تمهيد

إطار الدراسة ومنهجها ومصادرها

نبتت فكرة هذا الكتاب من مخطوط في الأدب، يعود إلى القرن الثامن عشر من تأليف محمد بن حسن أبو ذاكر، وُلد في ١١٠٦ﻫ/١٦٩٤م، لا يحمل عنوانًا؛ لأن صفحة العنوان مفقودة، وهو من مقتنَيات المكتبة الأهلية بباريس، ويقع في ٢٥٠ ورقة. والكتاب وصاحبه مجهولان عند الباحثِين الْمُحدَثين، فلا نجد ذكرًا لأبي ذاكر في كتب التراجم، ولا نعرف له مؤلفًا آخر. والكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات القصيرة كتبها المؤلف فيما بين عامي ١١٥٣ﻫ/١٧٤٠م و١١٧٩ ﻫ/١٧٦٥م، تناول فيها عددًا كبيرًا من الموضوعات التي صاغها على شكل كتاب. وتضمَّنت أمورًا شتَّى اجتماعية واقتصادية وسياسية، ورَد بعضها على نسق السيرة الذاتية، واتخذ بعضها الآخر طابع الخواطر والطرائف، وتَراوح أسلوب الكتابة عنده بين الفصحى التي تلتزم قواعد النحو، والعامية التي يتحدثها الناس في زمانه.

والكِتاب يكشف لنا عن كثير، ويُعد وثيقة ترسم أبعاد الحياة في ذلك العصر، ذات معانٍ متعددة الأبعاد، فقد كتب أبو ذاكر كتابه بأسلوب صريح سهل، مقدِّمًا روايته لتجربته، معبرًا عن مكنون صدره، معلِّقًا على الواقع الاجتماعي حوله، ناقدًا له. فلا غرْو أن تجد آراءه ورؤاه تختلف عمَّا ساد في كتابات غيره من معاصريه، سواء في ذلك ما اتصل بآرائه في العلماء والمماليك، أو الهيكل الاجتماعي والعلاقات بين الجنسين. ولذلك يقدم لنا أبو ذاكر زاوية لفهم القرن الثامن عشر، تختلف عما نجده عند غيره من الكُتاب الذين عبَّروا عن النظام الاجتماعي القائم عندئذ.

وأخيرًا، تُقدِّم لنا تعليقات أبو ذاكر المتعلِّقة بالقضايا الاجتماعية، مثل: الفقر، والمال، والأزهر، رؤية فردية شخصية — من زاوية محددة — للمشاكل التي عانى منها جيله. ورغم الطريقة التلقائية التي عبَّر بها عن نفسه، فإن الصراحة وحرية التعبير لم نكن نتوقعها في مثل هذا الزمان، كما أن محتويات الكتاب والقضايا التي أثارت اهتمام صاحبه، كانت تعبِّر عن هموم الجيل الذي عاش طوال ذلك العصر. وعلى هذه المستويات كلها، يقف الكِتاب على النقيض من الكتب الأخرى المعروفة في ذلك العصر، مقدِّمًا معالجة مختلفة لم تستكشفها البحوث الحديثة.

وحتى يتم إدراك أهمية عمل «أبو ذاكر»، يجب فهمه في إطار سياق اجتماعي وثقافي أوسع مدًى؛ لذلك كان عليَّ أن أرجع إلى كم كبير من المصادر الأدبية، والأعمال الأدبية، والحكايات، وكتب الطرائف والألغاز، كما رجعت إلى كتب الحَوْليَّات والقواميس الخاصة بالفترة، ولا زال كثير من تلك المصادر والأعمال مخطوطًا. وكان هدفي من ذلك الوقوف على مدى تفرُّد «أبو ذاكر»، أو تعبيره عن تيار يُعد مُنتَميًا إليه، وأن ذلك التيار يمكن تتبُّعه من خلال كتابات معاصريه. وقد تعاملتُ مع تلك الأعمال باعتبارها مادة للتاريخ الاجتماعي وليس كمادة لتاريخ الأدب، أو لدراسة ما تضمنته من بناء فني. فقمت برد تلك النصوص الأدبية إلى البيئة الاجتماعية التي أنبتَتْها. وقد قرأت تلك الأعمال باعتبارها مرآة لثقافة معينة، تُعبِّر عن طريقة محدَّدة لفهم العالم والمجتمع.

وأشارت النتائج التي توصلتُ إليها إلى أن كثيرًا مما تناوله «أبو ذاكر» في كتابه، له ما يقابله عند غيره من الكُتاب الذين لا نعرف إلا القليل منهم، ولكننا لا زلنا نجهل كثيرًا منهم، يُعبِّرون جميعًا عن هموم اجتماعية متناظرة، وعن ثقافة قطاع معين من المجتمع الحضري يمكن وصفه بالطبقة الوسطى أو الفئة الوسطى. فقد ظهر كُتَّاب ومفكرون آخرون على مر القرون الثلاثة من السادس عشر إلى الثامن عشر، عبَّروا عن ثقافة تتميَّز عن ثقافة العلماء، فاهتماماتهم وهمومهم أشمل وأوسع نطاقًا؛ فبينما انصبت اهتمامات العلماء على أمور خاصة لا يفهمها إلا القِلة، ممن اختلفوا إلى المعاهد والمدارس التي عرفها ذلك الزمان، كان الفريق الأول يعبِّر عن آرائه بِحرِّية. وعلى حين التزمت كتابات العلماء حدود الأخلاق والدين، شُغل الآخرون بالحقائق الاجتماعية وهموم الحياة.

وبعبارة أخرى، افترض هذا البحث وجود فئة من الكُتَّاب، لم تحظ بالقبول على نطاق واسع عند مؤرخي ذلك العصر، تُمثِّل أولئك الذين حصَّلوا قدرًا من التعليم لم يرْقَ بهم إلى مصافِّ العلماء والذين تعلموا بالمدارس الدينية، ولكنهم نظروا إلى الدنيا نظرة واقعية، لا نظرة مثالية. ورغم أن ذلك يبدو — للوهلة الأولى — بعيدًا عن الاتفاق مع الفكرة السائدة عن ذلك العصر، ولكن من المنطقي ألا يصبح كل من اختلف إلى المدارس أستاذًا أو عالمًا، فمن الطبيعي ألا يصل إلى مرتبة العلماء إلا القلة ممن تعلموا بالمدارس، بينما تشغل الأغلبية مواقع أخرى متواضعة أو متوسطة، أضف إلى ذلك أن بعض هؤلاء اتجه إلى العمل بالخدمة الدينية أو بالحِرَف، وأحيانًا كان البعض يجمع بين عملين في الوقت نفسه لمواجهة متطلبات الحياة، وأحيانًا أخرى كان بعض مَن تعلَّموا بالمدارس يشقون طريقهم في مجال التجارة وغيرها من الأعمال ذات الطبيعة الاقتصادية. ومن ثَم كانت هناك قاعدة عريضة من المتعلمين، الذين لم يبلغوا مرتبة العلماء.

وحتى نفهم جيدًا الإطار الذي أتاح الفرصة لظهور وتطور هذا النمط من أنماط التعبير، أصبح لزامًا علينا إعادة النظر في كثير من الأمور التي أخذناها على عِلَّاتها من قبل، وخاصة ما اتصل بالتعليم، وغيره من القنوات المتصلة بنقل المعرفة والثقافة، آخذِين في الاعتبار من كان متاحًا لهم ذلك، ونوعية الأفراد الذين أخرجتهم ظروف التعليم عندئذ. ودراسة كتابات هؤلاء، يمكن أن تلقي الضوء على الكتابة كظاهرة ثقافية، وعلى المحتوى كظاهرة اجتماعية؛ أي إن تلك النصوص الأدبية تكشف لنا أحوال المجتمع في تلك الفترة الباكرة من العصر الحديث، وتجعلنا نستكشف العملية التاريخية من خلال الثقافة بدلًا من الاقتصار على الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحدها. وباستكشافنا للتاريخ الثقافي، يمكننا أن نفهم بطريقة أفضل بعض أبعاد التاريخ الاجتماعي في القرون الممتدة من السادس عشر إلى الثامن عشر، ونحن بحاجة إلى مثل هذا الفهم لعصر ولطبقة، تُعدُّ في أمَسِّ الحاجة لاستطلاع أحوالهما.

أضف إلى ذلك أن الأعمال التي نحن بصددها تَنُم عن مستوًى من الحداثة لم نلحظه من قَبلُ، كما أنها — فيما أعلم — لم تُدرَس من قَبلُ على يد المؤرخين، أو مؤرخي الأدب، أو النُّقاد. ولا نقصد «الحداثة» بمفهومها التقني لهياكل الدولة المتطورة أو الرأسمالية، ولكن بمعنى الاهتمام بالثقافة، والاهتمام بأشكال التعبير لفئة اجتماعية لم تكن من بين النخبة، كما لم تكن من بين العلماء. وتتجلَّى في الاهتمام بالفرد العادي وهمومه اليومية، مع الاهتمام بالأوضاع الفعلية القائمة وملاحظتها وتحليلها بطريقة عملية واقعية، من جانب أناس كانوا خارج نظام الحكم وهيكل السُّلطة، ويختلفون عن الرجال المتفرِّدِين المثاليين الذين انتَحَوا جانبًا بسبب أعمالهم، أو شخصيتهم الخلُقية، أو إنجازاتهم العلمية. وكان أسلوب كتاباتهم بسيطًا، يقترب كثيرًا من لغة الحديث العادية، يسهل على عامة الناس قراءته وفهمه. كما أن تحليلهم للأوضاع الاجتماعية والثقافية يُقدَّم — أحيانًا — من زاوية دينية، ولكن السمة الغالبة لذلك التحليل اجتماعية وليست دينية.

غير أن الثقافة التي تعكسها تلك الأعمال ليست ثقافة جماهيرية أو شعبية؛ فالدراسات الخاصة بتاريخ الثقافة التي تُصنِّف كل ما ليس له صلة بالنخبة — سواء كان حضريًّا أو ريفيًّا — على أنه ثقافة «شعبية» لا تضع في اعتبارها الاختلافات المادية والثقافية بين الطبقة الوسطى الحضرية — التي تشمل التجار وأرباب الحِرف الذين حقق بعضهم مستوًى ماديًا مريحًا — والفقراء الذين عاشوا حياتهم التماسًا لقُوت يومهم: كالحمَّالِين، والحمَّارِين، والسقَّائِين، والكنَّاسِين، والمشتغلِين بالترويح عن الناس، على اختلاف أنواعهم، الذين قدموا عروضهم في الشوارع لقاء أجر ضئيل، وسكان الريف. لقد كانت الثقافة — موضوع دراستنا — تتسم بالرِّقة والمتعة، وكان كُتابها من المتعلِّمِين، واتسعت دائرة قُرَّائها، ولم يكن أولئك الكُتاب يعيشون عند حد الكفاف.

لقد عبرت تلك الأعمال عن ثقافة الطبقة الوسطى الحضرية، الذين اختلفوا عن العلماء والأمراء ورجال حاشية صاحب السُّلطة، ولكنهم اختلفوا أيضًا عن الثقافة الشعبية أو ثقافة الجماهير، مما يترتب عليه عدم إدراجها ضمن الفئات الاجتماعية والثقافية التي تعوَّدنا الحديث عنها. ونحن — في حقيقة الأمر — أمام طبقة لم يسبق لأحد أن تناولها، هي الطبقة الوسطى. ودراسة ثقافة هذه الطبقة التي تختلف عن نخبة العلماء الكبار، في التعليم والمعرفة والقراءة والتأليف، واستكشاف إنتاجهم الثقافي ومساهماتهم الثقافية، تفترض أنه كان لهم دور ثقافي أبرز مما نظن، يحتاج إلى النظر إليه عن قُرب؛ لتبَيُّن نتائجه على المعنِيِّين به، وأثره على المشهد الاجتماعي كله.

وهذه المسألة ترتبط بتبيُّن مدى وجود دور حركي دينامي يمكن نِسبته لهذه الطبقة، أو غياب ذلك الدور، وما إذا كان لها تأثيرها على المجتمع أم لا، وما إذا كان لها تأثيرها على العصر الحديث إيجابًا أو سلبًا. وبعبارة أخرى، التحقق مما إذا كان لهذه الطبقة دور في العملية التاريخية في بواكير العصر الحديث أو في سياق ذلك العصر. وهي مسألة خلافية طالما كانت تتصل بوجود أو غياب شكل من أشكال المجتمع المدني.

ولا غرْوَ أن تباينت الآراء حول هذه القضية: فثمة اتجاه في الدراسات العثمانية (والمصرية) ينْصَب اهتمامه على مختلف المظاهر المتعلقة بالطبقة الحاكمة. وكِتاب إيهود توليدانو «الدولة والمجتمع في مصر عند منتصف القرن التاسع عشر» — على سبيل المثال — يُلقي الضوء على النخبة الحاكمة من ناحية، وعلى «بقية السكان» من ناحية أخرى، فلا يبدو عنده وجود لدور الطبقة الوسطى، فالحركة والتغيير والدينامية تتركز عند قمة المجتمع.

وقد حذت حذوه جين هاثاواي في دراستها لبروز بيت القازدوغلية في القرن الثامن عشر باعتبارهم من النخبة المملوكية، وأبرزت وجود روابط وثيقة بين بيوت النخبة المملوكية بالقاهرة ونظائرها في الأناضول، ويتناول كِتابها ظاهرة النخبة التي لا تتأثر بالأوضاع المحلية أو بالسياق الاجتماعي للفترة، تاركة مساحة واسعة للباحثين لدراسة الشرائح الاجتماعية، التي قد يكون لها دور في الدينامية الحركية الاجتماعية للفترة.١
واهتم مؤرِّخون آخَرون؛ مثل: ثريا فاروقي، وعبد الكريم رافق برصد الدور المحتمَل لأولئك الذين لم يكونوا من المنتمِين إلى المؤسَّسة وهيكل السُّلْطة، وحاوَل هؤلاء المؤرِّخون أن يُبيِّنوا أن هؤلاء كانوا طرفًا في العملية التاريخية.٢

وفي القاهرة اليوم، جيل من الباحثين الشباب ينكَبُّون على دراسة سجلَّات المحاكم الشرعية، ويطرحون نتائج دراساتهم بانتظام في «سيمنار القاهرة للتاريخ العثماني»، الذي ترعاه الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، الذي مارس نشاطه لعدة سنوات حتى الآن وبحوث هؤلاء الشباب تُلقي الضوء على الديناميات الاجتماعية للفترة عامة، وعلى حياة الأشخاص العاديِّين الذين ينتمون إلى جماعات اجتماعية قلَّما يرِد ذِكرها في كتب التاريخ. وقد استفدت كثيرًا في هذا العمل من المناقشات التي جرت بيني وبين أولئك الباحثين الشباب، ويذهب هذا الكتاب إلى أن ثمة ديناميات حركية معينة، وُجدت بين أولئك الذين لم يَصلوا إلى القمة، ولم يُشكِّلوا جزءًا من هيكل السُّلْطة. وكيفية تعريف هذه الثقافة بأشكالها المتغيرة في إطار المجتمع كله بمختلف مكوِّناته؛ موضوع يحتاج إلى استكشاف، وهذه الدراسة محاولة للمضي قُدمًا على هذا الطريق.

وتقودنا مثل هذه الدراسات إلى نتائج متعددة، فالاتجاه السائد بين الباحثين التماس الثقافة الحديثة في مصدرين: أوَّلهما يرتكز إلى النماذج الغربية، وثانيهما يرتكز إلى السياسات التي وُضعت في القرن التاسع عشر. وعلى النقيض من ذلك، أثبتت نتائج هذه الدراسة أن ثمة أبعادًا بارزة للثقافة الحديثة لها جذورها في الثقافتين السابقتين عليها، وأن ثقافة الطبقة الوسطى المتعلِّمة تُعد مصدرًا مهمًّا للثقافة الحديثة، وهي مسألة لم تُكْتَشف من قبل.

والنتيجة الأخرى المهمة تتمثل فيما توصلت إليه هذه الدراسة من وجود تنوُّع ثقافي كبير بين الطبقة الوسطى الحضرية في القرون من السادس عشر إلى الثامن عشر، بأكثر مما كنا نظن، وهو ما لم يَنَل حقه من التقدير من قَبل، ونتج عن ذلك عدم ملاحظة ما لها من وزن وتأثير على ثقافة القرن التاسع عشر … لذلك كان تعريف هذه الثقافة على درجة كبيرة من الأهمية، من أجل تحليل العوامل التي ساعدت على نموها، وللوقوف على مدى تأثيرها على الثقافة الحديثة. ودراسة هذه الثقافة تُمثِّل محاولة لرأب الصَّدع الذي أصاب التأريخ الثقافي عندنا.

وأخيرًا كان علينا أن نُحدِّد علاقة هذا الاتجاه بالسياق التاريخي؛ لأنه لا بد من حدوث تطورات مُعيَّنة في الإطار المادي وفي مستوى ونوع التعليم، حتى يحدث تطور ثقافي على النحو الذي رأيناه، وحتى يتم التعبير عنه بمثل تلك الكتابات الرصينة. والتماس هذه الأهداف وإيضاح ما اتصل بها من أفكار قادتنا إلى اكتشاف ثلاثة اتجاهات أخرى.

السياقات الاقتصادية والثقافية

ارتكز الاتجاه الأول على فَرْضية وجود صلة بين الأوضاع الثقافية والأوضاع المادية، وتَطلَّب ذلك البحث عن أساس مادي لهذه التطورات الثقافية في الأحوال المادية، التي أتاحت لثقافة الطبقة الوسطى المتعلِّمة أن تبرز وتؤثر في المعاصرِين. وتَطَلَّب ذلك النظر إلى هذه الثقافة من حيث صلتها بالاقتصاد وبالحركة الطبقية، حتى في غيبة الدراسات؛ خاصة ما اتصل منها بالقرن السابع عشر، الذي برهن على وجود انتكاسة، أستطيع أن أقدم بعض التخمينات حولها.

ودراستي للنماذج الثقافية للطبقة الوسطى بُنيت على عمل أندريه ريمون، الذي قدَّم في كتابه عن التجار والحِرفيِّيِن في القاهرة في القرن الثامن عشر رؤية عميقة للاقتصاد الحضري والجماعات الاجتماعية التي ارتبطت به، سواء كانوا من الذين قام النشاط الإنتاجي على كواهلهم، أو اضطلعوا بالنشاط التجاري والخدمي، أولئك الذين استفادوا من الضرائب التي فُرضت على مختلف تلك الأنشطة. ويُقدِّم عملي هذا بُعدًا آخر في حياة هؤلاء باستخدام كِتاب أندريه ريمون كأساس للوقوف على الأحوال المادية للطبقة الوسطى، وهذا البعد الآخر الذي أُقدِّمه في هذا العمل، بُعد ثقافي، يبرز بعض الزوايا التي لم يقف عندها غيري من المؤرِّخِين. ومن المزايا الخاصة بالعمل على الطبقة الوسطى القاهرية أن تاريخ القاهرة الاقتصادية في القرن الثامن عشر قد دُرس جيدًا، مما جعل الربط بين التاريخ الثقافي والواقع الاقتصادي أمرًا ممكنًا لَتبَيُّن أثر الأحوال المادية على الاتجاهات الثقافية.

ويكشف هذا البحث التاريخي عن تطوُّر ما نسميه ثقافة الطبقة الوسطى فيما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، في خط متعرج بين صعود وهبوط، وليس في خط مستقيم صاعد؛ فأبرزت دراسة أندريه ريمون وجود طبقة وسطى اقتصادية، لعبت دورًا بارزًا في القرن الثامن عشر. وكان التاريخ الاقتصادي لهذه الطبقة — الذي قدَّمه أندريه ريمون — عاملًا أساسيًّا في فهْم ثقافتها. ولذلك كان كتابه مرجعًا لا غنًى عنه لهذه الدراسة؛ فقد حدَّد معالم هذه الطبقة، وموقعها في الهيكل الاجتماعي، وعلاقاتها بالسُّلطة، وتأرجُح وضْعِها صعودًا وهبوطًا، واشتغل هؤلاء الناس — الذين شكَّلوا قطاعًا مهمًّا متنوعًا من سكان الحضر — بالإنتاج، والتجارة، والخدمات، وضمُّوا بين صفوفهم الحِرَفييِن ومتوسِّطِي التجار، والعلماء ومثَّلوا نحو ثلث سكان الحضر.

وجاء توسُّع التيارات التجارية الدولية والرأسمالية التجارية عند منتصف القرن السادس عشر، بما صحبه من الزيادة الكبيرة في الطلب على البضاعة المُنتَجة محليًّا، جاء لصالح تلك الطبقة، وتشير الدلائل المستقاة من سجلات التَّرِكات، ومن الصفقات المالية العديدة، إلى وجود طبقة وسطى لها مواردها المحدَّدة. واجتذَبَت تلك الظروف بعض أصحاب الوظائف الدينية والعسكرية لخوض غمار السوق تُجارًا ومنتِجِين، بصفة مؤقتة أو دائمة. وفي مجتمَع متمسِّك بطوائف الحِرف، وما ارتبط بها من هيكل حِرفي، ظهرت مصالح اجتماعية وسياسية، اخترقت طوائف الحِرف وتجاوزت ما وضعته من حدود مهنية. ومَثَّل أصحاب المراتب المتوسطة «فئة» بمفهوم الجماعات المنعزلة المنغلِقة على نفسها داخل مجموعة مَصالح، تركز على الطائفة والمهنة، و«طبقة» بمفهوم المصالح الاجتماعية والسياسية التي اخترقت حدود الطوائف.

إن المصطلح المتواتر لوصف القوى الاجتماعية الوسطى في مرحلة ما قبل الثورة الصناعية هو «الفئة» وليس «الطبقة». وترى النظرة الماركسية السائدة أن مفهوم «الطبقة» باعتباره نتاجًا للثورة الصناعية يعود إلى القرن الثامن عشر. أما ما قبل ذلك، فيمكن الإشارة إليه باعتباره «مراكز» أو «حالات» أو «جماعات» أو «فئات». ولكن الثراء والفقر، والهيمنة والخضوع، والمُلَّاك والمُعدِمين، وعِلْية القوم وسفلَتهم، كلها كانت موجودة قبل الثورة الصناعية وبعدها. والفرق بينهما أنه قبل الثورة الصناعية كان استغلال الطبقة الحاكمة مُدَعمًا وشرعيًّا، ولم يعترض الناس على الوضع القائم، وجاءت الثورة الصناعية لتلغي النظام القائم على تلك المعايير والقيم.

وفيما يتعلق بالتاريخ الحديث الباكر لمصر، دار جدل حول استخدام وإغفال تلك المصطلحات، ولكني أُفضِّل استخدام مصطلح «الطبقة» لسببين: فرغم ارتباط المجموعة التي أتحدُّث عنها بالطوائف والهيكل المهني الطائفي، إلا أنها لم تكن منغلقة على نفسها، منعزلة عن بقية مكوِّنات الهيكل الاجتماعي. والحق أن من بين النقاط الرئيسية لهذه الدراسة مَعنِي تحديدًا بإبراز الظروف التي شكَّلَت تلك المجموعة، وروابطهم بالطبقة الحاكمة في هذه العملية، واستمرار اللعب على التداخل بين المصالح بين الطبقة الوسطى والطبقة الحاكمة. ويتم تحديد ثروات الطبقة الوسطى — بدرجة ما — بهذه العلاقة الحيوية التي مرت بتحولات ملحوظة على مر القرون التي تغطيها هذه الدراسة.٣
وكلمات مثل «الفئة»، و«الحالة»، و«الجماعة» هي مجرد مصطلحات وصفية لجماعة اجتماعية راكدة، تجمعها مؤسسات ذات امتيازات معيَّنة دينية أو قانونية لها بعض المسوغات في سياق هذه المسألة، ولكن مع الأخذ في الاعتبار حالة الحيوية والتدفُّق، التي تُعنى بها هذه الدراسة، فإن لها مدلولات فضلت ألا أنقلها إلى القارئ.٤

لذلك لم أقم بدراسة ثقافة الطبقة الوسطى بمعزل عن علاقاتها بثقافات الآخرين: الطبقة العسكرية الحاكمة بما لها من وزن في الاقتصاد، والمؤسَّسات الدينية بما لها من وزن على المستوى الثقافي. وقد مرَّت العلاقة بالطبقة الحاكمة والعلماء بتحوُّلات على مرِّ الفترة موضوع الدراسة. ولذلك عندما نقرُّ بأن السياق التاريخي صاغ الطريقة التي تطوَّرَت بها الثقافة، فإن من المفترض أن ثقافة الطبقة الوسطى لم تكن جامدة ساكنة، ولكنها كانت متغيِّرة مَرِنة تتفاعل مع محيطها، وأنها تنمو وتتراجع وفقًا لظروف الزمان والمكان الذي تعيش فيه.

ويقودنا هذا إلى البحث في الاتجاه الثاني المتصل — هذه المرة — بهيكل السُّلْطة. وقد وضَعْنا في اعتبارنا قناتين في هذا الاتجاه: أولاهما تتصل بالدولة وهياكل الحكم، وخاصة هيكل السُّلْطة المحلية (الطبقة الحاكمة في مواجهة الطبقة الوسطى)، والهيكل الإقليمي (سلطة إسطنبول في مواجهة ممثليها المَحلِّييِن). وكان من بين العوامل التي أثَّرَت على تطور ثقافة الطبقة الوسطى مستوى الاستغلال الضريبي، الذي عندما لا يُراعي الرحمة يُؤدِّي إلى خنْق سكان الحضر وإفقار الطبقة الوسطى.

وقد دار صراع بعيد المدى حول هذه القضية بين العسكريِّيِن المَحلِّييِن (رجال الأوجاقات أو الحامية العثمانية، وبالتبعية الطبقة الحاكمة من المماليك) في محاولة لضبط نظام الضرائب، والدولة العثمانية صاحبة الحق الشرعي في فرْض هذه الضرائب ومراقبة جبايتها. وأدَّت العلاقات المتأرجحة بين السُّلطة المركزية والولايات، وتزايد وزن القوى العسكرية المحلية أو المماليك في العلاقة مع السُّلْطة المركزية، أدت إلى إفساح الطريق أمام أشكال متعددة من الاستغلال الذي تعرض له سكان المدن، ومن الطريف أن التوازن الذي تم لصالح الولايات مع ضعف سلطة إسطنبول، كان من عوامل دعم الثقافة المحلية، التي كان من بينها ثقافة الطبقة الوسطى الحضرية، فساعدتها هذه الظروف على البروز في المقدمة.

أما القناة الثانية، فتمثَّلت في هيكل السُّلطة المَحلية، فالمدى الذي تستطيع عنده المستويات الثقافية العليا، أو ثقافة المؤسَّسة أن تحتكر النشاط الثقافي، أو تهيمن على المجتمع يُعد أمرًا أساسيًّا لفهمنا للتاريخ الثقافي. وهو أمر تختلف حوله الآراء بين الباحثِين؛ فهناك المنهج الجرامشي الذي يرى أن النُّخَب تسيطر على السكان من خلال ثقافات الهيمنة، ولديهم الوسائل لتحقيق ذلك من خلال سيطرتهم على التعليم، ومن ثَم يُوجِدون إجماعًا زائفًا لحكمهم بين السكان الخاضعِين لهم، وعلى الجانب الآخر من المشهد، تُعد الثقافات إما مستمِرَّة، أو مجامِلة لبعضها البعض، أو ذاتية بصورة أو بأخرى، وهو رأي يتَّسم بغَيْبة الصراع.

وليس ثمة شك في الدَّور البارز الذي لعبه الأزهر؛ فقد بسط سيطرته على التعليم بحيث كان أهم مؤسَّسة تعليمية في مصر كلها وفي العالم الإسلامي على اتساعه، وليس في القاهرة وحدها، وقد أمَّه الناس من الشرق والغرب طلابًا ومعلِّمِين، وكان لأساتذته وَضْع اجتماعي بارز، احترمهم الحكام، وحظوا بتقدير المجتمع. ولعب أساتذته دورًا مُهمًّا كمعلِّمِين ومُفتِين وقضاة، وشغلوا وظائف أخرى، ولقوا احترام الحكام والناس لاتساع معرفتهم، ولِمَا قاموا به من أعمال علمية، وما حظوا به من مكانة اجتماعية. وكان الأزهر وعلماؤه رعاة للثقافة الرسمية التي ترمي إلى الحفاظ على الوضع الاجتماعي والسياسي القائم، ومن ثَم اتَّسَم بالمحافَظة والعمل على تحقيق الاستقرار والانسجام الاجتماعي. وتوافرت لعلمائه الوسائل التي تَكفُل لهم نشْر آرائهم من خلال نظام التعليم مثلًا. وعلى سبيل المثال؛ كانت هناك وظائف رئيسية وقفًا على أولئك الذين تلَقَّوا تعليمًا أزهريًّا، وهي وظائف تجعلهم على صلة مع قطاع عريض من الناس. ولكن رغم ما كان للأزهر من وزن على الساحة الثقافية محليًّا وإقليميًّا وإسلاميًّا، لم يحتكر الأزهر — بالضرورة — كل أشكال المعرفة ووسائل نقلها للآخَرِين.

وما نعارضه هنا هو تطبيق نموذج «الاستبداد الشرقي» على المعرفة، فكما يحدث عندما نطبق فكرة «الاستبداد الشرقي» على المجتمع ككل، يَتَّجه استخدامها فيما يتعلق بالمعرفة ونَقْل المعرفة إلى تركيز كل شيء عند القمة، قمة نظام ذلك العصر، فكل شيء يتحرك من مصدر واحد عند القمة عَبْر مجموعة من قنوات النقل؛ ليصل في نهاية الأمر إلى المتلقِّين السلبيِّين عند القاعدة. وهذه الدراسة تستخدم طرحًا أكثر تحديدًا للفوارق لمعالجة ثقافة الطبقة الوسطى، صاغته الظروف التاريخية، وصنَعَته العلاقات المتغيِّرة بين مختَلِف القوى الاجتماعية، وليس مجرد كيان ثابت يقع تحت السيطرة التامَّة الدائمة للثقافة السائدة.

وتسعى هذه الدراسة للوقوف على الظروف التي شكَّلَت العلاقة بين ثقافة الطبقة الوسطى والثقافة الرسمية للنظام؛ فقد احتفظت الأخيرة بوضْعِها الحاكم في المجتمع من خلال آليات مُتنوِّعة؛ كنظام التعليم، والكتابة، ومن خلال محاولاتها لنشر سيطرتها على مجالات معرفية مُعيَّنة، ومن خلال المكانة الاجتماعية للقائمِين على نشْرِها. وأحيانًا كانت قبضة تلك الثقافة قوية على الآخَرِين، وأحيانًا أخرى كانت أقل قوة. وفي ظل ظروف مُعيَّنة، قرَّبت المصالح المشتركة بين تلك الطبقات، وأفرغَت عوامل الصراع بَيْنها من مضمونها. وفي مثل تلك الظروف، يُصبح المناخ مواتيًا لازدهار ثقافة الطبقة الوسطى. ولعبت الظروف غير المواتية دورها في انتكاس تلك الثقافة أحيانًا. وعلى سبيل المثال؛ كان ازدهار ثقافة الكتب، وبروز الدَّور الكبير للطبقة الوسطى كمستهلِكة ومنتِجَة للكتب، كان يعني أن قطاعًا كبيرًا من صناعة الكتب قد تخلَّص من نِير الثقافة السائدة.

والاتجاه الثالث هو التوصل إلى تفسير المنظور الدنيوي لثقافة الطبقة الوسطى، والوقوف على الظروف التي ساعدت على تشكيلة؛ فالفكرة الراسخة في الأذهان أن ثقافة عصر ما قبل الحداثة كانت خاضعة تمامًا لهيمنة الدِّين، وأن الثقافة العلمانية لم يتم تقديمها إلا بعد القرن التاسع عشر. ولا شك أن وُجود بُعد دنيوي في ثقافة الطبقة الوسطى (في الفترة موضوع الدراسة) لا يُضفي عليها الصبغة العلمانية، فقد كانت تلك الثقافة متعددة الجوانب.

وتَفترِض هذه الدراسة أن للأفراد والجماعات أكثر من بعد ثقافي، يُتِيح لهم الانتقال من واحد منها إلى الآخر، بقدر معيَّن من السهولة واليُسر، وأن ذلك ينسحب على من أوقفوا حياتهم للعلم، كما ينسحب على غيرهم من التُّجَّار والحِرفيِّين وغيرهم، والحق أن اعتبار ثقافة العلماء ثقافة دينية محضة، يفتقر إلى الدِّقة؛ فرغم كونها ذات طابع أكاديمي محض وشديدة التمسك بالتخصص؛ مما يجعلها بعيدة عن مُتناوَل عامة الناس، إلا أنها كانت ثقافة مركبة.

لقد كان البُعد الديني مكوِّنًا مهمًّا من مكوِّنات ثقافة الطبقة الوسطى، ويمكننا تَبيُّن ذلك بسهولة من انتشار الطرق الصوفية بين الحِرفيِّين والتجار، ومن الكتب الكثيرة التي تتناول سِيَر الأولياء وأعمال المتصوفة، وليس من السهولة بمكان أن نُميِّز بين ما هو ديني وما هو دنيوي. ونظرة إلى الكتب التي اقتناها أُناس يَنتسِبون إلى تلك الطبقة، تُوضِّح بما لا يدَع مجالًا للشك، أن الغالبية العظمى من تلك الكتب كانت دينية تَتضمَّن سِيَر الأولياء وكُتب التصوف التي كانت موضع اهتمامهم.

ومن ناحية أخرى، فإن الباحثِين المعنِيِّين بدراسة الثقافة ركَّزَوا جُل اهتمامهم على العلماء والمؤسَّسات التعليمية، وتغاضَوا عن الاهتمام بالأبعاد الثقافية المُهمة الأخرى. فلا يمكن فَهْم الحالة الثقافية فهمًا كاملًا إذا ركَّزْنا على ثقافة النظام الرسمية وحْدَها، وعلينا أن نضع في اعتبارنا رجال الإدارة الذين استطاعوا تنمية ثقافتهم الإدارية بصورة واضحة.

لقد قام محمد حاكم بالبحث فيما أسماه «الحساب السياسي» للكَتَبة الأقباط، الذين عملوا في خدمة بَكوات المماليك في القرن الثامن عشر، وخدَموا في إدارة محمد علي فيما بَعد. ولَمَّا كان هؤلاء بارعِين في الحساب، وما اتصل بالمحاسَبة من معرفة ومهارات، نَمَا لديهم شعور سياسي بالقوة التي زوَّدتْهم بها تلك المعرفة في مواجهة هيكل السُّلطة.٥ كذلك كان هناك نوع من الثقافة العلمية، التي دارت حول محور الفلك في القرن الثامن عشر، ويَذكُر الجَبَرتي بعض من كان لهم نشاط في هذا المجال مثل الخوانكي. وليست لدينا أي معلومات عن الطريقة التي تدَرَّبوا بها، ووسائل نَقْل المعرفة إليهم أو نَقْلهم لها لغيرهم، والكتب التي كانت مراجع لهم، ويرجع ذلك — أساسًا — إلى أن هذه الثقافة انتقلت خارج إطار المؤسَّسة التعليمية القائمة، واتَّخذَت من البيوت وأماكن العمل مكانًا لها، وكان انتقالها من الأب إلى الابن، أو من الرئيس إلى مرءُوسِيه. ويوضح ذلك بجلاء أن ثمة طُرقًا أخرى لتحصيل العلم والمعرفة غير المدارس الدينية التقليدية؛ مما أتاح المجال لتطور الثقافة الدنيوية التي كانت على درجة كبيرة من العلم.

ومن ناحية ثالثة، كان للطبقة الوسطى أبعاد اجتماعية وفكرية مُتميِّزة داخل إطار ثقافتها، فكانت لها ثقافة أدبية خصبة شفهية ومكتوبة معًا؛ فقد كانوا يَنتمون إلى ثقافة تجارية تَتَّسم بالنظرة العملية للأمور، ويُدرِكون أن عالَمهم مُرتَبط بغيره من العوالم الأخرى بأمور دنيوية، وقضايا اجتماعية، وأن عليهم أن يَستخدِموا كل الوسائل المتاحة لحماية مَصالحهم.

لذلك … كان من الواضح وجود أنماط أخرى من المتعلِّمِين والثقافة بين الجماعات الاجتماعية الأخرى من غير العلماء والأزهريِّين، وأن من المفيد إلقاء الضوء عليهم بدلًا من التركيز على الشريحة العليا وحْدَها. لقد كان التأثير الثقافي التعليمي الذي تَعرَّضوا له متعدِّد الوجوه، مُركَّبًا. وبعبارة أخرى، لا تكفي حقيقة كونهم نتاجًا للتعليم الديني سواء بمستواه الابتدائي أو العالي، لتفسير هذه الظاهرة تفسيرًا تامًّا. فإن علينا — من ناحية — أن نُدرك حدود وإمكانيات نظام المدارس بصورة أخرى، وأن نبحث — من ناحية أخرى — عن أشكال انتقال المعرفة خارج إطار النظام التعليمي.

والمعاني التي نتوصَّل إليها بالغة الأهمية؛ أولًا: كانت هناك أنماط للتعليم ونَقْل المعرفة لا ترتبط بالضرورة بالنظام التعليمي القائم؛ ولذلك كانت أقلَّ تعرُّضًا للقيود التي يفرضها ذلك النظام. وثانيا: أن المُنتَج النهائي للتعليم الديني لم يَكُن على درجة من التجانس كما كان يُظَن.

إن ثقافة الطبقة الوسطى، أو حتى المتعلِّمِين من الطبقة الوسطى قد تكون أقلَّ احتفالًا بالنُّظُم التي سادت المؤسَّسة التعليمية، وقد تكون أكثر تقبُّلًا للأفكار والممارسات الجديدة. وتنظر هذه الدراسة نظرة أوسع وأشمل إلى التعليم، نظرة تَتضمَّن مختلف أشكال نَقْل المعرفة وتتجَاوَز نطاق المدارس، وتذهب إلى وجود انتشار أوسع مدًى للمعرفة مما غلب عليه ظَن الباحثِين، كما كان هناك تَنوُّع في المُنتَج النهائي لتلك الثقافة. ويمكن تفسير ذلك من خلال تَنوُّع أنماط نَقْل العلم والمعرفة، مثل: انتشار ثقافة الكتب، والمقاهي، والصالونات الأدبية، ومَغزاها لفهم الكيفية التي صِيغَت بها ثقافة الطبقة الوسطى خلال الفترة موضوع الدراسة.

كان لكل من الأشكال المؤسَّسِيَّة وغير المؤسَّسِيَّة دور لعبَتْه في هذا المجال، وأدَّى هذا — دون قصد — إلى كتابة تاريخ ثقافي لأناس لم يُحسَبوا — عادة — بين المثقَّفِين. ونستطيع بوضْعِهم داخل إطار الصورة أن نَصِل إلى فَهْم أدق لتنَوُّع وتركيب المَشهد الثقافي في ظرف تاريخي مُعيَّن، ما كان ليتوافر لنا، لو ركَّزْنا اهتمامنا على العلماء والنظام التعليمي وَحْده.

وقد واجهت هذه الدراسة صُعوبتَين رئيسيتين؛ أولاهما: غياب دراسة موازية للطبقة الوسطى في باكورة العصر الحديث بإقليم آخر يُمكِن اتخاذها أساسًا نَبْني عليه دراستنا. وثانيتهما: أن الفترة التي تُغطِّيها الدراسة خلَت من وجود دراسات للتاريخ الاجتماعي أو لتطور المعرفة. ترتب على ذلك أن دراسة ثقافة الطبقة الوسطى تسير في طريق محفوفة بالمَخاطر، عندما نذهب إلى القول إن ثمة أناسًا متعلِّمِين لا ينتمون إلى العلماء، أو أن ثقافتهم أثَّرَت على ثقافة الشريحة العليا من المجتمَع، أو أن هناك ثقافة متميزة ربطت بين تلك الطبقة. كما نعني أيضًا استكشاف مختلف مستويات واقع ثقافة الطبقة الوسطى من حيث طبيعتها، وطُرق التعبير عنها، ومن حيث موضعها من مَجمَل المشهد الاجتماعي والثقافي في ظرف زمني محدَّد.

القضايا الأوسع نطاقًا

هناك مغزًى آخَر لدراسة ثقافة الطبقة الوسطى، يتجاوز نطاق الجماعة التي يتناولها والمجال الجغرافي الذي عاشوا فيه، فقد خُتِم البحث بدحض بعض المُعطَيات السائدة في الوسط الأكاديمي حول الفترة الزمنية التي يتناولها البحث، وحول الإقليم ودراسة الثقافة.

وأكَّدَت الدراسة هَزْل الحديث عن «التدهور»، كما بيَّنَت أننا لا نستطيع فَهْم التطورات الثقافية، من خلال مفهوم علاقة المركز بالأطراف الذي يستخدمه المؤرِّخون أحيانًا. ويُعَد «التدهور» ظاهرة مَحلِّية وإقليمية معًا، كان مَحليًّا طالما مَثَّل القرن الثامن عشر أدنى نقطة انحدرت عندها الثقافة الإسلامية عن مستوى القمة، الذي بَلَغتْه في العصر العباسي. وقد تَجمَّد «التدهور» عند القرن التاسع عشر عندما وُجدت ظروف جديدة فيما اتصل بالتعليم والثقافة. فالإصلاحات التعليمية التي قام بها محمد علي في مصر، والسلطان محمود الثاني في الدولة العثمانية مَكَّنت الجماعات الاجتماعية الأخرى أن تَعرف طريقها للتعليم للمرة الأولى، وللمُساهَمة في الحياة الثقافية، ومن ثَم أصبَحوا قوًى محرِّكة للتغيير.

أما عن «التدهور» كظاهرة إقليمية؛ فيرجع إلى ظهور دول أوروبا الشمالية المرتَبِطة بتجارة المحيط الأطلنطي، وانتقال الحركة من الجنوب إلى الشمال منذ القرن السادس عشر، واعْتُبر ذلك سببًا مُؤثِّرًا في تَدهْوُر ثقافة حوض البحر المتوسط. وهكذا ارتكز الجدل على أُسِس محلية وإقليمية لدعم فكرة «التدهور». أمَّا الآن؛ فالفكرة القائلة بإمكانية وجود أكثر من مَرْكز للحركة ناشط في الوقت نفسه، وأن زيادة مُعدَّل الحركة في أحدها لا يُؤدِّي — بالضرورة — إلى تَدهْوُر الآخَرِين، هذه الفكرة تم تطويرها على الصَّعيدَين النظري والعملي، ويذهب بيتر جران إلى تَواجُد مراكز متعدِّدة في الوقت نفسه، وطَبَّق ذلك على دراسته لتاريخ العالَم باعتباره تاريخًا اجتماعيًّا للعالَم، وليس تاريخًا للمركزية الأوروبية تدور على أطرافه بقية بلاد العالم.٦ ولكن قد تكون فكرة بيتر جران وثيقة الصِّلة بالسياق المتوسِّطي أو العثماني؛ لأنه يمكن القول إن بروز دور إقليم مُعيَّن لا يُؤدِّي بالضرورة إلى تَدهْوُر إقليم آخر. ويُمكِن الاستناد إلى هذه الفكرة أيضًا؛ للقول بوجود أكثر من مركز ثقافي مُهِم في إقليم ما، ولا ترجع أهميتها — بالضرورة — إلى أسباب واحدة.
ويمكن تفسير الفكرة على أُسُس عملية؛ فقد بَينَّت بعض الدراسات التي عالجت إقليم البحر المتوسط في فترة «التدهور» عندما انتقَلَت مراكز التجارة الدولية إلى أنتورب ولندن … بَيَّنت أن بعض الأقاليم ظلَّت نشطة. وعلى سبيل المثال، يذهب خوسيه أنطونيو مارافال في كتابه «ثقافة الباروك» إلى أن إسبانيا لعبت في القرن السابع عشر دورًا مركزيًّا في تكوين ثقافة الباروك، وأنتجت عمالقة مثل الجريكو، وفيلاسكويز، وقَدَّمت إبداعات مُهمَّة في مجال الأدب،٧ بعد مُضِي زمن طويل على نهاية ذروة الازدهار التي بلغَتْها من قَبْل. وبعبارة أخرى … فإنه عندما تُصبِح بعض المراكز الجديدة بالغة التأثير؛ فلا يعني ذلك — بالضرورة — أن المراكز القديمة قد قَضَت نَحْبَها، أو أنها أصبحَتْ عاجزة عن العطاء.

وهناك قضية أخرى أكثر تعقيدًا — إلى حد ما — تَتعلَّق بالتقسيمات المُصطَنَعة التي وُضِعَت لمنطقة البحر المتوسط، فهناك دليل على أن التقسيم إلى الشمال والجنوب، أو المسيحي والإسلامي عبر البحر المتوسط بشكل واضح لم يكن له وجود في الفترة من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر، على نحو ما نَتصوَّر الآن.

وقد سبق أن بَيَّنتُ في كتاب سابق أن البحر المتوسط كان إقليمًا واحدًا فيما يتعلق بالنشاط التجاري،٨ وهذا الكتاب يبحث في سياق أَرحَب؛ بذهابه إلى أن الاتجاهات الثقافية ذات تأثيرات مُحتمَلة على النطاق الإقليمي الجغرافي، فهو يُبيِّن — مثلًا — إمكانية وجود صلة بين انتشار معرفة القراءة والكتابة، والتجارة، سواء حدث ذلك في مدينة إيطالية؛ مثل: البندقية أو فلورنسا، أو في مدينة مصرية: كالإسكندرية أو دمياط، أو في مدينة شامية كحلب. وأن الورق الرخيص الثمن — نسبيًّا — الذي أُنتِج في أوروبا تلبيةً للطلب المتزايد للطباعة، كان له أثره على عالَم البحر المتوسط كله، سواء في ذلك البلاد الأوروبية والبلاد العثمانية. فقد اتجه التُّجار — بمنطق السعي وراء الربح — إلى استيراد هذا الورق الرخيص الثمن، وأدى ذلك إلى انخفاض تكلفة إنتاج الكُتُب. وقائمة التطورات المتوازية شمال وجنوب البحر المتوسط قد تبلغ حدًّا كبيرًا من الطول، ولا زلنا بحاجة إلى مزيد من الدراسات؛ لتحديد تلك التطورات واكتشاف أبعادها.

وفيما يَتعلَّق بالمجال العثماني، تَناولتْ هذه الدراسة عددًا من القضايا والآراء، وارتكزت على أعمال عدد من المؤرِّخِين والباحِثِين. والقضية الأساسية في هذه الدراسة تَتعلَّق بالأسلوب الذي يَدمِج به المؤرِّخون دراسة إقليم مُعيَّن في النطاق العثماني الواسع، والتعليقات التي قَدَّمتْها تتصل بالبلاد العربية، ولكنها قد تَصدُق على بلاد البلقان.

وقد صدرت أعمال مُهمَّة في السنوات الأخيرة، أخرجَت العالم العربي من دائرة اهتماماتها، أو وضعَتْه على هامش اهتمامها، رغم أن الولايات العربية احتلَّتْ خُمس مساحة الدولة العثمانية، وضَمَّت نحو نصف سكانها، ناهيك عن مواردها، وطُرُق التجارة فيها، والمراكز الدينية، ولكنها لا تُحسَب في نطاق التاريخ العثماني. وأحيانًا يُقتَصر على وصفها بالعثمانية ويُخَصَّص لها فصل واحد لا يكفي لبيان وَزْنها في الدولة العثمانية، أو يكشف ديناميات العلاقة بينها وبقية بلاد الدولة؛ مما يكشف السِّتار عن مشكلة منهجية ناجمة عن عدم إدراك مَغزى انضواء البلاد العربية تحت لواء الدولة العثمانية في القرن السادس عشر، أو مَغزى وقوع تلك البلاد بين براثن القُوى الأوروبية في القرن التاسع عشر، وكذلك عدم إدراك التأثير المزدَوَج لمثل هذه العوامل سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، وكلها إشكاليات مُثارَة على أقل تقدير.

وقد ظل مُؤرِّخو الشرق الأوسط عامة، والعالم العثماني خاصة؛ يَتصدَّون للتاريخ الاستشراقي الذي وَضع أوروبا في موضِع مركزي، عند فهمه للمجتمعات الإسلامية أو العربية أو العثمانية، واستمر تَصدِّيهم لتلك المقُولات عِدَّة عقود من الزمان. وقد وَضَع التاريخ الاستشراقي تلك المجتمَعات في موضع سلبي مُخفِق عند تَلقِّيها للنماذج الأوروبية. وتم طرح كثير من الحلول البديلة عند كتابة تاريخ الأقاليم التي خضعت للاستعمار من قَبْل، دون اتخاذ أوروبا كإطار مَرجِعي.

وعلينا اليوم أن نُقدِّم مداخل منهجية جديدة، تُعِيننا على فَهْم تاريخ الدولة العثمانية بما فيه من تَنوُّع وتركيب، دون أن نلتزم بمنهجيات الاستشراق لدراسة تاريخ المستعمَرات. ويحتاج المرء إلى بدائل لاتجاهات مُعيَّنة سائدة في حقل هذه الدراسات.

ومن بين أبعاد هذه المشكلة استخدام مصطلح «العثماني» عندما يكون البحث مُنصبًّا على إسطنبول أو الأناضول، ويُفْتَرض أحيانًا أن النتائج التي يتم التوَصُّل إليها من دراسة إقليم مُعَيَّن قد تنسحب على أقاليم أخرى، وإذا حاولنا أن نفهم تاريخ القاهرة، أو حلب، أو دمشق على ضوء ما حدث في إسطنبول، فإننا نصل إلى نتائج مُضلِّلة، إذا افترضنا أن مدينة كالقاهرة في ولاية كمصر لا بد أن تكون مَسخًا للأصل، وقد يكون ذلك صحيحًا، وقد يكون خاطئًا، ولكن لا يمكن أن نأخذ بذلك كحقيقة مُسلَّمة. وقد يؤدي هذا التعميم إلى إغفال أبعاد مهمة؛ أولها: الأهمية التي تُمثِّلها الأبعاد المحلية في صياغة العملية التاريخية الأوسع مدى، وثانيها، العلاقة الدينامية بين القُوى المحلية والإقليمية والدولية. ونَتج عن تهميش البلاد العربية في مجال الدراسات العثمانية — في رأينا — إعاقة إمكانية التَّوصُّل إلى فَهْم حقيقي للعالَم العثماني، وعملية التغَيُّر في الإقليم كله.

وثمة نتائج أخرى قد تَنشأ من تهميش العالَم العربي في الكتابات المتأخِّرة، فتَوافُر عديد من سجلَّات المحاكم الشرعية في كثير من الولايات كان مفيدًا من ناحية، ومَصْدرًا للمشاكل من ناحية أخرى، فهو مفيد من حيث إتاحة الفرصة لكتابة التاريخ المحلي لأول مرة، والكشف عن خصوصية كل إقليم من الناحية التاريخية، وهو يُمثِّل مشكلة من حيث كونه مَثارًا للاهتمام الذاتي؛ لأن الباحثِين الذين يعملون على تلك السجلات قد يندفعون في هذا الاتجاه. وهكذا … قد تؤدي وفرة المادة الوثائقية وتنوُّعها وعمقها في إقليم مُعيَّن إلى تفادي الوقوع في مأزق التعميم، غير أن الباحث إذا لم يكن واعيًا بالصلة بين المحلي والسياق العام للتاريخ قد يتورط في الوقوع في فخ التهميش؛ فالتواريخ المحلية قد تميل إلى تأكيد الهُوِيَّة الذاتية للبلاد الصغيرة أو المتوسطة الحجم، وبذلك تظل صورة العلاقة بين مِثْل تلك المواقع المحلية والأقاليم التي تقع فيها تفتقر إلى الوضوح، ومن ثَم يَتعذَّر فَهْم السياق الإقليمي. ويعني ذلك ضرورة كتابة تاريخ الإقليم دون إغفال الإطار العام للصورة على المستوى الإقليمي، عندما يتم التركيز على دراسة المواقع المحلية في الإقليم، وإبراز السمات العامة، مع أخذ التَّنوُّع الكبير القائم، واختلاف الهويات الجغرافية في الاعتبار.

ومثل هذا العمل من الصعوبة بمكان؛ إذ علينا أن نستخدم منهجيات جديدة أو تطويع ما لدينا منها لتصبح قابلة للتطبيق في إقليم مُعيَّن. ولا زال هذا النوع من دراسة التاريخ يَتشكَّل، ويسعى بعض الباحثين إلى خوض مجال التجربة في حقل التاريخ المقارَن،٩ ويشمل ذلك المنهجيات التي تُطبَّق في دراسة تاريخ العالم.
وقد تساءل جوزيف فليتشر في دراسته لتاريخ العالَم عمَّا إذا كان هناك نوع من التوازي بين تاريخ وآخر، أو إقليم وآخر في الصين، والشرق الأوسط، ووسط آسيا، وأوروبا. كما تساءل عمَّا إذا كان هناك تاريخ عام يُمْكن أن نسميه «تاريخ العالَم». وبعبارة أخرى، كان مَعنيًّا بالبحث عن النماذج المتناظِرة في مختلف الأقاليم التي يُمْكن تقديم تفسير مماثل لها، أو تَجمَعها ببعضها البعض قَسَمات مشتَرَكة.١٠ كذلك فعل بيتر جران في محاولته لدراسة تاريخ العالَم من خلال المركزية الأوروبية، مُقترِحًا نموذجًا للدراسة عُنِي بالهياكل الاجتماعية في أقاليم مُعيَّنة؛ بُغية الكشف عن كيفية تأثيرها في الهياكل السياسية. ويُعْنَى المنهج الذي اتَّبعه أن بالإمكان دراسة مناطق جغرافية واسعة، وتحليل اتجاهات مُعيَّنة، واكتشاف مدى تأثُّر هذه الاتجاهات بالأحوال الاجتماعية. وبذلك استطاع تأكيد أن الباحث يستطيع أن يقدم تحليلًا لإقليم مُعيَّن من خلال تَعدُّد المراكز، وليس من خلال مركز مُعيَّن.١١

واهتمامي في هذه الدراسة جاء مُتعدِّدًا؛ فقد حاولت إدماج ظاهرة قاهرية في إطار ظواهر مشابِهة في مختلف أرجاء الدولة العثمانية. وكان ذلك يُمثِّل عندي ضرورة عملية في دراسة التاريخ الثقافي خاصة؛ إذ يجب أن نعترف بضرورة تَجاوُز حدود مصادرنا الأوَّلية الخاصة بالقاهرة حتى نستطيع فَهْم السياق العام. أضِف إلى ذلك أن الأهمية الخاصة لدراسة التاريخ القومي، التي برزت في القرن التاسع عشر الذي شهد عملية تكوين الدولة، لم تكن لها الأهمية نفسها في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وأخيرًا، كان البحث عن أسباب موازية أو عوامل مشتَرَكة ذات تأثير على الطبقة الوسطى في القاهرة والمدن العثمانية الأخرى. فعلى سبيل المثال؛ جاءت الدراسات الخاصة بالتعليم والكُتب مُؤكِّدة لوجود تيارات تجاوزت حدود مصر إلى الإقليم ككل. وكان الهدف من ذلك الإشارة إلى أن دراسة العلاقات بين البلاد العربية والعالم العثماني اتَّسمت بالحيوية، وتأثَّرت بالجغرافيا السياسية، وهيكل السُّلْطة والاقتصاد وغيرها، ولم تكن علاقة ثابتة بين قوة مُهيمِنة وولاية تابعة.

ومن هذا المُنطلَق، يمكن القول بتواجد مراكز مختلفة مُتعدِّدة لها قدراتها على الحركة داخل الأقاليم المختلفة التي كوَّنت الإمبراطورية العثمانية. فعلى سبيل المثال؛ ازدهرت فنون البلاط في إسطنبول بفضل ما نالته من رعاية السلاطين، وتمويل من جانِب الطبقة الحاكمة الثَّرِية، وتَمثَّلت تلك الفنون في المخطوطات البديعة ذات المستوى الفني الرفيع، وصناعة الحُلي، والمنسوجات الفاخرة وغيرها. كما أنَّ تطوُّر الكتابة العامية بما في ذلك قواميس العامية في القرن السابع عشر اتَّسم بالحيوية في القاهرة؛ ربما لأن مصر قديمة العهد بالكتابة، وأن الكتابة بالعامية تمتَد جذورها إلى القرون الأولى من العصر الإسلامي، وإن لم يَتَّسم تاريخها بالاستمرارية أو اتصال النهج.

ويَتَّصل بهذا اتصالًا وثيقًا؛ دراسة الاتجاهات العامة داخل الإمبراطورية العثمانية، حتى لو اختلفت تواريخ ظهورها في مختلف ولايات الإمبراطورية، أو اتخذت أشكالًا مختلفة للتعبير عنها. ومن الأمور المهمة بهذا الصدد؛ انتشار استخدام الورق الأوروبي الرخيص الثَّمن، وهو اتجاه شاع في ولايات دون أخرى، فبلغ ذلك الورق مناطق معينة قبل غيرها، وكان لانتشار استخدامه نتائج مختلفة تعتمد على عديد من المتغَيِّرات.

figure
نموذج من الكتابات المزخرفة المصنوعة في إسطنبول للبلاط السلطاني في أوائل القرن السابع عشر.

واستخدام هذا المنطق يفيد المؤرِّخِين من ناحيتين؛ أولاهما: أنه يتجنب استخدام مقولة المركز والأطراف التي أصبحت بالية الآن؛ لافتراضها أن نشاط الحركة في المركز يتبعه سكون في الأطراف، ولأنها تُعامِل الأطراف باعتبارها خاضعة لهيمنة قُوًى خارجية، ولتجاهلها حركة القوى المحلية، وخصوصيتها الثقافية والتاريخية. غير أن هذا النموذج لازال ماثلًا في بعض الدراسات التاريخية التي كتبها مؤرخون تَناوَلوا ظاهرة عثمانية أو أخرى عند دراستهم للأناضول، وقد تكون هذه الدراسات مَعْنِيَّة بفصل الخطاب، ولكنها استخدمت ما يشير إلى تَركُّز الحركة في المركز. فإذا حاولنا فَهْم تاريخ الثقافة بحواضر الولايات، مثل: القاهرة، أو حلب، أو دمشق على ضوء ما كان يجري في إسطنبول بالمقارَنة الصريحة أو الضمنية؛ نعود بِخُفَّي حُنَيْن. فالحق أن افتراض أن ولاية كمصر، أو مدينة كالقاهرة، أو غيرها، كانت نسخًا رديئة من الأصل (الدولة العثمانية) ولم تكن لها ثقافتها الخاصة وقدرتها على الحركة الذاتية، هو ضَرْب من ضروب الضلال.

ومن ناحية أخرى … تساعِد فكرة تَعدُّد المراكز المؤرِّخِين على تجاوُز حدود التاريخ الوطني، وحدود الوطن ذاته؛ لفهم الاتجاهات المختلفة على نطاق إقليمي واسع، والأعداد الكبيرة من المؤلَّفات الضخمة عن التاريخ العثماني، التي تم إنجازها تُتِيح لنا إمكانية القيام بذلك. من بينها — على سبيل المثال — دراسات حول معرفة الكتابة والقراءة … حول القراءة والكُتب، وكلها تذهب إلى وجود اتجاهات تجاوزَت حدود أوطانها.

لذلك نحتاج أن نَضع نُصْب أعيننا الظواهر الموازية المشترَكة، طالما كانت الاتجاهات الثقافية موضِع اهتمامنا، ولا نغفل — في الوقت نفسه — العوامل المحلية التي قد يكون لها تأثير مهم على المشهد القائم.

وثمة منظور أوسع يتصل بدراسة التاريخ الثقافي. فقد بَيَّنت هذه الدراسة أن المصطلَحات والتصنيفات التي غالبًا ما يستخدمها مُؤرِّخو الثقافة تفتقر إلى الدقة (الثقافة الشعبية، والثقافة العليا)، سواء فيما يتصل بالشرق الأوسط أو أوروبا في باكورة العصر الحديث. فالدراسات الثقافية التي كتبها معظم الباحثين تُقسِّم الثقافة إلى طبقتين: ثقافة عليا، وثقافة شعبية سواء في الشرق الأوسط أو أوروبا. وقدَّم عدد من مؤرِّخي الثقافة البارزِين؛ مثل: بيتر بيرك، وروبرت دارنتون تنويعات لهذا التقسيم. وعلى سبيل المثال؛ ذهب بيتر بيرك في كتابه الشهير «الثقافة الشعبية في مطلع أوروبا الحديثة» إلى القول بأن المجتمع به ما أسماه «تقاليد عظيمة»، عندما يشير إلى ثقافة المعرفة والمؤسَّسة التعليمية، وأن للمجتمع «تقاليد محدودة» عندما يتناول الثقافة غير الرسمية، ومَن ليسوا من النخبة، وهو جانِب من الثقافة شاركَت فيه النخبة أيضًا. وتَضمَّنَت «التقاليد المحدودة» ثقافة الفلاحِين، والحرَفيِّين والتُّجَّار. وتَكوَّن المجتمع من أقلِّيَّة تقرأ وتَكتُب، وأغلبية أُمِّية، وقد استخدم هذا التقسيم الثنائي الطبقي العديد غيره من مُؤرِّخِي الثقافة.١٢ فقد اتبع روبرت دارنتون هذا التعريف الثنائي، فالقطاع الأعلى عنده يتناول الأمور العقلية، والفكر الرسمي، والفلسفة. أما القطاع الأدنى فيتضمن طريقة فَهْم عامَّة الناس للعالَم، لا من خلال فروض منطقية، ولكن من خلال أشياء أتاحتها لهم ثقافتهم مثل الحكايات والاحتفالات.١٣
ولا نجد في عمل بيرك، أو دارنتون ثقافة مُعيَّنة تقع بين ثقافة الفكر الرسمي والفلسفة، وثقافة عامة الناس، أو ثقافة للطبقة الوسطى مُحدَّدة تحديدًا واضحًا؛ ولذلك لم يترك أي منهما مكانًا بين الثقافة العليا للأغنياء والمتعلِّمِين، والثقافة الشعبية للجماهير. وتم إدماج ثقافة الطبقة الوسطى الحضَرَية في «الثقافة الشعبية» وهذه كانت بالضرورة ثقافة شفاهية. وغالبًا كان هذا الإدماج يرتبط بالأُمِّية، وفُهِمَت الثقافة الشفاهية على أنها ثقافة من لا يَقرءون ولا يَكتبون؛ وهم يُحسنون التعبير عن ثقافتهم من خلال عديد من الاحتفالات والمهرجانات الجماعية، الدينية والعلمانية، مُعبِّرة أحيانًا، ساخرة أحيانًا أخرى، ولكنها حَظِيت بالتسامح١٤ (من جانب الطبقة العليا).

ويمكن تفسير سيادة هذا النموذج — من ناحية — في سياق فكرة «التحديث» التي كان لها تأثيرها على الدراسات التاريخية لوقت طويل، والتي لم تعترف بوجود طبقة وسطى حَضَرية متعلِّمة أو حتى طبقة وسطى حَضَرية قبل نهاية القرن الثامن عشر والتاسع عشر. وهي تَتَّخذ منهجًا وَضعيًّا يَعتَبر أن كل ما حدث قبل «التحديث» الذي يرتبط في أوربا بالثورة الصناعية والثورة الفرنسية، وفي مصر بالحملة الفرنسية (١٧٩٨–١٨٠١م) وحكم محمد علي (١٨٠٥–١٨٤٨م) هو «تقليدي»، وتضع خطًّا فاصلًا بين ما قبل «التحديث» وما بعده.

ومن ناحية أخرى، شَغَلت أطروحة ثنائية (النخبة – الجماهير) الدراسات التاريخية ردحًا طويلًا من الزمان، سواء في مجالات التاريخ الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، والنظر إلى المجتمع باعتباره مُقسَّمًا بين حُكام ومحكومِين، ولا يوجد بينهما فئة أخرى.

وتَكوَّنت مؤسَّسة الحكم من الحُكام السياسيِّين تُسانِدهم ثقافة البلاط، وإلى جانِبها المؤسَّسة الدينية – القضائية تُسانِدها ثقافة دينية أو أكاديمية، وارتبط سكان الحَضَر الذين لا صلة لهم بأي من المؤسَّستَين بالثقافة الشعبية، ويُنظَر إلى هذا الطرح — أحيانًا — على أنه نموذج «الاستبداد الشرقي» على أساس أن الحركة كانت قاصرة على القمة وحدها، وما عداها جماهير سَلبيَّة لا تَكتَرِث لشيء.

ورغم أن نموذج الطبَقَتين له وجود قوي، فقد حَدثت بعض التغيُّرات في إطار هذا النموذج، وظهر في الوقت الحالي اتجاه للانتقال من المستوَيات العليا للثقافة والإنتاج الثقافي إلى المستوَيات الدنيا والثقافة الشعبية. وعلى سبيل المثال؛ تتحرك دراسات الثقافة الأوروبية من ثقافة عظماء الرجال؛ مثل فلاسفة القرن الثامن عشر في عصر التنوير الفرنسي، وتجاوَزَت حدود المعرفة والعلم في المؤسَّسات الأكاديمية. وتَتَّجه هذه الدراسات إلى استكشاف القوى الاجتماعية الأخرى وعلاقتها بالقراءة والكتابة والمعرفة والكُتب، وأنماط انتقال المعرفة غير تلك التي تتم من خلال المؤسَّسة الرسمية.

ويذهب بيتر بيرك في كتابه الأخير «التاريخ الاجتماعي للمعرفة» إلى القول بأن عصر النهضة والثورة العلمية والتنوير لم تكن أكثر من سطح مَرئِيٍّ يُخفي تحته أنواعًا مُعيَّنة من المعرفة الشعبية والعملية، التي أضْفَت عليها المؤسَّسة الأكاديمية صفة الشرعية.١٥ ويتزايد الاتجاه إلى دراسة التنوير الأوروبي في إطار الصورة الكلية أكثر من دراسته من خلال العلماء والفلاسفة عند القمة الذين طَغَت أسماؤهم على الدراسات الخاصة بتاريخ الثقافة ردحًا طويلًا من الزمان. وعلى سبيل المثال؛ تهتم الكتابات التاريخية الفرنسية اهتمامًا كبيرًا بانتشار القراءة والكتابة، ومَغزى معرفتهما عند القُوى الاجتماعية المختلِفة، والطريقة التي اتَّبَعوها في التعامل مع الكلمة المكتوبة، أكثر من التركيز على أعمال عظماء الرجال.

وهناك تَطوُّر مُشابِه آخِذٌ بالتشكُّل على صعيد الدراسات الخاصة بالتاريخ العثماني، فبَعْد عقود من الاهتمام بثقافة البلاط وثقافة المؤسَّسة الدينية، شَقَّت ثقافة العامَّة طريقها في حقل الدراسات الأكاديمية. وعلى سبيل المثال؛ يولي كتاب ثُرَيَّا فاروقي الأخير «الرعايا والسلطان، الثقافة والحياة اليومية في الإمبراطورية العثمانية» اهتمامًا كبيرًا لسكان المدن، وثقافة الحياة اليومية، والطريقة التي فَهِموا بها العالَم مِن حَولِهم.

وعلى صعيد المنهج، كُلَّما مَضيْنا قُدمًا في الدراسة؛ أصبح واضحًا أن عددًا من الاتجاهات المهمة التي رصدْنَاها في القاهرة؛ كانت مُتواجِدة في البلاد الأوروبية والعثمانية، والمقارَنة بها تُدعِّم ما ذهَبْنا إليه من آراء. وتم استخدام الدراسات التي أُجْرِيت في مناطق أخرى مثل الشام، والأناضول في الدولة العثمانية، وفرنسا، وإيطاليا، للمُقارَنة ولتأكيد مَغزى هذه الاتجاهات باعتبارها ظواهر إقليمية. وقدَّم عديد من الكتب الخاصة بالتاريخ الثقافي لأوروبا وإقليم البحر المتوسط إطارًا مُقارنًا يساعد على فهم حقيقة ما جرى من أمور. وهكذا، لا يمكن فَهْم بعض التطورات التاريخية إلا إذا أخَذْنا في اعتبارنا أقاليم جغرافية أوسع مَدًى. وفي بعض القضايا كان من المناسب تَناوُل بلاد شمال المتوسط، وفي قضايا أخرى كانت بلاد الدولة العثمانية أنسب من حيث التناول.

لقد كانت بعض العوامل الاقتصادية التي ساعدت على صياغة تلك الثقافة ذات تأثير على نطاق جغرافي واسع، ومن ثَم فإن دراستنا لهذه الظاهرة تُساعِدنا على تَبيُّن أرضية مُشترَكة بين الشمال والجنوب من البحر المتوسط؛ فالرأسمالية التجارية التي ساعدت على تشكيل ثقافة الطبقة الوسطى بالقاهرة كانت مَصدرًا لكثير من مَظاهِر ثقافة الجماعات الحَضَرية في البندقية (فينسيا) على سبيل المثال. وعلى النَّهْج نفسه تفترض وجود أرضية مُشترَكة مع ولايات الدولة العثمانية التي شهدت ظروفًا مماثلة وهكذا، بدلًا من البحث عن ثقافة «عثمانية» في أقاليم وبين قُوًى اجتماعية لا وجود لها، نستطيع أن ننظر إلى نتائج نمط اقتصادي مُشترَك، ونمط ثقافي مُشترَك في بعض المناطق الحضرية في الإمبراطورية العثمانية التي شهدت ظروفًا مُتناظِرة.

المصادر

لقد بدَأْنا تحليل ثقافة الطبقة الوسطى — أولًا — من خلال دراسة عملية إمبريقية، فهناك جهد بُذل لاكتشاف وتحليل عدد من الأعمال الأدبية والعلمية، كَتَبها مؤلِّفون من خارج دائرة الشُّهرة، تم تمحيص سياقها، ومن الملفت للنظر أنها جاءت نتاجًا لثقافة المجالس الأدبية، ويرتبط بها وجود نظام للمكتبات الخاصة التي تَعرَّفنا عليها من خلال سجلات التَّرِكات. كما بَحثْنا في تجارة الورق باعتبارها تُلقِي الضوء على نشاط حركة تأليف الكُتب والكتابة في الفترة موضوع الدراسة.

وتم استخدام عدد من المصادر المختلِفة نوعًا في استقاء مادة الدراسة؛ مثل سجلات المحاكم الشرعية، وحُجَج الوقف المعروفة للمؤرِّخِين، والمصادر التي تَضمَّنَت التراجم والسِّيَر مثل الجَبرْتي والمُحِبِّي، وكذلك عديد من الكتب الثانوية التي بُني عليها هذا البحث، والتي تَتناوَل أطرافًا من الموضوع، إضافة إلى المصادر التي تُعَد أقل شهرة، ولكنها تَحتلُّ جانبًا هامًّا من هذه الدراسة؛ مثل كتاب محمد حسن أبو ذاكر.

ولا غنى عن سجلات المحاكم الشرعية لِفَهم الأحوال المادية للطبقة الوسطى، فهي لا تُزوِّدنا ببحر زاخر من المعلومات عن الأعمال التجارية والحِرَفية ومصادر تمويلها فحَسْب، بل تُتِيح لنا إمعان النظر في البيوت التي سكنوها هم وعائلاتهم. وتضع بين أيدينا — أيضًا — مختلف أنواع المعاملات التي قاموا بها عند بيع بضائعهم أو ما اتصل بممتَلَكاتهم، والمنازَعات التي قامت بين الجيران وأفراد الطوائف، وعقود الزواج، وتَعْيِين الأوصِيَاء على القُصَّر، إضافة إلى الكَم الهائل من القضايا التي تحفل بها سجلات القضاء. والقراءة الدقيقة لهذه السجلَّات تُتيح لنا الوقوف على أبعاد العلاقات بين الطبقة الوسطى والنُّخْبة الحاكمة والمؤسَّسة الدينية، كما تُطلِعنا تلك السِّجلَّات على أحوالهم الاقتصادية، من خلال تَرِكات المتوَفَّين في فترة زمنية مُعيَّنة مثلًا.

وتحظى القاهرة بمجموعة غَنية من تلك السِّجلَّات، تُغطِّي الفترة من مطلع القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر، تَتخلَّلها بعض سنوات انقطاع محدودة. وهناك أيضًا سِجلَّات غَنيَّة للمحاكم الشرعية في الإسكندرية، ورشيد، ودمياط، والتي يعمل عليها الآن فريق من الباحِثِين الشباب. ويُيسِّر ذلك سبيل التَّمكُّن من رسم صورة دقيقة للطبقة الوسطى في مَدًى زمني محدَّد، مع تَتبُّع تَطوُّرها على نطاق زمني أوسع مدًى. وكان العمل الريادي الذي قام به أندريه ريمون في هذا الميدان مثالًا احتذاه عديد من الباحِثِين في هذا المجال من مجالات الدراسة. وكان عمَلُه القَيِّم حَجَر الزاوية لكثير من البحوث التي من بينها هذا الكتاب.

والدراسات التي تُعْنَى بتاريخ مصر الاجتماعي استنادًا إلى مصادر إسطنبول، التي تُمثِّل وثائق الدولة في معظمها، وهي دراسات كُتِبَت لخدمة غرَض مُعيَّن واضح تمامًا، تُقدِّم صورة ناقصة أو مُشوَّهة للمجتمَع المصري في ذلك العصر. ولا ريب أن أرشيف الدولة على درجة كبيرة من الأهمية لإلقاء الضوء على العلاقة بين العاصمة والولايات التابعة لها، وهي لازمة لدراسة الولايات التي لم يَكُن لها أرشيف خاصٌّ بها قبل القرن التاسع عشر (كتونس مثلًا). ولكن وثائق الدولة في إسطنبول لا تكفي وحْدَها لدراسة المجتمَع في حلب أو دمشق أو القاهرة؛ لأنها تُركِّز على الإدارة وممثِّلِيها والأوامر الصادرة عنها، فالتركيز على الوثائق السياسية قد يَحُول دُون فَهْم حركة المجتمَع. وقد أدَّت دراسة التاريخ من أعلى، والنظر إلى الولايات من خلال العاصمة إلى تهميش مجتمَعات الولايات.

وعلى أحسن الفروض، تصعب دراسة حركة المجتمع في الولايات من بعيد، من خلال رؤية السُّلْطة التي تَتولَّى إصدار الأوامر. ومن أسوأ الفروض أن تقودنا دراسة الولايات من خلال مِنظار العاصمة إلى ما يُناظِر التاريخ الاستعماري في القرن الماضي؛ حيث قُدِّمَ التاريخ من زاوية الحكام أو عظماء الرجال. وفي كل الأحوال لن يتجاوز هذا المنهج حدود الشرائح العليا، وتظل قاعدة المنهج — عنده — سرابًا.

لقد كانت كُتب الحولِيَّات والسِّيَر تُشكِّل الأساس الذي قامت عليه دراسات كثيرة تَناوَلت العلم والتعليم؛ مثل: تَراجِم العلماء، وأساتذتهم، ومؤلَّفاتهم، وتلاميذهم. وقَدَّمت تلك الكتب لأجيال من الباحِثين مادَّتَهم الأساسية، وأتاحت لهم فرصة فَهْم مؤسَّسات التعليم والمرتبِطِين بها. وهناك وَفرة من التراجم والسِّيَر في التاريخ الإسلامي. ويمكن — إلى حد ما — أن يَعتمد اتجاه دراسة العلماء الكبار على هذه المصادر المتاحة (وخاصة ما تم نَشْره منها) بالطريقة التي يتم بها استخدامها.

ولكن لهذه المصادر أوجه القصور الخاصة بها، ففي المقام الأول، تُركِّز كُتب التراجم والسِّيَر على بعض المعلومات على حساب غيرها، وخاصة المعلومات المناسِبة لإبراز الصورة العامة لصاحب الترجمة، وشيوخه، وتلاميذه، وثقافته، ومؤلَّفاته. وعلى سبيل المثال تُزوِّدنا التراجم الواردة بالمُحبِّي والجَبَرْتي بأبعاد لشخصية العلماء تُمثِّل أبرز ما استقر عنهم في أذهان مُعاصرِيهم؛ ولذلك تعطي تلك التراجم — أحيانًا — انطباعًا خاطئًا عن وجود تَجانُس بين العلماء. وقد تَورَّط بعض المؤرِّخِين المُحدَثِين في المبالغة في تأكيد هذا المستوى النمطي بين خِرِّيجي المؤسَّسات التعليمية. ولا شك أن العلماء كانوا حَريصِين على تأكيد الصورة الشائعة عنهم وعن مؤسَّساتهم التعليمية، وكانت لديهم الوسائل التي تعينهم على ذلك. فمن يَكتُب سِيَر حياتهم يأتي — عادة — من بين صفوف العلماء أنفسهم كالجَبَرْتي في القاهرة والمُحِبِّي في دمشق.

وعندما ننظر إلى المدارس — كما رآها علماؤها لا كما نراها نحن من الداخل — وهي الزاوية التي تُتِيحها لنا — عادة — قراءة سِيَر العلماء، ولكن هذه النظرة تختلف عند من لا يَنتَمون إلى العلماء والمؤسَّسة التعليمية، فَهُم يُقدِّمون رؤيتهم من زاوية أخرى.

وفي المقام الثاني عندما نَدْرُس التعليم، أو تعليم أولئك الذين يقعون خارج دائرة الشُّهرة من مُتوسِّطِي العلماء، والمتعلِّمِين الذين لا ينتمون إلى المؤسَّسة التعليمية أو يرتبطون بها، تُصبِح كُتب التراجم والسِّيَر قليلة المنفعة؛ فحَوْلِيَّات الجَبَرْتي، أو الدِّمِرْدَاشي، أو أحمد شلبي، أو تَراجِم المُحِبِّي؛ تَتَّجِه إلى التركيز على المشاهير وأصحاب النفوذ والحوادث الهامة. أما عامة الناس، فقد أُسقطوا من الاعتبار، ولم يُوضَعوا في الحُسْبان في الأغلب الأعم؛ ولذلك لا بد من استخدام مصادر أخرى لدراسة ثقافة الطبقة الوسطى.

ولدينا مَصْدران مُهمَّان للمعلومات الخاصة بثقافة الكتب: المكتبات الخاصة التي خلَّفَها المتوَفَّون، وظهرت بين ما حُصِر من تَرِكاتهم في سِجلَّات المحاكم الشرعية، وكتالوجات المخطوطات العربية. وتحتوي سِجلَّات مَحْكمَتَي القسمة العربية والقسمة العسكرية على قوائم التَّرِكات. وقد استخدَمْنا سِجلَّات المحكمتين بطريق العَيِّنة لفترات كل منها عشر سنوات؛ لنحصر التَّرِكات التي تَضمَّنَت مكتبات خاصة، ونقف على مدى انتشار اقتناء الكُتب. وكان الهدف — تحديدًا — أولئك الذين أقْبَلوا على اقتناء الكتب، والوقوف على مدى انتشار ثقافة الكتب بين مختلف القُوى الاجتماعية التي لا تربطها رابطة بالمؤسَّسات الدينية أو التعليمية.

وتتَضَمَّن كتالوجات المخطوطات العربية المُودَعة بالمكتبات في مصر وأوروبا، المخطوطات التي كُتبت في الفترة موضوع الدراسة. وقد استخدَمْنا هذه المخطوطات؛ لنقف على حجم الكتب التي تم إنتاجها في هذه الفترة، مع التمييز بين ما كان مُؤلَّفًا أو منسوخًا، وكذلك نوع المؤلَّفات الأكثر شيوعًا. وهذه الكتالوجات يُمكِن استخدامها كمصدر لإبراز عدة نقاط: ملاحظة عدد النُّسَخ التي تم إنتاجها من مؤلَّف مُعيَّن في زمن مُعيَّن للدلالة على مدى انتشار أعمال بعينها نتيجة الإقبال عليها. كما أن زيادة عَدد النُّسخ التي تم إنتاجها من مؤلَّف مُعيَّن تدل على تزايد الطلب عليه، وحقيقة أن عددًا لا يُحْصَى من المخطوطات الخاصة بمؤلَّفات تَمَّتْ في فترات مختلفة سابقة قد تم نَسخُها في القرن الثامن عشر؛ يعطى دلالات مهمة عن النشاط الثقافي ومَدى حيويته في تلك الفترة.

وهناك عدد من النصوص الأدبية التي كُتِبت في الفترة موضوع الدراسة، وهي ذات مَغْزًى من حيث أعدادها، وتَنوُّع موضوعاتها وأجناسها الأدبية. ويُلاحَظ أن المصادر الأدبية في العصر العثماني لقيت إهمالًا تامًّا، فمعظمها لازال مخطوطًا ومُتفرِّقًا بين مجموعات المخطوطات العربية في المكتبات الكبرى، وقد كَتب بعضها مؤلِّفون معروفون، وكتب معظمها مؤلِّفون لا نعرف عنهم شيئًا. وبعض تلك الكتب وَرد ذِكْره في بعض كُتب التراجم والسِّيَر المعروفة كالجَبَرتي والمُحِبِّي، ولكن معظمها لا زال في حاجة إلى استكشاف. ورغم أهمية الكتاب الذي نشره سيد الكيلاني عام ١٩٦٥م عن الأدب العربي في العصر العثماني إلا أنه محدود، ولم تُنْشَر بعده أي دراسة مهمة في الموضوع، فقد اعتُبِرت الفترة بصفة عامة «مُهْمَلة أدبيًّا»،١٦ وبقي السواد الأعظم من الأعمال الأدبية في العصر العثماني مخطوطًا، وبعيدًا عن مُتناوَل أيدي الطلاب والباحِثِين.
غير أن استكشاف قيمة تلك النصوص الأدبية يقع على عاتق المؤرِّخِين المعنِيِّين بالتاريخ الاجتماعي. وغالبًا ما يكتفي الباحثون بإبراء ذِمَّتهم، فيعتبرون تلك الأعمال مجرد كتابات أدبية لا فائدة منها، ومن هؤلاء هيوارث دن الذي يجب أن يُنسَب إليه فَضْل لَفت الأنظار إلى الإنتاج الأدبي الخاص بالقرن الثامن عشر، وإن كان قد قَلَّل من جدوى دراسته، واصفًا إياه بأنه كان أدب أفراد «الطبقة العليا» الذين أرادوا أن «يُقرِّبوا إليهم شاعرًا أو اثنين من الشعراء المفضَّلِين لديهم، ويحفظون بعض الأبيات الشعرية والأمثال لاستخدامها في الحديث المتأنق.»١٧ وهكذا اعتُبِرت تلك الأعمال الأدبية فارغة المحتوى، تُركِّز على التلاعب بالكلمات وتخلو تمامًا من العمق.

ولا شك أن بعض الأعمال يَصْدُق عليه ذلك، ولكن النقد الحديث رَكَّز اهتمامه على الجانب السلبي في هذا الإنتاج الأدبي: السجع والأسلوب الزخرفي الأجوف. ولا شك أن بعض تلك الأعمال ينطبق عليها ذلك، ولكن غالبية الأعمال الأدبية في تلك الفترة لا يصدق عليها هذا الوصف، وعلينا أن نركز اهتمامنا على هذا الجانب من تلك الأعمال.

ومخطوطات الفترة الممتَدَّة من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر أكثر تنوعًا وتباينًا مما يُشاع عنها بين المشتغلين بالنقد الأدبي، ففيما يتصل بالأجناس الأدبية لدينا نصوص في السيرة الذاتية، وكُتُب في آداب السلوك، ومجموعات في الألغاز والحكايات، وكُتُب في النِّكات والطرائف، وغيرها من الكتب التي لا تُصنَّف ضمن الأجناس الأدبية، والتي يُشار إليها في بعض الكتالوجات على أنها كُتُب في «الأدب». وتُقدِّم هذه الأعمال جميعًا للمؤرِّخ مادة وفيرة عن الاتجاهات الاجتماعية والثقافية في ذلك العصر.

ولم يتم استكشاف الإنتاج الأدبي المتصل بدراسة ثقافة الطبقة الوسطى بالقدر الكافي، فيما عدا بعض الاستثناءات، ولا زال مُعظَمه مخطوطًا لم يُنشَر بعد. ولكنه يتضمن دلالات مهمة غالبًا ما تهملها كتب الحَوْليَّات والتراجم والسير، ومن ثَم يمكن استخدام هذه النصوص الأدبية مصدرًا للدراسة التاريخية؛ خاصَّة أنها تُلْقي الضوء على بعض الجوانب الثقافية التي لم يَسبِق دراستها من قَبْل.

واستخدام الأدب مَصدرًا لدراسة التاريخ ليس بِدعة؛ فقد بَرَز اتجاه في العقود الثلاثة الأخيرة لاستخدام النصوص الأدبية من بين مصادر دراسة التاريخ لما لها من قيمة كبيرة؛ لأنها تَضرِب بجذورها في أعماق السياق التاريخي، وأصبح هذا الاتجاه منتشرًا على نطاق واسع، فقد نشرت جامعة ريدنج بإنجلترا سلسلة أطلقت عليها اسم «باكورة الأدب الحديث في التاريخ»، وهي سلسلة تَخصَّصت في المَزْج بين الثقافة والأدب، ودراسة النص في سياقه التاريخي، ويقوم الباحثون بتحليل تلك النصوص لا لقيمتها الأدبية فَحَسْب؛ بل بحثًا عن موضوعات؛ مثل: العِرْق، والطبقة، والجنوسة، ومناقشة أوضاع المجموعات المقموعة أو المُهمَّشة. وبعبارة أخرى، تَستخدِم السلسلة النص الأدبي كمصدر للتحليل الاجتماعي.١٨

ويُعَد بيتر جران من بين الباحثِين القلائل الذين استَخدَموا النصوص الأدبية مَصدرًا لدراسة التاريخ الثقافي والاجتماعي، في كتابه «الجذور الإسلامية للرأسمالية في مصر ١٧٦٠–١٨٤٠م»، ولكن هذا المنهج لازال بعيدًا عن الاستخدام في دراسة تاريخ الشرق الأوسط.

وهذه الدراسة تضع في اعتبارها عددًا من النصوص الأدبية لفهم السياق الثقافي عامة، وكذلك وسائل التعبير التي استخدمتها طبقة اجتماعية مَعيَّنة. ومن خلال إمعان النظر في النصوص الأدبية في الفترة من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، نلاحظ ديمقراطية الثقافة من خلال اللغة والأسلوب اللذَيْن استُخدِما في كتابة تلك النصوص. ويدل انتشار استخدام العامية أو شبه العامية في تلك الأعمال الأدبية، على أن ثقافة القاعدة (الثقافة الدنيا) كانت تشق طريقها إلى الصعود من خلال الكلمة المكتوبة. أضِف إلى ذلك أن بعض تلك النصوص ركَّز على جماعات اجتماعية بعينها تضم أُناسًا عاديِّين وأحداثًا عاديَّة، وتَستخدِم نهجًا واقعيًّا يقوم على المراقَبة العملية الفعلية. وهذه المصادر الأدبية تدل على أن كُتُب السِّيَر والتراجم — رغم أهميتها — لا تعطينا صورة كاملة عن الماضي.

إن الإنتاج الأكاديمي الديني؛ كثيف العدد، كبير الحجم، وهو يبلغ من الاتساع حدًّا يتجاوز ما هو معلوم عنه، ورغم ذلك لم تَتمَّ فَهْرسَته وتصنيفه — فيما نعلم — كما لم يُدرَس بَعدُ من منظور تاريخي. ولكننا سوف نُركِّز — في هذه الدراسة — على الإنتاج غير الأكاديمي، بما في ذلك الكتابات الدينية التي لم تُكتَب للمدارس، ومعظمها لازال مخطوطًا لم تتم دراسته في مجال الأدب أو التاريخ باعتباره التعبير الثقافي في عصر مُعَيَّن؛ ولذلك يُعدُّ استخدامنا لها هنا خطوة أُولى على الطريق.

ونسعى لاستكشاف هذا الإنتاج الأدبي على مستويات عِدَّة، فبعض الإنتاج الأدبي مُوجَّه إلى قطاع عريض من القراء والمتلقِّين على عكس كُتُب العلوم الدينية التي تستهدف الطلاب والمدرِّسِين والقضاة وغيرهم. ومن ثَمَّ تلعب الأعمال الأدبية دور المرآة التي تعكس هموم المجتمع واهتماماته ووجهات نظر الناس، وتُعبِّر عن أذواق فئات اجتماعية – اقتصادية مُعيَّنة. ويَتنوَّع هذا الإنتاج الأدبي من حيث الأسلوب والمحتوى، ومن ثَمَّ يُمكِن النظر إليه باعتباره تعبيرًا عن تلك الجماعات، وهو ما لا نجده إلا في القليل من المصادر الأخرى.

ويشير مُؤرِّخو الأدب إلى أن هناك عديدًا من الأعمال التي يَعرِض فيها الكُتَّاب مهارتهم اللغوية، وقدرتهم على توظيف الكلمات والعبارات. وهناك — أيضًا — كثير من النصوص الأدبية في إطار تقليدي تستخدم أسلوبًا زخرفيًّا. ومن خلال دراستنا لكثير من ذلك الإنتاج الأدبي نستطيع أن نضَع أيدينا على اتجاهات تختلف عمَّا جاء بالدراسات المتعلِّقة بالقرون من السادس عشر إلى الثامن عشر، لها أهميتها حتى لو كان إنتاجها محدود الحجم لا يُمثِّل مجلَّدات ضخمة، فهي تَدلُّنا على وجود اتجاهات في الفكر والنَّهْج والأسلوب تحتاج إلى أن تُفهُّم في سياقها التاريخي، وهو ما تهتم به هذه الدراسة.

هوامش

(١) Ehud Toledano, State and Society in mid-nineteenth-century Egypt, (Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1900); Jane Hathaway, The Politics of households in Ottoman Egypt, The Rise of the Qazdaglis, (Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1997).
(٢) See the numerous references to their work in the bibliography.
(٣) Georg Lucaks, Class Consciousness, p. 56-57.
(٤) Ralf Dahrendorf, Class and Class Conflict in an Industrial Society, p. 5-6.
(٥) Muhammad Hakim, “Coptic Scribes and Political Arithmetic”.
(٦) Peter Gran, Beyond Eurocentrism, p. 3–6.
(٧) Jose Antonio Maravall, Culture of the Baroque, p. 8-9.
(٨) Nelly Hanna, Making Big Money in 1600: The Life and Times of Isma'il Abu Taqiyya, Egyptian Merchant, (Syracuse Univ. Press, 1998); Fernand Braudel, The Mediterranean and the Mediterranean World in the Age of Philip II, translated by Sian Reynolds, 2 volumes, (New York: Harper Colophon, 1972).
(٩) Ariel Salzmann, “Towards a Comparative History of the Ottoman Empire, 1450–1850,” Archiv Orientalni 66, supplement VIII, pp. 351–366; Daniel Goffman, The Ottoman Empire and Early Modern Europe, (New York: Cambridge Univ. Press, 2002).
(١٠) Joseph Fletcher, “Integrative History: Parallels and Interconnections in the Early Modern Period, 1500–1800," Journal of Turkish Studies, vol. 9, 1985, pp. 37–40.
(١١) Peter Gran, Beyond Eurocentrism, A New View of Modern World History, (Syracuse, Suracuse Univ. Press, 1996), p. 3.
(١٢) Peter Burke, Popular Culture in Early Modern Europe, pp. 23, 28.
(١٣) Robert Darnton, The Great Cat Massacre, pp. 3-4.
(١٤) Robert Muchembled, Culture Populaire et Culture des Elites, pp. 182-183.
(١٥) Peter Burke, A Social History of Knowledge, pp. 14-15.
(١٦) J. Brugman, An Introduction to the History of Modern Arabic Literature in Egypt, Brill, Leiden, 1984, p. 3.
(١٧) J. Heyworth-Dunne, An Introduction to the History of Education in Modern Egypt, p. 13.
(١٨) Jonathan Dollimore and Aln Sinfield, eds. Political Shakespeare, New Essays in Cultural Shakespeare, Cornell University Press, Ithica 1985; Cedric C. Brown and Arthur F. Marotti, Texts and Cultural Change in Early Modern England, Macmillan Press Ltd., London, 1997.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤