعجز أحدًا.

ولست أطمع في أن تكون لدينا بسرعة هذه القيمة على تغذية حركة النشر بمؤلفات من هذا الطراز وبالأعداد الكافية، ولكني مع ذلك تمنَّيت — وما زلت — أن تستوعب حركة الترجمة في بلادنا هذه الباقة الضخمة من الكتب الممتازة التي تصدر في الغرب، وأن تنشط دُور النشر لمثل هذا العمل الجليل بالكفاءة المرجوة.

«المصوِّر»
١٨ / ٩ / ١٩٧٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤