الفصل الأول

المجتمع والاقتصاد والثقافة

ضَربَت ثقافة الطبقة الوسطى بجذورها في واقع مادي مُعيَّن، ساعد على نُموِّها وتطوُّرها، أعطى لأفرادها نصيبًا من موارد البلاد، وأتاح لها مساحة مُعيَّنة تنمو فيها. ودراسة الظروف المادية تَتضَّمن الوقوف على العوامل التي سَمحَت للطبقة الوسطى بتحقيق ما حقَّقَته من أرباح، والنجاح في الحفاظ عليها في ظِل وجودهم خارج إطار هياكل السُّلْطة، ويعني ذلك وجود توازن مُعقَّد بين حصولهم على المغانم المالية اعتمادًا على عوامل مُتنوِّعة محلية وإقليمية، وبين مصالح طبقة جُباة الضرائب الذين كان باستطاعتهم تحجيم مكاسب الطبقة الوسطى. وبعبارة أخرى؛ لَقِيَت هذه الثقافة دعمًا في إطار اقتصادي مُعيَّن بواسطة القدرات الحركية للطبقة التي ليست واضحة لنا تمامًا، وخاصة في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

وهناك عاملان يحظيان بأهمية خاصة؛ فعلى المستوى الإقليمي، كان انتشار الرأسمالية التجارية والطريقة التي عَمِلَت بها، وعلى المستوى المحلي، كان هناك النظام الضريبي، والعلاقات مع هيكل السُّلْطة التي لم تُتِحْ للطبقة الوسطى فرصة كَسْب المنافع والمحافظة على ما حقَّقَته منها، كما لم تعمل — في الوقت نفسه — على وضع القيود التي تَحرِمها من تحقيق ذلك. فقد كان باستطاعة السُّلْطة المركزية القوية — مثلًا — أن تضع من الضوابط ما يُمكِّنها من استخدام النظام الضريبي للحَدِّ من تَزايُد ثروات الأعيان المحلِّيِين. وكان النشاط الإنتاجي وتجارة البضائع المحلية والانخفاض النِّسبي في مُعدَّل الضرائب من بين العوامل الرئيسية التي سمحت لأولئك الذين لم يكن لهم مَوقِع في هيكل السُّلْطة أن يُحقِّقوا قدْرًا من الثراء والوجاهة الاجتماعية، وخاصَّة في أوائل الفترة موضوع الدراسة، ونَتج عن ذلك اتِّساع نطاق التعبير الثقافي.

ويُمكِن فَهْم الإطار والاتجاه التي تَشكَّلت عن طريقة ثقافة الطبقة الوسطى الحَضَرية في سياق الاقتصاد الحَضَري الذي كانت جزءًا منه. ففي مُعظَم فترة الدراسة، كانت الطبقة الوسطى تعيش عِيشة تَرقَى على حَد الكفاف؛ فحقَّقَت قدْرًا من المتعة، وراحت تُنفِق على الكماليات، مما يعني تحقيقها لقَدْر من الثراء. ويمكن القول إن هذا الوضع قد تَحقَّق — في المقام الأول — في إطار الرأسمالية التجارية التي جَلَبت المنافع الاقتصادية لتلك الطبقة، وفي المقام الثاني في إطار علاقاتهم بالطبقة الحاكمة — التي تحكمت في النظام الضريبي — والتي كان باستطاعتها استخدامه بصورة متوازِنة، أو تحويله إلى أداة لاستغلال طبقة المموِّلِين.

وقد تغيرت الأحوال المتَّصِلة بالضرائب والإنتاج، والتجارة في تواريخ مختلِفة. فمن خلال عملية وئيدة؛ خَفَّت قبضة هيكل السُّلْطة المركزية للدولة العثمانية لصالح الحكام العسكريِّين المحلِّيِّين الذين تزايدت سيطرتهم على الموارد. وكانت تلك الجماعات العسكرية — في بداية الأمر — تَفتقر إلى التنظيم، مُنشغِلة بالصراع مع بعضها البعض من أَجْل السيطرة على الموارد. وحوالي منتصف القرن الثامن عشر، تَخلَّصت القُوى العسكرية المحلِّية من عيوبها التنظيمية، وتحوَّلت إلى سُلطة مركزية ذات هياكل مُنظَّمة في البيوت المملوكية التي تَحوَّل رؤساؤها إلى حكام فِعليِّين للبلاد، والتحمت النخبة الدينية والتعليمية بالبيوت المملوكية الصاعدة، ومن ثَمَّ دَعَّموا وضعهم في المجتمع، وزادت فرص جَنْيِهم للمكاسب الشخصية.

ولم تعمل التغيُّرات الاقتصادية في أواخر القرن الثامن عشر لصالح الطبقة الوسطى، فقد أوجَدَت الطبقة الحاكمة أساليب جديدة للسيطرة على الأنشطة الاقتصادية بدافع المكاسب الكبيرة التي جَنَوْها من استيراد المنسوجات الأوروبية، ومن التوسُّع في الاستغلال الضريبي، مما أَدَّى إلى وقوع كثيرِين من سكان الحَضَر في وَهْدة الفقر. وتَقَلص المجال الثقافي للطبقة الوسطى الحَضَرية، وتحدَّدت حَرَكتها، بعدما كانت — على نحو ما سنرى في الفصول التالية — مُزدهِرة، ذات مكانة اجتماعية ووَضْع شرعي مُعترَف به.

ومن العوامل المهِمَّة في نُمو ثقافة الطبقة الوسطى الحَضَرية، ما حقَّقَته من مكاسب من وراء الرأسمالية التجارية، أو — تحديدًا — من خلال طريقة استخدامها لها. ومن الملاحَظ أن ثقافة الطبقة الوسطى تَحظَى بالبروز والتطوُّر، وتُحقِّق مستوًى من الشرعية، وتحتَل لنفسها مكانًا مرموقًا في المجتمَع، عندما تكون ظروف الرأسمالية التجارية مُواتِية لإنتاج ثروة حَضَرية، وعندما تسمح الظروف بامتداد الثروة إلى مَن هم دون طائفة التُّجَّار من المنتِجِين (الحِرَفِيِّين) والباعة. وفي نهاية فترة الدراسة، وحول منتصف القرن الثامن عشر، كان للمؤثِّرات السلبية على الاقتصاد انعكاسها على ثقافة الطبقة الوسطى — عندما جَرَت الرياح بما لا تشتهي السفن — فأثَّرَت سلبيًّا على القُدرات الحَرَكية لتلك الثقافة.

الاقتصاد بين الزمان والمكان

تَتَّخِذ هذه الدراسة من التحوُّلات الكبرى في أنماط التجارة الدولية التي نَجمَت عن اتِّساع نطاقها، وتَشعُّب شبكاتها خلال القرن السادس عشر، نقطة انطلاق لها؛ فقد فُتِحَت طُرق تجارية جديدة عَبْر المحيط الأطلنطي ووراء المحيط الهندي بما وفَّرَت من إمكانات تجارية هائلة حَوَّلها الهولنديون ومِن بَعْدهم الإنجليز لمصلحتهم.١ وثمة نظرية سائدة في التاريخ الاقتصادي تذهب إلى أن ما أصاب التجارة من تَوسُّع، وما جَلبَته من مكاسب تَدفَّقت عَبْر قنوات المراكز التجارية الأوروبية إلى البندقية ثم أنتورب، أدَّتْ إلى تَدهْور التجارة في جنوب إقليم البحر المتوسط. وبذلك قَدَّمَت هذه النظرية صورة نقية للحركة النمطية من الجنوب إلى الشمال. غير أن الحقيقة أكثر تعقيدًا؛ فقد كان هناك قدر من الخسارة أصاب التجارة المحلية نتيجة غزو الأوروبيين لآسيا واستقرارهم بها، فعلى سبيل المثال، كان تجار القاهرة قد احتكروا — عمليًّا — تجارة التوابل في العصر المملوكي، وقد فقدوا هذا الاحتكار، ولكن لا نستطيع أن نستنتج من هذا أن الإقليم كله قد تدهور، دون أن نقع في شَرَك المغالاة.
ورغم أن التاريخ الاقتصادي لشرقي المتوسط لم يُكتَب بَعد، تشير الأعمال التي تم إنتاجها إلى أن ليس ثمة سبب يدعونا للاعتقاد بأن التطورات التي شهدها الإقليم كانت واحدة ومتجانسة، وأن التحولات التي شهدها الأناضول وقَعت بالضرورة في مصر، وأنه عندما تَحدُث تغيرات متوازية هنا وهناك فإن ذلك يَعُم الإقليم كله. وعلى سبيل المثال، ذهب بعض الباحثين إلى أن اقتصاد بعض مناطق الأناضول اندمج بالرأسمالية الأوروبية في وقت مبكر، يعود إلى القرن السادس عشر، وأن عملية الاندماج استمرت على مَرِّ القرنين السابع عشر والثامن عشر.٢ فقد اتجهت صادرات المواد الأولية كالحرير الخام، والقطن من الأناضول إلى أوروبا، بينما لم يَعُد نَسْج الحرير والمنتَجات الصوفية مربحًا في مدينة بورصة، أو على الأقل لم يَعُد مُدرًّا للربح على نحو ما كانت عليه الحال من قَبْل.٣ غير أن الدراسات الخاصة بمصر في الفترة نفسها تُقدِّم صورة مُغايرة؛ حيث أدت زيادة حجم التجارة الدولية إلى زيادة الطلب على سلع هامَّة مُعيَّنة تُنتَج محليًّا، وخاصة السكر والمنسوجات، كما ازداد الطلب على بضائع مُعيَّنة، مثل البن، كانت تجارتها تحت سيطرة تُجَّار القاهرة، ولم يستطع أي مؤرخ حتى الآن أن يضع يده على مؤشِّرات قيام اقتصاد طَرَفي (هامشي) في مصر في عام ١٦٠٠م أو حتى ١٧٠٠م.

ولم يَكتَشف المؤرِّخون بَعدُ أسباب اختلاف الإطار الزمني للأحداث في الأناضول والبلقان من ناحية، ومصر من ناحية أخرى. ولم تتضح بَعدُ الظروف التي دَفعت إلى انتشار الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي في الأناضول حوالي عام ١٦٠٠م، وأسباب تأخُّر ظهور تلك الظروف في مصر إلى ما بعد ١٧٠٠م، ونحو منتصف القرن الثامن عشر. ويتضح من ذلك أن التحقيب الزمني، الذي يمكن استخدامه عند دراسة إقليم ما لا يَنسحِب بالضرورة على غيره من الأقاليم الأخرى.

وهكذا، رغم وقوع خسائر مُعيَّنة نتيجة التحولات التي شهدها القرن السادس عشر، من ناحية، فإن اتساع نطاق التجارة، وزيادة الطلب على بعض البضائع، وفتح أسواق جديدة، عوامل جَلَبت معها — من ناحية أخرى — فرصًا جديدة للمكاسب التجارية. وكان التجار الأوروبيون يهتمون — أحيانًا — بإنتاج البضائع من أَجْل الشراء، ومن ثَمَّ أصبَحوا مستهلكِين على قَدْر بالغ من الأهمية. ولم يتطلب إنتاجهم الكبير أسواقًا جديدة لتسويقه إلا فيما بَعدُ، في القرن الثامن عشر.

ويبدو أن الأرباح التي تَحققت لم تَبلُغ المستويات التي كانت عليها قبل تُطوُّر تجارة المحيط الأطلنطي، غير أننا لا نستطيع إغفال أهمية حجم تلك الأرباح، وما ترتَّب عليها من آثار اقتصادية – اجتماعية. وخَلَّقت ظروف التجارة الدولية تلك — في فترة معينة — حافزًا لتوسيع النشاط الإنتاجي لعدد مُعيَّن من السِّلع، ولم تُحوِّل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد طَرَفِي تابِع.

كانت القاهرة مُلتقَى طُرق تجارية هامَّة، وانتفع تُجَّارها انتفاعًا هائلًا من وراء هذا النشاط التجاري، وتراكمت في أيديهم ثروات كبيرة، على نحو ما يَتَّضح من عَمَل أندريه ريمون. وكان ذلك يرجع — جزئيًّا — إلى هيكل السُّلْطة؛ فقد تَخلَّى العثمانيون بسرعة عن سياسة التدخُّل في التجارة الدولية والاحتكارات التجارية، التي مارسَتْها الدولة المملوكية طوال معظم القرن الخامس عشر، واستفاد من ذلك التُّجَّار — بالدرجة الأولى — فلم يَعُد عليهم أن يُشركوا الدولة في أرباحهم. ونَتَج عن ذلك زيادة فُرَص وصول جانب من تلك الأرباح إلى غيرهم من الفئات الاجتماعية الأخرى، ويعود حجم ما وصل من تلك الأرباح إلى المستويات الاجتماعية المتوسطة لعوامل مُتنوِّعة تَغيَّرت على مَرِّ الفترة، سوف نتعرض لها فيما بَعْد.

ولا تكاد تَنطبِق نظرية التاجر الجوَّال الذي يُتاجر فيما يَصِل إلى يديه من سلع، على المراكز التجارية الكبرى؛ مثل: القاهرة، أو حلب، أو إسطنبول، أو على تجار تلك المراكز الذين اتَّسعت أعمالهم التجارية، وهي النظرية التي قال بها فان لير Van Leur وزادها نيلز ستينسجارد Neils Steensgaard إيضاحًا.٤ وكانت الكثير من أحوال الرأسمالية التجارية التي عَرَضها المؤرِّخون في المدن الإيطالية والبندقية وجَنَوا — مثلًا — سائدة فِعلًا في القاهرة وحلب.
لقد انتفع تجار تلك المدن بالعديد من قنوات التمويل والآليات والمهارات الحِرَفية في تحقيق تَراكُم للثروات الفردية، فاستَخدَموا القروض، والمضارَبة، والشراكة كقنوات للتمويل، وتَعامَلوا من خلال شبكات تجارية واسعة النطاق شديدة التعقيد، وتاجَروا في السلع الفاخرة خفيفة الوزن، وفي البضائع التي تُستهلَك على نطاق واسع، الثقيلة كبيرة الحجم. وساعدت أولئك التجار على تنظيم نشاطهم التجاري، وهيَّأَت لهم سُبَل إدارة مشاريع تجارية كبيرة؛ مجموعة من المؤسَّسات، تأتي في مُقدِّمتها المحاكم الشرعية التي سَجَّلَت عقود الصفقات وقَدَّمت الأوعية القانونية؛ كالشراكة، والقروض، والمضاربة التي انتفع بها التجار، كما أن شبكة الوكالات التجارية ساعدَتْهم على تخزين بضائعهم، وبيعها بالجملة.٥

وكانت مُعْظم تلك الأوضاع التجارية سابقة على القرن السادس عشر، ففي القرنين الرابع عشر والخامس عشر، سيطر تجار الكارِمِيَّة على تجارة البحر الأحمر، وغَطَّت شبكاتهم التجارية آسيا وامْتدَّت إلى أفريقيا وحوض البحر المتوسط، وكانت مُعاملاتُهم مُركَّبة ودقيقة، واستخدَموا عديدًا من المؤسَّسات التي عاونَتْهم على ممارسة نشاطهم التجاري الواسع. وباستثناء فترات انقطاع مُعيَّنة، وخاصة في النصف الأول من القرن الخامس عشر، عندما قام السلطان برسباي باحتكار التجارة، نستطيع أن نرى مستوًى من الاستمرارية عند تجار القرن السادس عشر، من حيث اتساع نطاق شبكاتهم التجارية، والمؤسَّسات التي ساعدَتْهم على الإمساك بزمام تجارتهم.

غير أن النظر إلى التطور التاريخي على أنه يسير على خط مستقيم وحَسْب؛ يُقدِّم رؤية مضلِّلة، تفتقر إلى الدِّقة؛ فقد هَيَّأ القرن السادس عشر ظروفًا اختلفَت تمامًا عن تلك التي عرفَتْها الفترة السابقة عليه. فَحدَث توسُّع في العلاقات التجارية ارتبط بالظروف الدولية. وفيما يَتعلَّق بمصر، عبَّرت تلك الظروف عن نفسها بطريقتين؛ أولاهما: التجارة في السلع الاستهلاكية كبيرة الحجم أكثر من التجارة في السلع الفاخرة محدودة الحجم؛ فعلى سبيل المثال لم تلعب التجارة في الأحجار الكريمة في القرنين السادس عشر والسابع عشر ذلك الدور الذي لَعِبَته في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كما أن الفلفل والتوابل الذي كان من السلع الفاخرة في القرن الرابع عشر أصبح في القرن السادس عشر من السلع الاستهلاكية كبيرة الحجم. وأخيرًا، كانت السلع التي تُنْتج في مصر وتُصدَّر إلى إقليم البحر المتوسط والبحر الأحمر وأفريقيا، تتمثل في مختلف أنواع المنسوجات والسُّكَّر.

وكان التعبير الثاني عن اتساع نطاق العلاقات التجارية يَتمثَّل في اتِّساع دائرة التجارة في تلك الفترة، وقد يكون ذلك من بين اتجاهات نُمُو المدن في مناطق كثيرة من البحر المتوسط، شمالًا وجنوبًا. وقد يرجع إلى اتِّساع حجم الثروات على نحو ما نعرفه عن الكثير من مناطق أوروبا. وكان السُّكَّر من بين السلع التي زاد الطلب عليها في تلك الفترة، وكانت مصر من بين البلاد الأساسية المنتِجة له؛ فقد تَحوَّل السُّكَّر من سلعة ترفيهية باهظة الثمن، يصعب الحصول عليها قبل القرن السادس عشر إلى مادة أساسية تَحتَل مكانها على موائد الناس جميعًا.٦ ومن ثَمَّ تَحوَّلت إلى تجارة استهلاكية كبيرة الحجم تَعاظَم الطلب عليها منذ ذلك الحين، وهو وَضْع كان في صالح التجارة المصرية على مدى ما يزيد على القرن.
كان عدد المشتغِلِين بالإنتاج والتجارة كبيرًا. ويُقدِّر أندريه ريمون تعداد سكان القاهرة في القرن السابع عشر والثامن عشر؛ استنادًا إلى المادة التي قَدَّمها الرحالة التركي أوليا شلبي الذي زار مصر نحو عام ١٦٦٠م وما جاء بكتاب «وصف مصر» الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية عام ١٧٩٨م، فيذهب ريمون إلى أن تعداد سكان القاهرة — عندئذٍ — تَراوَح ما بين ثلث وربع المليون نسمة، كان ٣٨٪ منهم يشتغلون بالإنتاج الحِرَفي و٣٣٪ يعملون بالتجارة، و٢٠٪ منهم في الأعمال الخدمية، و٦٪ في الأنشطة الترفيهية، وكان أهَمَّ المشتغِلِين بالإنتاج الحِرَفي من حيث العدد والمستوى المادِّي؛ المشتغِلُون بإنتاج المنسوجات؛ لأن المنسوجات كانت تُمثِّل خُمس الصادرات.٧ وكان جانب كبير من إنتاج المنسوجات يتم في الأقاليم والمناطق الريفية في مصر، ولكن تاريخ هذا الإنتاج لازال في حاجة إلى الدراسة، وفي غَيْبة مثل هذه الدراسة، لا نستطيع أن نَتحدَّث عنه باستفاضة.
وتَدلُّنا دراسة سِجلَّات التَّرِكات أن تجار القاهرة طوال معظم عقود القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر؛ حَقَّقوا ثروات من أرباح تلك التجارة. ولم تَقُم الطبقة الحاكمة بالحَدِّ من تَراكُم الأرباح في أيديهم إلا نحو نهاية القرن الثامن عشر، وتَزامَن ذلك مع ظهور التجار الأوروبيين على الساحة المحلية بتأييد من الحكام العسكريين. وفي كتابه «الحِرَفيون والتُّجار»، دَرَس ريمون تَرِكات تجار البن والتوابل من أواخر القرن السابع عشر إلى نهاية القرن الثامن عشر، وانتهى إلى أن تَراكُم الثروات اقترن بحياة ذات أسلوب مُرَفَّه، شبيه بنمط حياة الطبقة الحاكمة التي ارتبَطُوا بها من خلال نشاطهم التجاري، فبلغت تركة تاجر بُنٍّ مثل قاسم الشرايي ما يربو على ١٢ مليونًا من البارات عام ١٧٣٥م، بينما قاربت تركة تاجر آخر هو محمد العرايشي من ١٤ مليونًا عام ١٧٨٨م، وهي ثروات ضخمة في عصرها.٨

ومن بين اهتمامات هذه الدراسة البحث فيما إذا كانت تلك الأنشطة التي جَلَبت لأصحابها ثروات ضخمة؛ مرتبطة باقتصاد مصر ككل، وما إذا كانت قد أفادت طبقة مُعيَّنة من الناس؟ وعلى نطاق واسع، يدور السؤال حول العلاقة بين الأنشطة التجارية والاقتصاد ككل.

والحق أن المؤرِّخِين يختلفون حول ما إذا كانت التجارة التي استهدفت أسواقًا خارجية بعيدة ذات تأثير فَعَّال على فئات غير أولئك المشتغِلِين بها. وما إذا كانت التجارة الدولية قد أثَّرَت — عمليًّا — على الاقتصاد اعتمادًا على عوامل متنوعة. هنا يُصبح التعميم من الصعوبة بمكان؛ لأن ما يَصدُق على زمان ما ومكان ما، لا يَنسحِب بالضرورة على جميع الأزمنة والأماكن؛ أي إن الرأسمالية التجارية قد تَتَّخِذ صورًا مختلفة، تتولى تشكيلها العوامل التاريخية ذات النتائج المتبايِنة ودرجات التأثير المتنوعة.

وعلى سبيل المثال، تشير دراسة تشاودوري Chaudhuri عن تجارة المحيط الهندي، إلى أن التجار الرأسماليين عاشوا بمَعزل عن الجماعات الأخرى في المجتمَع بدافع من اختيارهم الشخصي أو نزولًا على التقاليد الاجتماعية، أو القانونية، أو السياسية.٩ كذلك قام خليل إينالجك بدراسة العلاقة الوثيقة بين طبقة التجار والدولة، والنشاط التجاري وهيكل السُّلْطة، وما اعتبره «عَدَاء شعبيًّا» لطبقة التجار. واعتبرهم جماعة اجتماعية مُنعزِلة عن السياق الاجتماعي بمعناه الواسع.١٠ ويرى آخرون أن التجارة الدولية كانت محدودة التأثير خارج إطار إثراء التجار، ومَد الحكام بالسلع التي يحتاجون إليها؛ لأن مُعظَم تلك التجارة تُركِّز في السلع الترفيهية باهظة الثمن، ومن ثَمَّ كان تأثيرها محدودًا بفئة قليلة من الناس.
وقدم صبحي لبيب وجهة نظر أخرى، ترى أن الارتباط كان وثيقًا بين التجارة والاقتصاد. وهو لا يَتردَّد في استخدام مصطلح «الرأسمالية» لوصف أنشطة تجار العصور الوسطى. ويُلاحِظ أنه رغم عدم قيام التجارة الدولية بتغيير الهيكل الاجتماعي، فإن لها تأثيرًا بالغًا على تَراكُم رأس المال وعلى الإنتاج، حتى وجود المصانع المملوكة للدولة في العصر الفاطمي التي تَخصَّصَت في إنتاج المنسوجات الثمينة؛ لتلبية حاجات الحكام، لم يَخْلُ من وجود رابطة بين الإنتاج والتجارة.١١
ومن القضايا الأساسية التي يَهتَم بها هذا الفصل؛ الرابطة بين الرأسمالية التجارية وجماعة من غير التجار بَلغَت قمة الهرم الاجتماعي، وهم أناس يَنتمون إلى الطبقة الوسطى من الحِرَفيِّين والباعة، ومُتوسِّطي التجار، وغيرهم، وقد جذب هذا الموضوع اهتمام الباحثِين، المعنِيِّين منهم بدراسة أوروبا، والمهتمِّين منهم بدراسة الشرق الأوسط، بدرجة أقل كثيرًا من العلاقة بين التجار والطبقة الحاكمة، أو التجار والجهاز البيروقراطي للدولة.١٢ وترتب على ذلك أن العلاقات بين التجار والنُّخَب والدولة، قد تَمَّت دراستها بطريقة أو بأخرى، ولم تُدرَس علاقة التجار بالحِرَفيِّين بقدر من التفصيل إلا فيما اتَّصل بنظام الإنتاج في مطلع العصر الحديث بأوروبا؛ خاصة فيما يتعلق بإنتاج المنسوجات، الذي كان التاجر بموجبه يَتقدَّم بطلبية مُعيَّنة لازمة لتجارته، فيُقدِّم الخامات اللازمة لحِرَفيِّين يقيمون عادة في الريف، ويَتلقَّون أجورًا أقل من الأجور التي يحصل عليها نظراؤهم بالمدينة، وبذلك يُمارِس التجار قَدرًا من التحكم في الإنتاج. ومعلوماتنا محدودة عن النَّساجِين الذين عملوا مُستقلِّين عن التجار، أو عن المجالات الإنتاجية الأخرى غير قطاع المنسوجات.

الأحوال في إقليم البحر المتوسط

من أساليب تناول هذا الموضوع؛ عَقْد مقارنة مع مُدن البحر المتوسط التي ازدَهَرت فيها الرأسمالية التجارية. وهذا الإطار الإقليمي له مَغزاه هنا لأسباب عِدَّة، فالاتجاهات الاقتصادية لا تَتْبع الحدود السياسية، ومن ثَمَّ لا نستطيع فَهْم ما تَرتَّب على الرأسمالية التجارية من نتائج في القاهرة دون مُقارنَتِها بالمدن التجارية، التي كانت لها ظروف مُشابهة؛ فتلك المقارَنة تُلقِي مزيدًا من الضوء على موضوع الدراسة، وخاصة في غيبة الأعمال العلمية التي يُمكِن الاهتداء بها. وأهمية تجارة المتوسط، وكثافة المبادَلات التجارية تجعل المقارَنات بين الشمال والجنوب مُناسِبة تمامًا.

ويبدو من المعلومات التي يمكن جمعها من الدراسات الخاصة بالمراكز التجارية المتوسطية فيما بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، أن ثمة طبقة متوسطة حَضَرية لَعبَت دورًا فعَّالًا في أنشطة رأسمالية مُعيَّنة؛ مثل الاستثمار، والعملِيَّات المالية، والعملِيَّات التجارية على نطاق أكثر تواضعًا من ذلك الذي لَعِبَته نخبة التجار، غير أن له أهميته عندما ننظر إليه نظرة شاملة، بل نستطيع أن نقول بإيجاز إن هذا الاتجاه كان مُتوسِّطيًّا أكثر منه أوروبيًّا أو عثمانيًّا؛ استنادًا إلى الحقائق التي نَتوصَّل إليها عن المدن الإيطالية كالبندقية، ومُدن تابعة للدولة العثمانية كإسطنبول، أو حلب، أو القاهرة. وقد يثير ذلك نقطة مُهمة، هي أن بعض المناطق شمال وجنوب البحر المتوسط مَرَّت باتجاهات اقتصادية متناظِرة أو متوازية — بِغضِّ النظر عن الحدود السياسية — وأن من المحتَمَل أن يكون قد صاحبَتْها اتجاهات ثقافية مماثلة.

واعتمد تأثير الرأسمالية التجارية على مُتوسِّطي التجار والمنتِجِين، والمكاسب التي استطاعوا تحقيقها من روابطهم التجارية لأنفسهم، على عوامل مختلفة. وهكذا، نالت الفئات الدُّنيا نصيبًا من الثروات التي جَلبَته التجارة إلى نخبة التجار في إطار ظروف مُعيَّنة وبدرجات متفاوِتة، وشمِلَت تلك الفئات الباعة، والمنتِجِين، ومُتوسِّطي التجار، وغيرهم؛ ولذلك من الأهمية بمكان تحديد بعض تلك الظروف، وهو ما نحاول القيام به هنا.

وعلى الصعيد العَملي الإمبريقي، يعتمد تطبيق هذا المعيار النظري على وجود دراسات مُعَمَّقة، لم يتم إنجازها بَعدُ في كثير من الحالات، ولا نعرف عن صناعة المنسوجات في مصر خلال الفترة موضوع الدراسة سوى أنها كانت بالغة الأهمية، وأن الطلب كان مُلِحًّا على المنسوجات المصرية كسلعة للتصدير. ولا زلنا نجهل أسلوب الإنتاج في تلك الصناعة، والعلاقات الريفية – الحَضَرية في مجالها، وتأثير طوائف الحرف على الإنتاج، فكلها موضوعات يحيط بها ضباب كثيف يحجب عنا رؤيتها.

ومن المحتمل أن ثمة عاملًا مهمًّا أتاح للطبقة الوسطى الحَضَرية أن تصبح جزءًا من الرأسمالية التجارية، يتمثل في وجود مركز إنتاج مُتميِّز. ويشير تشاودوري إلى أن بعض المراكز التجارية في إقليم المحيط الهندي، والتي تمثل محطات مُهمَّة على طريق المِلاحة البحرية، كانت في حقيقة الأمر مُنعزِلة عن الأنشطة الاقتصادية الأخرى، وتعود أهميتها إلى موقعها على طريق التجارة.١٣ فلا يقع وراءها ظهير داخلي، ولا تلعب دورًا في الإنتاج. ومن الواضح أن هذه المدن تَقَع ضِمْن فئة المدن التي أَثَّرَت في التجار ومعاونيهم وَحْدهم. وعلى الجانب الآخَر من هذا المشهد في مُدن؛ مثل القاهرة، وحلب، وإسطنبول، والبندقية، ومارسيليا، قام إنتاج مُهِم اعْتَمد على مواد أولية مُستورَدة، أو على تصدير فائض الإنتاج المحلي، مثلما كانت الحال فيما يتعلق بالمنسوجات المُنتَجَة بالقاهرة، وكان للروابط بين التجارة الدولية والإنتاج المحلي أهميتها البالغة. وتَرتَّب على ذلك إيجاد نوع من العلاقة بين أفراد الطبقة الوسطى الحَضَرية من مُنتِجي السلع، والباعة، وأصحاب الدكاكين، والأنشطة المتَّصِلة بالتجارة الخارجية.

وثَمَّة عامِل آخر، نَظَّم مشاركة الطبقة الوسطى، تَمثَّل في درجة انغماس التجار بالإنتاج الحِرَفي للبضائع التي احتاجوها لتجارتهم. واتخذ هذا الانغماس عِدَّة أشكال: من تشغيل العمال مقابل أجر معلوم، إلى تمويل الحِرَفِيِّين، إلى استخدام نظام الإنتاج بِمَد النَّساجِين بالخامات على حين يستخدم النَّساجُون أنوالهم الخاصة بهم. وجاء نُفور التجار من الإنتاج الحضري لصالح الإنتاج الريفي الأرخص عادة، وإن كان ذلك قد أضَرَّ بالحِرَفِيِّين والباعة بالمدينة. وقد استخدمت صناعة الحرير في بورصة نظام الإنتاج؛ حيث كان التاجر يَستأْجِر النَّسَّاج مقابل أجر مُعيَّن، ويُزوِّده بالخامات، ويتَسلَّم منه الإنتاج مُعدًّا للبيع. وكان هذا النظام مناظرًا للنظام المتَّبَع في أوروبا عندئذ.

وتُشير ثُريَّا فاروقي إلى أن الوجود القَوِي للتجار كان ملحوظًا في مجال إنتاج المنسوجات في بورصة، وأنقره، وأيدين.١٤ كذلك وَجد فرنان برودل أن كثيرًا من الصناعات الحَضَرية انتقلت إلى المدن الصغيرة والقرى الواقعة حول البحر المتوسط في القرن السابع عشر.١٥ وهذا الاتجاه أدَّى إلى تحديد الأرباح التي يَجْنِيها المنتِج، وقد تهبط بالحِرَفي إلى وَهْدة الفقر بدرجة أو بأخرى. والدراسة العملية الإمبريقية لهذه الاتجاهات وتَطوُّرها التاريخي، وخاصة فيما يتصل بالقطاعات الرئيسية للإنتاج مثل المنسوجات لم تَتِم بَعدُ فيما يَتعلَّق بمصر والشام. وتشير الأبحاث التي تَمَّت على صناعة السُّكَّر في مصر في القرن السابع عشر إلى نظام قام فيه التاجر بتمويل الإنتاج الريفي، ولا نعرف مَدى ما حقَّقه هذا الاتجاه من تَطوُّر في الفترات التالية، ومدى امتداده إلى المنتَجَات الأخرى.

وانخرطت القاهرة في الأنشطة التجارية الرئيسية، شأنها في ذلك شأن غيرها من مُدُن إقليم البحر المتوسط، فَلعِبَت دَور مركز تجارة العبور ومركز الإنتاج. وقد عادت تجارة التوابل في البحر الأحمر إلى سِيرتها الأولى في القرن السادس عشر، وكان يُظَن أن الوجود البرتغالي في الهند قد أوقفها، وعاد الفلفل يتدفق مرة أخرى عَبْر البحر الأحمر. وإضافة إلى ذلك بَرزَت تجارة البُنِّ نحو نهاية القرن كسلعة ما لَبِثَت بعد بضعة عقود أن تَضاعفَت من حيث الحجم والأهمية. وهكذا ظَلَّت القاهرة تحتل بؤرة الشبكة التجارية باعتبارها مركزًا لتجارة العبور.

وهناك عامل آخر، يتمثل في الطلب الإقليمي أو العالمي على سلع مُنتَجة محليًّا. فقد كانت مصر تُصدِّر كميات كبيرة من الأرز والغلال، كما كانت تُصدِّر كميات كبيرة من منتَجاتها المحلية، وخاصة المنسوجات والسكر، وثار بعض الجدل بين الباحثِين حول النشاط الإنتاجي في مصر خلال الفترة، ويذكر ريمون في كتابه «الحِرَفيون والتجار» أن النشاط الحِرَفي كان راكدًا، لم تتغير أدوات إنتاجه منذ قرون، وهو رأي أعاد النظر فيه — نسبيًّا — فيما بعد.١٦ غير أن مُعدَّلات الإنتاج التي كان عليها أن تُواكِب زيادة الطلب في السوق العالمية، لا بد أن تكون قد دَفَعت الحِرَفيِّين إلى إيجاد سبيل ما لزيادة حجم الإنتاج. فعلى سبيل المثال، بلغت صادرات المنسوجات المصرية إلى فرنسا ذروتها عند منتصف القرن الثامن عشر، فكانت تحملها السفن إلى مارسيليا، ومن هناك يُعاد شحنها إلى إسبانيا وهولندا.١٧ وبصفة عامة، لم تكن صناعة المنسوجات أهم الصناعات فَحسْب، بل كانت تُنتِج أهم السلع التي تُصدَّر إلى موانئ البحر المتوسط والبحر الأحمر وأفريقيا — ما وراء الصحْراء. ولما كانت هذه الصناعة لم تُدرَس في مصر بَعدُ — سواء في ذلك قطاعها الريفي أو الحَضَري — فإنه يَتعذَّر علينا مناقشة إنتاج المنسوجات المصرية قبل القرن التاسع عشر.

النخب المحلية والطبقة الوسطى في مُستهَل الفترة

في العقود التي أعقبت الغزو العثماني لمصر عام ١٥١٧م، كانت سلطة الوالي العثماني تَحظى باعتراف عام. وقد صحب الغزو العثماني تعديل في هياكل السُّلْطة، تضاءلت معه سلطة القوى المحلية وخاصة أمراء المماليك. وكان من الأهداف المهمة لذلك أن تَضْمن الدولة العثمانية سَيطرَتها على النظام الضريبي من خلال مُمثِّليها في الولاية. ولم تتم تغطية الفترة الباكرة من الحكم العثماني بالدراسة من هذه الناحية، ولكن يبدو أن المعدَّلات الضريبية ظلت عند الحدود المعقولة. وربما جاء ذلك لصالح الطبقة الوسطى الحَضَرية. ولما كانت التغيرات الاجتماعية في أواخر القرن السادس عشر، وفي القرن السابع عشر لم تُدرس بعد — على نقيض القرن الثامن عشر — فإننا لا نستطيع أن نتجاوز حدود النظر إلى الشواهد وحْدَها، ومن بين الشواهد الأساسية سِجلَّات تَرِكات تلك الطبقة.

هذا المستوى من الراحة المادية يعتمد بدرجة كبيرة على معدَّلات الضرائب التي فرضَتْها الطبقة الحاكمة، فالمكاسب من الإنتاج والتجارة يُمْكِن الحفاظ عليها ما لم تقم الضرائب بابتلاعها. فقد كانت الضرائب آلية مهمة، تقوم من خلالها الطبقة الحاكمة بتجميع الأموال من سكان الريف والحَضَر. وكان التعسُّف الضريبي الذي يَتعرَّض له سكان الحَضَر؛ أداة شائعة للحد من مكاسبهم. وعلى حين كان مُعدَّل الضرائب في القرن السابع عشر مناسبًا، أصبح يُمثِّل عبئًا ثقيلًا في القرن الثامن عشر. وجاء التعسف الضريبي نتيجة استقواء النُّخَب العسكرية المحلية التي أساءت استخدام نظام الالتزام، وجعلت منه أداة لتحقيق منفعتها الخاصة، في وقت كانت فيه سلطة الدولة المركزية في إسطنبول أعجز من أن تقوم بتنظيمه. ومن ثَمَّ كانت الضرائب من الأمور المهِمَّة التي أثَّرَت في تكوين ثروات الطبقة الوسطى، فعندما تهبط مَعدَّلات الضرائب تزدهر تلك الطبقة، وعندما ترتفع تلك المعَدَّلات إلى حَدِّ التعسف قد تؤدي إلى هبوطهم إلى وَهْدة الفقر؛ ولذلك كانت العلاقة مع الطبقة الحاكمة عاملًا حيويًّا في تشكيل الأوضاع المادية للطبقة الوسطى؛ لأن الطبقة الحاكمة كانت تخوض غمار التجارة، وتتولى جباية الضرائب، ورغم أن أفراد الطبقة الوسطى ظَلُّوا خارج هيكل السُّلْطة، إلا أنه كان باستطاعتهم الاحتفاظ ببعض روابط المصلحة المشترَكة مع الطبقة الحاكمة في ظل ظروف مُعيَّنة.

ويرتكز مستوى المصالح المشترَكة — أساسًا — على الاهتمامات التجارية والضريبية للطبقة الحاكمة. فكانت تلك الروابط مَتينة أحيانًا، وضعيفة أحيانًا أخرى. وكانت الطبقة الوسطى تُنتِج سلعًا وخدمات تَضعُها في خدمة الطبقة الحاكمة، إما مباشرة باعتبارهم من المستهلِكِين، أو عن طريق إنتاج سلع للتجارة الدولية كالمنسوجات، والسكر، والجلود، التي كانت الطبقة الحاكمة طرفًا في تجارتها.١٨ ولما كان جانب كبير من الدخل الضريبي للطبقة الحاكمة من الضرائب الحَضَرية، فقد كان من مَصلحتهم ضمان استمرار تدفُّق الضرائب بانتظام عن طريق الحفاظ على مستوًى مَعَيَّن من الاستقرار الاقتصادي الحَضَري. وهكذا كانت الطبقة الوسطى جزءًا مهمًّا من الشبكة الاقتصادية، طالما كان من مصلحة الطبقة الحاكمة الحفاظ عليها؛ لأنها تُنتِج سلعًا وخدمات ضرورية، ومن ثَمَّ ينتعش حالها. وعندما يتحول تركيز اقتصاد الطبقة الحاكمة إلى مصالحها الريفية على حساب مصالحها الحَضَرية، يقل الاهتمام بالحفاظ على مصالح تلك الطبقة وحمايتها، ومن ثَمَّ يَنتَكس حالها.
وكان باستطاعة أفراد الطبقة الوسطى الاستغناء عن بعض مواردهم؛ ليستخدموها في العمليات المالية لتمويل الصفقات التجارية على اختلاف حجمها، غير أن هذا النشاط لم يُدرَس بَعدُ دراسة كافية من جانب المؤرِّخِين، فوجود القروض والمضارَبة والمشارَكة كأدوات قانونية كان راسخًا، ويمكن رَصْد استخدامها بالرجوع إلى سِجلَّات المحاكم الشرعية. وكانت ممارسة ذلك شائعة في أقاليم واسعة حول البحر المتوسط. وقد أوضح فرنان برودل ذلك — مثلًا — في القرن السادس عشر، أن الأعمال التجارية الكبرى لكبار تُجَّار البندقية كانت تَتجمَّع غالبًا من مبالغ عديدة قَدَّمها صغار المستثمرِين، وذكر أنه في الرحلات التجارية «تكشف أسماء أصحاب القروض — عندما تتاح لنا — عن جمع حاشد من الرأسماليين أو من يُسمَّون كذلك، بعضهم أناس ذوي دخول بالغة التواضع.» ويرى أن جميع سكان البندقية يبدو أنهم قَدَّموا أموالًا مُساهَمة منهم في الصفقات التجارية الكبرى، وبذلك شَكَّلوا نوعًا من المجتمَع التجاري الذي شمل كل سكان المدينة. ويعتبر برودل أن استمرار ووفرة الإمداد بالقروض سَهَّل على التجار العمل وحْدَهم كأفراد دون الحاجة إلى الدخول في شركات طويلة المدى التي كان لها بنيتها الهيكلية ونظام تمويلها الخاص الذي مَيَّز النشاط التجاري الأكثر تَقدُّمًا في فلورنسا. وفي حالة البندقية كان التمويل واسع النطاق، قصير الأجل.١٩
ويبدو انخراط الطبقة الوسطى الحَضَرية في التمويل بالاشتراك في المضارَبات والقروض واضحًا في المدن العربية التابعة للدولة العثمانية؛ مما يَشِي بانتشار الرأسمالية التجارية في المدن التي تقع في ذلك الإقليم. ودراسة شوكت باموك لتطور النظام النقدي في الإمبراطورية العثمانية تُوضِّح أن ثَمَّة اتساعًا في حجم الطلب على النقود بين كل من سكان الريف والحضر، على السواء في القرن السادس عشر؛ نتيجة للتطورات الاقتصادية الدولية والتحولات النقدية.٢٠
وتُؤكِّد ذلك الاتجاه؛ الدراسات الخاصة بالمدن في الدولة العثمانية، وقد بيَّن بروس ماسترز ذلك في دراسته لحلب (١٦٠٠–١٧٥٠م)، فتُشير هذه الدراسة إلى أن كلَّ من كان لديه فائض مال من أهل حلب كان يرتبط بصورة أو بأخرى بالتجارة وبالقروض المتَّصِلة بها بِغضِّ النظر عن الأصل الاجتماعي، أو النوع، أو الأصل العِرْقي. كما أن النتائج التي تَوصَّل إليها كوليت استابليه، وجان كلود باسكوال تسير في الاتجاه نفسه فيما يتصل بدمشق.٢١ كذلك في الدراسة الخاصَّة بقيصرية في القرن السابع عشر، قَدَّر رولاند جيننجز أن نحو ثلث سكان المدينة كانوا ينخرطون في نشاط الإقراض والمضارَبة بصورة أو بأخرى بمَبالغ متواضعة.٢٢
وسارَت القاهرة على الدَّرب نفسه في القرن السابع عشر؛ إذ تَتضمَّن سِجلَّات المحاكم الشرعية في تلك الفترة عددًا يفوق الحصر من التجار والحِرَفيِّين، والباعة، وعامة الناس من مختلف المِهَن كانوا يُمارِسون الاستثمار بمبالغ صغيرة في القروض وعمليات المضارَبة. فالتمويل لم يَكُن عملًا متخصِّصًا تمارسه البنوك والمموِّلون، ولكنه كان نشاطًا منتشرًا بين عدد كبير من الناس الذين كانوا يَتكسَّبون من العمل في مجالات أخرى، وكثير من القروض سُجِّل كمعامَلات، ويظهر كثير منها في سِجلَّات المحاكم عندما يَنشب نزاع بين الشركاء، كما حدث عندما اتَّهم الحاج محمد الكَيَّال بالرميلة، الحاج عمر المغربِل بأنه باع له ٦ قناطير من الزيت المغربي بستين قرشًا بالأجَل، وجاء يطالب بها الآن. وتظهر القروض على شَكْل اتفاق مكتوب؛ كالذي أُبرم بين الشهابي أحمد، وأحمد خطاب الرِّويعي القهوجي، ويقضي بأن يُسدِّد الطرف الثاني للطرف الأول ١٣٥ نصفًا حصل عليها منه.٢٣

وتُشِير هذه القضايا الواردة في سِجلَّات المحاكم الشرعية إلى أن الاستثمارات كانت مُتواضِعة في أغلَبها، وشديدة التواضع أحيانًا، ربما كانت تُمثِّل كل المدَّخَرات التي يستطيع البائع أو الحِرَفي المغامَرة به، وكان الحد الأدنى بالنسبة للطبقة الوسطى وُجود مَبْلغ نقدي مُعيَّن يزيد عن حاجة صاحبه. كما أنها تُوضِّح أن أولئك الحِرَفيِّين والباعة لم يستثمروا فائض أموالهم — بالضرورة — في مجالهم المِهَني. وأخيرًا، تشير تلك القضايا إلى أن النشاط المالي تَجاوَز الحدود المِهنِيَّة، بمعنى أنها تَجاوزَت نطاق من كانت مِهْنتهم إقراض الأموال، أو الذين اشتغلوا بالصفقات التجارية الكبرى. وهذا العامِل له مغزاه لِفَهم بعض السُّبل التي استطاع بها نطاق اجتماعي واقتصادي وسياسي عامٌّ أن يَخترق الحدود المِهنِيَّة في مجتمع، قام على أساس الطوائف والهياكل الحرفية.

وحتى يشترك أفراد الطبقة الوسطى في هذه العمليات، علينا أن نَفتَرض أن نشاطهم الاقتصادي الإنتاجي والخَدَمي، قد دَرَّ عليهم مكاسب وفَّرت فائضًا استثمروه في القروض أو المضارَبات؛ ولذلك يُحتمل أن تكون الطبقة الوسطى الحَضَرية قد لَعِبت دورًا مهمًّا في تلك العمليات. ففي المقام الأول، كان أولئك الناس جزءًا لا يتجزأ من شبكة توزيع البضائع، يلعبون دور الوسيط بين التاجر الكبير المستورِد وجمهور المستهلِكِين. وهو نشاط صغير ولكنه يستطيع الانتشار على نطاق واسع ليصبح جزءًا أساسيًّا من شبكة قد تمتد إلى خارج المركز الحضري إلى أطرافه أو إلى المناطق الريفية. ويستطيع أولئك الناس الوصول إلى أماكن ليست في متناول التاجر الكبير، الذي لا يجد مناصًا من الاعتماد عليهم لهذا الغرض. ولذلك رغم صغر حجم نشاطهم وطابعه الفردي إلا أنه كان بالغ الأهمية بالنسبة للاقتصاد المحلي. وفي المقام الثاني، يحظى المستثمر الصغير المتواضع بدور اقتصادي مهم في إعادة توزيع أو تجميع النقود.

كانت التجارة والصناعة تُمثِّلان النشاط الرئيسي في الحياة الاقتصادية للقاهرة، وتَرتَّب على ذلك أن كان غالبية سكان المدينة من الحِرَفِيِّين والباعة، على اختلاف مهاراتهم وتخصصاتهم، والتنوع الكبير في ثرواتهم وعلاقتهم بالرأسمالية التجارية، وكان الكثير من أولئك الحِرَفِيِّين والباعة من أفراد الطبقة الوسطى. وقد أدرج أندريه ريمون فيما أسماه «بالطبقة الوسطى» علية القوم الذين تَراوحَت تَرِكاتهم بين ٥٠٠٠ و٥٠٠٠٠ نصف فضة.٢٤ وبذلك اتَّسع مجال تلك الطبقة، ولكنه يعني أن كثيرين منهم كانوا يعيشون حياة تُوفِّر لهم مستوًى مُعيَّنًا من الراحة. وقد بَيَّنَت دراسة لمساكن الطبقة الوسطى — على سبيل المثال — أن الكثيرين منهم امتلكوا بيوتًا خاصة، مِلكية تامة أو جزئية لسكناهم، تَنوَّعَت فيها التسهيلات، وتَعدَّدَت بها الغُرَف، وتوَفَّرَت بها المراحيض، والحواصل، والأفنية؛ فنعرف — مثلًا — أن طحانًا، أو سُكَّرِيًّا، أو صاحب دكان، قد يسكن في بيت من الآجُر أو الحجر، غالبًا ما يكون مِلكًا له ملكية تامة، أو جزئية، وقد تنوعت أحجام تلك البيوت وكذلك المَرافق التي احتوت عليها، وكان الكثير منها يتكَوَّن من دَور أرضي وطابق عُلوي، ويَشترِك سكان البيت في وحدات المعيشة والمَرافِق، فقد زُوِّدت تلك البيوت بالمراحيض ولكنها خَلَت من الحمامات. وكان ببعضها حاصل لخزن الغلال.
وتُبيِّن لنا البيوت القليلة التي عُمرت أن اتساع مساحتها كان يَكْفُل الراحة لسكانها، وزُيِّنَت بعضها، مثل المداخل الحجرية المنقوشة التي كانت لبعضها، والنوافذ ذات الزجاج المُعَشَّق المُلوَّن،٢٥ ورغم أن هذه البيوت لا تُقارَن ببيوت الطبقة الحاكمة التي كانت على درجة كبيرة من الاتساع والأُبَّهة. وامتَلَكوا أيضًا أو استَأْجَروا الدكاكين التي مارَسوا فيها مِهَنهم، وكذلك مخازن لبضائعهم، كما امتلكوا أدوات الإنتاج التي استخْدَموها في صناعاتهم. وعند موتهم تَركُوا تَرِكات تَضمَّنَت نقودًا وبضائع، وأحيانًا عقارات مملوكة لهم بالمدينة.

محيط الطبقة الوسطى

هذه الظروف اختَرَقت حدود الطائفة والمِهنة، وتبعًا لذلك تضَمَّنَت الطبقة مجموعة مُتنوِّعة من مختلف المِهَن والمهارات، وكان كثير من المنتَمِين إليها من التجار، ولكنهم من فئة مختلفة عن نخبة التجار الذين كَوَّنوا ثروات كبيرة بَلغَت الملايين أحيانًا، ممن اشتغلوا بتجارة البُنِّ أو التوابل، والذين يُمكِن اعتبارهم جزءًا من الطبقة الحاكمة. ومتوسِّطو التجار أقرب إلى من درسهم تيري ولز؛ الذين اشتغلوا بالتجارة الأفريقية التي كانت أقل أرباحًا، فقاموا باستيراد العبيد والذهب من بلاد السودان.٢٦
وتَضمَّنت الطبقة الوسطى أُناسًا اشتغلوا بالخدمات التجارية كالوزَّانِين الذين كانوا يُعَدُّون من بين أغنى أفراد الطبقة الوسطى، وارتبطت ثرواتهم بالمستوى القائم للتجارة. وينسحب ذلك أيضًا على السماسرة والدلَّالِين، كما تَضمَّنَت — أيضًا — الحِرَفيِّين الذين أَنْتجُوا السلع التي زاد الطلب عليها في الأسواق العالمية مثل النَّساجِين والسُّكَّرِية. وفي أوقات الرواج التجاري، كانت مكاسبهم أعلى بكثير من غيرهم من أرباب الحرف الأخرى. وبرز النساجون من حيث العدد ومستوى الثروة، وقد ترك النساجون في الفترة (١٦٢٤–١٦٣٦م) تَرِكات بلغ متوسطها ٥٨٦١٥ نصفًا، بينما كان متوسط تَرِكات شيوخ الطوائف في الفترة نفسها ٦٨٥٦١ نصفًا. وعند نهاية القرن (١٦٧٩–١٧٠٠م) كان متوسط تَرِكات الحِرَفِيِّين ٤٨٨٤٥ نصفًا، وهو رقم كبير، وهَبط هذا المتوسط بعد قرن من الزمان (١٧٧٦–١٧٩٨م) ليصبح ٢٩٦٤٤ نصفًا؛ مما يعني سقوطهم في وَهْدة الفقر.٢٧

المركز والأطراف في الطبقة الوسطى

كوَّن المشتغِلُون بالأنشطة الاقتصادية المتَّصِلة بالتجارة والصناعة والخدمات، ومُنتِجو السلع وباعتها؛ قَلْب الطبقة الوسطى الذي يُعَد العُنصر الحاسم فيها. فإذا صَلُح حال القلب انعكس ذلك على الأطراف، وإذا ساء حاله نتيجة وقوع أزمة، بدت آثار ذلك واضحة على الأطراف. فَمَن كانوا يمثلون أطراف الطبقة الوسطى؛ بمعنى ارتباط ظروفهم بها في السراء والضراء؟ بداية، كان هناك كثير من الناس من العسكر والمشتغِلِين بالمهن الدينية يرتبطون بتلك الطبقة بحكم ممارستهم أعمالًا اقتصادية جانبية، أو في أوقات مختلفة، إضافة إلى نشاطهم الأساسي.

تُستَخدم كلمة «العلماء» للإشارة إلى مَن بلغوا مستوًى رفيعًا من العلم والمكانة الاجتماعية، أو إلى مَن احتلوا مراكز مُهمَّة في التعليم أو القضاء. وأحيانًا تُطلق الكلمة على جميع المشتغِلِين بالتعليم أو القضاء، بغض النظر عن مواقعهم فيها. وفي هذه الحالة يجب التمييز بين كبار العلماء وغيرهم ممن يحتلون المراكز المتوسطة أو الدنيا، أو مَن يُطلِق عليهم الناس أحيانًا «صغار العلماء» وهؤلاء هم مَن نُركِّز عليهم هنا، وهم أولئك الذين اشتغلوا بالتدريس في المدارس أو عملوا بالمحاكم أو بالأوقاف، أو اشتغلوا بخدمة المساجد، أو مارَسوا أعمالًا تقتضي الحصول على مستوًى مُعيَّن من التعليم؛ مثل: أمناء المكتبات، والكُتُبيِّين (أصحاب محال بيع الكتب) والمحاسِبِين.

وقد بيَّن أندريه ريمون أن كثيرًا من هؤلاء العلماء مارسوا نشاطًا اقتصاديًّا، وهي حقيقة لاحظ لابيدوس وجودها بين علماء القرن الخامس عشر الذين كانوا يعملون بعض الوقت تجارًا أو حِرَفيِّين.٢٨ وقد اشتغل بعض علماء القاهرة في القرن الثامن عشر بأعمال إضافية عديدة لزيادة دخولهم، مثل الشيخ حسن المَحَلِّي أحد علماء الفقه الشافعي (المتوَفَّى عام ١٧٥٦–١٧٥٧م) الذي عمل نسَّاخًا، وكان له دكان قُرْب الأزهر يبيع فيه الكتب، وكذلك الشيخ أحمد السنبلاوي أستاذ الفقه (المتوَفَّى عام ١٧٦٦م) وكان له دُكَّان في سوق الكُتُبيِّين. واشتغل كثير منهم بِمِهَن لا علاقة لها بنشاطهم الرئيسي؛ مثل الشيخ مصطفى الفَلَكي (المتوَفَّى ١٧٨٨م) وكان خبيرًا بالفَلك والتقويم، واشتغل أيضًا خياطًا «ولم يَزَل مُشتغِلًا بالنفع والحساب والإفادة، مع اشتغاله بصناعة الخياطة وتفصيل الثياب بين يديه، وهو جالس في زاوية المكان يكتب ويمارس مع الطلبة، والصُّنَّاع بوسط المكان يُفَصِّلون الثياب ويخيطونها.»٢٩ ويشير المُحِبِّي إلى الظاهرة نفسها بدمشق؛ فيحدثنا عن الشيخ محمد الحريري الذي «كان يصنع القماش العنابات المُتَّخَذ من الحرير؛ ولذلك قيل له الحريري، وكان كثير من الطلبة يقصدونه وهو في حانوته، فيَقرَءُون عليه، ولا يشغله شاغل عن العلم.»٣٠

وهذه الأمثلة قد تشير إلى حركة تجاه حِرَف أو خدمات مُعيَّنة، كانت أكثر ربحًا من غيرها وتستطيع استيعاب عدد أكبر من الأفراد في ظرف زمني مُعيَّن، فلا شك أن رواج تجارة الكُتب في القرن الثامن عشر — مثلًا — اجتذب عددًا أكبر من الأفراد المَعْنِيِّين ببعض جوانب تلك التجارة. وكان «صغار العلماء» كغيرهم من الناس يَستثمِرون أموالهم في القروض والمضارَبات، كما شاركوا في التجارة واستثمَروا أموالهم في هذا المجال. وهكذا، رغم أنهم كانوا يحصلون على رواتبهم من الأوقاف، إلا أن البُعْد المهم في حياتهم الاقتصادية كان يُشكِّل جزءًا من اقتصاد أكبر.

وبذلك كان هؤلاء يَرتبطون بالهيئة الدينية بحُكم كَوْنهم من مُتوسِّطِي أو صغار العلماء من ناحية، وارتبطوا بغيرهم من المشتغِلِين بالنشاط نفسه. وبحُكم كَوْنهم ينتمون إلى هيئة العلماء كانوا يستندون إلى «كبار العلماء»، ومن المُحتَمَل — على سبيل المثال — أن يصبحوا مُرشَّحِين لمناصب الأوقاف ورواتبها، ويُحدِّد تلك المناصب الواقِفون أنفسهم أو نُظَّار الأوقاف. وجَعَل ذلك من صغار العلماء عالَة على طبقة الملاك التي تنشئ الأوقاف، أو على كبار العلماء الذين يَرأسونهم ويَتحكَّمون في مصائرهم، وبحُكم كَوْنهم من المشتغِلِين بالحِرَف أو التجارة، فإن بقاءهم في ذلك النشاط يَقتضِي توثيق صِلَاتهم بالآخَرِين المشتغِلِين بالنشاط نفسه.

وهذا اتجاه مُماثِل واضح بين صفوف العسكر، وهناك أسباب عِدَّة وراء اشتغال العسكر بالأنشطة التجارية؛ من بينها تَناقُص صافي الرواتب نتيجة خفض قيمة العُمْلة في بداية القرن السابع عشر، ودَفَع ذلك الجنود إلى البحث عن مصادر أخرى للدخل. وكذلك كانت هذه جزءًا من ظاهرة بموجبها اشتغل مختلف الأفراد من سكان المدينة بالإنتاج والتجارة التي لا صلة لها بمِهَنِهم الأصلية. ويشير ريمون في كتابه إلى أن العسكر امتَلكوا دكاكين، مثل حسن المتفرقة الذي كان من تُجَّار الحرير، واشتغل جندي آخر بصناعة السروج. وكان لمحمد الجاولي من جُنْد قلعة السويس حاصِلٌ بوكالة مصطفى العطار بالقاهرة. والحق أن العسكر انَتشَروا في عديد من الطوائف، مثل الصَّيارِفة، والتُّجَّار، والصُّيَّاغ، والمقاهي، وبَاعة التَّبْغ.٣١ كذلك حققت تلك الأنشطة لهم ثروات من أكثَرِها تواضعًا (تركة تَقِل عن ٥٠٠٠ نصف) إلى أكثرها ثراء (تَرِكة تقترب من نِصْف المليون نِصْف)، ومثلما كانت الحال بالنسبة للعلماء، ارتبط العسكر جُزئيًّا بالأوجاقات التي انْتَمَوا إليها وتَلَقَّوا منها رواتبهم، كما ارتبطوا بالحياة الاقتصادية للمدينة والمشتغِلِين بها.

وتثير إمكانية الدخول في أو الخروج من إحدى الطوائف الحِرَفية تساؤلات عن مَدَى فَهْمنا للطريقة التي عَملَت بها الطوائف؛ خاصة عن مَدَى سيطرة الطائفة على أفرادها، وعن مَدَى استعداد طائفة ما لاحتكار نشاط اقتصادي مُعيَّن. وكانت الفكرة السائدة — في الماضي — بين الباحِثِين أن الطوائف تَحكَّمت في عَدد المُنضَوِين تحت لوائها، وأنه كان باستطاعتها مَنْع مَن ليسوا من هؤلاء من ممارسة نشاط مُعيَّن يدخل في اختصاصها. فإذا كانت مثل هذه الضوابط تُمارَس فعلًا؛ لكانت نتيجة ذلك استبعاد أنشطة اقتصادية مُعيَّنة من قُوَى السوق، والأمثلة التي أوردناها تشير إلى وجود مُرونة في الوضع القائم تَسمَح بالتحرُّك بين الطوائف والحِرَف المختلفة. والأمثلة الخاصة بدخول أو خروج العسكر والعلماء في طوائف مُعيَّنة، ومشارَكة قطاع عريض من سكان المدينة في تجارة المُقَطَّع (التجزئة)، وفي المضارَبات والقروض، تعطينا صورة لطوائف تأخذ في اعتبارها — عند مستوًى مُعيَّن — قُوى السوق.

وهناك مُلمح آخر خَلق روابط وثيقة بين هؤلاء الناس والطبقة الوسطى؛ فقد كان ثمة مُعامَلات من مختلف الأنواع تجري بين أفراد الطبقة الوسطى، والعسكر، ومتوسطى وصغار العلماء؛ فأولئك الذين يعيشون عند مستوًى اجتماعي واقتصادي مُعيَّن، تَجمَعهم روابط ووشائِج من نوع آخر؛ كروابط المُصاهَرة، والعلاقات العائلية، وعلاقات العمل، والصفقات المالية، وعلاقات الجِوار في السكن.

وعلى سبيل المثال؛ كان زواج أبناء العُمومة والخُئُولة لا يَشيع في القاهرة عادة، على عكس ما كانت عليه الحال خارجها، وفي غيرها من الأقاليم، وكانت هناك مُصاهَرات تتم بين أفراد المهنة الواحدة، ولكنها لا تُمثِّل النموذج الشائع للترابط بينهم. وكان الأكثر شيوعًا مُصاهَرة مَن لا يَنتمون إلى المستوى الاجتماعي – الاقتصادي نفسه، بعضهم البعض. فالشيوخ كانوا يُصاهِرون — غالبًا — عائلات حِرفية، وكان من الشائع أن يَقُوم الحِرَفيُّون وصغار التجار بتزويج بناتهم للشيوخ، كما أن علماء الأزهر كانوا يصهرون إلى عائلات كبار التجار.٣٢ وكانت روابط المصاهرة تخلق مصالح مادية مُشترَكة بين العائلات في الجماعات المهنية المختلفة. ويمكن القول إن عددًا يفوق الحصر من المعامَلات في مَجال القروض والمضارَبات قد سارت على النهج نفسه، فكانت تتم — أحيانًا — بين أفراد العائلة أو أبناء الطائفة أو المهنة الواحدة، وأحيانًا أخرى داخل الطبقة الواحدة، وبذلك تم إيجاد شكل آخَر لترابط المصالح ببعضها البعض.

الأحوال في أواخر الفترة

تَتَّخِذ هذه الدراسة من نهاية القرن الثامن عشر حدًّا زمنيًّا لنهايتها، عندما وقعت تَغيُّرات درامية فيما يَتَّصل بأنماط العمل التجاري. ففي العقود الأولى من القرن الثامن عشر، بدأ الاقتصاد المصري يُواجِه تهديدًا فيما يتعلق بالطلب على المنتَجات المحلية؛ فقد تأثَّرَت صادرات السُّكَّر — التي كانت من الصادرات الرئيسية — بمنافَسة السُّكَّر المُنتَج في الأمريكَتَين. وبدأَت المنسوجات — التي كانت أيضًا من الصادرات الرئيسية — تُعاني من مُنافَسة المنسوجات الأوروبية المستورَدة في السوق المحلية. أضف إلى ذلك، أن الطبقة الوسطى تَأثَّرت نتيجة التحوُّلات التي أصابت أنماط العمل التجاري؛ فقد أصبحَت التجارة في الواردات الأوروبية التي نافسَت الإنتاج المحلي، أكثر إدرارًا للربح.

وعند نهاية القرن السابع عشر، ظهرت البيوت المملوكية التي ما لَبِثَت أن قامت بالسيطرة على مَوارد مصر الاقتصادية بوضْع أيديهم على النظام الضريبي، وهي عملية أتاحت لهم تحويل الإيرادات — التي تُعَد حقًّا للدولة العثمانية — إلى جيوبهم الخاصة. وأصبحت تلك النُّخبة العسكرية تَتحكَّم في مَوارد الدولة بصورة أكبر، من خلال السيطرة على نظام الالتزام، وما يُدِرُّه من أرباح وفيرة. وكان ضَعف قبضة الدولة المركزية العثمانية على النظام الضريبي قد أَثَّر في ثروات الطبقة الوسطى.

وقد أَخْلى هيكل السُّلطة المسترخِي الطريق أمام قيام هيكل للسُّلطة أكثر تماسكًا وتَراتُبًا (هيراركية)، وأدَّى دَعْم البيوت المملوكية وما تَرتَّب عليه من استقطاب للسُّلطة إلى حدوث استقطاب مُماثِل بين العلماء الذين استفاد كبارهم من توثيق روابطهم بالمماليك. وقام نوع من مركزية السُّلْطة نَجَم عن سيطرة البيوت المملوكية على الموارد الاقتصادية؛ فأصبحَت السُّلطة أكثر قوة، مُتَّخِذة الطابع الهرمي.

وفي أوائل القرن الثامن عشر بَسط بيت مملوكي واحد — بيت القَازدوغلية — سُلْطته على البلاد، وانْتسبَت إليه مُعظَم الشخصيات السياسية المهمة في القرن الثامن عشر. وفي عهد علي بك الكبير الذي قام بتصفية البيوت المملوكية الأخرى، ما لبث أن قام بالسيطرة على الأعضاء الآخَرِين من المماليك الذين يَنتمون إلى البيت نفسه الذي انْتَمى إليه؛ وبذلك بلغت عَملية مركزية السُّلْطة ذروتها. وتراكمت الثروة من وراء احتفاظ المماليك بالموارد الضريبية التي كان يجب إرسالها إلى الدولة العثمانية، ومن خلال فَرْض ضرائب إضافية غير شرعية على سكان الريف والمدن على السواء. وسهَّل تحقيق ذلك غياب النظام الذي يَكفُل للإدارة المركزية للدولة نوعًا من الرقابة الدَّوْرية على الولاية.

وطوال القرن السابع عشر، ظَلَّت ثروات الطبقة العسكرية — التي كانت تسيطر تدريجيًّا على النظام الضريبي — محدودة، فيما عدا بعض الاستثناءات، ولم تَكن قد ظهرت مظاهر الحياة الرَّغْدة التي عاشها أمراء المماليك عند نهاية فترة الدراسة. ولكن أوضاعهم تَغيَّرت في القرن الثامن عشر، وارتبط ظهور البيوت المملوكية بالبذخ المُريب في الإنفاق؛ حيث اقتنى كثير من المماليك قصورًا، وأعدادًا كبيرة من الجواري والعبيد. وقام كثيرون منهم ببناء المساجد والمدارس، فقام عثمان كَتْخُدا — على سبيل المثال — بتطوير الجزء الجنوبي من بِرْكة الأزبكية. وعلى مَرِّ عقود القرن الثامن عشر أصبح المماليك يعيشون حياة التَّرَف والبذخ، وأنشئُوا عديدًا من المباني على نطاق واسع، مثل عبد الرحمن كَتْخُدا الذي لم يَكْن هناك نظير لبرنامجه الإنشائي على مَرِّ العصور العثماني كله؛ فقد مَكَّنَتهم الثروة التي جَمَعوها من السكان من خلال الضرائب، من العيش الرَّغد والإنفاق ببَذَخ على مُتَع الحياة الناعمة التي عاشوها، والتوسع في شراء العبيد والمماليك والجواري، ونَتَج عن ذلك إفقار أولئك الذين ناءوا بحمل الضرائب.

وشهد أواخر العصر العثماني زيادة نفوذ نخبة العلماء وزيادة ثرواتهم، وهو اتجاه وثيق الصِّلَة ببروز أمراء وبَكوات المماليك. وكان بعض العلماء البارزِين يَرتبِطون ارتباطًا وثيقًا بالمماليك، مما مكَّنهم من تكوين ثروات ضخمة، وبذلك ظَهر كبار علماء القرن الثامن عشر بين مَصافِّ الأثرياء.

وقد بيَّنتْ عفاف لطفي السيد مُستوَى ثروات نخبة العلماء، والطريقة التي كوَّنوا بها أموالهم، وتَنوُّع استثماراتهم، ولَعِبهم لدور كبار رجال الأعمال.٣٣ وكان ذلك يعني — من الناحية العملية — أن كثيرًا وكثيرًا من مَغانِم الأوقاف والوظائف الدينية الكبرى؛ اتجهت إلى أفراد قلائل عند قمة شريحة كبار العلماء، وكان صغار العلماء هم الفئة التي عانت من جَرَّاء ذلك، شأن غيرهم ممن يَنتمون إلى الطبقة الوسطى.

وصحب هذا التَّغيُّر؛ مُستوًى مُعيَّن من الاستقطاب، ليس في المجتمَع ككل فَحسْب، بل بين فئة العلماء؛ فَتركَّزت الامتيازات والمَغانِم عند القمة؛ مما أَضر بصغار العلماء الذين فَقدوا نصيبهم الذي كان لهم من قبل، وازداد إحساسهم بالحرمان مما كان حقًّا طبيعيًّا لهم، وأنهم استُبعِدوا من الاستفادة من خيرات الأوقاف ومُرتَّباتها ووظائفها التي أصبحت تَتركَّز — بصورة أكبر — في أيدي القِّلة من كبار العلماء ومن لاذوا بهم.

وكانت الطبقة الحاكمة بالقاهرة تنخرط في الاقتصاد الحَضَري على مُستوَيات عِدَّة، فنحن نعلم أن ولاة مصر كانوا — منذ وقت مبكر — يشتركون في الأعمال التجارية الكبرى، ولكن سيطرة إسطنبول، وعدم مكوثهم في مناصبهم أكثر من عامين أو ثلاثة أعوام، حال دون تكوينهم قواعد اقتصادية قوية خاصة بهم، تَرتَّب على ذلك أن أصبحت التزامات الجمارك المُدِرَّة للربح من نصيب القُوَى المحلية، على مَرِّ القرن السابع عشر، الذين ما لبثوا — أيضًا — أن وضعوا أيديهم على الضرائب الخاصة بالأنشطة الحَضَرية في قطاعات الإنتاج والخدمات والنقل، وملأت الضرائب — أو كثير منها — جيوب المماليك وأمرائهم. وقد بيَّن أندريه ريمون أنه خلال مُعظَم عقود القرن السابع عشر، وطوال القرن الثامن عشر، اعتمدت هذه الطبقة على مواردها الحَضَرية. ومِن ثَمَّ واجهت الطبقة الوسطى التي اضطلعت بعبء الإنتاج والخدمات والنقل؛ مخاطر جمة، نتيجة ثقل عبء الضرائب، كما أنه نتيجة لبروز الأهمية البالغة للجمارك كمَصْدر للإيرادات، وزيادة اعتماد الطبقة الحاكمة عليها. ويذهب ستانفورد شو إلى أن الجمارك المختلفة في مصر في القرن السابع عشر، درَّت من الإيرادات أربعة أضعاف ما كانت تدره الضرائب المفروضة على الأنشطة الاقتصادية الحَضَرية.٣٤
ولما كانت للطبقة الحاكمة مصالحها واستثماراتها في التجارة الدولية؛ فقد حاولَت إرضاء الطبقات الحَضَرية التي أنتجت البضائع اللازمة للتصدير، وقامت بتصريف البضائع المستورَدة. وقد بيَّن أندريه ريمون أهمية الثروة الحَضَرية في تكوين دخول الطبقة الحاكمة، واستطاع أن يَرصد علاقات «شَراكة» بين هذه الطبقات والحكام العسكريِّين حتى نهاية القرن الثامن عشر. وقَدَّر أهمية القطاع الحضري في تكوين إيرادات الضرائب بما يماثل الالتزام الريفي، ومن ثَمَّ حظي من يسيطرون عليها بوزن سياسي كبير.٣٥

ونتيجة لذلك، كانت هناك صلات وثيقة بين المماليك والرعية؛ فثمة روابط أفقية تتمثل في المصالح المشتركة، خَفَّفت من وَقْع سياسة الاستغلال أكثر من العلاقات الرأسية. ولهذا السبب، كان على الملتزِمِين والإنكشارية أن يَتوصَّلوا إلى نوع من الشراكة مع سكان المدينة؛ نظرًا للأهمية البالغة لاستغلال الموارد الحَضَرية.

وكانت سلطة البكوات المماليك تعتمد أساسًا على استغلال الثروات الريفية من خلال نظام الالتزام، ولم يَكُن لهذا النظام العلاقة نفسها مع سكان الحضر، ومن ثَمَّ انفضَّت الشراكة بين المماليك وسكان الحَضَر، وكان اهتمام علي بك الكبير بالتجارة، وتشجيعه للتجار الأوروبيين وحمايته لهم؛ مُؤشرًا على انتقال مصالح الطبقة الحاكمة إلى تجارة الواردات التي يُفترض أنها كانت تحقق مكاسب أكبر مما كانت تُحقِّقه تجارة الصادرات المحلية، وهذا مَظهَر آخر من مظاهر التَّحوُّل عن الشراكة بين الطبقة الحاكمة والطبقة الوسطى من المنتجِين. وبذلك لم تَعُد المبالغ المتواضعة التي كان يستثمرها الناس في الأعمال المالية والتجارية موجودة على النطاق نفسه الذي كانت عليه من قبل. وكان من بين نتائج اتجاه المماليك وأثرياء التجار إلى الاستثمار في الالتزامات الريفية، أن تناقصت أهمية القاهرة عندهم من الناحية الاقتصادية، فتُرِكت لتعاني التدهور.٣٦
وهكذا، شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر تَدهْور المنشآت العامة بالقاهرة، التي كانت تَقِف شاهدًا على ثرائها الغابر، وكانت الأحياء الوحيدة التي احتَفَظت بجمالها هي تلك التي قامت بها قصور المماليك؛ مثل الأزبكية. وقد رصد أندريه ريمون انخفاضًا كبيرًا في ثَمن الدكاكين، يدل على هَجْر الاستثمار الحضري، وقلة الاستثمار في النشاط التجاري٣٧

رَدُّ الفعل من جانِب السكان

أورد أندريه ريمون بعض الوسائل التي اتبعها سكان الحَضَر في مواجهة الظروف غير المواتِية التي واجهَتهم في ذلك الزمان الحافل بالأزمات. فالجماهير التي سَمَّاها مَن يرتبطون بمؤسَّسات السُّلْطة كالجَبَرْتي «بالزُّعر» و«الغوغاء» و«الأوباش» كانوا يَحتشدون في الشوارع في أوقات الأزَمَات، وغالبًا ما كانوا يَزحَفون باتجاه القلعة حيث مقر الوالي؛ ليُعلِنوا عن مطالبهم. ولَعِب كثير من أرباب الحِرَف والتجار دورًا سلبيًّا في تلك الأحداث، وغالبًا ما كانوا يُغلِقون مَحالَّهم تعبيرًا عن سخطهم. وخلال حوادث عام ١٧٣٣م اشترك الحَريريُّون والعَقَّادون (وكانوا من أحسن التجار حالًا) مع المتظاهرِين الذين احتلوا الأزهر، ثم زحفوا من هناك إلى القلعة؛٣٨ أي إن أفراد الطبقة الوسطى شاركوا العامة في التظاهر ضد السُّلطة.

وهذه الدراسة لا تُعْنَى كثيرًا بهذه الأحداث في حَدِّ ذاتها، ولكنها تُعْنَى بالطريقة التي عَبَّر المتعلِّمون بها عن رأيهم حِيالها، كما تُعْنَى بتحليل كتاباتهم المتَّصلة بها.

ثقافة الطبقة الوسطى الحَضَرية

على مَرِّ الفترة الواقعة بين التحوُّلات الكبرى في التجارة الدولية، والتي تم خلالها استبدال السُّلْطة المركزية بهيكل السُّلْطة الأقل مركزية، عاشت الطبقة الوسطى حياة ذات مستوًى مادِّي مُريح، وتَدعَّمت ثقافتها، وحَصَلت على نوع من الاعتراف. وقد تضامَنَت مجموعة من العوامل شَكَّلت أساس ثقافة الطبقة الوسطى؛ لتحقيق ازدهارها المادي. وخلال ذلك العصر الذي كانت فيه الطبقة الوسطى تُمثِّل جزءًا أساسيًّا من الاقتصادي الحَضَري، تصاعدت مكانتها الاجتماعية، وحَظِيت ثقافتها باعتراف وشرعية على نطاق واسع.

وأوجدت أهمية الثروة الحَضَرية للطبقة الحاكمة مستوًى من المصالح المشترَكة بين سكان الحَضَر، جلب معه تفسيرًا أكثر صراحة للمَصالح، وتَرتَّب عليه مرونة كبيرة في ثقافة الحكام تجاه ثقافة سكان الحَضَر، وجاءت النتائج مُركَّبة الطابع، فقد اتَّسع نطاق ثقافة الطبقة الوسطى، واستطاع أفرادها المساهَمة بفاعلية أكبر في الإنتاج الثقافي، وكان بمقدورهم إنفاق كثير من المال على أغراض كمالية، مثل شراء الكُتب، وبذلك فتحوا قنوات جديدة للتعلُّم والمعرفة. وفرضت ثقافتهم — نتيجة لذلك — وجودها، وتَركَت أثرًا واضحًا على الكتابة وموضوعاتها وأسلوبها، كما تركت أثرًا على اللغة ذاتها. وفي الأوقات التي أتاحت لهم فيها الأحوال الاقتصادية وزنًا اجتماعيًّا مُعيَّنًا، حَظِيت ثقافتهم بالقبول عند القُوى الاجتماعية المختلفة بما في ذلك العلماء. ونستطيع أن نرصد بينهم بعض الأفراد الذين نالوا قَدرًا من التعليم خارج إطار نظام التعليم القائم، ودون أن يَكونوا من العلماء يَقرءون ويَكتبون، ولكنهم يَعملون في مِهَن أخرى لا صِلة لها بحَقل العلم، ولكن لهم اهتمامات اجتماعية واسعة النطاق. كما يُمكِننا رَصْد نوع من الثقة بالنفس، وتأكيد الذات عند هذه الثقافة الصاعدة.

والحق أن الفترة التي وُجِدت فيها روابط المصالح المشترَكة بين الطبقة الحاكمة والطبقة الوسطى الحَضَرية سَمحَت بمرونة نِسبية بين حدود الثقافة الرسمية وثقافة الطبقة الوسطى، حتى أصبحت الأخيرة أكثر ظهورًا، وأكثر انتشارًا على المشهد الثقافي كله. وبعبارة أخرى، اخترقت ثقافة الطبقة الوسطى — عند مستوًى مُعيَّن — مجال الثقافة الرسمية؛ لتجلب معها نوعًا من الديموقراطية في جوانب بعينها من الثقافة العلمية. وسوف نتناول الشواهد الدالة على ذلك بالتفصيل فيما بعد.

ومع تَغيُّر الظروف، وتَبايُن المصالح بين الطبقة الحاكمة والطبقة الوسطى، عكست ثقافة الطبقة الوسطى هذه القطيعة مع الطبقة الحاكمة والمؤسَّسة التعليمية الرسمية. فقد عانت الطبقة الوسطى تَدنِّيًا حادًّا في المجال الثقافي الذي تَمتعت به لفترة زمنية طويلة، نتيجة تَغيُّر الأحوال والصعوبات الاقتصادية التي عانى منها الناس جميعًا، وتَرتَّب على تحوُّلات الهيكل الاجتماعي وعملية الاستقطاب الاجتماعي في القرن الثامن عشر؛ وقوع الطبقة الوسطى في وَهْدة الفقر، وتَناقصت أعدادهم التي زادت على مدى ما يزيد عن القرن؛ بسبب انحدار الكثيرين إلى مَصافِّ الفقراء.

وظهر بُعد سياسي في كتابات بعض أفراد تلك الطبقة، الذين عَبَّروا في كتاباتهم عن الانعزالية واللامبالاة. وهكذا عندما تَلاشى زمان المكانة البارزة التي كانت لهم من قبل، وأصبحت ثقافتهم مُحاطة بحدود مُعيَّنة لا تُجاوِزها، اكتسبت تلك الثقافة — أيضًا — أبعادًا جديدة.

هوامش

(١) Harry Miskinin, The Economy of Later Renaissance Europe, pp. 139–149.
(٢) Ilkay Sunar, “State and Economy in the Ottoman Empire,” p. 64.
(٣) Suraiya Faroqhi, Towns and Townsmen, p. 2.
(٤) Nelly Hanna, Making Big Money, p. 44 and the references there in.
(٥) Nelly Hanna, Making Big Money, 43–48.
(٦) Nelly Hanna, Making Big Money, p. 83.
(٧) Andre Raymond, Artisans 1, pp. 204-205, pp. 229–231.
(٨) Andre Raymond, Artisans 2, p. 405.
(٩) Chaudhuri, Trade and Civilisation, pp. 210-211.
(١٠) Halil Inalcik, “Capital Formation in the Ottoman Empire,” pp. 102–104.
(١١) Subhi Labib, “Capitalism in Medieval Islam,” pp. 81–87. Some of these arguments are outlined in “Nelly Hanna, Merchants and the Economy in Cairo, 1600–1950”.
(١٢) Peter Gran, “Late 18th-Early 19th Century Egypt: Merchant Capitalism or Modern Capitalism?” p. 268.
(١٣) Chaudhuri, Trade and Civilisation, pp. 102–108.
(١٤) Suraiya Faroqhi, “Merchant Networks,” pp. 114–120.
(١٥) Fernand Braudel, “The Mediterranean Economy,” pp. 8–10.
(١٦) Andre Raymond, Artisans, pp. 207–210; Andre Raymond, Le Caire des Janissaires, p. 53.
(١٧) Andre Raymond, Artisans, p. 181.
(١٨) Peter Gran, Islamic Roots of Capitalism, p. 21.
(١٩) Fernand Braudel, Capitalism, 3, pp. 130-131.
(٢٠) Sevket Pamuk, “Money in the Ottoman Empire, 1326–1914,” pp. 958-9.
(٢١) Bruce Masters, The Origins of Western Economic Dominance, pp. 48-49; Establet and Pascual, Familles, pp. 96–101.
(٢٢) Ronald Jennings, “Loans and Credit”, pp. 174-175.
(٢٣) محكمة الباب العالي، سجل ١٠٠، م٢٤٤، ص ٢٨ بتاريخ ١٠٢٦ﻫ/١٦١٧م؛ م٢٤١، ص ٣١، نفس السنة.
(٢٤) Andre Raymond, Artisans, 2, p. 392.
(٢٥) Nelly Hanna, Habiter au Caire, La Maison Moyenne et ses Habitants aux xlle et xviiie Siecles (Cairo: Institut Francais D’Archeologie Orientale, 1991): 54–58.
(٢٦) Terence Walz, Trade between Egypt and Bilad Al-Sudan, pp. 94-95.
(٢٧) Andre Raymond, Artisans, 2, p. 238.
(٢٨) Andre Raymond, Artisans, 2, p. 238.
(٢٩) الجبرتي، ج٢، ص٢٩٨، ٢٧٩-٢٨٠.
(٣٠) المحبي: خلاصة الأثر، مجلد ٤، ص ٤٩.
(٣١) Andre Raymond, “Soldiers in Trade”, pp. 25-26.
(٣٢) Andre Raymond, Artisans, pp. 422-3.
(٣٣) Afaf Lutfi Al-Sayyid Marsot, “A Socio-Economic Sketch of the Ulama’ in the Eighteenth Century,” pp. 314–318.
(٣٤) Stanford Shaw, Financial, pp. 117–131.
(٣٥) Andre Raymond, Artisans 2, p. 814–817.
(٣٦) Peter Gran, Islamic Roots of Capitalism, p. 23.
(٣٧) Andre Raymond, Artisans 1, p. 28.
(٣٨) Andre Raymond, “Pouvoir Politique, Autonomies Urbanies,” pp. 8-9.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤