مقدمة المترجم

تاريخ الثقافة مجال مُهم من مجالات البحث التاريخي، تفتقر إليه المكتبة العربية تأليفًا وترجمة، سواء ما اتصل منه بتاريخنا القومي، أو بتاريخ العلم، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي قُمْت بتعريبه؛ ليسد فراغًا في المكتبة العربية.

ولا ترجع أهمية الكتاب إلى نُدرة الكتابة في حقل التاريخ الثقافي؛ لما يتطلبه من تكوين معين للباحث الذي يرتاده؛ إذ عليه أن يكون واسع المعرفة بتطور المجتمع الذي يدرس تاريخ ثقافته، وعليه أيضًا أن يُلم بحركته الثقافية إلمامًا جيدًا، كما يُلم بتطور الإقليم الذي يقع فيه المجتمع موضوع الدراسة من حيث تطوره الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي، وأن تتسع ثقافته للوقوف على ما جرى في أقاليم أخرى، حتى يستطيع أن يقدم تحليلًا عميقًا، وتفسيرًا دقيقًا لتاريخ المجتمع الذي يدرسه. فرغم توافر ذلك كله في هذا الكتاب، فضلًا عن ريادته في هذا المجال، فإن أهميته تعود إلى مؤلِّفته المؤرِّخة المصرية المرموقة نللي حنا، التي تُعد من بين نخبة المتخصصِين في تاريخ العصر العثماني على المستوى الأكاديمي العالمي. كما أن الكتاب يقدم جانبًا من مشروعها العلمي، الذي شغلها على مدى العقدين الماضيين لدحض الأفكار السائدة التي روَّجَتها مدرسة الاستشراق التقليدية عن تاريخنا القومي ومجتمعنا، الذي كان — من وجهة نظرهم — راكدًا متخلِّفًا تقليديًّا، حتى جاء الغرب مع مطلع القرن التاسع عشر، لينتشله من وهْدَته، ويضعه على طريق الحداثة، ويلحقه بركب التقدم.

ونللي حنا، الباحثة المصرية، لم تصغ مشروعها العلمي لدحض تلك الأفكار التي روَّجها الغرب عن مجتمعاتنا من منطلق شوفيني محض، ولم تستخدم لغة الشجب والإدانة والاحتجاج، ولم تَركَن إلى أسلوب الخُطب العنترية، ولكنها لجأت إلى البحث في المصادر الأصلية لتاريخنا في العصر العثماني، فغاصت في سجلات المحاكم الشرعية، وحجج الأوقاف، وراحت تجمع صورًا من المخطوطات أينما وُجِدَت، ثم خرجت على الوسط الأكاديمي العالمي ببحوث رصينة في التاريخ الاجتماعي لبلادنا في ذلك العصر، نُشِرت بالفرنسية والإنجليزية، كان نصيب المكتبة العربية منها محدودًا فلم يُترجَم لها سوى كتابين، هما: «بيوت القاهرة في العصر العثماني» و«تجار القاهرة في العصر العثماني - سيرة أبو طاقية شاهبندر التجار».

وهي في تلك الدراسات المهمة لا تبكي على أطلال الدولة العثمانية، فذلك بعيد تمامًا عن اهتمامها، ولكنها تعنى بتاريخنا الاجتماعي خلال القرون الثلاثة (ق١٦–ق١٨)، ونصيبه من التطور اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، سعيًا وراء مَحاوِر التواصل في تاريخ مصر بين إرثها التاريخي السابق على العصر العثماني، وما أصاب تلك المحاور من وَهن أو تماسك طوال العصر العثماني، حتى مشارف ما سُمِّي «بالنهضة»، مُمثَّلًا في التحولات التي عرفتها مصر في القرن التاسع عشر.

ويذكر صاحب هذا القلم أيام الطلبة بالجامعة في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، عندما كنا نسمع أساتذتنا الكبار يرددون في محاضراتهم مقولة إن مصر وغيرها من البلاد العربية عاشت مرحلة ركود، وجمود، وتخلف في كل شيء طوال العصر العثماني. فإذا غادرنا قاعة المحاضرات، وجدنا ما في المكتبات من مراجع يردد المقولات نفسها؛ استنادًا إلى ما استقر عليه رأي «ثقاة» المستشرقِين! ومع الانبهار بنظرية «التحديث» اعتُبِر العصر العثماني في مصر مرحلة «المجتمع التقليدي» ليصبح ما أدخله محمد علي من تغييرات في القرن التاسع عشر «تحديثًا».

ولا يُخفِي صاحب هذا القلم أنه كان من بين من روَّجوا لهذه الفكرة؛ تأثرًا بنظرية التحديث تارة، وبمفهوم «مجتمع ما قبل الرأسمالية» الماركسي تارة أخرى، ثم بفكرة «الاستبداد الشرقي» أحيانًا، ومفهوم «المجتمع الخراجي» عند سمير أمين أحيانًا أخرى.

وبذلك ضيعنا ثلاثة قرون كاملة من تاريخنا، جريًا وراء أفكار نظرية صدَّرها لنا من وصفوا تلك القرون بأنها «عصر جمود وركود وتخلف»، وكنا — في الستينيات والسبعينيات — نطبق تلك النظريات على تاريخنا، أو — بعبارة أدق — نصب تاريخنا في قوالبها صبًّا، ما دمنا قد سلمنا بما غلب على تلك القرون الثلاثة من جمود وركود وتخلف ثقافي.

كان من سوء حظ تلك القرون الثلاثة أنها وقعت بين عصرين، كان لمصر فيهما شأن كبير على الصعيد الإقليمي: عصر المماليك (١٢٥٠–١٥١٧م)، وعصر محمد علي (١٨٠٥–١٨٤٨م)، ولم تكن مصر خلال القرون الثلاثة (١٦–١٨م) سوى ولاية تابعة تُحكَم من إسطنبول، ويتولى حكمها ولاة عثمانيون، يستخدمون في حكمها قُوًى محلية من بقايا المماليك.

هذا الوضع السياسي المتواضع، قياسًا بالعصرَين السابق واللاحق — من حيث الدور الإقليمي — حَوَّل العصر العثماني إلى مجرد «جملة اعتراضية» في تاريخ مصر العريق، وركزت الدراسات الأكاديمية اهتمامها على ما سبقه ولحق به، ولم يحظ إلا باهتمام محدود.

جذب أنظارنا النصف الفارغ من الكوب، فلم نر نصفه الآخر، بل لم نكلِّف أنفُسَنا عناء النظر إليه. غاب عنا أن نظام الحكم العثماني نفسه تضمن عناصر إيجابية كانت لصالح بلادنا، فقد حرص العثمانيون على عدم التدخل في كل ما اتصل بحياة الناس اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وتركوهم يديرون أمورهم على نحو ما اعتادوه من قبل، بل وأَقرُّوا — إلى حد كبير — النظام الإداري الذي عرفته مصر في العصر المملوكي، فيما عدا السيادة التي انتقلت سلطتها إلى الدولة العثمانية. وحققت الدولة العثمانية فترة طويلة من الأمن والاستقرار، بما في ذلك تأمين البحر المتوسط (إلى حد كبير) وكذلك البحر الأحمر، كما أصبحت مصر تتعامل مع سوق واسعة تمتد مع حدود الدولة العثمانية في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وأصبحت مصر قَلْب تلك السوق بحكم موقعها الجغرافي ودورها الموصول في التجارة الدولية، المتَّجِهة من جنوب شرق آسيا إلى العالم العربي، وعبره إلى أوروبا. وهي تجارة لم تتأثر بالوجود البرتغالي في المحيط الهندي والبحر العربي إلا لفترة زمنية محدودة، أعاد بعدها التجار العرب بناء شبكتهم التجارية.

ولا يعني ذلك أن القرون الثلاثة قد خلت تمامًا من السلبيات، أو أن ظروف المجتمعات التي كوَّنَت بلادها ولايات الدولة العثمانية كانت على وتيرة واحدة، أو أن سلطة الدولة ظلت على قوَّتها توفِّر الأمن والاستقرار لشعوبها؛ فقد كانت بنية السُّلْطة مليئة بالتصدعات، التي قادت إلى تساقط بعض أركانها في القرن الثامن عشر لمصلحة القوى المحلية العسكرية وغير العسكرية، ناهيك عن نفْض الدولة ليدها من مجال الخدمات، وتَرْكها للناس يديرونها بأنفسهم، وما كان له من آثار سلبية عند وقوع الأوبئة والمجاعات، وكذلك ما تركه صراع العسكر على السُّلْطة من آثار سلبية أيضًا.

وعلى كلٍّ، فهذا النِّصف من الكوب الذي لم نرَ منه إلا ما يخدم فكرة «الجمود والركود والتخلف» كان حافلًا بما احتوى عليه من عناصر مهمة، تدل على أننا أمام مجتمع متحرِّك متغيِّر، رواجًا وكسادًا، صعودًا وهبوطًا، ولو كان راكدًا طوال تلك القرون لأصابه ما أصاب الديناصورات، وتحول إلى كائن منقرض.

أضف إلى ذلك أن الإصلاحات التي قام بها محمد علي باشا في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وشملت الأوضاع الاقتصادية وما ترتب عليها من تغيرات اجتماعية، كما شملت بناء الجيش الحديث بما استلزمه من إقامة صناعة حديثة، ونظام تعليمي حديث، وإدارة حديثة … كل ذلك تم بالاعتماد على موارد مصر الاقتصادية وحدها، فمن المعلوم تمامًا أن محمد علي باشا لم يستدِن قرشًا واحدًا من مصادر خارجية، بل موَّل كل هذه الإصلاحات من الموارد المصرية وحدها، وعندما انتهى عهده، ترك الخزانة عامرة بالأموال التي مكَّنَت حفيده عباس حلمي الأول من تنفيذ مشروع الخط الحديدي دون استدانة؛ فأي نوع من الركود ذلك الذي ينتج اقتصادًا قادرًا على تحمل أعباء ذلك كله؟!

ناهيك عن دور المصريين في تحقيق التحولات التي شهدها القرن التاسع عشر. حقًّا استعان محمد علي بالخبرة الأجنبية في مجال الجيش والصناعة والتعليم العالي، ولكن ذلك تم على نطاق يتفق مع تلبية المتطلبات الضرورية، أما جنود الجيش الحديث فكانوا من الفلاحين المصريين، وعمال المصانع كانوا من الحرفيين، وطلاب المدارس جاءوا من «الكتاتيب» و«الأزهر»؛ أي جاءوا من نظام التعليم «التقليدي»، فكيف استطاع هؤلاء وأولئك من المصريين أن يستوعبوا النظم الحديثة هنا وهناك، وأن يَحملوا على كواهلهم التجربة كلها في مدًى زمني محدود؛ قياسًا بالقرون الثلاثة التي يُفتَرض أنهم عاشوها في جمود وركود وتخلف؟!

أليس ذلك يُبرِّر ضرورة استرجاع حقيقة ما حدث لمصر خلال تلك القرون. وإعادة رسم الصورة التي كان عليها المجتمع المصري اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا؟ هذا ما فعلته نللي حَنَّا في مشروعها العلمي لدحض تلك الفكرة التي صاغتها مدرسة الاستشراق؛ لتبرير الهيمنة الغربية على مجتمعاتنا باعتبارها ضرورية «لتحديثها» وتخليصها من التخلف المسْتَأصِل فيها.

وفي هذا الكتاب، ألْقَت المؤلِّفة بالقفاز في وجه عدة منطلقات نظرية سائدة دفعة واحدة؛ نظرية التطور والتخلف، ونظرية المجتمع التقليدي والتحديث، ونظرية المركز والأطراف، وفكرة «الاستبداد الشرقي»، فناقشت مقولات كل منها، وأثبتت عدم ملاءمتها لتفسير ما حدث في مصر، بل وفي الإقليم كله في القرون الثلاثة التي كَوَّنت العصر العثماني. وإذا كان كِتَابها «تجار القاهرة في العصر العثماني» قد هز فكرة الركود والجمود الاقتصادي من جذورها، عندما أثبتت أن الرأسمالية التجارية استردَّت عافيتها تمامًا في أوائل القرن السابع عشر، وأعادت بناء شبَكتها التجارية العالمية الممتدة من ساحل الملبار بالهند إلى اليمن إلى الأناضول والمدن الإيطالية شمالًا، وإلى بلاد السودان الغربي في غرب أفريقيا، وعندما وضعت يدها على دَور رأس المال التجاري في تتجير الزراعة١ وصناعة السكر، وما ارتبط بذلك كله من تحولات اجتماعية، وتغيرات في هيكل السُّلْطة وتشابُك للمصالح بين رأس المال التجاري وبينها.

إذا كان ذلك كله قد زلزل أركان فكرة «التدهور والركود» في كِتاب «تجار القاهرة في العصر العثماني»، فهذا الكتاب الذي نقدِّمه اليوم للقارئ الكريم يَدحَض الأفكار الاستشراقية المتصلة بالثقافة، ويلقي الضوء على مُكوِّن مهم من مكونات الثقافة الوطنية في ذلك العصر، يتمثل في ثقافة الطبقة الوسطى القاهرية.

والمؤلِّفة — بهذا العمل — تتحدَّى مجموعة كاملة من الأفكار السائدة بين المشتغِلِين بتاريخ هذا العصر، فقد تمسك معظمهم بتقسيم المجتمع الإسلامي في ذلك العصر إلى طبقتين «الخاصة» وهم أهل السُّلْطة والحل والعقد ومن لاذ بهم من العلماء الكبار، و«العامة» وتشمل كل من عداهم من الناس بصرف النظر عن أوضاعهم المادية، وهو تقسيم يتسق مع مفاهيم «الاستبداد الشرقي» و«المجتمع ما قبل الرأسمالي» و«المجتمع الخراجي». وهو تحديد لا يعترف بوجود «طبقة وسطى» طالما أن المجتمع «تقليدي».

ومرة أخرى تثبت نللي حَنَّا في هذا الكتاب أن الرأسمالية التجارية لعبت دورًا محوريًّا في الحياة الاقتصادية، ففضلًا عن دورها في التجارة العالمية، عملت على توظيف الإنتاج الحرفي لتلبية الطلب على المنتَجات المصرية، فكانت المنسوجات المصرية والسكر وغيرها يتم تصديرها إلى أوروبا حتى نهاية القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر. وكان الرخاء الناجم عن انتعاش الرأسمالية التجارية له مردوده الاجتماعي، فبرزت «طبقة وسطى» في سياق يتفق مع التطور الاقتصادي الاجتماعي الذي شهدته مصر في تلك الحقبة، والواقع أن المصادر المعاصرة مثل الجبرتي الذي ألِف المشتغلون بتاريخ الفترة الرجوع إليه، كثيرًا ما يتحدث عن «أوساط الناس» و«مساتير الناس» و«ميسورِي الحال»، وكلها مفاهيم تشير إلى وجود طبقة وسطى تحتلُّ المسافة بين خاصة الناس وعامَّتهم، أحَسَّ المعاصرون بوجودها. وأثبتت المؤلِّفة أن هذه الطبقة التي تكوَّنَت من التجار، وأصحاب الدكاكين، والحرَفِيِّين، وأرباب الوظائف المتوسطة الإدارية والدينية، قد تأثَّرَت بالتغير في هيكل السُّلْطة الذي نجم عن «ليونة» السُّلْطة المركزية لصالح القوى العسكرية (البيوت المملوكية)، وما ترتب على ذلك من أضرار أصابت الرأسمالية التجارية.

فقد لعب العسكر في القرن الثامن عشر دورًا شبيهًا بذلك الدور الذي لعبوه في القرنين الثاني عشر والثالث عشر (عندما انتقلت إليهم مقاليد الأمور في عصر التحدِّيَّات الخارجية: الغزو الصليبي ثم المغولي)، فتم في الحالتين إجهاض حركة الرأسمالية التجارية، والتركيز على النظام الإقطاعي الريفي، فقد حدث في مصر في القرن الثامن عشر أمْر مماثل؛ إذ أثقلت الضرائب كاهل المجتمع الحضري، وأخطر من ذلك، تحالف العسكر مع التجار الأجانب، وبذلك غزا الإنتاج الأوروبي السوق المصرية مما أضر بالصناعة الوطنية، وكانت نتيجة ذلك إفقار الطبقة الوسطى الحضرية.

ومن حق القارئ أن يتساءل: لماذا كان إجهاض الرأسمالية التجارية وتفريغ قدراتها على التطور الطبيعي أمرًا سهلًا على العسكر في الحالتين: القرنين ١٢-١٣، والقرن الثامن عشر؟

يرجع ذلك — في رأينا — إلى عوامل مختلفة، لعل أهمها: أن الرأسمالية التجارية كانت تهتم بالتجارة العالمية أساسًا وبتجارة العبور، وجاء اهتمامها بتطوير الإنتاج المحلي من هذه الزاوية، فهي عندما تهتم بتتجير الزراعة، يقتصر اهتمامها على ما تحتاجه السوق العالمية من سلع، فإذا قَلَّ الطلب أو اختفى راحت تبحث عن مجال آخر، وبذلك لم تضع في اعتبارها تكوين «سوق وطنية» تمثل ركيزة أساسية لحركتها؛ مما أدى إلى تبديد طاقاتها التي أصبحت رهينة السوق الخارجية وتَقلُّب حال الطلب فيها.

وهناك عامل آخر يتعلق بقدرات الرأسمالية التجارية — في ذلك العصر — على تحقيق التراكم الذي يمثل القوى المحرِّكة للتحول الرأسمالي؛ فقد كان العمل التجاري عائليًّا يتولاه — عادة — رب الأُسرة، الذي يعمل على إدارة دَفَّة الاستثمارات الخاصة بالعائلة وشركائها التجاريين وتوزيع العائد، وتوجيه رأس المال إلى هذا المجال أو ذاك، وكانت صيغة الشركات القائمة على مساهمة صغار المستثمرين لا تتخذ الطابع المؤسسي، وإنما تقتصر على صفقة واحدة أو عدة صفقات تنفض الشركة بإتمامها، وقد يتم تكوين غيرها لصفقة أخرى أو لمدة زمنية يُتَّفق عليها، فإذا تُوفِّي التاجر الكبير رب العائلة الذي يدير بيتها التجاري يتم توزيع ترِكَته (وهو هنا رأس المال) على الورثة حسب الأنصبة الشرعية، فينقسم البيت التجاري إلى بيوت صغيرة الحجم محدودة في رأس مالها وفي قدرتها على المنافسة. فكانت الرأسمالية التجارية بذلك عاجزة عن تحقيق التراكم، ومن ثَم تبدَّدت قدرتها على التحول الرأسمالي لمرحلة الرأسمالية الصناعية.

وعلى كلٍّ، كان للطبقة الوسطى الحضرية وجودها، الذي يرتكز على أسس اقتصادية واجتماعية واضحة، فكان من الطبيعي أن تكون لها ثقافتها المعبِّرة عن وجدانها ومصالحها، والتي تختلف عن الثقافة الدينية السائدة.

ومرة أخرى، تناقش نللي حَنَّا الفكرة السائدة عن الثقافة الدينية باعتبارها جامدة لم تتغير منذ قرون، منكفئة على العلوم الدينية من منطلق تقليدي خالص، وقد دَحضَت هذه الفكرة وقَدَّمت الدليل على تنوع الثقافة الدينية واستجابتها للتحولات الاجتماعية، وتوافقها مع حاجات المجتمع في إطارها الديني والأخلاقي، وتؤكد حقيقة كونها أحد روافد الثقافة وليست مصدرها الوحيد. وعلى ضوء ذلك تتناول التكوين الثقافي للطبقة الوسطى القاهرية، والعلاقة بين المكوِّن الديني والمكوِّن الدنيوي في ثقافتها، وأثر ذلك في إنتاج الكتب والموضوعات التي طرَقتها، ومن ثَم تأثيرها على ثقافة الكتب.

ويكشف الكتاب الأبعاد التي اتخذتها ثقافة الكتب، والعوامل التي ساعدت على رواج الكتب والإقبال على تداولها واقتنائها، وأثر ذلك على صناعة الكِتاب، واللغة المستخدَمة في كتابته وأسلوب التعبير، ودخول الثقافة الشفاهية مجال التدوين، ودور الطبقة الوسطى في إبراز ثقافتها وتأثير تلك الثقافة على نخبة العلماء وانعكاسها على إنتاجها من حيث استخدام اللغة الدارجة أو شبه الدارجة في الكتابة، وإدخال بعض المكوِّنات المميِّزة لثقافة الطبقة الوسطى في الدراسات ذات الطابع الأكاديمي التي أنتجها العلماء، وبذلك تأثرت النخبة (القمة) بثقافة القاعدة، وليس العكس، فأصبح الاهتمام بالمشاكل والهموم التي يعاني منها الرجل العادي اتجاهًا واضحًا في الأعمال المعبِّرة عن ثقافة الطبقة الوسطى، وكذلك برزت الاتجاهات النقدية للفكرة السائدة عن العلم وبعض أدواته المنهجية، والتعبير الصريح عن مكنونه النفسي، والاهتمام بالواقعية؛ وهي تتصل بمفهوم «الحداثة».

ولذلك تعيد المؤلِّفة طرْح سؤال النهضة: هل ما عرفَته مصر في القرن التاسع عشر من تطور ثقافي منقطع الصلة عن ثقافة الطبقة الوسطى القاهرية، على النحو الذي بلَغته في أواخر القرن الثامن عشر؟ ولا شك أن الإجابة عن سؤال النهضة يحتاج إلى دراسة متعمِّقة للواقع المصري في العصر العثماني، وهو ما تختم المؤلفة كتابها بالدعوة إليه.

وفي هذه الدراسة التي استغرق إنجازها خمس سنوات كاملة، عكفت نللي حَنَّا خلالها على استقاء مادة بحثها من عديد من المخطوطات التي كتبها مؤلفون مغمورون، ولكنها عبَّرت عن اتجاهات جديدة أزاحت الستار عنها لأول مرة، كما استخدمَت سِجلات المحاكم الشرعية بما حوته من معلومات، تُعبِّر عن نبْض المجتمع المصري خلال تلك الفترة، وخاصَّة ما استخرَجَته من قوائم التَّرِكات من دلالات على انتشار اقتناء الكتب، كما يتضح من تَرِكات عقود من الزمان على أربع مراحل زمنية متباعدة بطريق العينة. هذا فضلًا عن المصادر العربية الأخرى التي تتبَّعَت من خلالها الظواهر الاجتماعية والثقافية المشترَكة على الصعيد الإقليمي بين مصر والولايات العثمانية الأخرى، والدراسات الأساسية في تاريخ الثقافة المتعلِّقة ببلاد البحر المتوسط، في إطار المقارَنة بين التطورات في إيطاليا وفرنسا في مجال القراءة والكتابة وثقافة الكتب واستخدام العامية والمؤثرات الثقافية الشفاهية في مراحل تاريخية قريبة زمنيًّا أو متداخلة مع الفترة موضوع الدراسة؛ لتثبت منها أن الشُّقَّة لم تكن واسعة بين بلاد جنوب أوروبا وبلادنا حتى نهاية القرن السابع عشر على أقل تقدير.

ونظرًا لما يمثله هذا الكتاب من أهمية بالغة في دراسة تاريخنا القومي، وما يطرحه من قضايا منهجية، وما يثيره من آراء تتصل بالثقافة الوطنية ومفهوم النهضة، جاء حرصنا على تعريبه ليسد فراغًا في المكتبة العربية، وليدفع باحثينا إلى تلبية دعوة المؤلفة إلى إعادة النظر في تاريخ مجتمعنا في الحقبة موضوع الدراسة.

والله … وخدمة تاريخ أمتنا العزيزة من وراء القصد.

رءوف عباس
٨ يناير ٢٠٠٣م

هوامش

(١) بمعنى تطوير الزراعة من نمط استهلاك محدود إلى نمط يعطي فائضًا للتجارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤