الوضعية المنطقية فلسفة انهزامية مُعادية للعلم

في السنين الأخيرة دأب بعض أساتذة الفلسفة في الجامعة على تناول الوضعية المنطقية بشكل يحاول تزيين ما هو قبيح وتجميل ما هو شائن، مُدعين بأنها الفلسفة العلمية الحقيقية، وأنها آخر كلمة قالها العلم، فإذا كان المقصود بعلمية هذه الفلسفة أن عديدًا من المشتغلين بالعلوم قد ساهموا في صياغتها وشرحها، فليس من شك أن هذا صحيح، أمَّا إذا كان المقصود بهذا التعبير بأنها تُعبِّر عن روح العلم الحقيقية وتضع نفسها في خدمته، فلا نتردَّد في القول بأن هذا ادعاء بعيد عن الحقيقة والواقع …

إن الوضعية المنطقية قد ظهرت أولًا في مجال العلم الطبيعي، إلا أن نتائجها كانت أبعد مدًى من ذلك بكثير، وذلك هو شأن كل موقف فلسفي وفكري؛ إذ لا بد بالضرورة من أن يكون له انعكاسه في القضايا الاجتماعية، في الصراع الاجتماعي الدائر اليوم ومنذ سنين طويلة بين قوى التقدم وقوى التخلف … بين الاشتراكية والرأسمالية.

لقد شكَّلت هذه الفلسفة — بموقعها في نظرية المعرفة — تراجعًا وانسحابًا من جانب عديد من المثقفين الأوروبيين من المشاكل المحدَّدة إلى المشاكل المجرَّدة، ومن المعالجة الواقعية إلى المعالجة الشكلية … وخلف هذه الحركة كان يكمن في الحقيقة تقاعس مُر عن مواجهة الحقائق الاجتماعية الكريهة في أوروبا قبل وبعد الحرب العالمية الأولى.

فالحقائق، ولا سيما الحقائق الاجتماعية الصارخة، قد أصبحت في القرن العشرين أصعب من أن يواجهها المثقفون التقليديون. والوضعية المنطقية قد قدَّمت حجةً لطيفة لهؤلاء المثقفين الذين أرادوا أن يقفوا فوق مستوى الصراع الاجتماعي الدائر، وإن وقفوا في الحقيقة إلى جانب اليمين.

وليس من باب الصدفة أن تصدُر هذه الفلسفة من فيينا بالذات بظروفها الخاصة قبل الحرب العالمية الأولى كعاصمة لإمبراطورية متخلِّفة مضطربة على وشك الانهيار، ومركز لعديد من المثقفين المضطهدين المصدومين من حالة أوروبا عشية وبعد أول حرب عالمية على هذه الأرض. لقد أثمرت فيينا عديدًا من مدارس التشاؤم الفكري في كل الجبهات؛ الوضعية المنطقية في الفلسفة، مدرسة فرويد في التحليل النفسي، وأخيرًا وليس آخرًا مدرسة منجر في الاقتصاد التي تُصِر على الاستحالة المنطقية للاشتراكية في هذا العالم.

وليس من باب الصدفة أيضًا أن الوضعية المنطقية قد انزوت اليوم في العالم بأكمله، ولم تجد لها ملاذًا إلا في الولايات المتحدة حيث يعمل بعض أنصارها في سكون على رتق ثوبها المهلهَل. ويكاد يُجمع كل المشتغلين بالفلسفة على أن الوضعية المنطقية لم تَعُد موضة العصر كما كانت منذ ثلاثين عامًا، وأن ميراث المدرسة الرئيسي ينحصر في تركيز الاهتمام على مشكلة المعنى ومحاولة إقامة معايير للأحكام المنطقية، وإن كان بلا نجاح يُذكر. ولقد ساهمَت في الوصول بهذه الفلسفة إلى هذا الوضع الحزين عوامل عدة، في مقدمتها الإنجازات العلمية الكبيرة من الناحية التجريبية والتي كانت بمثابة صدمة لعديد من العلماء الذين آمنوا بها، كما ساهمت نتائج الصراع الاجتماعي خلال السنين الثلاثين الأخيرة في تبيان زَيفها.

وأخيرًا، وليس آخرًا، اتضح للجميع أن نظرة هذه الفلسفة إلى اللغة هي نظرة جامدة بلا مبرر، وأن افتراضاتها أتفه من أن تعالج خصوبة اللغات الحية ودلالتها الاجتماعية.

ولكن ما هي الوضعية المنطقية أصلًا؟

من الممكن القول بأن الوضعية المنطقية هي محصلة اتجاهين؛ وضعية ماخ من ناحية، ومنطق الفيلسوفين الرياضيين (فريجيه الألماني وبرتراند راسل البريطاني) الذي يؤسِّس للعلوم الرياضية من ناحية أخرى. ولقد تراجع فريجيه في آخر أيامه عن كل نظريته في ربط المنطق بالرياضة وفقد الحماسَ لإعادة كتابة وإكمال كتابه عن هذا الموضوع، بل وانتهى في آخر أيام حياته إلى اعتبار كل نظرية الفئات ومشروعه في اشتقاق الحساب من المنطق أمرًا خاطئًا؛ أمَّا راسل فقد غيَّر واقعه في هذا المجال كثيرًا، حتى باتت نظريته في الربط بين الرياضة والمنطق محل شك عند الكثيرين.

ولقد بشَّر الوضعيون بوجهة نظر يصفها البعض بأنها «تجريبية» عميقة الجذور، تدعمها منابع المنطق الحديث ورفض للميتافيزيقا على أسس منطقية لا باعتبارها عديمة الجدوى فحسب، بل باعتبارها عديمة المعنى أيضًا. وهذه «التجريبية العميقة» تدَّعي في حقيقة الأمر أن كل معرفة مشتقةٌ في النهاية من خبرة حسية، وأن كل الأفكار هي نُسخ مباشرة أو غير مباشرة من انطباعات الحواس … ومن هذا يُشتق الاستنتاج بأن المعرفة هي إمَّا عن العلاقات الداخلية بين الأفكار — كما هو الحال في الرياضيات — أو إنها ترجع في النهاية إلى محتوى انطباعات الحواس … وغير ذلك يمكن أن نُلقي به إلى النار باعتباره سفسطةً ووهمًا.

ولقد حاولت الوضعية المنطقية أن تتبنى صورةً أكثر منطقيةً في توجهها من وجهة النظر هذه؛ فأصحاب هذه الفلسفة يقولون بأن الخبرة يمكن تحليلها إلى مكوناتها النهائية … وهي المشاهدات الحسية المباشرة التي يتكوَّن منها عالم الإنسان المشاهد. ووفق هذا الفكر فإن الرياضيات لا تقول شيئًا عن العالم وليس لها أي محتوًى، ووظيفتها هي النص على علاقات الاشتقاق بين القضايا الأخرى … وعلى الرغم من أن قضايا الرياضيات صحيحة إلا أن سبب ذلك يعود إلى أنها «تحصيل حاصل» صحيحة بالتعريف … ووفق هذا الفكر تكون القضية ذات معنًى فقط إذا كان من الممكن من ناحية المبدأ إثبات أنها صحيحة أو زائفة، وهكذا تنقسم القضايا ذات المعنى إلى تلك التي يمكن إثبات صحتها أو زيفها على أسس شكلية (كالمنطق والرياضيات) أو تلك التي يمكن تأكيدها عن طريق التحقيق (أو التكذيب) من خلال خبرة الحواس. ولقد عبَّر أغلبهم عن هذا الرأي بقولهم: إن قضيةً ما تكون ذات معنًى إذا كانت خبرة الحواس كافيةً لتحقيق صحتها. وهذا ما يعنونه بمبدأ التحقُّق.

وفي هذا الادعاء عن المعرفة تكمن الخطورة الحقيقية للوضعية المنطقية. وإذا كان قصد بهذا الادعاء توجيه ضربة للميتافيزيقا باعتبارها تدَّعي الحديث عن أشياء تعلو على خبرة الحواس … إلا أن الضربة تُصيب في حقيقة الأمر كل فكر نظري عن القيم عامة أو حقائق الأخلاق أو القانون العلمي في العلوم الطبيعية والاجتماعية، بل وحتى قضايا الفلسفة ذاتها.

إن القيم عديمة المعنى بما في ذلك القيم الأخلاقية، والقانون العلمي عديم المعنى، والقضايا التاريخية عديمة المعنى، والصراع بين الفلسفة المثالية والفلسفة المادية عديم المعنى كذلك … لأن خبرة الحواس غير كافية لتقرير صحتها أو زيفها. إن دروس التاريخ كلها ليست قابلةً للتحقق مباشرةً بدلالة الأحداث، وعلينا إذن أن نرفض معناها، وما دام الأمر كذلك فليس أمام قوى التقدم الاجتماعي أي دروس من التاريخ تستفيد منها، وليس ثمة معنًى للحديث عن القانون العلمي للتجربة الاجتماعية ولا عن قيمة الحل الاشتراكي … والقوانين الطبيعية التي نتعلمها في المدارس والجامعات هي أيضًا غير قابلة للتحقق؛ إذ إن أي سلسلة من المشاهدات هي بطبيعة الحال محدودة؛ ولذا فهي ليست كافيةً لضمان صحة هذه القوانين. ولهذا لا نعتقد أننا بَعُدنا عن جادة الصواب حين وصفنا هذه الفلسفة في عنوان المقال بأنها انهزامية لأنها تُجرِّد الإنسان الاجتماعي من أسلحته الكامنة في درس التاريخ، وأنها مُعادية للعلم لأنها تُنكر عليه جوهره وهو القانون.

ولقد وضعت الوضعية المنطقية نفسها في تناقض داخلي صارخ بادعاءاتها … فإذا كانت كل القضايا الشكلية تنتمي إلى المنطق، وكل القضايا «الواقعية» لخبرة الحواس، فأين إذن نجد مأوًى لقضايا الفلسفة بما في ذلك مبدأ التحقُّق ذاته … الذي هو أساس معنى أي قضية لديهم؟ ذلك هو المأزق الحقيقي للوضعيين المنطقيين، هذا المأزق الذي دفع أستاذهم فتجنشتين — عندما رآه — أن يُدين حججه باعتبارها هراءً!

ويعترف عديد من رجال الفلسفة اليوم أن لهذه المطابقة الساذجة بين المعنى وطريقة التحقيق نتائج يستحيل قَبولها أو تحملها؛ فمبدأ التحقق هذا يشوِّه بل ينكر معنى كثير من القضايا المقبولة في العلم والحياة اليومية؛ ولهذا فهم يعترفون بأن مفهوم الوضعية المنطقية عن المعنى هو مفهوم انطوائي لأنه غير قابل للاتصال بين الناس بعضهم البعض، وهو مفهوم ذاتي لأنه يتغيَّر من مشاهد لآخر.

ولقد حاول بعض الوضعيين (ولا سيما البريطاني آير) تجنُّب هذه الصعوبات بالتمييز بين الأشكال «القوية» والأشكال «الضعيفة» من مبدأ التحقق … وعند آير أنه ليس من الضروري أن تكون القضية قابلةً للتحقيق حسمًا … وإنما يكفي للترخيص بقضية ما أن توجد مشاهدات حسية تكون «متعلقة» بصحتها أو زيفها … غير أن هذه الصياغة قد فتحت الباب للميتافيزيقا من جديد؛ إذ إن كل ميتافيزيقي لا يتردد في إعلان أن مشاهدات الحواس هي بدرجة ما «متعلقة» بتأملاته … ولقد حاول آخرون ابتكار صياغات أخرى لمبدأ التحقق. ودائمًا كانت هناك تناقضات داخلية وصعوبات لا تقبل الحل حتى بدا في النهاية هذا المبدأ في صورة اعتباطية لاستبعاد فئة من الجمل التقريرية دون سبب معقول.

ولم يعد خافيًا أن هذا الدور الشامل الكامل الذي يُعطى للخبرة الحسية يُجهز على البحث العلمي تمامًا … فالتجربة الحسية هي بالضرورة خصوصية للمشاهد … ولذا يبدو أن القضايا لا يكون لها معنًى بالنسبة له إلا إذا تحوَّلت إلى شيء بدلالة ما هو متاح من ناحية المبدأ لخبرته المباشرة … وفي هذا الإطار تنتفي إمكانية الاتصال العلمي بين الأفراد … وتنتفي قابلية البيانات العلمية للتحقُّق بشكل متبادل بين الأفراد العلماء … ولقد أدَّى هذا الموقف برجل مثل شليك إلى ادعاء أن مضمون الخبرة الفردية يظل دائمًا غير قابل للوصف حتى بالنسبة للمشاهد نفسه، وإذا لم تكن هذه صوفيةً معادية للعلم فماذا تكون؟

ومن ناحية أخرى … فرغم أننا لا نود أن نقلِّل من القيمة التكنيكية للإنجازات التي قام بها المناطقة الرياضيون من أمثال فريجيه وراسل، إلا أننا لا نتردَّد في القول بأن هذه الإنجازات لم تُثمر أية نتائج ذات بال في تطور العلوم الطبيعية في القرن العشرين؛ فالتقدم العظيم الذي تم في هذا القرن لم يتحقَّق على يد المنطق الرياضي … وإنما تحقَّق على يد التجربة التي كانت صراحةً أو ضمنًا مادية، والتي كانت على رباط وثيق بتكنيكات مادية تمامًا … وليس من باب الصدفة أن الوضعيين الأوائل — مثل ماخ — كانوا يحتقرون المفاهيم المادية مثل المفاهيم الخاصة بالذرَّة … ومن سوء حظهم أن يقع هذا التحقير في الوقت الذي كان فيه البحث العلمي يمنح هذه المفاهيم واقعيةً ازدادت بمرور السنين.

والخلاصة أن الوضعية المنطقية قد أفلست في مجال العلم إفلاسًا كبيرًا، واضطُر عديد من العلماء الذين بدءوا بها أن يتراجعوا عنها … بعد أن اكتشفوا أن نتائجها المنطقية لا بد أن تقضي على القانون العلمي الذي هو روح العلم … وهي لا بد أن تنتهي أخيرًا إلى الادعاء بلا معقولية هذا الكون … وفقدانه لكل معنًى … وحتمية التمايز الشخصي في تفسيرنا لهذا الكون وفراغ التاريخ من كل دلالة … وهذا الوضع هو الذي جعل للوضعية المنطقية نتائج في المجال الاجتماعي أبعد مدًى من نتائجها في مجال العلم الطبيعي … أليس من الواضح إذن أن من يتبنَّى الوضعية المنطقية إنما يتبنَّى حق الفرد في أن يظل معزولًا من مجتمعه … وفقدان الصراع الاجتماعي لكل معنًى تقدِّمه له دروس التاريخ؟ ذلك هو ملاذ المثقفين الأوروبيين الذين أرادوا أن يبرِّروا عجزهم وتقاعسهم وأن يدفعوا الآخرين إلى نفس الموقف.

ونحن هنا في مصر نُعيد بناء حياتنا من جديد على أسس اشتراكية … ونحن ندرك أن هذه العملية ليست بناءً ماديًّا فحسب … وإنما ينبغي أن تواكبها حركة فكرية اشتراكية تُمجِّد قيمنا الجديدة وتدفع بالإنسان الجديد إلى كل ما هو إيجابي في العمل والعلم والقيم والتاريخ … ومن هنا جاء حذرنا من هذه التيارات الفلسفية الغربية التي تفد علينا على يد أساتذة جامعيين، تلبس ثوب الليبرالية الفكرية والعلم … وإن أخفت في داخلها أسوأ أنواع الانعزالية والسلبية واللاأدرية، وتبرِّر الحضارة الغربية بواقعها الكريه.

«روزاليوسف»، أغسطس (آب) ١٩٦٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤