جاسبار مونج (١٧٤٦–١٨١٨م)

جاسبار مونج عبقرية رياضية فرنسية من نوع خاص، عاش حياةً حافلة علميًّا وسياسيًّا وهندسيًّا، وشاءت الأقدار أن يُولد في أسرة مُعدِمة كبيرة العدد (كان أبوه بائعًا متجوِّلًا يقوم بشحذ السكاكين للمنازل)، وأن يعاصر انفجار الثورة الفرنسية؛ فكان أحد رجالاتها المرموقين، ثم ارتبط ارتباطًا وثيقًا بنابليون حتى أصبح صديقه الصدوق في السراء والضراء. صاحَبَ نابليون في حملته العسكرية على مصر، وكان مونج يُعد أبرز أعلام البعثة العلمية التي أخذها نابليون معه إلى القاهرة، حيث أسَّس «المجمع المصري»، وكان هو الرجل الوحيد الذي أخذه معه نابليون عند عودته سرًّا إلى فرنسا.

ولقد ظل مونج على وفائه لنابليون حتى هزيمته في معركة واترلو، وعندما أصبح واضحًا أن أوروبا قد هزمت نابليون نهائيًّا وأن الملكية الفرنسية قد استقرَّت، كان على مونج أن يختفي من بيت إلى بيت خوفًا على رقبته من المقصلة، وفُصل من الأكاديمية العلمية الفرنسية بناءً على ضغط الملك، ومات وهو مطارَد، ووصلت الخسة بعائلة «البوربون» إلى حد رفض طلب تقدَّم به طلاب المدرسة العليا للبولتكنيك للاشتراك في الجنازة!

إن العالَم المتحضر كله مدين لمونج باكتشافه علمًا كاملًا (هو أساس الهندسة الميكانيكية) وهو الهندسية الوصفية. ومع أن هذا العلم قد تطوَّر كثيرًا منذ مونج، إلا أن كل التطورات التالية تعود إلى مونج في جذورها. ولقد ظلت الهندسة الوصفية فرعًا من فروع الرياضيات التطبيقية زمنًا طويلًا، لكنها لم تعد تُثير اهتمام علماء الرياضيات اليوم؛ لأنها أصبحت علمًا مغلقًا يصعب فيه أي اجتهاد، ولأنها انتقلت إلى كليات الهندسة في جامعات العالم فأصبحت الأساس في بعض فروعها.

لكن مونج لم يكتفِ بهذا الاكتشاف مع أنه كان كافيًا لتخليد اسم أي عالم كبير، وإنما أثار انتباه علماء عصره بإقحامه علم التفاضل والتكامل في دراسة انحناء السطوح، ووصل في هذا المجال إلى درجة أن لاجرانج — أبرز علماء الرياضيات الفرنسيين آنذاك — قال بعد سماع محاضرة لمونج في المدرسة العليا للبولتكنيك:

«لقد فسَّر لي مونج أشياء هامةً جدًّا كنت أوَد أن أفسِّرها بنفسي. وإن هذا الشيطان سوف يُخلِّد اسمه بتطبيقه للتحليل الرياضي على علم الهندسة.»

أضف إلى هذا اكتشافاته الهامة في ميدان المعادلات التفاضلية، وأنه وصل إلى كل ذلك وهو مشغول بأعماله السياسية والمناصب الكبرى التي تولَّاها وطلبات نابليون التي لا تنتهي … حتى نرى أي عبقرية هذه التي تقمَّصت روح مونج وخلَّدت شخصيته.

•••

كان مونج فقيرًا في مولده؛ فقد كان أبوه بائعًا متجوِّلًا في فرنسا قبل الثورة، ولكنه كان شديد الاحترام للتعليم … كافح من أجل إرسال أولاده الثلاثة الذكور إلى المدارس، وتفوَّق الثلاثة ولكن جاسبار كان نابغة العائلة!

في المدرسة كان جاسبار يحصل على جوائز التفوُّق في كل المواد، وتفوَّق على التلاميذ المتفوِّقين باهتمام خاص في الميكانيكا والهندسة، وكانت هذه أول إشارة إلى اتجاه مونج في المستقبل. وعندما كان مونج في الرابعة عشرة أذهل أهل قريته بتصميمه لماكينة لإطفاء الحرائق، وعندما سُئل كيف استطاع ذلك دون نموذج أمامه كانت إجابته:

«إن لديَّ طريقين لا يخطئان للنجاح … عناد لا يُقهر، وأصابع قادرة على أن تُترجم أفكاري بإخلاص هندسي.»

لقد كان مونج بالفعل «مولودًا هندسيًّا» إذا جاز هذا التعبير؛ إذ كانت لديه قدرة خارقة على تصوُّر أعقد علاقات الفضاء في لحظات.

ثم أذهل أهل بلده — وهو في السادسة عشرة — بابتكار جديد آخر … فقد استطاع أن يرسم خريطةً مساحية للبلدة دون مساعدةٍ من أحد، مستخدِمًا في ذلك آلات مساحية من ابتكاره هو. وكانت هذه الخريطة المذهلة في دقتها هي فاتحة المستقبل لكل حياة مونج التالية.

فقد اقترح أساتذته تعيينه مدرسًا للفيزياء بمدرسة في مدينة ليون وهو لا يزال في السادسة عشرة، وتم تعيينه بالفعل، وكان مدرسًا ممتازًا إلى درجة أن إدارة المدرسة ألحَّت عليه بقَبول عقد دائم للتدريس بها. وذهب جاسبار وسأل أبيه النصيحة، ولكن الأب الأريب أشار بالتريُّث؛ فقد كان مؤمنًا أن مستقبلًا أرفع من هذا ينتظر ابنه.

ثم شاءت الأقدار بعد هذه الواقعة بأيام أن يزور بلدة مونج ضابط مهندس من خريجي المدرسة الفنية العسكرية في «ميزيريز»، وأن يطَّلِع على خريطة مونج، فأعجِب بها إعجابًا شديدًا حتى إنه ألحَّ على مونج الأب أن يرسل ابنه فورًا إلى المدرسة الفنية العسكرية. ولكن هذا الضابط نسي أن يَذْكُر أن أبناء الأرستقراطية الفرنسية فقط هم الذين يُسمح لهم بالتخرُّج من هذه المدرسة كضباط، أمَّا أبناء «الرعاع» فيقومون بالأعمال الفنية المساعدة فقط عند تخرُّجهم من المدرسة!

والْتحق مونج بالمدرسة العسكرية، ولم يثنِه هذا التمييز الاجتماعي عن العمل الجاد في المدرسة، وعن التمتُّع بحياته الجديدة. لقد كانت واجباته الروتينية في المساحة الأرضية والرسم الهندسي تترك له وقتًا كافيًا للاهتمام بالرياضيات، وبفروع الهندسة على وجه الخصوص.

وفي أحد الأيام الهادئة العادية في حياة مونج بالمدرسة الفنية العسكرية، وقعت الواقعة التي أحدثت دويًّا شديدًا، وكانت في الحقيقة بداية علم الهندسة الوصفية. وكان من نتائجها أن طلبت المدرسة من مونج أن يُقْسِم على الاحتفاظ بالسر، وظل محافظًا عليه طيلة خمسة عشر عامًا إلى أن سُمح له أن يُلقي أول محاضرة عن الهندسة الوصفية … كان المقرَّر الأساسي من مقرَّرات هذه المدرسة هو ما سُمي «نظرية تحصين المواقع»، وكانت القضيةُ الرئيسية في هذه النظرية تتمثَّل في كيفية تصميم الأعمال الهندسية الخاصة بالتحصين العسكري بحيث لا ينكشف أي جزء من الموقع لنيران العدو. وكانت الطريقة المعروفة آنذاك في هذا التصميم تتطلَّب عملياتٍ حسابيةً معقدة تستغرق أسابيع لإنجازها. ولكن مونج سلَّم الضباط الأساتذة حلًّا لمسألةٍ من هذا النوع دون بذل أي مجهود كالذي يبذله زملاؤه في أسابيع. ورفض الضابط العظيم أن يُراجع حل مونج قائلًا:

«لماذا أُضيع وقتي في مراجعة هذا الحل المزعوم الذي لم يكلِّف صاحبُه نفسَه عناء مراجعة أرقامه.»

ولكن مونج أصرَّ في عنادٍ قائلًا إنه لم يستخدم في طريقته الجديدة أيَّ حسابات في الوصول إلى الحل. وروجع حل مونج بعد إلحاح فإذا به هو الحل الصحيح!

في اليوم التالي تحوَّل مونج من تلميذ إلى مدرس؛ فقد عيَّنته المدرسة مدرسًا وظيفته الجديدة هي تعليم الطلاب هذه الطريقة الجديدة التي حوَّلت كثيرًا من قضايا الهندسة العسكرية من فزع مخيف إلى مسألة بسيطة، وأَقْسَم مونج في اليوم ذاته — أمام كبار المسئولين في المدرسة — ألَّا يُذيع هذا «السر العسكري» لأحد خارج المدرسة، وظل هذا السر مطويًّا إلى أن سُمح له — بعد الثورة بخمس سنوات — أن يحاضر عَلنًا في الهندسة الوصفية في المدرسة العليا بباريس … كان لاجرانج أيضًا من حضور هذه المحاضرة، وكان تعليقه بعد المحاضرة شبيهًا بتعليق جوردان في مسرحية موليير الذي اكتشف أنه كان يتكلَّم نثرًا طوال حياته؛ فقد قال لاجرانج:

«قبل سماع مونج لم أكن أدري أنني أعرف الهندسة الوصفية!»

ما هي الهندسة الوصفية إذن؟

هي طريقة لتمثيل المجسمات العادية على مستوًى واحد. وهي ببساطة تقوم على رسم مساقِطَ عمودية لأي مجسم على المستوى الأفقي وعلى المستوى الرأسي، ثم إدارة المستوى الرأسي بحيث يكون في مستوى المستوى الأفقي؛ أي أن، في الحقيقة، يكون لدينا لأي مجسم مسقطان متجاوران في مستوًى واحد (وهو لوحة الرسم)، ويمكن لأي رسام — بعد تدريب قصير — أن يكون قادرًا على قراءة هذه المساقط بالسهولة التي يقرأ بها الإنسان العادي صورةً فوتوغرافية. وهذا الاكتشاف الذي تبدو فكرته اليوم بسيطة بشكل مذهل هو أساس علم الهندسة الميكانيكية، وعلوم هندسية كثيرة.

وفي عام ١٧٦٨م كان مونج في الحادية والعشرين من عمره، ولكنه عُين في هذا العام أستاذًا للرياضيات بالمدرسة الفنية العسكرية، وبعد ثلاث سنوات عُين أيضًا بنفس المدرسة أستاذًا للفيزياء عقب وفاة أستاذ الفيزياء بها. وإن الإنسان ليُدهش كيف استطاع هذا الشاب أن يقوم بعمل أستاذين في نفس الوقت وبهذه الدرجة من الجدارة؟

ليس ثمة تفسير لهذا إلا أن يكون مونج صاحب جسد غير عادي كما كان صاحب عقل غير عادي أيضًا.

ثم استُدعي مونج عام ١٧٨٠م إلى باريس لمهمة عاجلة … فقد اقتنعت الحكومة الفرنسية — بناءً على إلحاح بعض علمائها — بضرورة إنشاء معهد جديد لدراسة علم الهيدروليكا، وأخذت بالتالي تبحث عن مدير له، وكان مونج هو المرشح الأول. وبالفعل قَبِل مونج إدارة المعهد الجديد على أن يقضي نصف الأسبوع في المعهد الجديد ونصفه الآخر في المدرسة الفنية العسكرية.

وبعد ثلاث سنوات من هذا التعيين، عندما بدأت حكومة فرنسا تدرك الأهمية القصوى للأسطول الحربي في مواجهة بريطانيا، وافقت على إعفاء مونج من كل مهامه حتى يتفرَّغ لامتحان واختيار المرشحين لدخول البحرية من الضباط، وظل مونج في هذا المنصب حتى انفجار الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م.

آنذاك كان حلم كل العائلات الأرستقراطية في فرنسا هو إرسال أبنائها ليصبحوا ضباطًا في البحرية، وكانت وسيلتهم في الوصول إلى هذا هي الوساطة والضغوط وممارسة النفوذ، وكان مونج ابن «الرعاع» هو وحده المسئول عن اتخاذ القرار في المرشحين … وفي هذا العمل كان حازمًا وعادلًا ملتزمًا بمعايير موضوعية في الاختيار إلى درجة أغضبت منه الأرستقراطية الفرنسية، ورغم تهديده مرارًا وتكرارًا صمَّم على مواقفه قائلًا:

«ابحثوا عن شخص آخر غيري إذا كان ما أفعله لا يعجبكم!»

ولكن المؤرخين اليوم يشهدون أن مواقف مونج الحازمة كانت أحد الأسباب في توفر قوة بحرية قادرة لفرنسا عندما وقعت الثورة وما بعد ذلك.

ثم وقعت الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م.

ولم يكن مونج غريبًا على الثورة؛ فهو ابن الرعاع بالمنشأ، وتجاربه الاجتماعية المريرة أولًا في المدرسة الفنية العسكرية ثم مسئولًا عن اختيار ضباط البحرية؛ كانت تؤهِّله ليكون ابنًا للثورة. لقد كان مونج ثوريًّا بلا ادعاء ودون اصطناع، وليس إذن غريبًا أن تُعيِّنه الثورة عام ١٧٩٢م مسئولًا عن البحرية والمستعمرات. ومع أنه لم يكن مرضيًّا عنه في عهد الإرهاب باعتباره ليس راديكاليًّا بدرجة كافية، إلا أن استقالته رُفضت أكثر من مرة لأنه كان من النوع الذين يستحيل الاستغناء عنه!

وفي أبريل سنة ١٧٩٣م وافقت السلطات على استقالة مونج من جميع مناصبه حتى يتفرَّغ لأعمال أكثر خطورة؛ فقد كان واضحًا أن الهجوم على فرنسا على وشك أن يبدأ، وكانت فرنسا خاليةً من السلاح والذخيرة. وكان مونج — بالإضافة إلى الكيميائي برتولي — هو روح عملية إعداد جيش فرنسي جديد مسلح تسليحًا جيدًا قوامه ٩٠٠ ألف رجل.

•••

في عام ١٧٩٦م بدأت المرحلة الثالثة والأخيرة في حياة مونج بخطاب من نابليون إليه يذكِّره فيه بلقاء تم بينهما عام ١٧٩٢م. يقول نابليون في خطابه:

«اسمح لي أن أشكرك على هذا اللقاء الحار الذي لقيه ضابط صغير في المدفعية من وزير البحرية … لقد أصبح هذا الضابط الصغير قائدًا لجيش إيطاليا، وهو سعيد أن يمد إليك يده كصديق معترفًا بفضلك.»

وهكذا بدأت الصلة الحميمة بين مونج ونابليون وظلت حتى الممات. كتب أرجو يصف هذه العلاقة في مذكراته:

«كان نابليون يقول إن مونج يحبُّني كما يحب الرجلُ عشيقته، ومن الواضح أن مونج كان هو الرجل الوحيد الذي يحمل له نابليون صداقةً بلا دوافع أنانية.»

وتطوَّرت هذه الصداقة إلى درجة أن مونج عاش مع نابليون في قصره بأودين، وأصبح الاثنان صديقين لا يفترقان … نابليون سعيد بمناقشات مونج ومعلوماته التي لا تنضب في كل شئون المعرفة، ومونج سعيد بلمحات نابليون الذكية وأحلامه لمجد فرنسا ونكاته اللاذعة.

وبلغت ثقة نابليون بمونج إلى درجة أنه أرسله إلى إيطاليا رئيسًا للجنة التحقيقات التي ذهبت إلى هناك للتحقيق في حادث مقتل الجنرال الفرنسي ديفو الذي اغتيل بالرصاص في وسط روما، وهو واقف إلى جوار لوسيان بونابرت. ثم إن مونج كان واحدًا من القلائل الذين أسرَّ إليهم نابليون مبكرًا باستعداداته لغزو مصر عام ١٧٩٨م.

كان نابليون يحلم بفتح مصر لتهديد خطط مواصلات بريطانيا إلى الهند، ولكنه كان يُغَلِّف هذا المشروع بادعاء رغبته في «مساعدة شعب مصر البائس وتحريره من القيود الوحشية التي يرسف فيها منذ قرون، ثم لمنحه أخيرًا ودون تأخير كل فوائد الحضارة الأوروبية».

واصطحب معه في هذه الحملة بعثةً من كبار علماء فرنسا، على رأسهم الفرسان الثلاثة … مونج المهندس والرياضي، فورييه الرياضي النابغة وصاحب النظرية الحديثة في الاتصال الحراري، وبرتولي الكيميائي الذي لعب دورًا أساسيًّا في توفير ملح البارود لفرنسا.

كان مونج مع نابليون في سفينة القيادة «الشرق» عندما وصل الأسطول الفرنسي إلى الإسكندرية في أول يوليو ١٧٩٨م، وقد رغب مونج في المشاركة بالمعارك ولكن نابليون ردَّه بحزم، وأمر أن تُرسَل البعثةُ العلمية في قوارب في النيل إلى القاهرة. ويذكر التاريخ أنه بينما كان نابليون يمضي بقواته برًّا بمحاذاة النيل، وكان قارب العلماء يمضي في النهر بالقرب من قوات نابليون تعرَّض القارب لهجوم مفاجئ من المصريين، وكان مونج على وشك أن يدفع حياته في المعركة التي نشبت لولا أن تدخَّل نابليون لإنقاذه.

وفي ٢٠ يوليو عام ١٧٩٨م دارت معركة الأهرام التي انتهت بانتصار قوات نابليون ودخولها القاهرة، وفي ٢٧ أغسطس أُسِّس «المجمع المصري»، وسبق رجالات مصر من العلماء لحضور حفل الافتتاح حيث عرض برتولي تجاربه السحرية في الكيمياء، وتكلَّم فورييه عن عظمة حاضرة مصر الفرعونية، وعرض مونج بعض المقطوعات الموسيقية.

ومع ذلك لم يرحِّب المصريون بالفرنسيين، فلم يمضِ على حفل الافتتاح أيام حتى كان المصريون قد قتلوا ثلاثمائة من جنود فرنسا في كمين، وكان لهذا الحادث من المقاومة الشعبية دلالته وأثره السيئ على نابليون …

ثم بدأت الأنباء المزعجة تصل نابليون من باريس، وعندئذٍ قرر العودة سرًّا، ولم يصحب معه في رحلة العودة غير مونج الذي أعطاه تعليمات صريحةً بأن يدمِّر السفينة بالبارود بمن فيها إذا تعرَّض البريطانيون لها.

وفي باريس ظل مونج إلى جانب نابليون … صديقًا حميمًا وشجاعًا قادرًا على مصارحة نابليون والخلاف معه دون أن يخشى أذاه. وعندما توَّج نابليون نفسه إمبراطورًا كان طلاب المدرسة العليا للبولتكنيك من أوائل المتمردين على هذا التتويج … تلك كانت مدرسة مونج وفخر جهاده. وفي لحظة من لحظات الأسى قال نابليون لمونج:

«إن تلاميذك قد تمرَّدوا ضدي. لقد أعلنوا أنفسهم أعداءً لي.» وردَّ مونج في هدوء: «سيدي، لقد شقينا حتى نجعلهم جمهوريين. امنحهم الوقت ليكونوا إمبراطوريين. وفوق ذلك اسمح لي أن أقول إنك تحوَّلت بشكل مفاجئ!»

رغم هذه الصراحة كان نابليون يقدِّر مونج ويحبُّه إلى درجة أنه منحه لقب «كونت»، ونسي مونج السعيد عندئذٍ أنه صوَّت بحماسة قبل ذلك لإلغاء الألقاب!

وبسبب سِنه لم يستطع مونج أن يصحب نابليون في حملاته العسكرية التالية، ولم يذهب معه إلى روسيا، ولكنه كان يتابع النشرات العسكرية بحماس حتى أُصيب بنوبة صرع عندما قرأ النشرة التاسعة والعشرين التي أعلنت تراجع جيش فرنسا أمام شتاء روسيا القارس وجيشها.

وعندما هرب نابليون من جزيرة «إلبا» لم يكن مونج — على عكس فورييه وآخرين — واحدًا من مثقفي الثورة الذين خانوا نابليون وانحازوا إلى أعدائه؛ لقد ثبت مونج إلى جانب نابليون حتى معركة واترلو … إلى درجة أنه عندما فكَّر نابليون في الهجرة إلى الولايات المتحدة عرض مونج عليه أن يصاحبه في هذه الرحلة، ولكن نابليون رفض قائلًا:

«إنك رجل عجوز الآن، وأنا في حاجة إلى رجل أصغر.»

في أكتوبر عام ١٨١٥م كان نابليون قد وُضع في قفص «سانت هيلانه» نهائيًّا، وبدأت رحلة المهانة للعالِم العجوز مونج؛ فقد كان أعداؤه يريدون إعدامه، وأخذ يهرب من مكان لآخر إنقاذًا لرقبته، وفي عام ١٨١٦م أصدرت الأكاديمية الفرنسية — ويا للخزي — قرار بطرده من عضويتها بناءً على إلحاح الملك!

وفي يوم ٢٨ يوليو ١٨١٨م مات مونج، وطلب تلاميذ المدرسة العليا للبولتكنيك موافقة الملك على اشتراكهم في جنازة مونج. ولكن الملك رفض …

وبالفعل احترم التلاميذ قرار الملك بعدم الاشتراك في الجنازة، ولكنهم في اليوم التالي للجنازة ساروا في مظاهرة كبيرة إلى المقبرة التي دُفن فيها، ووضعوا على قبره إكليلًا من الزهور كُتب عليه بالخط العريض:

«تحية لذكرى المعلم والصديق … جاسبار مونج.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤