ابن الهيثم

العبقري العربي الذي تظاهر بالجنون!

لم ينَل عربي، في مسيرة التاريخ، ما ناله ابن الهيثم من تقدير لعبقريته العلمية والهندسية. وإذا كان العالَم ما زال يذكر حتى اليوم فخرَ بحوثه الأصيلة … أعني كتابه (المناظر) في علم البصريات، وهو الكتاب الذي ظلَّت أوروبا تحاول استيعاب ما فيه ستة قرون، إلا أنه لا ينبغي أن ننسى أن ابن الهيثم كان مهندسًا كبيرًا بمقاييس عصره، وأنه أول من أشار إلى فكرة تخزين مياه النيل عند أسوان للانتفاع بها في فصول الجفاف!

حدث هذا منذ نحو ألف عام، وسمع الحاكم بأمر الله في مصر بأمر ابن الهيثم وعُلو مقامه في العراق، وأنه قال: «لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملًا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص؛ فقد بلغني أنه ينحدر من مكان عالٍ وهو في طرف الإقليم المصري.» فأرسل إليه أموالًا وهدايا وناشده الحضور إلى مصر. فلمَّا قَبِل ابن الهيثم خرج الحاكم بأمر الله لاستقباله خارج مدينة القاهرة، والْتقى به في قرية قُرب أحد أبواب القاهرة مُرحِّبًا، وأكرمَ وِفادته.

وانتظر الحاكم أيامًا حتى استراح ابن الهيثم من عناء السفر، ثم طالبه بما قاله في أمر النيل. وسار ابن الهيثم ومعه جماعة من الصُّناع المتولين للعمارة بأيديهم — وكأنه على رأس بعثة هندسية بأدق المعاني الحديثة لهذه الكلمة — يتتبَّع مجرى النيل من القاهرة إلى جنوب أسوان حتى وصل مكانًا يقال له الجنادل (ولعله الشلال)، ولم يجده ابن الهيثم — كما بلغه من قبل — موضعًا عاليًا ينحدر منه النيل، فعاينه واختبره من جوانبه، وفكَّر وقدَّر، فلم يجد الأمر متفقًا مع الفكرة الهندسية التي خطرت له، فعاد إلى القاهرة خجلًا واعتذر للحاكم.

وإذا علمنا أن الحاكم بأمر الله كان دكتاتورًا سفاكًا للدماء، شديد التقلُّب في مزاجه، على الرغم ممَّا عُرف عنه من تشجيع للعلم والعلماء؛ فقد يخطر في بالنا أن عُنق ابن الهيثم كان مصيرها السيف على يد جلادي الحاكم بعد هذا الفشل المبين، أو أنه على الأقل طرده من البلاد وحرمه من نعمته.

وليس هذا ما حدث على أي حال؛ فالثابت أن الحاكم قَبِل اعتذاره واقتنع بما أبدى من الأسباب بل ولاه منصبًا من مناصب الدولة. وقد تتفاوت التفسيرات في فهم هذا الموقف من جانب الحاكم بأمر الله؛ فمن قائل إنه تظاهر بقَبول عذر ابن الهيثم حتى يُبقيه في مصر فلا ينتفع به أحد حكام الدول العربية الأخرى، وربما كان ابن الهيثم نفسه متشيعًا واعتبر القاهرة المكان الطبيعي له في ظل سلطة الفاطميين عندما كانت بغداد معقل السُّنة المتعصبين.

على أنه من الثابت أن ابن الهيثم كان كارهًا لهذا المنصب الذي ولاه الحاكم؛ فقد كان بطبعه كارهًا للمناصب لا يستسيغ أعمال الدواوين، ميالًا إلى الانقطاع للبحث العلمي وإجراء التجارب وتأليف الكتب؛ ففكَّر في حيلة يتخلَّص بها من هذا المنصب دون أن يجلب على نفسه غضب الحاكم بأمر الله، فلم يجد وسيلةً غير أن يتظاهر بالجنون وخيال العقل. وأشاع ذلك عن نفسه حتى بلغ الحاكم، فعزله عن منصبه وصادر أمواله وعيَّن عليه من يقوم بخدمته!

وظل ابن الهيثم في هذا الوضع المأساوي حتى مات الحاكم بأمر الله سنة ٤١١ﻫ، فلمَّا تيقَّن من الخبر استوطن غرفةً بجوار الجامع الأزهر وعاد إلى البحث والانقطاع للعلم، ولبث بعد ذلك حيًّا أكثر من ثمانية عشر عامًا أصدر خلالها كتاب «المناظر» أكبر أعماله العلمية وأجلها شأنًا!

•••

لكي ندرك حقيقة عبقرية العالِم العربي ابن الهيثم ينبغي أن نعود إلى ما كتبه مؤرخو العلم الغربيين في العصر الحديث؛ فكم حاول كثيرون منهم التقليل من أهمية الإضافات التي أضافها العرب في ميدان البحث العلمي! وكم قالوا عن العلماء المسلمين النوابغ أنهم فُرس وليسوا عربًا! ومع أنه من المتفق عليه اليوم بين هؤلاء المؤرخين الغربيين قاطبةً أن أوروبا القرون الوسطى قد شقَّت طريقها إلى عصر النهضة من خلال التراجم العربية للتراث العلمي والفلسفي اليوناني التي كانت موجودةً بالأندلس وصقلية، إلا أن هؤلاء المؤرخين يتفاوتون حول قيمة الابتكار والأصالة العربية في هذا الميدان.

ورغم ذلك فهم جميعًا وبدون استثناء يتفقون على أن ابن الهيثم كان عالمًا عربيًّا أصيلًا، وأنه كان أشد العلماء العرب أصالةً وابتكارًا. وحَسْبنا أن نُشير إلى ما يقوله العالم البريطاني البولندي الأصل ج. برونوفسكي في كتابه «ارتقاء الإنسان»، فهو يقول ما يلي بالنص عند تعرُّضه لحركة الترجمة الأوروبية للتراث اليوناني في الأندلس:

«إن أشهر المترجمين وأنبغهم كان جيرار دي كريمونا الذي جاء من إيطاليا خصوصًا للبحث عن نسخة من كتاب بطليموس في الفلك (الجسطي)، والذي أقام في طليطلة لترجمة أرشميدس وهيبوقرطس، وجالينوس وإقليدس (عمالقة العلم اليوناني). ومع ذلك ففي رأيي أن أروع الرجال الذين تُرجمت أعمالهم — وأشدهم نفوذًا على المدى الطويل — لم يكن يونانيًّا. ومصدر حكمي هذا أنني مهتم بتصوُّر الأجسام في الفراغ، وهو موضوع كان اليونانيون فيه على خطأ بيِّن. لقد فُهم هذا الموضوع لأول مرة حوالي عام ألف ميلاديًّا على يد رياضي عربي غريب الأطوار يُدعى ابن الهيثم، وهو وحده العقل العربي الأصيل الذي أنجبته الثقافة العربية.»

«لقد ظن اليونانيون أن الضوء ينطلق من العين إلى الأجسام، ولكن ابن الهيثم أدرك لأول مرة أننا نرى الجسم؛ لأن كل نقطة عليه ترسل شعاعًا إلى العين وتعكسه منها.»

«إن التصوُّر اليوناني لم يكن قادرًا على تفسير كيف أن أي جسم — يدي مثلًا — يبدو وقد تغيَّر حجمه عندما يتحرَّك. أمَّا في تفسير ابن الهيثم فهذا أمر واضح؛ إذ إن مخروط الأشعة الذي يصدر عن إطار يدي وشكلها يأخذ في الصغر كلما حرَّكت يدي بعيدًا عنك. وكلما اقتربت يدي منك أخذ مخروط الأشعة الذي يدخل عينَيك في الكِبر، وكانت زاوية رأسه أكبر.»

«إن هذا — وهذا فقط — هو الذي يُفسِّر تغيُّر حجم اليد — بالنسبة للمشاهِد — عند الحركة. إن فكرة ابن الهيثم من البساطة بحيث يبدو مدهشًا أن العلماء لم ينتبهوا لها إلا بُعد ستمائة عام من نشره لها (باستثناء روجر بيكون). أمَّا الفنانون فقد تعاملوا مع هذه الفكرة بطريقة عملية قبل العلماء بزمان طويل؛ إن مفهوم مخروط الأشعة الصادر عن الجسم إلى العين هو أساس فكرة «المنظور»، والمنظور هو الفكرة الجديدة التي منحت الرياضيات حيويةً جديدة.»

«لقد انتقلت هذه الفكرة المثيرة — المنظور — إلى الفن في شمال إيطاليا وفلورنسا وفينسيا في القرن الخامس عشر الميلادي. وفي مكتبة الفاتيكان بروما توجد نسخة لاتينية مترجَمة من كتاب ابن الهيثم (المناظر) وعليها تعليقات وحواشي لورنز جبرتي الذي وضع المنظور البرونزي المشهور لأبواب الكنيسة المعمدانية في فلورنسا. ولقد مثَّل لورنز مع آخرين مدرسةً متميزة في الفن هي مدرسة المنظور. إنها مدرسة في الفكر لأن هدفها لم يكن مجرد تصوير الأجسام كما تبدو في الحياة، وإنما خلق هذا الإحساس بحركة الأجسام في الفضاء.»

هذا ما يقوله برونوفسكي، وقد تعمَّدنا أخذ هذا النص المطوَّل من كتابه ليتبيَّن منه الميدان الأساسي لبحوث ابن الهيثم التي تميَّزت بالابتكار والأصالة، ولنرى منه تأثير هذه البحوث على تطوُّر العلوم الرياضية من ناحية وعلى الفنون من ناحية أخرى.

أمَّا برنال في كتابه «العلم في التاريخ» فإنه يقول شيئًا مشابهًا لِما قاله برونوفسكي، ولكنه يؤكِّد من ناحية أخرى على الأهمية الفسيولوجية للوصف الدقيق الذي قدَّمه ابن الهيثم لتركيب العين في مناطق شديدة الحرارة كثُرت فيها أمراض العيون وعلاقة هذا بضعف البصر والحاجة إلى العدسات المكبِّرة للقراءة.

وفي كتاب الدومييلي العلم عند العرب وأثره في تطوُّر العلم العالمي، يقول المؤلف في باب «أوج العلم العربي في المشرق»:

«قبل أن نشرع في دراسة نتاج العلوم المختلفة على وجه التخصيص يجدر بنا أن نُفرد مكانًا لثلاثةٍ من العلماء الكبار يؤلفون — مع الرازي — أعظم المفكرين والعلماء الإسلاميين الأربعة بالمشرق، وهم: البيروني، ابن سينا، ابن الهيثم، وكان الأخير من هؤلاء الثلاثة عراقيًّا، على حين يمكن عد الأولين — بحق — إيرانيَّين.»

ثم يعود إلى ابن الهيثم في نفس الكتاب فيقول ص٢٠٦:

«كان ابن الهيثم رياضيًّا وعالِمًا بالطبيعيات على وجه الخصوص، ولكنه تجاوز ببعيد في مجاله المحدد أهمية جميع الفيزيائيين الآخرين عند العرب. وكتابه (المناظر) ترك أثرًا عميقًا، بل كان فيما بعدُ باعثًا إلى البحوث والأعمال التي قام بها كلٌّ من روجر بيكون ووايتلو …»

لقد تميَّز ابن الهيثم بأبحاثه في ظواهر انعكاس الضوء وانكساره والعدسات، وفي وصفه الدقيق للعين، ودراساته في الرؤية المزدوجة، وهو أول من استخدم الغرفة المظلمة في الدراسات الضوئية. وهذه الدراسات في الانعكاس والانكسار أدَّت به إلى حل مُعضِلات رياضية، ومنها المشكلة المعروفة باسمه وتتلخَّص كما يلي:

«أفرض دائرةً في سطح، وأفرض نقطيتين خارجيتين عن الدائرة، المطلوب إيجاد نقطة أعلى هذه الدائرة بحيث يكون المستقيمان اللذان يربطان هذه النقطة أ بالنقطتين الخارجيتين زوايا متساوية مع نصف قطر الدائرة، لقد احتوى حل هذه المشكلة على معادلة من الدرجة الرابعة حلَّها ابن الهيثم بواسطة خط تقاطع دائرة وقطع زائد.»

ربما كان هذا الاستعراض لآراء ثلاثة من كبار العلماء ومؤرخي العلم الغربيين في ابن الهيثم كافيًا لنستخلص عددًا من النتائج الهامة، ومنها:

  • أولًا: إنه ليس هناك أي شك حول «عروبة» ابن الهيثم، وحول أصالة بحوثه العلمية.
  • ثانيًا: إنه ليس هناك أدنى شك حول الأهمية البالغة لكتابه (المناظر) وحول الأثر البالغ المدى الذي تركه هذا الكتاب على العلم الأوروبي في عصر النهضة، وعلى تطوُّر فن الرسم الأوروبي بما قدَّمه من مفهوم «المنظور».
  • ثالثًا: إن ابن الهيثم كان عالِمًا بالمعنى الشامل لهذه الكلمة، باحثًا في الطب وفي الرياضيات وفي الفلك، وفي الفيزياء. ومع أن أهم إنجازاته كانت في الفيزياء إلا أننا لا ينبغي أن نقلِّل من إنجازاته الرياضية وبحوثه في تركيب العين؛ فبرونوفسكي يعتبره رياضيًّا تحوَّل إلى الفيزياء، والبحوث الهندسية — ويشير الدومييلي إلى واحدة منها — التي كان عليه أن يُواجهها في دراساته لعلم الضوء هي من أجلِّ الإنجازات الهندسية في عصره.

وإذا أضفنا إلى هذا ما كان معروفًا عنه من اهتمامات في ميادين المساحة الأرضية وبناء العمائر وتخزين مياه الأنهار، لاستطعنا أن نخرج بفكرة أولية عن حجم هذه العبقرية العربية التي تفتَّحت منذ أكثر من ألف عام.

إن الإنسان يقف مشدوهًا أمام مثل هذه الظاهرة عندما يتذكَّر أنه في هذا العصر البعيد لم تكن هناك مدارس نظامية يتعلَّم فيها الناس، ولم تكن هناك مِنح علمية تُمنَح للمتقدمين حتى يعطوا أفضل ما لديهم كما هو الحال في عصرنا هذا. لقد كان على كل إنسان طَموح أن يُعلِّم نفسه بنفسه، وهذا ما فعله ابن الهيثم عندما لجأ إلى كل الترجمات العربية للتراث اليوناني في الرياضيات والفلك والفلسفة والطب، فدرسها ثم ألَّف منها تصنيفات بلغت ثلاثةً وأربعين في الفلسفة والعلم الطبيعي، وعشرين في الرياضيات والفلك، وواحد في الطب، وهذه التصنيفات لم تكن تلخيصًا لِما قرأه وفهمه فحسب، بل تضمَّنت إضافات وتصحيحات ونقدًا لعدد من آراء من سبقوه.

أمَّا من أين كان يأكل ويُنفق وهو مشغول بهذه الأبحاث، فإننا نجد إجابةً مأساوية على هذا في الكتاب الهام لمصطفى نظيف (ابن الهيثم) حين يورد اقتباسًا من كتاب ابن القفطي «أخبار الحكماء» يقول فيه: «سمعت أن ابن الهيثم كان ينسخ في مدة سنة ثلاثة كتب في ضمن أشغاله، وهي إقليدس والمتوسطات والجسطي، ويستكملها في مدة سنة، فإذا شرع في نسخها جاءه من يعطيه فيها خمسين ومائة دينار مصري. وصار ذلك كالرسم الذي لا يُحتاج فيه إلى مواكسة ولا معاودة قول، فيجعلها مُؤنةً لسنته.»

هكذا إذن كان حال هذا العالم العبقري العربي … ينسخ الكتب ليجد قوت يومه، وهو الرجل الذي سماه المؤرخون العرب «الحكيم بطليموس الثاني»! إن هذا هو مُناخ حياته اليومية عندما كتب دُرة أعماله (المناظر) بعد وفاة الحاكم بأمر الله.

ثم يزداد الإنسان دهشةً عندما يتذكَّر طبيعة العصر الذي عاش فيه ابن الهيثم. لقد وُلد ابن الهيثم في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، ومات بالقاهرة في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، وفي هذا العصر أُصيب العالم الإسلامي لأول مرة بالانقسام الكبير الذي لم يلتئم بعده أبدًا.

لقد وقعت بغداد في أيدي الوزراء الأتراك ينهبون ويُفسدون، وانفصلت فارس وأصبهان والجبل في أيدي بني بُوَيْه، ووقعت كرمان في أيدي محمد ابن إلياس، والمَوصل وديار بني ربيعة وديار بكر وديار مضر في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد الإخشيديين، والمغرب في يد الفاطميين، والأندلس في يد عبد الرحمن الناصر، واليمامة والبحرين في يد القرامطة، والأهواز وأواسط البصرة في يد البريديم … إلخ، ووصلت حالة التدهور السياسي إلى قتل الخلفاء في بغداد على يد الأتراك والتمثيل بجثثهم. فإذا طلب الأتراك من الخليفة أن يخلع نفسه وأبى، خلعوه وسملوا عينَيه، وهكذا شوهد الخليفة القادر يسأل الصدقة على باب المسجد!

إن هذا العصر لم يكن عصر التدهور السياسي فحسب، بل كان عصر التدهور الفكري في معظمه، عصر الْتهاب نيران الخلاف بين الفقهاء بعضهم مع بعض، وبين السُّنة والشيعة، وبين الفقهاء والمتصوفة، بين الأغنياء والفقراء، عصر سد باب الاجتهاد في الدين والتحجُّر الفكري والتعصُّب الأعمى. وكانت الأحوال الاجتماعية والاقتصادية على أسوأ ما يكون؛ فالأغنياء يزدادون غنًى والفقراء يزدادون فقرًا، والمظالم والمصادَرات تزداد لملء خزائن الخلفاء والأمراء، وكل هذا أدَّى في النهاية إلى انتشار ظاهرة التصوف، وإلى اتساع ظاهرة «الشُّطار»؛ أي اللصوص، وإلى انحلال الأخلاق وامتلاء القصور بالمؤامرات والدسائس والقتل، وإلى انتشار مجالس الشرب والقيان وبيوت الدعارة (بيوت النخاسين)، وإلى اتساع نفوذ الخرافات والسِّحر والتنجيم على يد عناصر اتخذت من التصوف ستارًا للتدجيل (راجع «ظهور الإسلام» لأحمد أمين الجزء الثاني).

ولم يمضِ على موت ابن الهيثم بالقاهرة أكثر من خمسة عشر عامًا حتى كان القائد طغرل بك يضرب بخيامه تحت أسوار بغداد ثم يدخلها دون مقاومة!

إن من الغريب أنه في هذه الحقبة التي تميَّزت بالانحلال السياسي والتدهور الفكري، استطاع ابن الهيثم أن يحافظ على تفكيره العلمي بصورة تُذكِّرنا بفكر العلماء الأوروبيين في القرن التاسع عشر؛ فقد بدأ شبابه متشككًا ثم وجد طريقه إلى البحث العلمي من خلال معرفة فلسفة أرسطو، فهو يقول في أحد مقالاته: «ورأيه أني لا أصل إلى الحق إلا من خلال آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية. فلم أجد ذلك إلا فيما قرَّره أرسطوطاليس من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات التي هي ذات الفلسفة وطبيعتها.»

ويقرِّر مصطفى نظيف في كتابه (ابن الهيثم) بأنه: «كان من فرقة الواقعيين من العلماء الذين يصح أن نُجمل مذهبهم في أنهم يرَون العالم الطبيعي موجودًا في ذاته وجودًا عينيًّا، خارج الذهن أو العقل، وأن الحواس أدوات إدراكه.»

وهو يجعل همه الأول في بحوثه ونظرياته وتجاربه الكشف عن أحكام وقوانين الطبيعة؛ إذ هو من المقتنعين أن الأمور الطبيعية تنتظمها قوانين يستوي في ذلك ما يدركه الحس وما يتعذَّر على الحس إدراكه.

وهو فوق ذلك يتبع طريقةً في البحث تقوم على الاستقراء والقياس والتمثيل، وهي العناصر الجوهرية الثلاثة التي لا تزال تميِّز البحث العلمي حتى اليوم.

ابن الهيثم إذن كان ظاهرةً شاذة في مُناخ غير مؤاتٍ، وليس هذا بالأمر المستحيل؛ فكم قدَّم التاريخ من أمثلة هذه الظواهر الشاذة التي لا تُهدر القاعدة. فنحن نستطيع أن نتصوَّر عالِمًا فردًا — كابن الهيثم — ينكفئ على نفسه يدرس في عزلته ويتعمَّق مستفيدًا من التراث اليوناني وذكائه الخارق، ثم يخرج على الناس بكتاب في أصالة كتاب «المناظر».

لكننا لا ينبغي أن ننسى أن من علامات هذا العصر الأغبر أن ابن الهيثم قد اضطُر إلى التظاهر بالجنون عندما أراد أن يتفرَّغ للعلم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤