الفصل الثاني

الثقافة والتعليم عند الطبقة الوسطى

ثمة عوامل اقتصادية واجتماعية وتاريخية كان لها انعكاسها على ثقافة الطبقة الوسطى، نحتاج إلى الوقوف عليها حتى نستطيع فهم تلك الثقافة. ولا يمكن اعتبار ثقافة الطبقة الوسطى من مُخلَّفات ثقافة العلماء أو صورة مُبَّسطة منها؛ كما أن مصطلحات؛ مثل: «ثقافة دينية» أو «ثقافة تقليدية» لا تفيها حقها من التقدير. وهذه النظرة تَفترض أنه نظرًا لاتسام التعليم — على مختلف مستوياته — بالطابع الديني؛ فلا بد أن تُمثِّل الطبقة الوسطى ثقافة دينية مُبسَّطة يُحدِّدها الإطار الثقافي لمؤسَّسة العلماء. غير أن حقيقة الواقع القائم — عندئذٍ — كانت أكثر تعقيدًا؛ إذ يُمكِن النظر إلى هذه الثقافة باعتبارها ثقافة ذات تاريخ خاصٍّ بها، تَطوَّرت في سياق مُعيَّن للظروف السائدة، في الفترة الممتدَّة من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر.

كان كثير من أفراد الطبقة الوسطى يَقرءون ويَكتبون، وأَقبَلوا على اقتناء الكُتب، ولهم تراث أدبي مهم وَرِثوه عن أسلافهم. غير أن موضوع اهتمامنا هنا هو تَبيُّن الكيفية التي اختلفت بها علاقاتهم بالثقافة الشفاهية والمكتوبة عن علاقة مجتمَع العلماء بها، أولئك العلماء الذين طَغت مؤلَّفاتهم الضخمة على الساحة الثقافية.

ومهما كانت درجة التعليم الذي يحصِّله الناس في المدارس، فهي لا تُفسِّر ملامح ثقافتهم. فإذا كانت المدارس قد مَثَّلت جوهر النظام التعليمي، فإن ثَمَّة قنوات أخرى تُقدِّم مصادر للمعرفة (كالكُتب) لا صلة لها بالمؤسَّسة التعليمية، يجب أن نضعها في اعتبارنا. أضف إلى ذلك، أن مَن اختلفوا إلى المدارس كانوا ينشدون التعليم الديني، ولكن كانت لهم أهداف مُتعدِّدة في الالتحاق بتلك المدارس، وكان الدين واحدًا منها، ولكنه لم يَكُن الهدف الوحيد؛ أي إنه رغم أن ثقافة الطبقة الوسطى لها روابطها بالثقافة الدينية السائدة، من جانب، فإنها كانت ثقافة لها ملامحها المميَّزة المعبِّرة عنها، من جانب آخر.

والظروف الاقتصادية من بين العوامل المؤثِّرة في الثقافة، تلك الظروف التي أوجدت بعض المصالح والأعمال المشترَكة بين أفراد الطبقة الوسطى والعائلات التي تَعتمِد في أسباب عَيشها على قطاع الإنتاج أو الخدمات أو التجارة، بصورة أو بأخرى. فهناك بُعد تجاري يرتكز على حقائق المكان والزمان، في مواجهة ثقافة العلماء التي ترتكز على المثاليات والأخلاقيات الدينية التي غَلبت على ثقافتهم.

ولا يعني ذلك أن ثقافة الطبقة الوسطى قد اتَّسمت بالتجانس، فقد كانت — على نقيض ذلك — حافلة بالتبايُنات. فعلى سبيل المثال، لم يكن التعليم مُتاحًا لكل فرد من أفرادها بالدرجة نفسها، إذ لم يكن باستطاعة السواد الأعظم منهم تَجاوُز مرحلة الدراسة الأساسية في الكتاتيب. وكان عدد الكتاتيب في القاهرة عند نهاية القرن الثامن عشر حوالي ٣٠٠ كُتَّاب، بينما بلغ تعداد سكان المدينة نحو ٢٦٠ ألف نسمة؛ مما يعني أن نحو الثلث من السكان الذكور تَلقَّوا تعليمًا ابتدائيًّا في تلك الكتاتيب.١ وما حصَّله التلاميذ في ذلك النوع من التعليم قليل. ويُتاح لأعداد قليلة منهم الالتحاق بالمدارس التي تمتد فيها الدراسة إلى سنوات طويلة حيث يتبحرون في دراستهم، وينكبُّون على القراءة، ويفيضون إنتاجًا؛ ومن ثَمَّ تُتاح لهم الفرصة ليصبحوا بمثابة النُّخْبة المثقَّفة للطبقة الوسطى بِغَض النظر عن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي داخل الطبقة. وقد أوجد ذلك نوعًا من التراتب التعليمي (الهيراركية) بين صفوف الطبقة الوسطى تختلف تمامًا عنها بين صفوف طبقة العلماء؛ كما تختلف عن غيرها من العلاقات التراتبية القائمة على أساس اجتماعي اقتصادي.

وتثير هذه الآراء عددًا من التساؤلات، كما تدحض عددًا من المَقُولات النمطية، التي هَيمنت على دراسة تاريخ المنطقة لزمن طويل، غير أنها تساعد على تقديم إجابات لكثير من التساؤلات التي لا تتوافر إجابات عنها، ومن بين تلك المقولات ما يدور في إطار نظرة ما قَبْل، وما بَعْد، التي تُطبَّق عادة على تاريخ التعليم. فغالبًا ما يُنظر إلى التعليم قبل إصلاحات محمد علي (١٨٠٥–١٨٤٨م) من خلال صورة تجمع بين الأبيض والأسود، أو بين ما قبل الإصلاح وما بعده، باعتبار عام ١٨٠٠م والعقود القريبة منه حدًّا فاصلًا بين «التقليدي» و«الحديث»، أو بين التعليم الديني في الفترة المبكِّرة، كنقيض للتعليم العلماني الذي تم إدخاله في القرن التاسع عشر. ولا يعني ذلك الإنقاص من أهمية القُوى التاريخية التي لها تأثيرها على التعليم في حقبة تاريخية ما فَحَسب، بل تَجمَع عددًا من القرون في سَلَّة واحدة صُنِّفت تحت مُسمَّى «التقليدي»، وهو مصطلح يتناقض مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي الممَيَّز. أضف إلى ذلك أن اهتمام محمد علي بالتعليم كان منصرِفًا إلى الطبقة الوسطى من خلال إدخال نظام التعليم الحديث، وهي نظرة تُنكِر صلاحية نظام الكتاتيب — الذي ساد في الفترة من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر — كقاعدة للنظام التعليمي.

وتنطلق هذه الدراسة من افتراض فَهْمِنا للتعليم في سياق اجتماعي وديني معًا، حتى في إطار نظام التعليم «التقليدي» الذي يعتمد على المدارس الدينية. ويُمثِّل ذلك تحدِّيًا للاتجاه الذي يميل إلى تفسير كل شيء من خلال الإسلام، ولا يقيم وزنًا لدور الاختلافات الإقليمية في التطور التاريخي. فوفقًا لذلك الاتجاه، ما يصدق على زمان ومكان مُعيَّن، يصدق — بالضرورة — على غيرهما، وما ينطبق على حقبة مبكِّرة من الزمان الغابر، بما فيه من صعود وانحدار، يَسري على الحقب الزمنية المتأخرة. هذا الوصف المُجَهَّل للتعليم «الإسلامي» يُغفل الاختلافات الإقليمية والطبقية؛ ويميل إلى تصوير المجتمعات «الإسلامية» على أنها كتلة نمطية لا تتأثر بالزمان أو المكان. ونادرًا ما يدخل في إطار هذه الصورة الاختلافات الإقليمية بين المدن الكبيرة مثل القاهرة، أو حلب، أو إسطنبول، أو بين التجمعات الحَضَرية الكبرى والصغرى، رغم ما كان لها من أهمية، كذلك أَغفلت تمامًا الظروف الاجتماعية والاقتصادية فاختَفَت من الصورة تمامًا.

ولا يُقلِّل مُنطَلَقنا لتناول الموضوع من أهمية العوامل الدينية في التعليم بأي حال من الأحوال، ولكننا نحاول أن نضعها في سياق أرحب نطاقًا؛ فالعامل الديني يُمكِن أن يُفسِّر لنا أيضًا سِرَّ الإقبال على معرفة القراءة والكتابة في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي على مَرِّ القرون. كما يُفسِّر لنا الموقف الديني تجاه التعلم في المجتمَعات الإسلامية سِر انتشار نظام الكتاتيب كقاعدة للتعليم الأساسي بين السكان المدنِيِّين في تلك المجتمَعات منذ وقت مبكر. فالإسلام يَحضُّ على التعليم، ويحث المسلمين على الجد في طلبه. وعلى نقيض ذلك، وقَفَت الكنيسة الكاثوليكية — في الفترة نفسها — في وجه انتشار التعليم، واتَّخذَت خطوات تستهدف الحيلولة دون انتشاره، وأدَّى ذلك الموقف إلى تأخير شيوع التعليم بين غالبية السكان. وهكذا، بينما كانت معرفة القراءة والكتابة قاصرة على الأقلِّية من سكان أوروبا (مثل البروتستانت)، قبل انتشارها بين صفوف أغلبية سكان القارة، كان المشهَد على نقيض ذلك في المجتمَعات الإسلامية؛ إذ شُجِّع المسلمون على التعليم حتى يستطيعوا فَهْم دينهم، ومن ثَمَّ كان التعليم — من الناحية النظرية — يُمثِّل قيمة إيجابية.

ومن الناحية العملية، لَعبت المساجد — منذ صدر الإسلام — دور تقديم التعليم الأساسي للمسلمين الذين لا يَبتَغون لأنفسهم — بالضرورة — طريق الاشتغال بالعلم. وحدث هذا في القاهرة، وغيرها من المدن المصرية، ومدن البلاد الإسلامية الأخرى. وفي مدن بلاد الدولة العثمانية، كان التعليم الابتدائي مُتاحًا لعدد كبير من الناس. وتُبيِّن دراسة روبرت مانتران لإسطنبول في القرن السادس عشر أن التعليم الابتدائي كان ظاهرة منتشِرة في المدينة.٢ كذلك، لاحظ إبراهام ماركوس في كتابه عن حلب في القرن الثامن عشر أن الأطفال الذين يتعلمون في الكتاتيب لم يحتاجوا أبدًا إلى الذهاب بعيدًا عن بيوتهم؛ فقد كانت الكتاتيب بالجوار تتيح لهم فرصة التعلم.٣ وكان التعليم في الكتاتيب مجانيًّا — عادة — رغم وجود بعض الكتاتيب التي تتقاضى أجرًا. وتشير حُجج الأوقاف الخاصة بالكتاتيب والمدارس على أنه — إضافة إلى التعليم المجَّاني — صُرِفت الكساوي للتلاميذ في مناسبات مُعيَّنة، كمساعدات للفئات الاجتماعية المحرومة.

وإذا كان تعليم أولئك القوم مرتبطًا — بالضرورة — بمؤسَّسات كانت ذات طبيعة دينية، فإن القضية التي بين أيدينا هي كيفية اتخاذ ثقافتهم مناحِي أخرى، وكيفية تفسير ثقافة الطبقة الوسطى باعتبارها مَصدرًا للحداثة. وبعبارة أخرى، نحتاج إلى التساؤل حول كيفية قيام ثقافة تقليدية بالمساعدة على خَلق «الحداثة» بدلًا عن وأْدِها، وكيف طُوِّرت ثقافة «متعلِّمة» في مواجَهة ثقافة العلماء، ثقافة تُنسَب إليهم ولا تُفرَض عليهم؟

figure
سبيل كتاب من القرن الثامن عشر.

إن الإجابة عن هذه التساؤلات تقتضي منا النظر في اتجاهات يَتجاوَز انتشارها الحدود السياسية، ولَمَّا كانت معرفتنا بها لا زالت تفتقر إلى الوضوح، يمكننا الاستفادة بالمنهج المقارن الذي يشمل الأقطار الأخرى المجاوِرة في إقليم البحر المتوسط، التي كانت لها الظروف نفسها التي عرفَتْها مصر، أو كانت ظروفها موازية لها، والتي تُلقِي بعض الضوء على القضية التي نحن بصددها. وتقتضي الإجابة عن هذه التساؤلات — أيضًا — توسيع الإطار المستخدَم لدراسة التعليم؛ لتحديد واكتشاف العوامل التي قد يكون لها أثَرها عليه. كما تقتضي كذلك الانتقال من التعليم النظامي إلى غير النظامي، بافتراض أن التعليم لم يتم كله في المدارس، وأن علينا أن ننظر إلى ما كان يتم خارجها من تعليم؛ حتى نتبيَّن بصورة أفضل كيف يتم انتقال الثقافة وتنميتها. كذلك تقتضي الإجابة عن هذه التساؤلات أيضًا أن نضع في اعتبارنا الثقافة الشفاهية، وليس مجرد الاعتماد على الثقافة المدوَّنة.

وحتى نفهم تركيب تعليم الطبقة الوسطى، يجب أن نضع في اعتبارنا مختلف الأبعاد الدينية والتاريخية والجغرافية والاقتصادية. وهي تُبيِّن لنا — في المقام الأول — أن الثقافة التعليمية للطبقة الوسطى القاهرية كانت غنية في تركيبها؛ فهي تُركِّز على قاعدة واسعة من الناس القادرِين على استخدام الكتابة من ناحية، كما أن ثقافة القليل من أفرادها كانت رفيعة من ناحية أخرى، وفي المقام الثاني، كان لديها القدرة على ابتداع «الحداثة» وتكوين المثقَّفِين، ومن ثَمَّ لم يكن نتاج المدارس الدينية نمطيًّا أو نموذجيًّا. ونجد بين مفكِّري وكُتَّاب القرن التاسع عشر بعض الشواهد على ذلك؛ مثل عبد الله النديم، أو علي مبارك أو غيرهما من هؤلاء الذين تَلقَّوا تعليمهم الابتدائي في الكتاتيب، ثم تَطوَّرت معارفهم بعد ذلك في اتجاهات أخرى. وحدث الشيء نفسه في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكوَّنت هذه الملامح جانبًا من التاريخ الثقافي للطبقة الوسطى، وأبرزت الملامح التي مَيَّزَتها كثقافة لها طابعها الخاص.

ويعود جانِب من تركيب ثقافة الطبقة الوسطى إلى أنها لم تَكُن نتاج التعليم «التقليدي» أو «الديني» فَحَسْب، بل كانت نتاجًا لمجموعة من العناصر التي ساعدت على تشكيلها. وكان تَعلُّم القراءة والكتابة من نظام التعليم الديني ظاهرة أساسية في ثقافة الطبقة الوسطى، كما كان أيضًا أحد العوامل المهمة التي أدت إلى استخدام الطبقة الوسطى الحَضَرية القراءة والكتابة على نطاق واسع. وقد تناول كثير من المؤرخين بالدراسة نظام المكاتب أو الكتاتيب حيث تَلقَّى التلاميذ تعليمهم الأساسي: القراءة، والكتابة، وحِفظ القرآن الكريم، ومعرفة قواعد الإسلام الأساسية. ولعبت المساجد الدور نفسه في تعليم الأولاد القراءة والكتابة، وبعض أصول الدين اللازمة للعبادة. كما كانت الكتاتيب أداة لتهذيب النشء، وتعليمهم بعض آداب السلوك الاجتماعي، والقيم الاجتماعية، بِغَض النظر عن أصولهم الاجتماعية بهدف جَعْلهم مسلمِين صالحِين ورعايا مُطيعِين.

figure
تعليم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة (ورق ضعيف ورخيص).
وعلى سبيل المثال، اشترط عثمان كَتْخُدا في حجة وَقْف المدرسة التي أقامها، أن يحفظ الأولاد الذين يلتحقون بها القرآن الكريم، حتى «يُهدون ثواب قراءتهم» للرسول وصحابته وأهله، وللعلماء والأولياء.٤ وهؤلاء الأولاد الذين لم يَبلُغوا الحُلم يتعلمون منذ طفولتهم في المواقع التي يَتَّخذها العلماء مَعقلًا لهم، ومن ثَمَّ تنتقل إلى الجيل الجديد مُثُل اجتماعية مُحدَّدة.

ومهما كان من أهمية الكتاتيب، فقد قَدَّمت أحد روافد تاريخ ثقافة الطبقة الوسطى، ولكنها لم تُقدِّم الصورة الكاملة لذلك التاريخ. فهناك روافد أخرى ذات طابع محلي، لها تاريخها المحلي أيضًا، وهناك أيضًا روافد ذات طابع إقليمي. وقد أَوجدَت تلك الروافد واقعًا مُعيَّنًا في ثقافة الطبقة الوسطى القاهرية في القرون من السادس عشر إلى الثامن عشر لا يمكن تجاهله، أو أَوجدَت أُطرًا تاريخية لكل منها مصادره وسِماته وحدوده الجغرافية. ويَسُود كل منها — بدرجة أو بأخرى — في زمان مُعيَّن وبين أفراد بعينهم. ودراسة كل رافد من تلك الروافد في سياقه التاريخي، وليس باعتباره تاريخًا واحدًا، لا يعبِّر عن شدة تركيب ثقافة هؤلاء بقدر أكبر مما هو منسوب إليهم فَحَسْب، بل ويُبرِز تناقضات وتقلُّبات ثقافتهم.

ويُشكِّل تاريخ الكتابة في مصر — الذي يعود إلى عهود غابرة — واحدًا من تلك الأُطر التاريخية التي تَطوَّرت بصورة مستقِلة عن غيرها، وكان لها أثرها على الطبقة الوسطى لعدة أسباب؛ فهي تُقدِّم بُعدًا تاريخيًّا لاستخدام الكلمة المكتوبة بين أولئك الذين لم يَكُونوا من بين العلماء، وتُعبِّر عن موقف مختلف حيالها، وتَتضَّمن قَدرًا من البراجماتية.

وتشير الأدلة التاريخية إلى أن الكتابة استُخدِمت — منذ وقت مبكِّر — لعدة أغراض، في الوثائق الرسمية، وفي الحُجج الخاصة، وفي الأدب. ولعل مصر تَفُوق جيرانها في الإقليم بما لها من تقاليد قديمة في الكتابة.

وتشير الوثائق التي وصلتنا إلى أن تلك التقاليد لم تكن قاصرة على فئة الكُتَّاب، أو على المؤسَّسات الدينية وحدهما. ورغم أن تاريخ الكتابة حتى القرن السادس عشر الذي نتخذ منه نقطة انطلاق في هذه الدراسة لم يُدرَس بَعْد، لدينا أدلة كافية على أن للكتابة تاريخًا طويلًا في مصر؛ ففي فترات مُعيَّنة مثل العصر العربي لدينا عشرات الآلاف من أوراق البردي العربية التي تتضمن وثائق رسمية وأوراقًا خاصة تعود إلى أوائل العهد الإسلامي، ولدينا مائة ألف وثيقة من البردي والرَّق تعود إلى القرون من التاسع إلى الثالث عشر، تم الكشف عنها في الفيوم عامَي ١٨٧٧–١٨٧٨م.٥ كذلك لدينا نحو ٣٠٠ ألف ورقة مكتوبة من أوراق الجِنِيزا، تُغطِّي الفترة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر، وهي وثائق طائفة مُعيَّنة هي طائفة يهود الفسطاط، ولكنها تعكس تقاليد السياق التاريخي الذي جاءت منه، ولم يترك اليهود أي شيء بهذا الحجم في بلاد أخرى غير مصر.
وهناك اكتشافات أخرى لأوراق في قصر إبريم جنوب مصر، وميناء الطور على البحر الأحمر جنوبي سيناء حيث عَثرت بعثة أثرية يابانية على بضعة آلاف من الوثائق الخاصة من بينها نحو الألف من قُصاصات الوثائق تعود إلى الفترة التي تقع بين منتصف القرن الخامس عشر ومنتصف القرن السادس عشر، ولعل المعاملات التجارية تُشكِّل الجانب المهم منها.٦ وتلقي هذه المجموعة الوثائقية التي تعُود إلى ما قَبل القرن السادس عشر الضوء على جوانب من تاريخ الكتابة الذي لم يُدرَس بَعْد، بما تضمنه من وثائق أو خطابات، ومن حيث الفئات الاجتماعية التي تتصل بها.

وتُعَد الوثائق والمخطوطات التي تم العثور عليها في مصر مصادر جديدة أو أرشيفات جديدة، يسعى الباحثون لاستخدامها في دراساتهم. ولم يتم بَعدُ الوقوف على ما لها من مَغزًى اجتماعي، كما لم يُدرَس بعد تاريخ الكتابة. ومع ذلك نستطيع أن نستنتج منها أن استخدام الكتابة يعود إلى قرون سحيقة سابقة على القرن السادس عشر، وحتى لو لم نَكن نستطيع أن نضع في اعتبارنا دلالات هذه الظاهرة، فما يبدو واضحًا من تلك المجموعات الوثائقية أن الكلمة المكتوبة لم تَكن حِكرًا على رجال الإدارة ولا على العلماء وَحْدَهم. وهي تشير أيضًا إلى أن ثمة علاقة وثيقة بين الكلمة المكتوبة والمدن الإقليمية وليس العاصمة وَحْدَها، ولا تنفرد بها النُّخْبة وَحْدها ولكنها شاعت — أيضًا — بين الطبقة الوسطى. ومن ثَمَّ نستطيع القول إن هذه المجموعات الوثائقية لها انعكاسها على ما نسميه تاريخ تعليم الطبقة الوسطى القاهرية. ويُعد ذلك التاريخ — في الوقت نفسه — عاملًا مهمًّا في تبيان الاختلافات الإقليمية الكبيرة داخل الدولة العثمانية.

وهناك إطار تاريخي آخَر للكتابة يتَّصل بالتجارة، يهدف إلى حماية مصالح الباعة والتجار، وهنا أيضًا نقف على تأثيرها على الطبقة الوسطى، كما أن حدودها الجغرافية تختلف عنها في الأُطر التاريخية الأخرى، فامتدَّت حدودها إلى الأقاليم التي كانت الرأسمالية التجارية قوة لها وزنها فيها.

ويمكن التماس الرابطة بين التجارة والكتابة على عِدَّة مستوَيات، فمنذ وقت طويل درس الأوروبيون العلاقة بين انتشار معرفة القراءة والكتابة؛ والتجارة. وعلى سبيل المثال، يذهب المؤرخ الإيطالي كارلو شيبولا إلى وجود علاقة وثيقة بين معرفة القراءة والكتابة، والرأسمالية التجارية، والحياة الحَضَرية في جنوبي أوروبا في العصور الوسطى.٧ والحكمة في وجود تلك العلاقة واضحة؛ إذ يحتاج الشخص إلى معرفة القراءة والكتابة عند إبرام صفقات مُعيَّنة؛ ليحمي مصالحه، كما يحتاج إلى معرفة بعض العمليات الرياضية؛ ليقوم بالحسابات الضرورية لتجارته، ولذلك كان من الضروري أن يُحصِّل تعليمًا أساسيًّا حتى يستطيع ممارسة نشاطه الاقتصادي.
ونستطيع أن نستخدم المنطق نفسه عند دراستنا للبلاد الواقعة جنوب البحر المتوسط التي ارتبطت ببعضها البعض بِصلات تجارية كبيرة، فكما وفَّر التعليم الأساسي الحماية لمصالح المشتغلِين بالتجارة في إيطاليا أو فرنسا، فقد لعب الدور نفسه في مصر والشام والأناضول، وكما أن معرفة القراءة والكتابة كانت منتشرة في أوروبا بين المشتغلِين بالتجارة أكثر من انتشارها بين المشتغلِين بالصيد أو الرعي، فإن ذلك يَسري على بلاد جنوبي البحر المتوسط. ومن ثَمَّ تُؤدي الظروف التجارية المتناظِرة في مناطق جغرافية مختلفة إلى نتائج موازية فيما يَتَّصل بالتعليم. ومن هذا المنطلَق تبدو الفوارق بين جنوب وشمال البحر المتوسط أقل حدة مما تذهب إليه الدراسات الحديثة أحيانًا. فإذا كانت التجارة وراء انتشار القراءة والكتابة بالقاهرة، فإنها كانت — كذلك — عاملًا من عوامل انتشار الظاهرة نفسها في المراكز التجارية الأخرى حول البحر المتوسط، وفي العالم العثماني — في الأناضول والشام كما في فرنسا وإيطاليا — خاصة في أوقات الرخاء الاقتصادي، وهو ما كان سائدًا عندئذ. وقد أكَّدَت ذلك الدراسات الخاصة بكثير من مدن العالم العثماني.٨
والواقع كان انتشار التعليم وشيوع معرفة القراءة والكتابة ملحوظًا في مناطق واسعة من البحر المتوسط، حوالي الوقت نفسه، في القرن السادس عشر؛ قبل أن تَتبنَّى الدول سياسة مكافَحة الأُمِّية وتُشيَّد المدارس لهذا الغرض بقرون عديدة. وقد رصد مؤرِّخو القرنين السادس عشر والسابع عشر زيادة في معرفة القراءة والكتابة — خاصَّة درجات مُعيَّنة منها — في فرنسا، وإيطاليا، كما كانت الحال في إسطنبول ودمشق. وتُبيِّن دراسة جتربورج للطحان مينو شيو الذي عاش في القرن السادس عشر في مونيريل أن الشخص الذي كان يشتغل بتجارة متواضعة المكاسب في مدينة إقليمية، كان يقتني بعض الكتب التي تعالج مختلف الموضوعات.٩

وتشير دراسة جتربورج إلى انتشار الكتب بين الطبقات الوسطى والدنيا وليس في المدن الإقليمية وحدها. ولا نستطيع أن نسحب هذا القول على المدن الإقليمية في مصر والشام (لأنها لم تُدرَس بَعدُ)، ولكن بالنسبة للمستوى الاجتماعي لأولئك الذين اقتنوا الكتب، تشير البحوث التي أُجرِيَت على القاهرة ودمشق إلى أن المستوَيات العليا من الطبقة الوسطى كانت من بين مُلَّاك الكُتب. وتكشف الدراسات الأخيرة عن أهمية القراءة والكتابة في بعض جهات حوض البحر المتوسط نحو القرن السادس عشر؛ فقد أجرى المؤرِّخون الفرنسيون عديدًا من الأبحاث على فرنسا في مطلع العصر الحديث عن معرفة القراءة والكتابة، وانتشار ثقافة الكتب. وهناك اتجاهات موازية لذلك في جنوب البحر المتوسط.

وتقودنا تلك الأوضاع إلى نقطتين؛ أولاهما: أن ثمة عوامل مشترَكة كانت وراء هذه الاتجاهات التي تركت أثرها على إقليم واسع، وثانيهما: أنه عند مستوَيات مُعيَّنة لم تكن الفوارق بين الشمال والجنوب في البحر المتوسط كبيرة في القرن السادس عشر، وأنها اتسعت في تاريخ متأخر، رُبَّما في وقت ما من القرن الثامن عشر. وبعبارة أخرى، تأثرت المناطق التي شهدت ازدهار الرأسمالية التجارية ببعض نتائجها غير المباشرة، وهي فكرة جديرة بالنظر، ولكن حَجبَتْها بعض الشيء مقولة الانقسام بين الجنوب السلبي والشمال الحَرَكي (الدينامي).

وتلك الرابطة بين معرفة القراءة والكتابة، والتجارة؛ تُلقي الضوء على فَهْمنا للتنوع في العالَم العثماني. وتذهب الأبحاث الأخيرة إلى أن القدس لم تكن مركزًا رئيسيًّا للتجارة أو الصناعة، رغم كونها ذات مركز ديني مهم، ومقصدًا للحجاج، ولعل حجم معرفة القراءة والكتابة فيها كان محدودًا، وتشير سِجلَّات التَّرِكات في القدس إلى أن اقتناء الكتب كان قاصرًا على العلماء ورجال الإدارة.١٠ وقد يَصْدُق الشيء نفسه على بعض المدن الأخرى في مصر والشام والأناضول. ومعنى ذلك أن ثمة عوامل مختلفة قد تُشجِّع على انتشار معرفة القراءة والكتابة، أو تعمل على عكس ذلك. ونتمنَّى أن نستطيع أن نحدد على الخريطة المواقع التي أُتِيحَت فيها التسهيلات التعليمية حتى نَتبيَّن الأنماط المكانية التي قد تساعدنا على تحديد أسباب وأماكن وجود التنوع. فعلى سبيل المثال، يبدو أن الكتاتيب كانت مُتاحة في المدن الكبرى بالدولة العثمانية، وأن وجودها في المدن المتوسطة والصغيرة أقل وضوحًا، ولكن وجودها بالريف مُحاط بالغموض. أَضف إلى ذلك أنه عندما تُحقِّق الدراسات الخاصة بذلك تقدُّمًا كافيًا، يصبح بمقدورنا أن نُحدِّد أنواعًا مُعيَّنة من المدن أو التجمعات الحَضَرية التي قد تهتم بتعليم الأولاد، كالمدن التجارية، والمدن ذات المكانة الدينية، والمدن التي يقصدها الحجيج، وتلك التي تلعب دور المراكز الإدارية. وهذا اتجاه يمكن اتباعه — في الواقع — عند دراسة موضوعات أخرى. ومن مزاياه أنه يُوفِّر مخرجًا من الاتجاه المتنامي في الدراسات العثمانية في السنوات الأخيرة، والذي يُعد — في رأينا — ضارًّا بحقل الدراسات العثمانية. فهناك من الباحثِين من يَتحدَّث عن «العثماني» عندما يتحدث عن الأناضول، وهم يُعمِّمون ما يتوصلون إليه من دراسة الأناضول على سائر بلاد الدولة العثمانية، دون أن يضعوا التنوع والتباين في اعتبارهم، ودون أن يُدركوا الخصوصيات الثقافية أو الأبعاد التاريخية.

ويُمكن أن ندرس العلاقة بين التجارة، ومعرفة القراءة والكتابة في القاهرة على المستوى الزمني، بين فترات نشاط تجاري مُعيَّنة والأدلة المتاحة على انتشار معرفة القراءة والكتابة، من خلال عدد المدارس التي أُنشئت أو غيرها من الدلالات، فالفترات التي زاد فيها النشاط التجاري زيادة ملحوظة؛ صحبها انتشار القراءة والكتابة، والعكس بالعكس.

كانت القاهرة مركزًا تجاريًّا مهمًّا طوال العصر المملوكي (١٢٥٠–١٥١٧م) بحكم موقعها في مُلتقى عدد من الطرق التجارية الرئيسية، وبحكم كونها مركزًا لتجارة البحر الأحمر، وتجارة البحر المتوسط، وتجارة أفريقيا. وشهدت نهاية القرن الخامس عشر فترة أزمة نتيجة عدة عوامل منها ما أصاب تجارة الهند من اضطراب بسبب وصول البرتغاليِّين إلى هناك، كما ساءت الأحوال الاقتصادية الداخلية في مصر.

وبحلول منتصف القرن السادس عشر، استردَّت تجارة البحر الأحمر عافيتها. وقد بيَّن فردريك لين أن النشاط التجاري في البحر الأحمر أصبح كثيفًا في النصف الثاني من القرن السادس عشر، واستعادت تجارته ما كانت قد فقدَته في مطلع القرن عندما تحوَّلت بعض التجارة الآسيوية إلى أوروبا عَبْر المحيط الأطلنطي،١١ ويمكن تلخيص نتائج هذا التوسع في النشاط التجاري بالبحر الأحمر من نص مخطوط (ليس مشهورًا) كَتبه في عام ٩٧٥ﻫ/١٥٥٠م عالم جليل يُدعَى ابن حجر الهيثمي.١٢ وهو يقع زمنيًّا في الفترة التي رصد فيها فردريك لين كثافة النشاط التجاري في البحر الأحمر، بعد مرور عقود من الكساد الناجم عن استقرار البرتغاليِّين في جوا.

ويتناول مخطوط الهيثمي عددًا من الأمور التي واجَهها المعلِّمون، بعضها ذات طبيعة يومية، والأخرى مسائل أساسية، فيما يتعلق بالتعامل مع تلاميذهم، من بينها كيفية التعامل مع النابِهين من التلاميذ. وهل يجب أن يُعامَلوا معاملة خاصة بهم؟ وهل يُقاس عليهم أولئك الذين لا يتمتعون بمواهب خاصة؟ واهتم — مثلًا — بما يجب عَملُه عند غياب التلميذ، كما اهتم أيضًا بمسائل أكثر تجريدًا، مثل من له حق عقاب التلاميذ بدنيًّا، وهل يجوز للمعلم أن يتقاضى أجرًا على تعليم القرآن؟

فهل جَدَّت ظروف — في ذلك الوقت — جعلت الهيثمي يكتب رسالة لإرشاد المعلِّمِين؟ إن آراءه قد تَكون انعكاسًا لوضع كان قائمًا في قاهرة القرن السادس عشر، وهي فترة شهدت ازدهارًا في التجارة. ويمكن أن يكون ذلك قد أدَّى — في حياة الهيثمي — إلى زيادة الطلب على التعليم الأساسي؛ مما أدى إلى زيادة أعداد التلاميذ والمدرِّسِين، أو ربما كانت هناك زيادة في أعداد الكتاتيب في مقابل التعليم في المساجد، وهو ما لا نعلم عنه شيئًا، ولكنها لم تَكُن تخضع للوقف كما كانت الحال بالنسبة للمكاتب (الكتاتيب)، وكان من بين الأمور التي نُوقِشت في رسالة الهيثمي «هل يجوز للمعلم وغيره أن يُدخِل المكتب أيتامًا زيادة على العدد الذي شرطه الواقف، نعم أم لا؟» فقد كانت حجج الوقف تتضمن النص على عدد تلاميذ الكُتاب، ولم يكن الوقف يُوفِّر التعليم المجَّاني فحسب، بل كان يَتضمَّن إطعام التلاميذ وكسوتهم، وتقديم الهدايا لهم في مواسم مُعيَّنة. وقد ذهب الهيثمي إلى «أن الأيتام الزائدين على العدد الذين يجيئون إلى المكتب لا يُقرَّر لهم شيء، فلا تُمنَع الزيادة، ما دام ذلك لا يُكلِّف الوقف شيئًا.»١٣
ومن الأدلة الأخرى على ارتباط التجارة بتعلم القراءة والكتابة؛ بناء الكتاتيب، فقد كان العدد الذي أُنشئ منها في قرنين من الزمان مرتفِعًا نسبيًّا. وقد رصد أندريه ريمون وجود ١١٨ سبيلًا ومكتبًا تم بناؤها فيما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وإن كان يرى أن هذا الرقم أقل كثيرًا من الرقم الحقيقي للكتاتيب،١٤ فهذه الأرقام لا تشمل الكتاتيب التي بُنيت قبل ذلك التاريخ، كما لا تتوافر لدينا أعداد الطلاب الذين تَعلَّموا بالمساجد. ولكن رغم ذلك، وَفَّرت الكتاتيب التي بُنيت خلال الفترة أماكن جديدة لقسم كبير من سكان المدينة.
ويمكن الربط بين المجال الزمني لبناء الكتاتيب ورواج التجارة بطريقة بالغة الخصوصية في القرن الثامن عشر، ويُمْكِننا أن نرصد هبوطًا في منحنى تَشييد الكتاتيب، مصاحِبًا للتغيُّرات في أحوال التجارة؛ فقد ازداد عدد الكتاتيب المُقامة في العقود الأولى من القرن الثامن عشر زيادة ملحوظة، عندما شهدت تجارة البُنِّ نموًّا، ثم تناقص عدد الكتاتيب تناقصًا حادًّا عند نهاية القرن. فقد تأسس ثلاثة عشر كُتَّابًا جديدًا في الربع الأول من ذلك القرن، وتسعة عشر كُتَّابًا في الربع الثاني، وعشرين كُتَّابًا في الربع الثالث، ولم تُشيَّد في الربع الأخير من القرن سوى ستة كتاتيب فقط (١٠٪ من إجمالي عدد الكتاتيب التي شُيِّدت خلال القرن).١٥ وكان من بين الأسباب الطبيعية لهذا الهبوط السريع في مُعدَّل إقامة الكتاتيب سقوط أرباب الحرف في وَهْدة الفقر؛ نتيجة تدفق البضائع الأوروبية على الأسواق المحلية وثِقَل عبء الضرائب، ومن ثَمَّ تَناقَص عدد التلاميذ بالكتاتيب؛ نظرًا لتركيز الطبقة الحاكمة على الموارد الريفية أكثر من اهتمامها بالموارد الحَضَرية، وبذلك قل عدد عائلات الطبقة الوسطى التي تستطيع أن تستغني عن الحاجة لعمل أحد أبنائها، فتدفع به إلى الكتاتيب. كما أن إنشاء الكتاتيب ارتبط باهتمامات الطبقة الحاكمة، فكلما زاد اعتمادها على الإيرادات الحَضَرية ساعدت على تنمية البنية الأساسية الحَضَرية، وعندما تحوَّلوا إلى الاعتماد على الثروات الريفية فَقَدوا الاهتمام بالهياكل الحَضَرية.

وهناك دليل آخر على ارتباط معرفة القراءة والكتابة بالتجارة، يَتضح من التطور في الطريقة التي استُخدِمَت بها المحاكم؛ إذ نلاحظ وجود اختلاف واضح بين سِجلَّات المحاكم الشرعية حوالي عام ١٥٥٠م، وتلك التي ترجع إلى عام ١٦٠٠م، ويمكن إرجاع ذلك إلى المحاكم ذاتها والطريقة التي سُجِّلت بها القضايا بدرجة ما، ولكننا نلاحظ أيضًا زيادة في أعداد التجار والحِرَفِيِّين الذين لجئوا إلى المحاكم في أمور تتصل بمعامَلاتهم اليومية؛ مثل: عقود البيع، والمضارَبة، والقروض حتى في حالة التعامل بمَبالغ محدودة القيمة. فنظرة إلى سِجلَّات المحاكم تكشف عن الاستخدام واسع النطاق للوثائق المكتوبة فيما اتصل بالمعامَلات اليومية، وشهدت الفترة من ١٥٥٠م حتى ١٦٥٠م زيادة مُطَّردة في استخدام المحاكم من جانب قطاع عريض من الناس في الأغراض الخاصة والعامة، ومقارَنة السِّجلَّات التي ترجع إلى فترة مبكِّرة، بالسجلات التي تعود إلى الفترة المتأخِّرة تُبيِّن ازدياد أعدادها زيادة هائلة، وكذلك أعداد المشتغلِين بالتجارة الذين يَفِدون إلى المحكمة لتسجيل معامَلاتهم اليومية. وعلى مَرِّ تلك الفترة لجأ عديد من أفراد الطبقة الوسطى إلى المحاكم في مسائل تتصل بمعاملاتهم اليومية كالبيع بالأجل، والقرض، وإثبات إيصالات استلام البضائع المُودَعة بالمخازن. والسِّمَة البارزة في هذه المعامَلات أنها تَضمَّنَت مَبالغ صغيرة نسبيًّا. وهكذا، عند نهاية القرن السادس عشر (١٥٨٠م أو ١٥٩٠م)، أصبح باستطاعة أي مشتغِل بالتجارة، له دكان بالسوق، أن يلجأ إلى المحكمة بصفة منتظِمة فيما يُحقِّق الحماية لمَصالحه.

ومن خلال ما نعرفه عن إجراءات المحاكم الشرعية، كان باستطاعة المشتغلِين بالتجارة وأرباب الحِرَف الحصول على نسخة من العَقد المُسجَّل أو الحُجة المُسجَّلة مقابل رسم مالي زهيد؛ فقد كان الحصول على نسخة من الوثيقة الخاصة بالمعامَلة فيه حماية لمصالح طالِبها، حتى يَتسنَّى له استخدامها عندما تَتعرَّض تلك المصالح للخطر. ونستطيع أن نتبيَّن من ذلك مدى منفعة الكتابة للعديد من التجار وأرباب الحِرَف، وما يعود عليهم من نفع من جَرَّاء معرفتهم لها، ومعرفتهم للقراءة أيضًا، وكان ذلك حافزًا لكثيرين من المتعامِلين بالسوق على التَّزوُّد بقَدْر مَعيَّن من معرفة القراءة والكتابة.

وإضافة إلى ذلك، كانت هناك مُعامَلات وصفقات تتم بين الفُرقاء المعنِيِّين بصورة ودِّيَّة دون اللجوء إلى المحاكم. والمخطوطات التي نشرها سعد الخادم ذات مغزًى مُعيَّن فيما يتصل بالمعامَلات المكتوبة غير المُسجَّلة بالمحكمة، مقارنة بالعقود والحجج المُسجَّلة بالمحاكم التي تكتب بصيغة قانونية بمعرفة مُتخصِّص. وإحدى تلك المعامَلات إيصال حرَّره الخواجه شمس الدين الفارسكوري باستلام كمية من المنسوجات؛ حيث اتَّسمت الصيغة بالاختصار، على عكس الإيصالات المماثِلة التي يتم تسجيلها أمام المحكمة، حيث يتخذ الإيصال صفة السَّنَد الرسمي. ولعل هذا النوع من المعامَلات غير الرسمية التي لا تُسجَّل بالمحاكم كان واسع الانتشار.١٦ مثل القائمة التي تَضمَّنَت أدوات طهي نحاسية، والتي كتَبها أحد الحِرَفِيِّين الذين يذهب سعد الخادم إلى ترجيح اشتغاله بالحفر، فَيحفر أسماء الناس على الأوعية الخاصة بهم. وتُمثِّل تلك القائمة أحد الاستخدامات العملية للكتابة التي لجأ إليها الناس في أعمالهم.١٧
كذلك يستطيع التجار الذين يعرفون القراءة والكتابة مراسَلة وكلائهم، وهي حقيقة لا نعرف للأسف إلا القليل عنها. غير أن أندريه ريمون يشير في كتابه عن التجار والحِرَفِيِّين إلى أن أرشيف فنسان، يتضمن بعض المراسلات التجارية المتبادَلة بين تجار القاهرة ودمشق.١٨

وثمة أسباب متعدِّدة تؤدِّي إلى انتشار معرفة القراءة والكتابة، ويأتي في مقدِّمتها الطبيعة المعقَّدة للتجارة، كالبيع بالأجَل وتأخير سداد قيمة البضائع المُباعة، التي نعرفها من خلال سِجلَّات محاكم الفترة، وكذلك القروض، ومختلف ضروب المعامَلات التي غلبت على النشاط اليومي للكثيرين من تجار المدينة، التي ولا بد أنها كانت حافزًا قويًّا لتعلم القراءة والكتابة؛ لأن ذلك كان من الوسائل الكفيلة بالحفاظ على مصالحهم.

ولا بد أن تكون المعامَلات اليومية أكثر صعوبة عند التجار الذين تتسع دائرة معامَلاتهم اتساعًا ملحوظًا، ويزيد من صعوبتها تَعقُّد الأوضاع النقدية نتيجة التذبذب الشديد في قيمة العُمْلة المحلية المتداوَلة في القاهرة، والتي درسها أندريه ريمون، مقابل عديد من العملات الأجنبية المتداوَلة بالسوق؛ مثل: العملات الهولندية، والبندقية، والقرش الإسباني، والتالر الألماني، فقد كان لكل عُملة منها سعر الصرف الخاص بها، وكذلك كانت قيمتها تَتأرجح صعودًا وهبوطًا، إضافة إلى العملات المحلية.١٩ ولم يُيسِّر ذلك من سُبُل المعامَلات اليومية، بل جعل تسجيلها كتابة أمرًا لا غنى عنه.

ولعل تعقُّد العلاقات التجارية ذاتها كان وراء الاستخدام المكثَّف للمحاكم، وهي حقيقة واقعة يمكن تَبيُّنها من الفرق بين أسلوب ممارسة التجارة في فترة الجنيزا (القرون من العاشر إلى الثاني عشر) وأسلوب ممارستها في القرن السابع عشر. ويبدو أن الصفة غير الرسمية التي غلبت على المعامَلات التجارية التي وصفها جويتاين في دراسته لوثائق الجنيزا، قد أخَلَّت السبيل (في القرن السابع عشر) أمام معامَلات ذات طابع تغلب عليه صفة الرسمية، فنحن نتعرف أسلوب ممارسة تجار القرن السابع عشر لمعاملاتهم من خلال سِجلَّات المحاكم الشرعية، وليس من خلال المراسلات المتبادَلة بينهم.

وكلما زادت المعامَلات اتساعًا وتعقيدًا، كانت الحاجة ماسَّة إلى استخدام الوثائق المدوَّنة. كما أن نُخبَة التجار الذين أداروا تلك التجارة الواسعة استَخْدَموا الكَتَبة والمباشِرِين الذين كانوا — في الغالب — من القِبْط، لتَولِّي الأمور الإدارية والحسابية المتعلِّقة بأعمالهم؛ وبذلك كان باستطاعة التاجر الكبير إدارة أعماله وعَقْد الصفقات الكبرى حتى ولو كان أُميًّا. ولكن الأعمال التجارية التي مارسها متوسِّطو التجار والحِرَفِيون أصحاب المحالِّ محدودة الاتساع؛ إذ كانت معرفة القراءة والكتابة أكثر أهمية عندهم، طالما قصرت إمكاناتهم عن استخدام الكَتَبة المحترِفين.

الثقافة الشفاهية للطبقة الوسطى

تُمثِّل الثقافة الشفاهية المتاحة للطبقة الوسطى مجالًا آخَر من مجالاتها التاريخية، لم يَنلْ حظَّه من الدراسة؛ فثقافة الطبقة الوسطى تَتكوَّن من ثقافة مُدوَّنة وأخرى شفاهية، وهذه الثنائية تحتاج إلى تفسير، فلم يُكتَب إلا القليل عن البُعد الثقافي، والتعليقات التالية مجرد محاوَلة لإبراز اتصالها بالثقافة، دون أن تَعني تقديم تفسير كامل لها، فهي تدور حول الشواهد التي بَدَت لنا في المصادر التي قمنا باستخدامها.

لقد كان للطبقة الوسطى الحَضَرية ثقافة مكتوبة، وثيقة الصلة بالسوق؛ حيث تتم معامَلات صغيرة مُتنوِّعة الأشكال يتم تدوينها وفق ما تمليه الحاجة، وبذلك تتوافر الحماية للمصالح المادية. ولكن البُعد الآخر لثقافة تلك الطبقة ظل شفاهيًّا. ولذلك، رغم أن نسبة كبيرة من ذكور الطبقة الوسطى كانت لهم دراية بالكتابة، فإنهم كانوا على صلة قوية بالثقافة الشفاهية التي اتخذت أشكالًا مختلِفة، وتطوَّرت على أنساق متباينة، ومن ثَمَّ أَوجَدت الحاجَة نوعًا من الازدواجية الثقافية جَمعت بين المدوَّن والشفاهي معًا.

ونستطيع القول بأن الموروث الشفاهي كان على درجة من القوة والثراء، أتاحت لأفراد مُعيَّنِين أن يتسع نطاق ثقافتهم من خلال النقل الشفاهي، رغم افتقارهم إلى مهارات القراءة والكتابة. وكثيرًا ما نقرأ عن العلماء المكفوفِين، وقُرَّاء القرآن المكفوفِين الذين تعتمد مهاراتهم تمامًا على السماع وليس القراءة؛ فقد أورد الجَبَرْتي ترجمة الشيخ عطية الأجهوري الضرير (ت ١١٩٠ﻫ/١٧٧٦م) الذي كان فقيهًا عالمًا في الحديث، ومؤلِّفًا لعدة كُتب في العلوم الدينية؛ ولا يُعدُّ الأجهوري نسيجًا وحده، بل كان معبِّرًا عن ظاهرة شائعة.٢٠ ولذلك علينا ألا نعتبر الثقافة الشفاهية نقيضًا للمدونة، فالشفاهية هنا جزء لا يتجزأ من السياق الاجتماعي، لها قدرتها على توظيف اللغة، كما أن لها قيمتها الإيجابية مثل القدرة على استظهار النصوص التي كانت موضع تقدير كبير، يخالف النظرة إليها في السياق الحديث؛ حيث يُنظَر إليها باعتبارها مُنافِية للقدرة على التفكير؛ لأن الطالب يستظهر ما حفظه دون أن يُعمِل الفكر فيه.

ومن ثم، لا بد من التمييز بين الثقافة الشفاهية للأمُيِّين التي تُعد سبيلهم الوحيد للتعبير، وبينها عند المتعلِّمِين الذين يُجيدون القراءة، ولكنهم يَرَون في الثقافة الشفاهية السبيل الملائم للتعبير.

ويرسم بعض الباحثين؛ مثل: إليزابيث أيزنشتاين، خطًّا فاصلًا بين الثقافتين المدوَّنة والشفاهية، ويَرَون أن الشُّقة واسعة بينهما؛ لأن ثمة فوارق بارزة بين العقليات التي تُكوِّنها الكلمة المسموعة، وتلك التي تُشكِّلها الكلمة المكتوبة.٢١ غير أن هناك إشكالية في تطبيق آراء أيزنشتاين، دون أن يُؤخَذ في الاعتبار الخصوصية الثقافية لمختلف الأقاليم. ونظرًا لأهمية الموروث الثقافي الشفاهي في بواكير العصر الحديث في المجتمَعات العربية عامَّة، والإسلامية خاصَّة، فلا يمكن إغفالها ببساطة. وعلى مَرِّ الفترة الواقعة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، تزامن اتجاهان متبايِنان فيما يَتعلَّق بالثقافتين الشفاهية والمدَوَّنة.

فقد أَدَّت الظروف السائدة إلى نمو الثقافة الشفاهية، وكان لأحد أبعاد هذا النمو علاقة بالأماكن الحَضَرية التي ظهرت في الفترة، وكان لها أثرها في الموروث الشفاهي. ومن بين تلك الأماكن المقاهي التي لَعبَت دورًا كبيرًا في هذا المجال؛ فقد انتشرت المقاهي بالقاهرة انتشارًا كبيرًا، في الوقت الذي بدأت تكتسب الشعبية فيه — عند منتصف القرن السادس عشر — في غيرها من المدن العثمانية. فكانت المقاهي موجودة في جميع أنحاء القاهرة، وكانت أسعارها في مُتناوَل مُعظَم سكانها، غير أنها ارتبطت بالطبقة الوسطى، ولم يكن باستطاعة فقراء المدينة ارتيادها، وهم الذين اعتادوا إنفاق ما يكسبون على سد الحاجات الضرورية للحياة، كما أن أفراد الطبقة الحاكمة كانوا لا يرتادونها، مُفضِّلِين التمتع بوسائل المؤانَسة والترويح المتاحة في قصورهم وبيوتهم.

ولم تنل المقاهي حظها من الاهتمام باعتبارها مُنتدَيات ثقافية، فارتباطها — في المحل الأول — بالثقافة الشفاهية، جعَلَها تقع ضحية التمييز البَيْن بَيْن ما هو شفاهي، متصل بالأمية، مقرون بالجهل، وما هو مُدوَّن مُقترن بالمعرِفة والتعليم. فقد كانت المقاهي تُدرَج في إطار الثقافة الشعبية أو الجماهيرية؛ حيث ترتبط بألعاب الحيوانات المستأنَسة، والعروض المُبتذَلة؛ حيث يُمارِس الرقص رجال تزيَّوا بِزِي النساء، وتَعاطِي الأفيون والحشيش.

figure
الشعراء (عن لاين).
ويُقدِّم الرَّحَّالة — الذين زاروا مصر في ذلك العصر — وصفًا للمقاهي؛ فيتحدثون عن مُروِّضي القردة والدِّبَبة، وهي ظاهرة مهمة دون شك، ولكن كانت هناك أنشطة أخرى تُمارَس في المقاهي، كان لها أهميتها رغم محدوديتها. ونستطيع القول إن المقاهي أَعطَت دفعة لتَطوُّر بعض الأشكال الأدبية؛ مثل الحكايات وبعض ضروب الشعر، ومن ثَمَّ وفَّرَت لتلك الأنشطة أماكن للعرض، بعدما كان ذلك قاصرًا على عروض الشوارع. وقد كانت هناك طائفة لرواة الحكايات بالمقاهي وغيرها؛ مما يشير إلى أن تلك المهنة كانت لها أهميتها.٢٢ كذلك قُدِّمَت في المقاهي عروض فكاهية، وأخرى ساخرة، فيحدثنا يوهان فيلد الذي زار القاهرة فيما بين ١٦٠٦–١٦١٠م عن مشاهدته لعروض هزلية بالمقاهي، وعن عروض فكاهية شاهَدها في الشوارع.٢٣
ومستوى التَّخصُّص بين رواة الحكايات له دلالته، فقد تَخصَّص بعضهم في سيرة «أبو زيد الهلالي»، وبعضهم الآخر في سيرة الظاهر بيبرس، على حين تَخصَّص آخَرون في سيرة عنترة بن شداد. كذلك كانت لأعدادهم — التي أحصاها إدوارد لين — دلالتها، فيذكر أن ثمة ٥٠ رَاوِية تخصصوا في السيرة الهلالية، و٣٠ في سيرة الظاهر بيبرس، وستة في سيرة عنترة.٢٤

وإلى جانب ما قَدَّمَته المقاهي من مجال ازدهرت فيه ثقافة أدبية مُعيَّنة؛ حيث كان المتردِّدون يستمعون إلى الرواية الدرامية لإحدى السِّيَر، يمكن أن نضع في اعتبارنا بُعدًا آخر. فالمقهى كانت مكانًا خاليًا من القيود والضوابط التي تفرضها المؤسَّسات الرسمية، أو تلك التي تَتَّسِم بها الاجتماعات العامة. فكان الناس يمارسون حرية تامة فيما يفعلون أو يقولون، وكان ارتياد المقهى عند البعض يعني التمتُّع بنوع آخر من أنواع التسلية، ونعني بذلك الاستماع إلى العروض الموسيقية.

وتشير المصادر إلى وصول ثلاثة من الموسيقِيِّين اليهود من حلب إلى دمشق عام ١٧٤٤م، قَدَّموا عروضهم في عدد من المقاهي، تلك العروض اتَّسمَت بالدِّقَّة والمستوى الرفيع في الأداء، واستمتع بها الخاصة والعامة على حد سواء.٢٥ ولا بد أن يكون غياب الضوابط قد أدَّى أحيانًا إلى غياب الاحترام. كذلك ارتبطت المقاهي بتعاطي الحشيش. وكان علماء ذلك العصر يَرَون أن الحكايات الهزْلِيَّة والسِّيَر الشعبية التي تُقدَّم في المقاهي مليئة بالأكاذيب، وأن رُواتها لا يَستحقُّون أجرًا على ترديدهم لتلك الأكاذيب.٢٦
وكان المقهى — أيضًا — مكانًا أُتيح فيه قَدْر من المساواة في التعامل بين روادها، وهو ما يمكن استنتاجه من قضية عُرضت على المحكمة الشرعية عام ١٦٥٥م، أُقيمت ضد أحد موظَّفِي المحكمة الذي خلع العمامة فور دخوله إلى المقهى حتى يخفي هُويَّته الاجتماعية، مما أثار استنكار رئيسه قاضي محكمة قناطر السباع.٢٧ ونتيجة لذلك نظر أفراد المُؤسَّسة الدينية إلى المقاهي باعتبارها موضعًا للانحلال، ويمكن أن نضع هذا النقد في سياق المجال الاجتماعي، الذي تختلف فيه آداب السلوك عما جرى عليه العُرف في مجال العمل أو في نطاق الأسرة.

وقد تَجاوَز ثراء تلك الحياة الأدبية الشفاهية حدود المقاهي، وامتد إلى غيرها من الأماكن الخاصة بالمدينة. فقد لعب الرواة والشعراء دورًا في الإبقاء على الأدب الشعبي حيًّا، وبما نال من تطور على يد أرباب تلك الحرفة الذين مارَسوها في المقاهي، أو على يد اللاعِبين الذين قَدَّموا عروضهم في الشوارع أو في المساكن الخاصة. كما ظل ذلك الأدب حيًّا بين بعض المجموعات الصغيرة التي كانت تلتقي بصفة دورية للاستمتاع به.

ويشير المرادي في ترجمته للشاعر الدمشقي أحمد الكيواني أنه كان «غالب جلوسه في حانوت بسوق الدرويشية، يجتمع عنده زهرة الأدباء.» وكان من طبيعة مثل تلك اللقاءات اجتذاب أولئك الذين لم يكونوا من بين أفراد النُّخْبة،٢٨ كما لم تجتذب الفقراء الذين كانوا يعيشون عند حد الكفاف، ومن ثَمَّ كانت أماكن التقاء لأولئك الذين يَحتلُّون مركزًا اجتماعيًّا متوسطًا.
وقد تأثَّرت ثنائية الثقافة الشفاهية، والثقافة المكتوبة بالتطورات التي حدثت في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ فنتيجة لاتساع مجال معرفة القراءة والكتابة، واقتران ذلك بالراحة المادية التي شجعت الطبقة الوسطى على إنفاق أموالها في الأشياء غير الضرورية، وارتبط ذلك بانتشار استهلاك الورق الرخيص الثمن (الذي سنتناوله في الفصل التالي) وظهور اتجاه لتدوين الأدب الشفاهي على الورق. وهناك أمثلة عديدة لكتابات ذات تاريخ شفاهي سحيق، ما لبثت أن ظهرت في صيغة مكتوبة. فقصص السيد البدوي — مثلًا — انتشرت شفاهه لقرون مضت من الزمان. وظهرت مكتوبة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وظهرت سيرة كاملة لهذا الولي في القرنين السادس عشر والسابع عشر،٢٩ هذا الاتجاه حدث أيضًا فيما يتعلق بتدوين سير بعض القِدِّيسِين عند القبط، وتدوين المدائح التي كانت تروى سيرهم بطريقة مُلحَّنة.٣٠ وسوف نرى تأثير هذا الاتجاه على الكتابة في الفصل الثالث.

وتشير هذه التطورات إلى تعدد أبعاد الثقافة الشفاهية، وكوَّنَت سير الأبطال، وحكايات الأولياء مَظهرًا مهمًّا من مظاهر تلك الثقافة، ولكن كانت هناك مظاهر أخرى لها عكست بعمق حقيقتها. فيذكر سعد الخادم مخطوطًا يحتوي على أشعار قَرَضها حِرَفيُّون أو قِيلَت فيهم مما يُصوِّر هذا الجانب تصويرًا جيدًا، وللأسف لا يُقدِّم لنا النص العربي لتلك الأشعار، بل قَدَّم ترجمة فرنسية لها. وتبدأ القصيدة بالقول:

لو كنت بتحبني، اشتري لي توب.
وتمضي مستعرِضة أنواع القماش المُتاح بالسوق، الذي قد يستخدمه المحِب في حياكة ثوب حبيبته لنَيل رضاها: فهناك القماش الناعم الذي يُصنَع منه الثوب، والأساور والأقراط التي تُكمِل زينتها، وتُبدي القصيدة استعداده للذهاب إلى خان الخليلي لتلبية طلب الحبيبة.٣١ وبذلك يُعبِّر الشاعر عن حبه لمعشوقته، من خلال الحديث عن واقع السلع المتاحة بالسوق مع لمسات من خِفَّة الظل واعتماد كبير على المحلية مكانًا ولفظًا، فيقترب أسلوبه من اللغة الدارجة، ويَتخذ من مكان مُحدَّد بالمدينة هو السوق، مسرحًا لحديثه؛ حيث يخاطب كل أولئك الذين اعتادوا ممارسة النشاط التجاري بمختلف أشكاله.

وعلى ضوء تَعدُّد التيارات والاتجاهات التي صَنعت ثقافة الطبقة الوسطى، نجدها تُبرِز كثافة أكثر تركيبًا وتنوُّعًا مما يمكن تَصوُّره، ونجد أنفسنا في حاجة إلى ملاحَظة الأبعاد الأخرى لتلك الثقافة حتى نَفهم العوامل الكامنة وراء قُدرَتها على إنتاج المتعلِّمِين، الذين تختلف مكونات ثقافتهم عن ثقافة العلماء، وكذلك قُدرتها على تكوين لون آخر من المثقَّفِين، وما توافر لها من إمكانات صناعة «الحداثة».

إن مقوِّمات القيادة الثقافية الكامنة في الطبقة الوسطى ذات دلالات بالغة الأهمية، فهي تشير إلى إمكانية بروز قيادة ثقافية من بين صفوفها يَمتزِج في تركيبها الأبعاد الدينية والتجارية والأدبية معًا. وهي قيادة ثقافية لا تقتصر على أعلام الرجال، ولكنها تَتميَّز عن ثقافة العلماء الكبار الذين كانوا حُماة الدين وحُرَّاس الأخلاق في المجتمع، قيادة قريبة من مفهوم «القيادة العضوية» الذي صاغه أنطونيو جرامشي.٣٢ وقد برزت تلك القيادة في ظروف تاريخية مُعيَّنة، كانت فيها العوامل الاجتماعية والاقتصادية وغيرها مواتية لذلك. ويعني ذلك — على المستوى الأرحب نطاقًا — أنه في زمن مَعيَّن وفي ظل ظروف مُعيَّنة، لم تكن قيادة العلماء الثقافية والأخلاقية لسائر طبقات المجتمَع هي القيادة الثقافية الوحيدة حتى لو كانت بالغة القوة، دائمة الحضور. فقد كانت هناك أشكال من القيادة الثقافية أقل قوة، ولكن كان لها أتباعها الذين لا يمكن تجاهلهم؛ فنحن نعرف — على سبيل المثال — حقيقة الدور الذي لعبه شيوخ الطُّرق الصوفية، الذين شَكَّلوا قيادة دينية لأتباع طرقهم موازية لقيادة العلماء، تَضاعَف حَجْمها وشأنها على مَرِّ القرن الثامن عشر.
figure
الكاتب (عن لاين).

ومن العوامل المهمة في خَلْق مقوِّمات القيادة الثقافية عند الطبقة الوسطى تلك الفوارق الكبيرة في مستوى التعليم بين أفرادها، بين أولئك الذين تعلموا القراءة والكتابة لتيسير أعمالهم اليومية، ومن تَعلَّموا بالقَدْر الكافي لاستيعاب المجالات المعرفية الغالبة من خلال معاهد التعليم. ولكنهم لم يدخلوا في مَصافِّ العلماء لأسباب اقتصادية واجتماعية مُعيَّنة؛ ولذلك اختلفَت النُّخْبة التي برزَت بينهم عن نخبة العلماء.

وكان حصول الشباب على تعليم عالٍ بأعداد كبيرة نسبيًّا من بين نتائج التطورات التاريخية في القرن السادس عشر؛ ففي العصر المملوكي (١٢٥٠–١٥١٧م) حصَلَت المدارس الكبرى على حاجتها من الموارد المالية من رِيع الأوقاف التي أوقفها السلاطين والأمراء لهذا الغرض. وعند نهاية ذلك العصر، قامت بالقاهرة عشرات المدارس التي كان كثير منها يَحصل على موارد مالية سَخِية من الأوقاف، تُنفِق على المعلِّمِين والطلاب. وكان تَعَقُّد واتساع نطاق الإدارة في الدولة المملوكية، في العاصمة وفي مدن الشام؛ يتيح لخرِّيجِي المدارس العمل بالخدمة الإدارية أكثر مما كان متاحًا لهم في العصر العثماني. فقد كانت الإدارة التي أقامها العثمانيون في مصر بعد استيلائهم عليها متواضعة، قياسًا بالإدارة في عصر المماليك، فقد أُلغِيَت إدارات حكومية كثيرة، ولم يَعُد للدواوين دَور تقوم به، وكذلك ما اتصل بالجيش من أجهزة إدارية، بعدما تَركَّزَت تلك الإدارات في إسطنبول، عاصمة الدولة، ونَتج عن ذلك فُقدان مَن كانوا يعملون بتلك الدواوين من خِرِّيجِي المدارس لوظائفهم.

ونتج عن ذلك تَناقُض بين عدد خِرِّيجِي المدارس والوظائف المتاحة، ويبدو أن الأوقاف على المدارس لم تكن مناسبة للحاجة الفعلية للتعليم، وهي ظروف سادَت في مختلف الولايات العثمانية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقد قَدَّم بعض الباحثين وصفًا لتلك الظروف، مثل كورنيل فلايشر في دراسته لمصطفى علي، وكارين بيركي. ويذهب فلايشر إلى أن مَراتب العلماء والطلاب عانت الازدحام الشديد عند منتصف القرن السادس عشر، وأن مستوى التعليم قد تدهور.٣٣ بينما اكتَشفَت كارين بيركي أن الطلاب انضموا لثورة جلالي لخشيتهم عدم الحصول على وظائف.٣٤
وتتضح هذه الظاهرة في القاهرة؛ حيث أنشأ السلاطين والأمراء عشرات المدارس في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، التي كانت تعبيرًا عن اتجاه أوسع انتشارًا لربط التوسع في الأوقاف بالمدارس. وتشير الأرقام التقديرية المتاحة إلى وجود أعداد كبيرة من طلاب المدارس. ويعرض هيوارث دن للتقديرات المتاحة لعدد طلاب المدارس، فيذكر أن لين قَدَّر عَددهم عام ١٨٣٥م بنحو ١٥٠٠ طالب، ولكنه قال إن البعض يُقدِّر العدد بألف طالب، والبعض الآخر بثلاثة آلاف، بينما قَدَّر رفاعة الطهطاوي العدد عام ١٨٣٨م بنحو ١٢٠٠ طالب، ولكنه ذكر أن عدد الطلاب في الماضي بلغ ١٢٠٠ طالب.٣٥ ولم يكن هناك تحديد للسنوات التي يقضيها الطالب في المدرسة، فكان باستطاعة الطالب أن يستمر في الدراسة، ويذهب أحمد عزت عبد الكريم إلى أن الطالب كان يقضي ما بين ثمانية وعشر سنوات حتى يصل إلى مرتبة العالِم، ولكن كثيرًا من الطلاب كانوا يَتركون المدارس بعد عامين أو ثلاثة أعوام.٣٦
فإذا أخذنا بالرقم ١٥٠٠ طالب في الأزهر في وقت مُعيَّن، وقدَّرنا خمس أو ست سنوات في المتوسط يقضيها الطالب في المدرسة، فإن ذلك يعني أن عدد الخِرِّيجِين يتراوح سنويًّا بين ٢٥٠–٣٠٠ خِرِّيج، وعلى مدى جيل كامل (نحو ٣٠ عامًا) يبلغ عددهم ما يتراوح بين ٧٥٠٠–٩٠٠٠ خِرِّيج من الأزهر وحده دون غيره من المدارس العليا التي كانت موجودة بالقاهرة والتي ليس لدينا معلومات عن عدد طلابها، ويرصد هيوارث دن عشرين مَدرسة ورد ذِكرها بالجَبَرْتي، إضافة إلى الدروس التي كانت تُلقى في كثير من المساجد ليصبح بذلك عدد المدارس نحو الأربعين مدرسة.٣٧ وبذلك يمكن مُضاعَفة عَدد من تَعلَّموا في المدارس نحو أربعة أضعاف ليصبح نحو ثلاثين ألفًا، من بينهم عدد غير معلوم ممن اتَّجَهوا إلى الأقاليم أو إلى البلاد الأخرى كالشام والمغرب. وهذا الرقم حَدسي محض، ولكنه يكفي للقول بأننا لو أخذْنا في الاعتبار أكثر التقديرات تحفظًا وتواضعًا، نَجدُنا بصدد عدد كبير من المتعلِّمِين بالمدارس، ومن الطبيعي أن يتجه هؤلاء إلى الاشتغال بمختلف المهن، ولا يدخل منهم في زمرة العلماء إلا القليل. فقد قُدِّر عدد العلماء الذين يشتغلون بالتدريس في الأزهر بما يتراوح بين ٤٠–٥٠ عالمًا في رأي شابرول، و٦٠ عند شوفان،٣٨ وما يتراوح بين ٦٠–٧٠ عالمًا عند الشيال.٣٩

وهكذا، قضى كثير من الناس بعض السنوات في المدارس، وفاقت أعدادهم أولئك الذين اشتغلوا بالتدريس أو القضاء. ولَمَّا كان كثير من أولئك الناس قد اشتغلوا بمهن غير دينية، فمن المحتَمَل أن يكونوا قد انخرطوا في العمل التجاري والحِرَفي في زمن ازدهار النشاط التجاري. وربما اشتغل بعضهم نَسَّاخِين للكتب. ففي فترات مُعَيَّنة انخرط بعض من تَعلَّموا بالمدارس أو على يد بعض الشيوخ بالنشاط الاقتصادي بدلًا من العمل بالتدريس، فعندما يحدث رواج في تجارة ما؛ مثلما كانت الحال في تجارة المنسوجات التي ظلت مزدهرة حتى أواخر القرن الثامن عشر، تجتذب مثل هذه التجارة عددًا أكبر للاشتغال بها، عندما تصبح وظائف التدريس والقضاء نادرة.

فعلى سبيل المثال؛ يحدثنا المرادي — مؤرِّخ الشام في القرن الثامن عشر — عن أحد العلماء ممن برعوا في العلوم الإسلامية، لم يجد عملًا مناسبًا لكفاءته العلمية، فراح يكسب عيشه من نسج القماش.٤٠

وبذلك لعبت المدارس دورًا مهمًّا في تكوين العلماء ذوي المكانة الدينية والاجتماعية البارزة، ولكنها لعبت الدور نفسه — أيضًا — في تكوين أعداد كبيرة ممن لم يسلكوا سبيل العلماء أو يشتغِلوا بالوظائف الدينية، وامتَهن بعضهم تجارة أو أخرى. وأحيانًا كانوا يَحتفظون بمهنتين معًا، إحداهما تتصل بالحياة الاقتصادية والأخرى تتصل بالحياة الدينية يُمارسونهما في الوقت نفسه أو في أوقات مختلفة من حياتهم، وتتصل مصالحهم بالمُؤسَّسة الدينية من ناحية، وبالسوق من ناحية أخرى. وقد أُغفِل دورهم الثقافي تمامًا لصالح العلماء البارزين.

ويمكن أن يُعزَى ظهور نخبة ثقافية بين صفوف الطبقة الوسطى إلى عوامل أخرى، مثل: تَشرُّب المعرفة والثقافة من مصادر أخرى غير المدارس. فبالإضافة إلى المقاهي ودورها الثقافي، شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر انتشارًا للمجالس وزيادة في أعدادها. وكانت المجالس شبيهة بالصالونات التي تُعقَد في البيوت؛ حيث يلتقي مجموعة من الناس لمناقشة أمور بعينها أو مناقشة الأمور العامة الأدبية أو الدينية أو غيرها. وكان المجلس من سمات الحياة الثقافية لوقت طويل، وهناك مؤلَّفات عن المجالس وآدابها في العصر العباسي، وهدفنا هنا هو تَعرُّف الكيفية التي كانت عليها المجالس في كل عصر، وما كان الناس يفعلون فيها.

وقد سُجِّلت هذه المجالس في كُتب حَوليَّات وتراجم الفترة، فهل كانت المجالس ذات وظيفة دينية محضة تُقام فيها الصلوات، ويُقرأ القرآن أو تتم حلقات الذكر الصوفية كامتداد لنشاط ديني يُمارس في مكان آخر؟ أم أنها كانت لمجرد اللهو، على نحو ما ذكره الجَبَرْتي عما كان يتم في بيت رضوان كَتْخُدا؟ وبعبارة أخرى، هل ينظر المؤرِّخون إلى هذه المجالس في سياق التاريخ الثقافي، على نحو ما ينظر إليها في التاريخ الثقافي لفرنسا وألمانيا، باعتباره مكانًا لتبادل الآراء، ومنبرًا للجدل، أم نعتبرها نوعًا من وسائل التسلية؟ ليس لدينا إجابة بسيطة عن هذه التساؤلات.

فقد استجابت المجالس — كغيرها من الصيغ الاجتماعية — لمتطلَّبات العصر وللمجال الذي تعمل فيه.

ورغم قِدَم «المجالس» في المجتمعات الإسلامية، فإنه لم يتم الحديث عنها من جانب طرف خارجي، ولكنها كانت تتغير تبعًا للزمان والمكان والظروف الاجتماعية أو الاقتصادية. وهو ما يجب أن نُوليه الاهتمام، فمصادر الفترة تشير بوضوح إلى انتشار المجالس على نطاق واسع في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأنها كانت تغطي مختلف مجالات الاهتمام. ويُقدِّم لنا كل من النابلسي والمُحِبِّي فكرة عن مدى اتساع نطاق اهتمامات المجالس التي يُكثِران من ذِكْرها في عمليهما. ففي المجالس التي يغلُب عليها الاتجاه الصوفي كانت تُقام الأذكار، بينما غلب طابع الأدب على مجالس أخرى؛ حيث كان الناس يطارحون الأشعار لبعضهم البعض، ويَقرءون الكتب بصوت مرتفع.

وأحيانًا كان المجلس قاصرًا على الترويح والتسلية، حيث تعزف الموسيقى، ويسمع الغناء، ويلعب الشطرنج. ويذكر الجَبَرْتي أن المجلس الذي كان يُقام في بيت رضوان كَتْخُدا الجلفي اتسم بالخلاعة والمجون. ولكن عندما كان رضوان نفسه يحضر مجلس أحمد الشرايي — أحد أعيان التجار — كان يلتزم ومَن يحضرون صحبته حدود الأدب، وكانت المجالس التي تتسم بالجِدِّية تُناقَش فيها الأمور العلمية كالفقه والتفسير.٤١

وكانت بعض المجالس تَرتكز على شخصية مُعيَّنة، ومن أشهر تلك المجالس تلك التي كان يعقدها رضوان كَتْخُدا الجَلْفي، والشيخ مُرتَضى الزَّبِيدي، والشيخ عبد الغني النابلسي، والشيخ حسن الجَبَرْتي.

ويُفهَم من الإشارات العديدة التي يوردها النابلسي عن المجالس التي حضرها بالقاهرة أنها لم تقتصر على مجال التسلية؛ ففي بعض تلك المجالس كان الحضور يناقشون الكتب الجديدة، حيث تتم قراءتها والتعليق عليها، وأحيانًا يُدْعى المؤلِّف لحضور المجلس حتى يُقدِّم كتابه بنفسه. ففي الثاني من جمادى الآخرة عام ١١١٠ﻫ/١٦٩٨م قُرئ بمجلس الشيخ زين العابدين البكري كتاب «الفتح الرباني» الذي ألفه الشيخ إبراهيم العابدي المالكي وقرر الحضورُ دَعْوته لمجلسهم؛ فكتبوا له خطابًا بهذا المعنى، أرسلوه إليه بالبحيرة حيث يقيم. ويشير النابلسي إلى شيوع قراءة ومناقشة أعمال مُعيَّنة بالمجالس؛ كما دار النقاش — كذلك — حول مختلف الأمور التي تدخل في دائرة الاهتمام، فيذكر النابلسي أن مجلس الباشا الذي يُعقد أسبوعيًّا، ناقش فيه الحضور الأمور الجلية للمنافع الدينية والدنيوية عند الجمهور.٤٢
ونظرًا لتنوع اهتمامات هذه المجالس، فإنه يمكن أن نستنتج ما كان لها من أثر في الحياة الثقافية لذلك العصر. ونجد بعض الأدلة المباشرة على ذلك فيما ذكره بعض الكُتاب من فَضْل المجالس عليهم حيث ساعدَتْهم المناقَشات التي دارت بها على بلورة أفكارهم والتعبير عنها. فقد كان لمختلف صِيَغ مجالات تبادُل الرأي كالمقاهي والمجالس؛ تأثير مباشر على الكُتَّاب، على نحو ما يذكر الشِّربيني مؤلف كتاب «هز القحوف»، من أن كِتابه قد قُرِئ في المجلس، وهي حقيقة تُدعِّمها آراء العلماء الذين لاحظوا اتَّسام الكتاب بالطابع الشفاهي.٤٣ وقد استفاد الشِّربيني من الملاحظات التي أثارها الحضور بالمجلس عند قراءة الكتاب عليهم. كما يذكر يوسف المغربي كيف ساعدَتْه المناقشات التي دارت بالمجلس على تكوين الآراء التي ضمنها قاموسه عن اللهجة المصرية الدارجة «رفع الإصر»، فعندما يورد لفظة «قهوة» يشير بوضوح إلى أنها نوقشت بالمجلس.٤٤ ومن ثَمَّ جاءت الصيغ التي استخدمها في كتابه نتيجةً وانعكاسًا لما دار بالمجلس من نقاش.

هذه الصلة الوثيقة بين ما جرى بتلك المجالس، وما يكتبه المشارِكون فيها تدل على أن تلك المجالس كانت ذات تأثير ثقافي فعَّال على كل من الثقافتين الدينية والدنيوية، وأنها كانت أكثر تَمتُّعًا بالحرية والمرونة فيما يتصل بالموضوعات التي تطرقها، والأشخاص الذين يشاركون فيها، من غيرها من أشكال نقل المعرفة الأخرى.

لقد كان المجلس ظاهرة نخبوية ترتبط بالثقافة الرفيعة أو ثقافة البلاط. وفي أواخر القرن السادس عشر، اشتمل المجلس في إسطنبول على جلسات للشعر، حضَرها نخبة المثقَّفِين الذين كانوا يملكون ناصية التعبير بالفارسية — لغة الثقافة الرفيعة عندئذ — أو بالعربية — لغة العلوم الدينية والشرعية — أو بالتركية،٤٥ وقد عنيت الشرائح المختلفة من الطبقة الحاكمة في القاهرة، من الوالي الذي كان يَعقد مجلسه بالقلعة ويدعو لحضوره كبار الشخصيات، إلى كبار العلماء وأمراء المماليك وقادة العسكر، الذين اهتموا بَعقد هذه المجالس في بيوتهم وقصورهم.

ولكن الأدلة المتاحة تشير إلى أن تلك المجالس أصبحَت مفتوحة أمام بعض أعضاء الطبقة الوسطى نحو نهاية القرن السابع عشر، فهناك أدلة متفَرِّقة تشير إلى أن أناسًا ممن لا ينتمون إلى النُّخْبة كانوا يحضرون المجالس. وهناك إشارات إلى مجالس أدبية للأعيان، وأخرى لمن لم يَبلغوا هذه المنزلة.

فنجد «محمد أبو ذاكر» يُوجِّه النقد لنوع مُعيَّن من المجالس؛ فيذكر أن بعض الحضور كانوا يحسون أنهم ليسوا محل ترحيب بسبب سوء مظهرهم، فيقول: «إنْ أقبل عليهم إنسان مُحتقَر الملبوس، استقبلوه بوجه عبوس … فرَب المنزل يقول إنه كثيف، والآخَر يقول ذاته ثقيلة، ويقول الآخَر دا من حارة الفحَّامِين … وإن رأوا ملبوسه ثمينًا، احترموه غاية الاحترام، فيفتح رَب المنزل باب مَدْحه فيقول والله إنه فصيح … إنه فهيم، والثاني يقول ذاته خفيفة.»٤٦
وأخيرًا، هناك الإشارات التي نجدها من حين لآخر، هنا وهناك في النصوص التي تتناول آداب السلوك بالمجالس، ما يدل على وجود وافدِين جُدد على المجالس. ويمكن تفسير تلك الإشارات باعتبارها موازية لكتب السلوك التي استخدمها نوبرت إلياس أساسًا لكتابه «عملية التحضر». فقد كانت تلك الكتب تهدف إلى إطلاع الناس الذين اندمجوا بالمجتمع «المتحضر» على آداب السلوك، التي عليهم اتباعها عند تناول الطعام وعند النوم، والنموذج الذي يُقدَّم للسلوك السَّوِي هو ذلك الذي يَصدُر عن الطبقة العليا المتحضِّرة، والدروس تُقدَّم للبورجوازية والطبقة الوسطى الذين يريدون تقليد الطبقة العليا فيما يتصل بآداب المائدة. فعملية التحضُّر هي تلك التي تهبط فيها ثقافة البلاط المهذَّبة الرقيقة إلى الطبقات الأقل شأنًا الذين عليهم أن يَتعلَّموا قواعد السلوك طالما كانوا يَسعَوْن إلى الاندماج في المجتمع «المتحضِّر».٤٧ ويمكن تفسير كتب السلوك بأنها تعبير عن أعراض مجتمَع متحرِّك في مرحلة تَحوُّل الهياكل الاجتماعية.
وفي هذا الإطار يمكن أن نفسر نصًّا مثل نص «أبو ذاكر» الذي يُوجِّه النصح لقارئه عن كيفية التصرُّف بوقار في المجلس: «فلا يتكلم إلا إذا نوقش … لا يفتخر … ولا يتملق.»٤٨ والنصوص الأخرى مثل كتب آداب اللياقة، التي ترشد المبتدئِين إلى أصول السلوك القويم.
وفي مخطوط لمؤلِّف مجهول، يعود إلى القرن السابع عشر، يحمل عنوان: «كتاب نزهة العاشِقِين ولذة السامعين»، ينصح الأب ولده بكيفية السلوك في المجالس، فلا يجب أن يَتشاجر مع الغير، كما يُرشِده إلى كيفية الكلام وآداب الاستماع.٤٩ ويمكن تفسير هذه النصوص على ضوء وجود وافدين جدد على المجالس الأدبية، التي كانت قاصرة على نخبة العلماء وأفراد الطبقة الحاكمة، وأن عليهم اتباع آداب السلوك حتى يمكن اندماجهم في عضويتها.

نخبة الطبقة الوسطى

لقد ساعدت الظروف على إيجاد طبقة وسطى متعلِّمة واسعة النطاق، كما أَوجدت نخبة جيدة التعليم من تلك الطبقة، اكتملت لها مؤهِّلات قيادتها. ولكنها كانت نخبة من نوع مُعيَّن، ليس لها هيكل رسمي، شَكَّلت الظروف طابع علاقتها بالآخَرِين، دون أن تكون لها الصدارة بالضرورة، وكانت هذه النُّخْبة ثقافية الطابع، ظلَّت خارج إطار هيكل السُّلْطة على نقيض العلماء الذين كانوا على صلة وثيقة بالسُّلْطة. وكان باستطاعة تلك النُّخْبة أن تُعبِّر عن نفسها بمختلف وسائل التعبير عن القضايا والهموم الخاصة بها، والتي تُميِّزها عن نخبة العلماء التقليدية. وكان بمقدورها أن تَدَّعي لنفسها حق التكلم باسم الطبقة وقت الأزمات، على نحو ما فعل بعضهم في القرن الثامن عشر؛ عندما عَبَّرت كتاباتهم عن الهموم الاجتماعية التي عانت منها الطبقة الوسطى الحَضَرية زمن الأزمة (انظر الفصل الخامس).

وعلى نطاق الهيكل الاجتماعي الأكبر حجمًا … فإن ذلك يعني أن ثمة شكلًا من أشكال القيادة: هذه النُّخْبة المتعلِّمة، ونخبة العلماء الذين يحتلون مراكز القيادة باعتبارهم حراسًا للدِّين في المجتمَع ككل وليس لطبقة مُعيَّنة منه. وعدم وضوح الخط الفاصل بين من يدَّعون ذلك لأنفسهم ومن لا يدَّعون، بين العلماء «الأَقحاح»، وأولئك الذين تَعلَّموا بالمدارس، ولكنهم لم يستمروا في ذلك المجال، أو من يدَّعون العلم، أدَّى عدم وضوح الخط الفاصل بين هؤلاء وأولئك إلى حدوث توتُّرات. وقد تم التعبير عن تلك التوتُّرات من خلال عِدَّة نصوص كُتبَت في الفترة التي نحن بصددها، بأسلوب جادٍّ أو أسلوب هَزْلي في زمان «لا يروج فيه ممن يُنسَب للعلم إلا جاهل غبي؛ أو يكون ذا ثياب جليلة … وله عمامة كالبُرْج، ويوهم الجاهل بُعلو منصبه وكثرة كُتبه.» على نحو ما يذكر مَرعي المَقْدِسي في بداية القرن السابع عشر.٥٠
ويكتب يوسف الشِّربيني — بأسلوبه الساخر المعروف — في الاتجاه نفسه عند نهاية القرن السابع عشر، مطالِبًا بألا يُسمَح بالفتوى إلا للعلماء المتبحِّرِين في معرفة الموضوعات التي يُسأَلون فيها. وينصح الناس بعدم الاستماع لكلمات «جهلاء علماء العامة».٥١ والفكاهات التي تناولت هؤلاء العلماء الجهلة عَكست وجهات نظر الطبقات التي خَبرت ظهور تراتب (هيراركي) ثقافي جديد، قد يكون أقل خِبْرة بالأمور الفقهية؛ فيقول أحد الفقهاء الجهلة: «عندي مصحف مليح بخط المؤلف.» ويقول آخر: «قرى الأولاد في بلدي القرآن وقد ثقل عليهم لطوله، فقلت لعل أحدًا يختصره فيكون أسهل على الأولاد، ويحفظونه بسرعة.»
كما أن أولئك الذين نالوا حظًّا من العلم والثقافة دون أن يبلغوا مرتبة العلماء، عَبَّروا عن الهموم نفسها من زاوية أخرى. و«محمد بن حسن أبو ذاكر» شخص رفيع المعرفة، كَتب ساخرًا أنه عندما كان بالأزهر سمع الجميع بجهله «جهلي شاع وذاع وطَرَق جميع الأسماع من مشايخي والطلبة …»٥٢ ولكن القارئ يدرك أن ذلك الجهل يتعلق بنوع مُعيَّن من المعرفة يرتبط بالعلوم الفقهية، وفي غيرها من ألوان المعرفة فاق كثيرًا من معاصرِيه، الذين نالوا شهرة واسعة.

الخلاصة

إذا اعتبَرْنا أن التعليم هو تلك العملية التي تتم بين جدران المَدرسة، فلن نَصل إلى نتيجة محدَّدة، وإذا نظَرْنا إليه باعتباره جزءًا من سياق اجتماعي، وحقيقة واقعة، نَصل إلى نتيجة أُخرى؛ فالعوامل المتنوِّعة التي تساعد على تشكيل التعليم لا تَتسم بالحسم أو القطع، غير أنها تفعل فِعلها على طريق التمييز بين ثقافة الطبقة الوسطى المتعلِّمة، واسعة المعرفة التي تجيد القراءة، والعلماء أو ثقافة المُؤسَّسة، وكيف يمكن أن تَبرز تلك الثقافة المتعلِّقة في سياق كانت تهيمن عليه المدارس بدرجة كبيرة بما لها من قواعد ومناهج وبرامج دراسية تقليدية؟ ويمكنها أيضًا أن تساعدنا في فَهم الكيفية التي تَطوَّرت بها وتعايشَت الأبعاد الثقافية المختلفة، الدينية والدنيوية.

والواقع أن نظام التعليم طَرَح مجموعة من البدائل … وبعبارة أخرى، كان النتاج الثانوي لنظام التعليم الديني يفتقر إلى التجانس … إننا نستطيع أن نُميِّز بين التعليم في الأزهر، بالغ التخصص، الذي يحتاج إلى سنوات طويلة من التعليم على يد الأساتذة، وقراءة كُتب مُعيَّنة وفق القواعد التي تَطوَّرت عَبْر القرون، والتعليم العام الذي يتَّسع نطاقه اتساعًا كبيرًا وتتنوَّع اهتماماته تنوُّعًا ملحوظًا. وقد اعتمد اتجاه تطوير الإمكانات التي يُقدِّمها النظام التعليمي على الظروف التاريخية في سياق زمني مُعيَّن.

هوامش

(١) Nelly Hanna, “Culture in Ottoman Egypt,” pp. 101-102.
(٢) Robert Mantran, Istanbul, p. 230–234.
(٣) Abraham Marcus, The Middle East on the Eve of Modernity: Aleppo in the Eighteenth Century (New York: Columbia Univ. Press, 1989).
(٤) Ministry of Waqf, Waqf “Uthman Katkhuda Mustahfazan,” No. 2215, dated 1149, p. 234.
(٥) Jonathan Bloom, Paper before Print, p. 74; Ra’if Georges Khoury, Chrestomathie de Papyrologie Arabe, Brill, Leiden, 1993, mentions a couple of deeds dating from the 13th century, pp. 22–26.
(٦) Mutsuo Kawatoko, “Coffee Trade in Al–Tur Port, South Sinai,” p. 52.
(٧) Carlo M. Cipolla, Literacy and Development in the West, p. 41.
(٨) Margaret L. Meriwether, The Kin Who Count, Family and Society in Ottoman Aleppo, 1740–1840, Texas University Press, Austin, 1999, pp. 22–24.
(٩) Carlo Ginzburg, The Cheese and the Worm, pp. 28–30.
(١٠) Dror Ze’evi, The Ottoman Century, p. 32.
(١١) Frederic C. Lane, “The Mediterranean Spice Trade: Further Evidence of Its Revival in the Sixteenth Century,” American Historical Review 45, no. 3 (Apr. 1940): 580–90.
(١٢) ابن حجر الهيثمي: تحرير المقال في آداب وأحكام يحتاج إليها مؤدِّبو الأطفال.
(١٣) ابن حجر الهيثمي، ص١٦٣.
(١٤) Andre Raymond, “L’ activite architecturale au Caire,” p. 346. كانت الكتاتيب تقام — عادة — فوق الأسبلة، انظر أيضًا، محمود حامد الحسيني: الأسبلة العثمانية بمدينة القاهرة.
(١٥) Andre Raymond, “L’activite architecturale,” p. 347.
(١٦) Saad El Khadem, “Quelques Recus de Commercants et d’artisans du Caire des XVIIe et XVIIe siecles,” p. 269.
(١٧) Saad El Khadem, p. 276.
(١٨) Andre Raymond, Artisans 1, p. 294.
(١٩) Andre Raymond, Artisans 1, pp. 20–25.
(٢٠) الجَبَرْتي ٢، ص٣، ص٣-٤.
(٢١) Elizabeth Eisenstein, The Printing Revolution, p. 6.
(٢٢) Andre Raymond, “Une Liste des Corporations de métiers au Caire en 1801,” Arabica, 1957, pp. 150–163. The guild of “those who tell stories in coffee houses and other locations in Cairo” is listed under no. 147. That this guild exercised its profession in other cities in Egypt is proven by a reference dated 1065/1654 to the story tellers hakawiyun of coffee houses in Dimyat paying their taxes to the multazim: court of Dimyat, register 105, case 292, p. 152.
(٢٣) Johann Wild, Voyage en Egypte, p. 130.
(٢٤) E. W. Lane, Manners and Customs of the Modern Egyptianss, pp. 386–395, 408.
(٢٥) Abraham Marcus, pp. 43-44.
(٢٦) Khurashi, manuscript of Fatwas title page missing, dated 1155/1742, copied 1187/1773, no pagination.
(٢٧) Nelly Hanna, “Coffee and Coffee Merchants in Cairo,” p. 95. المرادي: سلك الدرر، ﺟ١، ص٩٨.
(٢٨) المرادي، سلك الدرر، ج١، ص٩٨.
(٢٩) Nelly Hanna, “Culture in Ottoman Cairo,” p. 106.
(٣٠) عن: مجدي جرجس الذي يعمل على جوانب مختلفة من الثقافة القبطية في العصر العثماني.
(٣١) Saad El-Khadem, pp. 269-270.
(٣٢) Antonio Gramsci, The Gramsci Reader, pp. 53 and 300-301.
(٣٣) Cornell Fleischer, Bureaucrat and Intellectual, pp. 36, 202.
(٣٤) Karen Barkey, Bandits and Bureaucrats, pp. 156–163.
(٣٥) Heyworth-Dunne, An Introduction to the History of Education, pp. 27-28.
(٣٦) أحمد عزت عبد الكريم: تاريخ التعليم، ص١٠.
(٣٧) Heyworth-Dunne, pp. 17-18.
(٣٨) These figures are provided by Heyworth-Dunne, pp. 28-29.
(٣٩) Gamal El-Din El-Shayyal, “Some aspects of intellectual and social life,” p. 117.
(٤٠) المرادي: سلك الدرر، ﺟ٢، ص٢١٩.
(٤١) المحبي: خلاصة الأثر، ﺟ٢، ص٢٧٦؛ الجَبَرْتي، ﺟ١، ص٣١٤، ٣٢٥، ٣٤١.
(٤٢) عبد الغني النابلسي: الحقيقة والمجاز، ص١٨١، ٢٠٥، ٢٧٣–٢٧٤.
(٤٣) M. Peled, “Nodding the Necks,” p. 62.
(٤٤) يوسف المغربي: رفع الإصر، ص٢٨، وانظر أيضًا ص٤٠.
(٤٥) Fleischer, Bureaucrat and Intellectual in the Ottoman Empire, 22-23.
(٤٦) أبو ذاكر، مخطوط غير منشور، ١٣أ-١٦أ.
(٤٧) Norbert Elias, La civilization des moeurs, trans. Pierre Kamnitzer (Paris: Kalman Levy, 1973), 121 ff.
(٤٨) أبو ذاكر، مخطوط غير منشور، ٢٢٠ب.
(٤٩) مخطوط في المكتبة الوطنية بباريس (Fonds Arabe 3568, p. 95). وعلى رغم أن فهرس المكتبة نسب هذا المخطوط إلى القرن السابع عشر، فإن ذكر الشيخ عبد الخالق السادات يرجع إلى القرن الثامن عشر، إذ نقل الجَبَرْتي أنه مات في عام ١١٦١ﻫ/١٧٤١م.
(٥٠) مرعي يوسف المقدسي، «قلائد العقيان في فضائل آل عثمان»، مخطوط من مكتبة سوهاج العامة، تاريخ ٦٠ (١٠٣١ﻫ/١٦٢١م)، ١٠٤–٥.
(٥١) يوسف الشِّربيني، هز القحوف في شرح قصيدة أبو شادوف (بولاق، مصر: المطبعة الأميرية، ١٨٥٦م)، ص٣٩.
(٥٢) أبو ذاكر، مخطوط غير منشور، ١٢٤أ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤