ما هو مستقبل البحث العلمي في وطننا العربي؟

يحزنني ويحزن الكثيرين من أمثالي من المشتغلين بالبحث العلمي أن نجد مراكز البحوث والجامعات في الوطن العربي لا تُساير التطورات العلمية الرئيسية التي تحدث في أوروبا أو الولايات المتحدة إذا كانت هذه التطورات حديثة العهد كأن تكون قد تحقَّقت في السنوات العشر الماضية مثلًا. وأنا هنا أتحدَّث عن التطورات الرئيسية وليس أي تطورات. وقد كنت أظن أن عشر سنوات مدة كافية لكي تستجيب هذه المراكز البحثية لهذه الاكتشافات الجديدة على الأقل من باب الفهم والدراسة والنقد، ولن أقول من باب التطوير والإضافة.

إن مثل هذه الاكتشافات هي ثمرة ديناميكية المجتمعات الصناعية المتقدمة؛ ولذلك يبدو لي أنه إلى أن تتحوَّل مجتمعاتنا من مجتمعات متخلِّفة صناعيًّا إلى مجتمعات متقدمة، فليس من المتصوَّر أن تبدأ مثل هذه الاكتشافات عندنا.

لكن يكون من الضروري على الأقل أن نُتابعها، وأن نُترجم المؤلفات الأساسية التي تصدر في الخارج منها، وأن تُعقد الندوات التعليمية في مراكز البحوث والجامعات لمناقشتها وإلقاء الأضواء على خفاياها. وبهذا نُمهِّد للزمن الآتي حيث نستطيع أن نُضيف ونُطوِّر ونكون بذلك من المساهمين في حركة البحث الدولية.

هل هذا يحدث؟

لا أعتقد أن شيئًا من هذا يحدث في أي جزء من عالمنا العربي، وأنا على الأقل واثق من أنه لا يحدث في مصر. وسوف أضرب مثلين لتطوُّرين أساسيين في مجال العلوم الرياضية، وهو المجال الذي أعرفه جيدًا، لم أجد اهتمامًا في مصر بهما، ولا شك أن هذا الوضع ينطبق في مجالات أخرى.

نظرية الكارثة

منذ عودتي من الكويت منذ أكثر من عام وأنا أسأل مراكز البحوث في مصر إن كان هناك اهتمام بما يسمَّى في أوروبا «نظرية الكارثة» Catastrophe Theory. وهذه النظرية الجديدة هي ثمرة السنوات العشر الماضية منذ أن ظهر أول كتاب عنها عام ١٩٧٢م للرياضي الفرنسي رينيه توم. وأهمية هذه النظرية أن تطبيقاتها تخرج عن الحدود التقليدية للتطبيقات الرياضية في العلوم الطبيعية أو الهندسية … إلى تطبيقات في العلوم البيولوجية والطبية والعلوم الاجتماعية، بل في بحوث الحرب والسلام. ولهذا السبب أثارت من الجدل والخلاف والصراعات الفكرية ما أثارت بين العلماء في أوروبا والولايات المتحدة. وحتى اليوم ما زال غبار هذه المعارك الفكرية عالقًا في أجواء البحث العلمي هناك، لكننا نحن لا ندري، أو بمعنًى أدق لا يدري المتخصِّصون عندنا شيئًا عن ذلك، وربما لم يسمعوا أصلًا بهذه النظرية ذاتها.

ومن حق القارئ — ما دام الموضوع قد أُثير — أن أقول كلمةً عن هذه النظرية هنا حتى نعرف شيئًا عن أهميتها.

لقد تطوَّرت العلوم الرياضية ابتداءً من نيوتن حتى النسبية العامة في ارتباط وثيق بالعلوم الفيزيائية والفلكية أساسًا. وهذه الحقيقة طبعت الاكتشافات الرياضية في الغالب الأعم بطابع خاص … هو قدرتها على وصف التغيُّرات البطيئة والمتصلة وتحليلها مثل حركة الكواكب والنجوم … إلخ. لكن الظواهر الطبيعية لا تحدث كلها على هذا المنوال؛ فهناك الظواهر الطبيعية التي تحدث فجأةً كغليان الماء وذوبان الثلوج وحدوث الزلازل … إلخ. وفي العلوم البيولوجية نجد هذا السلوك المفاجئ كظاهرة أساسية في كثير من المواقف، ومثال ذلك الخلية التي يمضي إيقاع تكاثرها بشكل عادي ثم فجأةً تتضاعف وتتضاعف بشكل سرطاني. فإذا انتقلنا إلى العلوم الاجتماعية والسياسية فسوف نجد هذه التحوُّلات الكيفية التي تحدث بشكل مفاجئ ظاهرةً ملموسة كانهيار البورصة واندلاع الحروب وقيام الثورة … إلخ. وفي حياتنا العادية نتحدث عن القشة التي قصمت ظهر البعير دون أن نستطيع أن نَصِف هذه الظاهرة علميًّا.

إن التقنيات الرياضية المتوفرة لم تكن قادرةً على وصف هذه التحولات الكيفية المفاجئة، فضلًا عن تحليلها لأسباب عديدة؛ منها كما أسلفنا أن العلوم الرياضية نشأت في حضن العلوم الطبيعية وتأثَّرت اكتشافاتها إلى حد كبير بهذه الحقيقة، ومنها أن مثل هذه التحولات المفاجئة في حاجة إلى رمزية رياضية غير الرمزية التي تعوَّدنا عليها.

لماذا لا نهتم؟

وكما يقول الأوروبيون المتخصِّصون، في البدء كان رينيه توم، العالم الرياضي الفرنسي العبقري الذي أصدر أول كتاب عام ١٩٧٢م باسم «الاستقرار البنيوي والتكوين التشكيلي» وكان حلمه الأساسي هو أن يطوِّع العلوم البيولوجية رياضيًّا؛ أي يبني نماذج رياضيةً تصف الظواهر البيولوجية الأساسية وتقوم بتحليلها. ولقد استخدم رينيه توم نظريات الرياضي الفرنسي الأشهر بوانكاريه عن الأنظمة الديناميكية، لكن كتابه كان مع ذلك مثالًا في المفاهيم والتصورات الجديدة والبناء الفكري الفذ.

ومع أن رينيه توم لم يكن مشغولًا بالعلوم الاجتماعية أو السياسية، فقد كان طبيعيًّا أن يندفع كثير من علماء الاجتماع والسياسة نحو هذه الفرصة الذهبية للاستفادة منها. لقد سمَّى رينيه توم هذه التغيرات المفاجئة بالكوارث؛ لأن كلمة «كارثة» في اللغة الفرنسية هي القادرة في رأيه على إعطاء هذا الشعور بالتغير المفاجئ الدراماتيكي. لكن بعض إيحاءات هذه الكلمة في كثير من التطبيقات مُضلِّل، لكن لا حيلة لنا في هذا؛ فمنذ تسمية رينيه توم أصبح الموضوع معروفًا ودوليًّا باسم «نظرية الكارثة». والكوارث بالمناسبة تنقسم رياضيًّا إلى نوعين؛ الكوارث الأولية والكوارث العامة!

ولا شك أن لمثل هذه النظرية آثارًا هامة على تطور علم المنطق ولا سيما الرياضي، وهو الذي انحصر معظمه حتى اليوم في المنطق الأرسططالي، ويحق لنا أن نتوقع استيعابًا رياضيًّا جديدًا للمنطق الجدلي الذي بدأ على يد هيجل.

والغريب أن معظم تطبيقات نظرية الكارثة (والتي لا تثير خلافًا) هي في العلوم الطبيعية والهندسية وليست في العلوم الاجتماعية أو البيولوجية. وكثيرون يعتقدون أن هذا هو المتوقع إلى مستقبل قريب، وأن الاستخدام الناجع والواسع لهذه النظرية في العلوم البيولوجية هو أمر يتعلَّق بالمستقبل المتوسط. وبعد هذا، وبعد هذا فقط يمكن أن نتوقع التطبيقات الناجحة في العلوم الاجتماعية. وليس هذا هو رأي الجميع على أي حال، ويكفي أن نشير إلى محاولة علماء رومانيا بناء نموذج رياضي باستخدام نظرية الكارثة لوصف مشكلة الصراع بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي من ناحية، وبين الدول الفقيرة والدول الغنية من ناحية أخرى.

فهل نحن مهتمون في الوطن العربي بهذا التطور العلمي الكبير بتطبيقاته المترامية؟

في حدود علمي لا أعرف مركزًا بحثيًّا في العالم العربي مهتمًّا بدراسة وتوسيع دائرة النقاش حوله في المجالات المختلفة، وسوف يسعدني جدًّا أن يثبت أنني مخطئ!

أمَّا المثال الثاني على النوم الذي تغط فيه مراكز بحوثنا فيتعلَّق بمجال أكثر تخصُّصًا لكنه لا يقل أهمية، وهو محاولةٌ للنفاذ إلى أسس العلوم الرياضية، ويُعرف باسم «التحليل غير القياسي». وقد بدأ هذا التطوُّر في الولايات المتحدة أيضًا منذ حوالي عشر سنوات على يد رياضي أميركي يُدعى إبراهام روبنسون، لكنه سرعان ما أخذ أبعادًا جديدة وعُقدت من أجله ندوات عديدة في أوروبا والولايات المتحدة.

ولست أنوي أن أُرهق القارئ بشرح معنى هذا التحليل غير القياسي، لكن يكفي أن أقول إن هذا التطور يثير قضايا فلسفيةً كثيرة فضلًا عن أنه يقدِّم براهين بسيطة لنظريات رياضية سبق برهانها بأساليب معقدة تمامًا.

أزمة الاتصال الدائم

هذان إذن مثالان على تطورين أساسيين في العلوم الرياضية وقعا في السنوات العشر الأخيرة لا يجدان لهما صدًى في الوطن العربي حتى اليوم في دوائر البحث العلمي. ولا بد أن تكون العلوم الأخرى حافلةً بأمثلة من نفس النوع. والمشكلة ليست هي انعدام الباحث العربي المهتم، وإنما هي مشكلة توفر الاتصال الدائم بيننا وبين مراكز البحوث في الخارج، وتوفُّر المكتبات المليئة بالمراجع العالمية الحديثة، وتوفُّر الوقت الكافي للأكاديميين للانصراف لمثل هذا العمل الجليل بدلًا من الجري وراء لقمة العيش!

حكى لي صديق مصري يعمل أستاذًا في الجامعة كمتخصِّص في علوم الكمبيوتر أنه عندما سافر في الصيف الماضي لحضور أحد المؤتمرات العلمية، دار بينه وبين أستاذ إنجليزي من نفس تخصُّصه نقاش استطرد إلى التعرُّض لِما هو معروف الآن باسم «النماذج العالمية» التي بدأت على يد «نادي روما»، واستُخدم فيها الكمبيوتر استخدامًا واسعًا، وقال لي الأستاذ المصري إنه فوجئ بأن الأستاذ الإنجليزي على علمٍ دقيق بالنماذج المختلفة التي استُخدم الكمبيوتر فيها، بينما لم يكن هذا الأستاذ المصري قد سمع بنادي روما أصلًا!

إلى متى يستمر هذا؟ ومتى نفيق من الكارثة العلمية التي نعيش في ظلالها؟

مجلة «العربي»، ديسمبر ١٩٨٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤